عبدالاله الصالحي
(المغرب/باريس)

بوكوفسكيمؤخرا عرضت احدي صالات السينما في باريس فيلما وثائقيا لافتا عن حياة الشاعر الأمريكي الراحل تشارلز بوكوفسكي من انجاز المخرج والشاعر جون داليغان. الموزعون اختاروا صالة واحدة لعرض هذا الفيلم/ التحفة لاعتقادهم الراسخ أن الفيلم الوثائقي لا يجذب عادة جمهوراً عريضا الا أنهم فوجئوا بالكَّم الهائل من المشاهدين الذي تجمعوا خلف شباك التذاكر طيلة الأيام الأولي من العرض. الأمر الذي دفع بهم الي مضاعفة وتيرة العروض وإنزال الفيلم في صالتين أخريين في باريس. ويكفي المرء أن يري التنوع الهائل في صفوف المشاهدين: شباب وكهول وشيوخ ونساء من كل الأعمار ليدرك أن بوكوفسكي ما يزال يحتفظ بتألقه بعد مرور أكثر من عشر سنوات علي وفاته وبأنه يجذب مع مرور الأعوام قراء جددا يستلهمون أعماله وحياته رغم أن ترجمات أعماله الي الفرنسية، عدا نماذج نادرة، تستطيع عن جدارة انتزاع جائزة أردأ ترجمة. لكن الفرنسيين محظوظون بالمقارنة مع القراء العرب الذين تجهل غالبيتهم هذا الشاعر والكاتب الرائع. وربما يكون أكثرهم حظا قد اطلع بالصدفة علي مختارات من قصائده في بعض الملاحق أو المجلات الثقافية العربية النادرة. بمناسبة عرض هذا الفيلم نقترح عليكم نبذة عن حياة بوكوفسكي وقراءة في أعماله وحوارا مع مخرج الفيلم الوثائقي بالاضافة الي نماذج من قصائده استللناها من ديوانه الحب كلبٌ من جهنم الصادر عن دار بلاك سبارو بريس عام 1977 بسان فرانسيسكو. اختار المخرج أن يبدأ فيلمه بلقطات نادرة لإحدى القراءات الشعرية التي قام بها بوكوفسكي في مستهل السبعينيات في مسرح بمدينة سان فرانسيسكو ونراه يتوجه بخطي مترددة نحو المنصة ثم يضع أوراقه علي الطاولة ويرتشف جرعة من كأس موضوعة أمامه. يحدق في الجمهور لبرهة ثم يرفع عقيرته بالصراخ أعطوني أموالكم، أعطيكم روحي فتضج القاعة بالتصفيق. ثم يقرأ مجموعة من القصائد بصوت محكم رغم الصخب الهائل في القاعة وصيحات الاستحسان والتصفيق كلما انتهي من القراءة. بعد هذا المدخل نري بوكوفسكي في بيته في الشارع وهو يتجول أو في ملعب الخيول وهو يصافح أصدقاءه. نراه يسوق السيارة متأملا العالم من خلف الزجاج . ثم يلتجأ المخرج الي شهادات ناشره جون ويب والمغني الايرلندي بونو صاحب فرقة يوتو الشهيرة والمغني الأمريكي طوم وايتس والممثل شون بين وجويس فونت زوجة الكاتب الشهير جون فونت بالاضافة الي ليندا أرملة بوكوفسكي. ورغم الطابع الكلاسيكي للفيلم فقد افلح في إعطاء فكرة وافية عن بوكوفسكي ورصد التحولات الأساسية في حياته من الطفولة الي المراهقة ثم الشباب ومعاناته مع الفقر ومع الكتابة الي أن صار الكاتب الشهير الذي نعرفه الآن. وتبقي الإضافة الأساسية في هذا الفيلم أنه لم يقع في فخ اختزال بوكوفسكي في صورة السكير والعربيد التي التصقت في أذهان الجمهور، بل تجاوزها ليصور بوكوفسكي الإنسان والمبدع المهووس بالشعر والمواطن المتذمر من قيم الاستهلاك والمال المستشرية في المجتمع الأمريكي.

