(الذكرى المئوية لولادة الشاعر المجري أتيلا يوجف)

بودابست - من ثائر صالح

أتيلا يوجفلا نبالغ حين نقول إن أتيلا يوجف من أعظم الشعراء المجريين في القرن العشرين، علما انه لم يعش سوى إثنين وثلاثين عاماً. بذلك لم يشذ عما بات يشبه "القاعدة"، فالكثير من الشعراء المجريين رحلوا مبكراً: شاندور بتوفي (1823-1849) أو أندره آدي (1877-1918) أو ميكلوش رادنوتي (1909-1944). كان القدر قاسياً مع الشاعر الذي ارتمى تحت عجلات قطار، ومع عالم يتوق إلى المزيد من الشعر الرائع سطره شاعر فحل من وزن أتيلا يوجف.

تركناه يذوي

قسوة القدر لاحقت أتيلا يوجف في حياته قبل مماته، إذ عاش محروماً وملاحقاً ولم يفهم عظمته الشعرية إلا القلة. يقول عنه آرثر كوستلر، في كتابةٍ له عام 1939، أي بعد أقل من عامين على إنهاء أتيلا يوجف حياته بصورة مفجعة في 3 كانون الأول 1937: "تنشغل الرجعية المجرية اليوم بخلق قديسٍ من الشاعر. لكنها عاملت هذا الإنسان كالكلب الأجرب في حياته، هذا الشاعر الذي سوف يطلق اسمه قريباً على عصرٍ أدبي كامل من عصور الأدب المجري". وقد تحقق ذلك الحدس بالفعل: أصبحت المجر تحتفل سنوياً بيوم مولد أتيلا يوجف في 11 نيسان 1905 الذي أطلقت عليه اسم يوم الشعر المجري. لمناسبة الذكرى المئوية لميلاده أعلنت الأونيسكو سنة 2005 سنة أتيلا يوجف وأوصت بالإحتفال به، فأقيمت في بلاده مهرجانات كثيرة بينها مؤتمر عالمي حول ترجمة شعره إلى اللغات الأخرى، وكذلك فعلت باريس وموسكو وهافانا، وحتى بعض العواصم العربية مثل القاهرة ودمشق.

تنبه الشعراء الكبار إلى يوجف وهو كان لا يزال يافعاً. عن هذا يقول كوستلر: "أخذوا يعتبرون أتيلا يوجف شاعراً كبيراً وهو في السابعة عشرة، وكنا نعرف كلنا أنه عبقري، ومع ذلك تركناه يذوي أمام أنظارنا". صدر أول ديوان له في 1922 بعنوان "متسول الجمال". يقول عن ذلك في سيرة حياته التي كتبها عام 1937، قبل أشهر من وفاته: "اعتبروني طفلاً معجزة، لكني كنت يتيماً لا غير".

درس يوجف في جامعة فرانز يوزف للعلوم في مدينة سغد، وهي الجامعة التي غدت تحمل اسمه اليوم، وكان طُرد منها عام 1925 بسبب قصيدة رمزية جريئة عنوانها "بقلب نقي". وقد كتب عن الحادثة في سيرة حياته: "عكّر مزاجي أن البروفسور أنتَل هورغَر استدعاني، هو الذي كان من المفترض أن أقدم امتحان اللغة المجرية عنده، وصرّح أمام شاهدين - أتذكر أسميهما إلى اليوم، أصبحا مُعلّمَين - أني لن أصبح مدرساً في الثانوية ما دام حياً، لأننا لا نستطيع تسليم تربية أجيال المستقبل إلى من يكتب مثل هذا الشعر".