عُدَّةُ بوكوفسكي: أبٌ قاس، وجه بشع وخيباتٌ متلاحقة

ولد تشارلز بوكوفسكي في مدينة أنديرناخ بألمانيا في أب (أغسطس) عام 1924 من أب أمريكي وأم ألمانية. عام 1927 يعود والداه الي الولايات المتحدة. طفولة بوكوفسكي كانت مشوارا طويلا من الألم بسبب نزوات والده العنيفة الذي كان يضربه لأتفه الأسباب ويحرمه من متع الطفولة الصغيرة ومن اللعب مع أطفال الحي. أما أمه فكانت سيدة صموتاً لا تتدخل في ما علاقة الأب بالابن الذي قضي طفولته ومراهقته وكأنه يؤدي ضريبة فشل أبيه في حياته المهنية خاصة بعد أن فقد عمله اثر أزمة انهيار البورصة في نهاية العشرينيات.
في العاشرة من عمره أحس بأول مرة بالقوة السحرية التي قد تمنحها الكتابة أحيانا حين كتب قطعة إنشاء في المدرسة يروي فيها معاينته لزيارة الرئيس الأمريكي هوفير للمدينة. وكان علي التلميذ بوكوفسكي أن يختلق كل شيء من خياله ذلك أن والده كان منعه من الخروج للشارع لرؤية الرئيس مع أقرانه. لاحقا سيصف بوكوفسكي هذه الواقعة بكونها كانت الحدث الحاسم في حياته والدافع الذي شجعه علي الكتابة. فقد تأكد وقتها أنه بفضل الخيال والكلمات يستطيع أن ينتزع إعجاب الآخرين. بعد حوالي خمس سنوات من هذه الواقعة سيصاب بوكوفسكي بمرض حب الشباب من النوع المستعصي يشوه وجهه الي الأبد ويطبعه طيلة الحياة. الأمر الذي عَقَّدَ علاقاته مع الآخرين وضاعف من شعوره بالدونية خاصة أمام الفتيات اللواتي كن دائما ينفرن من بشاعة وجهه ولا يترددن في مصارحته بذلك. هكذا باكرا سيتربي بوكوفسكي علي عقدتي الاضطهاد والدونية ويفضل الوحدة ورفقة المهمشين. الحدث الثالث الذي سيطبع بقوة مسار حياته وقع ذات مساء عندما عاد الي البيت ثملا وعندما عمد والده كعادته الي صفعه وضربه نازله بوكوفسكي ندا للند وتبادل معه اللكمات واضعا بذلك حدا نهائيا لقمع الأب الذي لم يلمسه بعدها إطلاقا. التحق بوكوفسكي في العشرين من العمر بالجامعة وحاول أن يدرس الصحافة الا أنه بعد سنتين غادر الجامعة وبيت العائلة وزاول مهنا يدوية متفرقة لأداء إيجار غرفة في الفندق ودفع مستلزمات العيش الأساسية من أكل وشرب. منذ ذلك الحين نظم بوكوفسكي حياته حول ثلاثة أقطاب: الكحول والأصدقاء والكتابة. ولأنه كان يعيش فقرا مدقعا يكفي بالكاد ثمن إيجار غرفة ضيقة في فندق مشبوه فقد كان محيطه الاجتماعي يتكون أساسا من المتسكعين وأبناء الشارع والنساء القبيحات المدمنات.
في تلك الفترة بدأ بوكوفسكي في كتابة قصص قصيرة تدور مواضيعها عن البؤس والتيه والإدمان وإرسالها للمجلات الأدبية وبعد محاولات شتي فهم أن هذا الشكل الروائي، علي الأقل في تلك المرحلة من حياته، لم يكن مناسبا البتة لما كان يريد أن يقوله بالطريقة التي يرغب فيها.