سوف أعلّم كل شعبي

أصبحت قصيدة "بقلب نقي" مشهورة جداً، فقد أعلنها الأديب والناقد والناشر الثري المعروف لايوش هاتفاني (1880-1961) وثيقة تمثل كل جيل ما بعد الحرب أمام العصور المقبلة، أما بال إيغنوتوس (1869-1949)، وهو احد أكبر النقاد المجريين، فقد احتضنت روحه هذه القصيدة الرائعة الجميلة ولاطفتها وترنمت بها ودمدمتها، حسبما كتب في مجلة "نيوغات" الأكثر شهرة في تأريخ الأدب المجري، حيث اعتبرها "مثالاً نموذجياً للشعر الجديد". بعد سنوات من ذلك، يعود يوجف إلى أنتل هورغر بقصيدة مذهلة عصية على الترجمة عنوانها "عيد ميلادي"، فيقول ما معناه: لا يفرحنّ السيد أنتل هورغر، فأنا سوف أعلّم كل شعبي، لكن ليس في المدرسة الثانوية!
تعرف إلى جورج لوكاتش المنفي في فيينا، وغدا ماركسياً، ثم نهل من التيارات الأدبية المعاصرة في باريس خلال إقامته القصيرة هناك حيث درس في السوربون، وأضحى يعتبر نفسه شيوعياً. عاد إلى بودابست عام 1927 ثم انضم إلى الحزب الشيوعي في 1930، وانخرط في نضال الحركة العمالية السرية. وصل يوجف إلى المحاكم بسبب قصائده ورؤياه السياسية كذلك، فقد صودر ديوانه المعنون "اهدم الرأسمالية، لا تتباكَ عليها" (1931) بذريعة التحريض. نشرت أعماله كل الصحف والمجلات المرموقة في البداية، الأدبية والسياسية على حد سواء. لكن جرأته وأطروحاته الحادة المتمردة وصعوبة مراسه وفصام الشخصية التي أصابته لاحقاً، جعلت هذه الصحف تتحاشاه، ثم طرد من الحزب بعدما وصم بكونه مثقفا بورجوازيا، إذ لم يتحمل الحزب هذا المثقف المفكر والمستقل فكرياً.
هذا كله تسبب بتأزم وضعه النفسي، وقاده إلى حافة الجنون. لكن أوروبا كلها كانت تقترب من الجنون إثر تصاعد المد القومي الإشتراكي - النازي.

قدماء ومعاصرون

امتدح الشاعر لاسلو نَيمَت (1901-1975) يوجف في عرضه لديوان "ليس لي أب ولا أُم": "أفضل شيء في أتيلا يوجف مخيلته الساخرة والشاعرية في الوقت نفسه"، واقتبس من ديوانه: "كل شيء هنا شائخ. العاصفة العجوز تسير وهي تتكئ على صاعقة عوجاء" (مجلة نيوغات، 1/12/1929). ما أبدع هذه الصورة الشعرية!
تناولت بعض قصائد يوجف الجريئة موضوعات مباشرة مثل الإشتراكية وحياة العمال، لكن من دون أن تتنازل عن الشعر لحساب السياسة. من جانب آخر كان شعره الغزلي بين أجمل الشعر الذي قيل باللغة المجرية في حبيب. تتداخل فيه الصور الأدبية الرقيقة الحالمة بالصور الواقعية القاسية، وهذا انعكاس لروحه القلقة المعذبة، وخيباته العاطفية المتراكمة. كان أتيلا يوجف عبقرياً من دون أدنى شك.

له الكثير من الكتابات النثرية التي تبز القصائد الشعرية في رقة تعابيرها ومتانة لغتها وصورها الإنسانية. يقول في "طعم لغتنا": "نضج طعم لغتنا على نحو ثرٍ. غدت الكلمة المجرية آلة دقيقة، ماكينة سريعة من دون ضجيج، يطوّع ذهن المهندس مفاهيمها بكل يسر. يستخرج وحي شعرائنا من أعماقها حتى أصقاع الروح الضبابية بكل ليونة. بلغتنا هذه نستطيع تمثيل هدير ماكينات قص الحجر الدوارة، وحفيف قبضة من بقايا القش القابعة في زاوية الباحة. بعبارة واحدة لغتنا قديمة ومعاصرة، غابية - حقلية وحضرية وآسيوية وأوروبية. ونحن أيضاً قدماء ومعاصرون، مجريون أوروبيون. شعب المهندسين ورجال الأعمال والمزارعين والشعراء".

Tiszta szivvel

"بقلب نقي" عنوان قصيدة أثارت ضجة كبيرة حين نُشرت للمرة الأولى في شهر آذار 1925، وأدت إلى طرد اتيلا يوجيف من الجامعة بسبب جرأتها، ولفتت الأنظار اليه وساهمت في صناعة شهرته. وها نحن نقدّمها في ثلاث ترجمات مختلفة لكل من الشاعر العراقي نبيل ياسين والمترجم والمهندس العراقي ثائر صالح والشاعر الفلسطيني عبد الحميد الدكاكني، بغية إظهار دقائق الترجمة الشعرية وفروقاتها من مترجم إلى آخر، وقد أنجزها الثلاثة مباشرة عن اللغة الأصل، أي المجرية.

***

لماذا أكتب الشعر؟

ترجمة: ثائر صالح

الكلمات واللغة ابتكرها الخرسان.

سمعت في طفولتي ذات مرة، أن الزجاج الساخن ينكسر، إذا نُثر عليه ماء بارد. في مساء ذلك اليوم، بعدما غادرت أمي المطبخ، اختبرت صحة هذه المقولة على الفور. نثرت بعض الماء على زجاجة المصباح. الزجاجة انكسرت، وأنا صعقت، أما أمي فدخلت. هجمت عليّ وهي متفاجئة وفي الوقت نفسه غاضبة - أنت، أنت، لماذا كسرت زجاجة المصباح؟ استمعت إلى التوبيخ بعينين مطرقتين وتحملت الصفعات، التي انهمرت عليّ في آن واحد، في تحدّ متعاظم. ويبدو أن صمتي العنيد هو ما أثار أمي. لماذا كسرت زجاجة المصباح؟ بماذا كان من الممكن أن أجيب؟ بدت الإجابة في الحقيقة كما لو كانت أكبر الأكاذيب: أنا لم أكسر زجاجة المصباح! هي انكسرت، "لأن الزجاج الساخن ينكسر، إذا نُثر عليه ماء بارد". صحيح، أنا كنت من نثر عليه الماء، لكن ليس بقصد كسره، بل كي أرى، هل ما سمعت وكان مثيراً بالنسبة إليّ صحيح أم لا، إلى درجة أني قررت اختبار ذلك. اعتبرت العقاب جائراً جداً. لكن لو قلت مدافعاً، نثرت الماء على الزجاجة لأني سمعت أنها تنكسر، لكنت عندئذ قد أثرت في دواخل أمي الشعور بأن ما فعلته مقلب مقصود وشرّ كبير. هكذا إذاً، كنت تعرف ومع ذلك فعلته؟ نعم كنت أعرف، لكني كنت أعرف كذلك أنهم يخدعون الأطفال على الدوام، بقصص اللقلق تارة، وطوراً باللذائذ على الغداء.
هذه هي حالي أمام السؤال، لماذا أكتب الشعر. الجواب الطبيعي لن يرضي الذي ينتظر ردّي. أصبحت شاعراً، لأني سمعت بوجود الشعراء، ولأني أردت أن أفعل أنا أيضاً كل ما يفعله البالغون المخيفون العصاة على الفهم. أردت أن أتلصص على سر طمأنينتهم الأخاذ. خفت من الخيول، لكني لاطفت أكفالها ونواصيها، كنت شجاعاً حتى لا يروني خائفاً. غير أني لا أستطيع خداع نفسي. عشّش الخوف فيّ، وكل ما توصلت إليه هو جعله يتخفى عن ناظري، مثلما تتقافز الظلال في الجانب الآخر خلف الأشياء خوفاً من الذي يريد أن يفاجئها بمصباحٍ في هذا الجانب. أردت أن أصبح حوذياً، فالحوذي لا يعرف الخوف. لكني فكرت كذلك أن أصبح غواصاً أو سائق قاطرة. لهذا سخروا مني. لا يهم، قالوا، ستصبح مصلح أقفالٍ بارعاً، فالقفل كالقاطرة، كلاهما بنيان مركّب. غير أني فككت قفلاً في السر ورأيت بخيبة أنه تركيب بالفعل، وأنه إلى ذلك تركيب بارع وبسيط، لكنه لا يحوي شيئاً مما يمكنني ربطه بـ"البالغين" في ذلك الوقت. لم يفهموا أن القاطرة شيء آخر، هائلة وتنفث البخار وتدمدم وتصفر، كأنها توشك على الإنفجار عندما تتوقف. وعلى متن هذا الوحش المرعب هناك يقف سائق القاطرة ينظر بمنتهى الهدوء إلى الأسفل نحو الطفل الصغير الذي يُمنع عليه الإقتراب حتى من قضبان السكة. لم يفهموا، أني أردت أن أنتصر على الخوف بالذات، لا أكثر.