بداية شعرية متأخرة

ورغم الفوضى الوجودية التي كان يتمرغ فيها بكافة جوارحه كان بوكوفسكي يحرص علي ارتياد المكتبات العامة بانتظام ويلتهم العشرات من الكتب الشعرية والنثرية ويطلع علي إبداعات ألمع أبناء جيله المعروفين تحت اسم حركة بيت جينيرايشين : جاك كيرواك وآلن غينسبيرغ ووليام بوروز. وأيضا هيمنغواي ولوي فيرديناند سيلين وألبير كامو وبعض الكتاب الروس وعلي رأسهم دوستيوفسكي. لكن الكاتب الذي سحره ودله علي الطريق كان هو جون فانت وروايته اسأل الغبار وما بهر بوكوفسكي، كما أكد ذلك لاحقا، هو قدرة فانت علي التقاط الأحاسيس حتى أكثرها تعقيدا بأسلوب بسيط ولاذع. وفي نفس الفترة أيضا تعلق بالموسيقي الكلاسيكية وافتُتِنَ بغوستاف مالر وبيتهوفن وفاغنر. وفي الخامسة والعشرين من العمر غدا بوكوفسكي الرجل الفوضوي، السكير المكبوت والحالم المعذب والتائه اليائس من الحب والحياة ولم يتبق له الا أن يصير الشاعر الكبير الذي نعرفه.
وبما أن أحلام الأدب بدأت تتملكه قرر السفر الي نيويورك ليجرب حظه هناك. لكن مقامه فيها لمدة عام زاد من إحباطه ويأسه وتحول الي كارثة نفسية كادت تؤدي به الي الانتحار وجعلته يتوقف نهائيا عن الكتابة بعد عودته الي لوس أنجلس لمدة عشر سنوات كاملة.
وفي احدي جولاته الليلية المغمسة في الكحول واليأس سيلتقي بوكوفسكي بامرأة تكبره بعشر سنوات اسمها جين كوني بيكير تعيش حياة أكثر فوضوية وتعاسة منه وسيكون ذلك اللقاء بداية عِشْرةٍ دامت أكثر من عشر سنوات قضياها معا في الضراء أكثر من السراء. في الثانية والثلاثين سيعثر بوكوفسكي علي شغل قار في مصلحة البريد بلوس أنجلس الأمر الذي سيوفر له بعض التوازن ويبعده نسبيا عن منطقة الخطر. لكن هذا التوازن لم يدم طويلا بسبب معاناته مع مرؤوسيه في العمل وتَحَوُّل العلاقة مع رفيقته في البيت الي جحيم. وتدريجيا عاد بوكوفسكي الي الكتابة وبدأ ينشر قصائده في بعض المجلات الهامشية. وبدا واضحا منذ تلك المرحلة أن الرجل عثر علي ضالته فيما يخص الشكل الفني: قصائد مرعبة تتناول الحياة في صورها الأكثر بشاعة وقتامة من دون حشو بلاغي أو نواح عاطفي بلغة بسيطة وكلمات لا تخشي السقوط في البذاءة.
وخلال عشر سنوات سيقضي بوكوفسكي أيامه بين العمل والكتابة والشرب المنتظم وسيكتب بغزارة وكل يوم وكأن الرجل بركان شعري ملتهب. عام 1960 سينشر أول مجموعة شعرية وعمره خمس وثلاثون سنة الا أن المجموعة التي لفتت الانتباه اليه كانت تلك التي نشرها عام 1965 الناشر جون ويب تحت عنوان أمسكت بقلبي بين يديها .