***

بقلب نقي

ترجمة: نبيل ياسين

ليس لي أب ولا أم
ليس لي اله ولا وطن
لا مهد لي، ولا عذابات
لا حبيب ولا قبلات.
لليوم الثالث لم أأكل
لا القليل ولا الكثير
قوتي هي أعوامي العشرون
إنني أبيع أعوامي العشرين.
وإذا لم يكن في حاجة إليها احد
ليشترها الشيطان إذاً.
بقلب نقي سأسرق
وإذا كان يجب، سأقتل.
سيقبضون علي، وسيشنقونني
ويدفنونني في الأرض المباركة
وستنمو حشائش الموت
في قلبي الرائع الجمال.

***

بقلب نقي

ترجمة: ثائر صالح

ليس لي أب، ولا أم،
لا إله، ولا وطن،
لا مهد، ولا كفن،
لا قبلة، ولا حبيبة.
لليوم الثالث لم آكل،
لا الكثير ولا القليل.
سنواتي العشرون قوتي،
للبيع هي سنواتي.
إن لم يحتجها إنسان،
فليأخذها الشيطان.
بقلبٍ نقي سأنهب،
وإذا ما اضطررت، سأقتل.
سيمسكونني ويشنقونني،
ويهيلون التراب المبارك عليّ
فينمو عشب قاتل
على قلبي الجميل الرائع.

***

ببساطة

ترجمة: عبد الحميد الدكاكني

لا من أب لي... لا أم لي
لا رب لي... ولا وطن
لا مهد لي... ولا كفن
لا قبلة... ولا حبيب
لثالث يوم أتضور جوعا
من غير أقل طعام
وأنا إبن العشرين، القوة
والقوة، عشريني، للبيع!
إن لم يتقدم، مشتريا، أياً كان
ستكون إذاً ملك الشيطان
وسأسرق مرتاح الوجدان
وسأقتل إن لزم الأمر، بلا استئذان!
وسيلقى القبض عليّ وسوف أعلّق
وأوارى تحت ثرى بورك ترباً
وستنبت أعشاب جالبة للموت
فوق فؤادي الأجمل والأروع.

***

بثوبٍ شفاف أبيض

(إلى بال إغنوتوس)

كل ما لا يؤكل،
مضغته وبصقته.
بذاتي أعرف معنى الخير،
وأعرف أن سيّان إذا كانت فقاعة صابون
فوقي، أو قبة السماوات.
أعرف كما يعرف الصغار،
أن السعيد من يعرف اللعب.
كثيرةٌ الألعاب التي أعرف،
فالحقيقة قد تذوي
ويبقى المظهر.
لا يحبني الأغنياء
ما دمت أعيش في هذا العسر،
ولا يهتم لي الفقراء
لن أكون المواساة هناك
حيث المحبة عار.
أبتدع حبي بيدي ...
قدماي على الكواكب:
أنطلق ضد الأرباب
- لا يرتجف قلبي -
بثوبٍ شفافٍ، أبيض.

***

خذيني في حضنكِ أيتها البساطة الدامعة

أبارككِ في السراء والضراء
أباركك في السراء والضراء
أخاف عليك بكل ما أوتيت من حب
أحفظك بكفوف مبتهلة
بحقول القمح، بالسحب.
دبيبك تهتّك موسيقي،
أسواري أمامك انهيارٌ أبدي
أرتعش في ظلال خرائبها،
وأتبرقع بأنفاسك.
سياّن، أتحبينني أو لا،
يكفي أن تقتربي بقلبك من قلبي
لكي أراك وأسمعك وأغنّيك:
أنت إلى الله دعائي.
في الفجرِ تتمطى الغابة،
أذرعها المعانقة تنمو،
تقطف من السماء الضوء،
وتنثره على قلبي العاشق.

***

يقولون

عندما ولدت، سكّين كان في يدي،
يقولون، إنه قصيدة.
أمسكت والله القلم، فالسكين لا يكفي:
إنسانا ولدت أنا.
من يجول فيه إخلاصٌ عنيف ينتحب،
يقولون، إنه يحب.
خذيني في حضنك، أيتها البساطة الدامعة،
ألعب أنا معك فحسب.
أنا لا أتذكر ولا أنسى.
يقولون، كيف ذلك؟
يلبث على هذه الأرض ما أرمي،
إن لم أجده أنا، تجدينه أنتِ.
يملأني التراب ويفتّتني البحر:
يقولون، إني مُتّ.
لكن يقال من الكلام كثير،
ليس لي أمام هذا سوى الصمت.

***

النهار
الأربعاء 5 تشرين الأول 2005