وبفضل نشره المنتظم في الدوريات الأدبية ذات التوزيع المحدود طلبت منه احدي المجلات الشهرية في سان فرانسيسكو كتابة عمود أسبوعي لاقي نجاحا مذهلا بسبب لغته الاستفزازية وحكاياته المرعبة عن عوالم المدينة السفلية. الأمر الذي شجع الشاعر والناشر فيرلينغيتي علي تجميعها في كتاب تحت عنوان يوميات شيخ بذيء وسيكون الشرارة التي أتاحت له الوصول الي قاعدة عريضة من القراء ذلك أن الكتاب عرف نجاحا كبيرا كرس بوكوفسكي كشاعر موهوب وكاتب من طينة الكبار. في الأربعين سيتعرض بوكوفسكي لأزمة صحية خطيرة تقعده عدة أسابيع في المستشفي يحس خلالها بشبح الموت يحوم حوله. ورغم أن الأطباء يأمرونه بالكف النهائي عن تناول الكحول فحالما يضع قدميه خارج المستشفي سيعود الي عاداته القديمة. وابتداء من عام 1970 سيتوقف عن العمل في مصلحة البريد واضعا بذلك حدا لمعاناة لم يكن قادرا علي تحملها طويلا فالرجل لا يحب العمل المأجور ويكره أن يشتغل بعيدا عن آلة الكتابة.
ومنذ تلك الفترة شق بوكوفسكي طريقه نحو الشهرة وبدأت دواوينه ورواياته وقصصه تُتَرجَمُ الي اللغات الأجنبية خاصة الألمانية والفرنسية. وقد تحول بوكوفسكي الي نجم في الساحة الثقافية الفرنسية في 14 ايلول (سبتمبر) عام 1978 عندما أثار فضيحة إعلامية ما تزال عالقة في الأذهان حتى الآن. فبمناسبة صدور ترجمات لثلاثة من كتبه استضافه الصحافي الأدبي الشهير بيرنار بيفو الي برنامج كان في غاية الشهرة آنذاك أبوستروف وقبل البرنامج شرب بوكوفسكي قنينة نبيذ كاملة وهجم علي أخري أثناء البرنامج الذي كان يُبث مباشرة. ومع مرور الدقائق شعر بالملل من أجواء البرنامج المصطنعة ومن الأسئلة المغرقة في أسلوب الصالونات الأدبية الراقية. فبدأ في إثارة الشغب مقاطعا الحاضرين محدثا فوضي عارمة في البلاتوه الي أن طرده مقدم البرنامج بيرنار بيفو الذي استدعي الحراس خوفا منه. وبعد ذلك خاطب بيفو المشاهدين وهو يرجف قائلا: ألا ترون معي أن هذا الرجل دليل علي التعفن الذي يستشري في الأدب الأمريكي! ورغم أن بوكوفسكي أكد فيما بعد بأن معد البرنامج هو الذي شجعه علي الشرب قبل وأثناء بث البرنامج فان وسائل الإعلام التي تناقلت الفضيحة بشكل واسع حولت بوكوفسكي من كاتب مجهول في فرنسا الي نجم تباع دواوينه وكتبه بالآلاف.
في المرحلة الأخيرة من عمره تزوج بوكوفسكي بإحدى المعجبات بشعره ليندا التي تمكنت من منحه التوازن الذي طالما بحث عنه في الحياة. فكَفَّ عن إيقاع العبث والتدمير الذاتي ليتفرغ للكتابة والمراهنة علي سباق الخيول الي أن توفي عام 1994 عن سن تناهز 74 عاما مخلفا وراءه 45 عنوانا بين شعر ورواية وقصة واسما منقوشا بحروف من ذهب في جبين الأدب الأمريكي والعالمي. ومن المؤكد أن أولئك الذين يقضون وقتهم في التنديد بالغزو الثقافي الأمريكي عليهم أن يقرأوا كُتّابا من طينة بوكوفسكي أو ريمون كارفير أو جون فانت كي يدركوا أن الثقافة الأمريكية لا تختزل في ثقافة امبريالية توسعية بل أنها تضم في أحشائها منذ ولادتها ثقافة مضادة للقيم الأمريكية وأن أعنف الانتقادات التي تُوَجَّهُ لهذه الثقافة تأتي من داخلها وليس من التنظيرات الجوفاء الجاهلة بغني وثراء الأدب الأمريكي.

كتابة متألقة تتغذي علي الحضيض الانساني

في كتابات بوكوفسكي، شعرا وقصصا وروايات ثمة دفق إنساني يسطع من تلافيف الخراب الذي تتفنن المدن الكبيرة في إنتاجه. وقد يكون بوكوفسكي كاتب الومضات القليلة التي تُذكِّرُ بإنسانية الإنسان وهو في أقصي حالات الإحباط والدمار. لذا فشخصياته تكون دائما عند الحافة علي بعد خطوة من الهاوية وقد ترتكب الأفعال الأكثر غرابة في رمشة عين بدون أسباب مُقْنِعة. ان ما يتربص بالحياة في المدن ليس الموت لأن الجميع مهيأ للموت بطريقة أو أخري كما كتب ذات مرة: ليست الأحداث الكبرى هي التي تدفع بالإنسان الي مستشفيات المجانين. ليس الموت ولا الجريمة أو السرقة أو الحرائق أو الفيضانات. ان الأفظع هو ذلك التراكم المتواصل والحثيث للمآسي الصغيرة التي تدمر الفرد وتدفع به الي حافة الجنون . يشوب كتابة بوكوفسكي عنف متأصل يصل أحيانا حد عدوانية قلما نجدها في الشعر المعاصر ان استثنينا آلان غينسبيرغ. كما أنه يكتب عن الأشياء والتفاصيل الأكثر حميمية بطريقة صادمة واستفزازية دون أدني خوف من الفضيحة. وتخترق قصائدَهُ نزعة تمردية ضد المجتمع الأمريكي وقيمه الأخلاقية. ضد العائلة وسطوة الدين وضد القوة في مختلف تجلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجنسية. وحتى الجنس والكحول وتفاصيل الحياة المتشظية لا تحضر في كتاباته كخلفية شعرية بل كعناوين بارزة لقطيعة شخصية حادة مع السائد وكضربة ساطور في قلب الحلم الأمريكي وأوهامه.
ولا شك أن قوة بوكوفسكي الضاربة تكمن في التقاطه لتفاصيل البؤس اليومي والوحدة المدمرة ليبنيها في قصائد ذات لُحمة متأرجحة تحفل بالمتناقضات. كل هذا كان معجونا في أسلوب تهكمي سوداوي يجمع بين المبكي والمضحك في آن واحد.
ورغم أن النقاد يصنفونه في خانة الجيل الثاني من كُتاب البيتنكس من ناحية الأسلوب فهو يتميز عنهم بكل ما أسلفنا ذكره. زِدْ علي ذلك أن المادة الأساسية التي تلهم كتاباته يجدها في حياته ذاتها وليس في تجارب الآخرين أو عبر الخيال.

****

حوار مع المخرج:

جون داليغان : أتمني أي يُحدِثَ هذا الفيلم معجزةً في ذهنِ شاب ما

ما هي التحديات التي واجهتها لانجاز هذا الفيلم؟

نقص الأموال بالأساس. لقد تخليت عن عملي بعد البدء في انجاز المشروع. لذا فقد كنت من حين لآخر أوقف التصوير لأشتغل بشكل متقطع طيلة خمس سنوات وهي المدة التي تَطلبها التصوير بسبب حاجتي للمال. لدي زوجة وطفل ولم يكن من الوارد أن أتخلي عنهما من أجل الفيلم.

لقد شجع بوكوفسكي جيلا كاملا من الكتاب علي المزاوجة بين الكتابة والشرب. أتظن بأنها فكرة جيدة؟

أعتقد أنه من بين القلائل من الكتاب الذي زاوجوا بنجاح بين الاثنين. ترومان كابوت كان كاتبا كبيرا لكنه حين كتب روايته بدم بارد تحت تأثير الكحول كانت النتيجة هزيلة. هيمنغواي كان يتفادى الشرب حين يكتب. لكن بوكوفسكي كان يلتجأ الي الكحول من أجل الحفاظ علي نفسه الإبداعي وقد تفوق في ذلك. رغم أنه في السنوات الأخيرة من حياته توقف عن الشرب لأسباب صحية ولم يمنعه ذلك من الاستمرار في الكتابة بل أنه كتب أشياء في غاية الجودة من دون أن يشرب قطرة كحول. وربما يعود ذلك الي اقترابه من عالم الموت.

أنت بالطبع معجب ببوكوفسكي ما هي في نظرك أهم أعماله؟

أنا أحب شعره أكثر من أعماله النثرية. لقد صدرت مجموعة من منتخبات أشعاره بعد مماته تحت عنوان ما يهم هو كيف تشق طريقك في أتون النار وهي تضم قصائد في غاية الروعة. بالنسبة للروايات أفضل رواية مكتب البريد التي يحكي فيها قصة موته البطئ في عمل يكرهه حد الموت.

ما هي الإفادة التي قد يجنيها المشاهدون من هذا الفيلم؟

أتمني أن يشجع بعض الشبان علي الذهاب بعيدا من أجل تحقيق أفلامهم والصمود أمام طاحونة الواقع. ففي مجتمعنا الحالي الثقافة الوحيدة السائدة هي ثقافة المال والاستهلاك. والأفراد منذ نعومة أظفارهم يتعرضون لعملية غسل دماغ تجعلهم يلهثون وراء المال والمظاهر. بوكوفسكي قام بالعكس تماما تحدي الفقر والمهانة واستمر يكتب قصائده في العتمة الي أن عثر علي من يساعده ليصير الكاتب الشهير والكبير الذي نعرفه الآن. نعم أتمني أن يخلق هذا الفيلم معجزة صغيرة في رأس شاب ما ليحقق أحلامه ويصير كاتبا أو فنانا كبيرا.

***

قصائد من مجموعة الحب كلب من جهنم

سرير آخر

سرير آخر
امرأة أخري
مزيدٌ من الستائر
غرفةُ حمام أخرى
مطبخ آخر.
عيون أخرى
شَعر آخر
أقدام وأصابع أخرى.
الجميع يتربص
انه البحث الأبدي.
تبقي أنتَ في السرير
بينما هي تلبس ذاهبة الي العمل
ثم تتساءل في سريرتك
عن الذي حدث للمرأة السابقة
والتي قبلها.
كل شيء علي أحسن ما يرام:
المضاجعة
النوم المشترك
الحنان الناعم.

بعد مغادرتها تنهضُ
وتستعمل حَمّامَها
كل هذا في غاية الحميمية
وغاية الغرابة أيضا.
تعود للسرير وتنام ساعة أخري.
عندما تغادر بيتها تفعل ذلك بقلب حزين
لكنك ستراها مرة أخري
سواء نجحت العلاقة أم لا.
تقود السيارة حتى الشاطئ
وتظل قاعدا فيها متأملا البحر.
انه منتصف النهار.
سرير آخر، آذان أخري، أقراط أخري
أفواه أخري، قبقاب آخر،
ألوان، أبواب، أرقام هاتف...
في ما مضي كنتَ قويا بما فيه الكفاية
كي تعيش وحيدا.
لكن رجلا بِعُمْرِكَ وهو يشارف الستين عاما
عليه أن يكون أكثر تعقلا.
تُشغِّلُ السيارة وتقول في نفسك:
حالما أدخل البيت سأهتف إلى جاني
لم أرها منذ الأربعاء الماضي.

شيءٌ ما

نفدت أعوادُ الثقاب.
تكسرت أسلاكُ سريري.
سرقوا حذائي.
سرقوا لوحتي الزيتية
ذات العينين القرنفليتين.
سيارتي معطلة.
سمك الجريث يتسلق جدران حمّامي.
حبي محطم.
لكن أسهم البورصة في تصاعد هذا اليوم.

هذا ما يريدونه

فاليجو وهو يكتب عن الوحدة
بينما يحتضر من الجوع.
العاهرة وهي ترفض أذن فان كوغ
رامبو مبحرا الي أفريقيا بحثا عن الثروة
ليجد سفلسا لا علاج له.
بيتهوفن وقد صار أصما.
عزرا باوند وهم يجرجرونه عبر الشوارع
في قفص فولاذي.
شاترتون وهو يتناول سم الفئران.
دماغ هيمنغواي يسيل في كوب ليمون.
باسكال وهو يقطع شرايين معصمه في الحمام.
آرتو مسجونا مع المجانين.
دوستيوفسكي وقد أوقفوه علي جدار الإعدام.
كراين وهو يقفز من مدسرة السفينة.
لوركا وقد صرعه جنود أسبان في قارعة الطريق.
بيرمان يرمي بنفسه من أعلي الجسر.
بوروز وهو يطلق النار علي زوجته.
مايلر وهو يطعنها بسكين.
هذا ما يريدونه:
مشهدُ لعنةٍ إلهية
لوحةُ إعلان بأحرف بارزة
وسط جهنم.
هذا ما تريده عصابةُ الحقراء هذه
الأغبياء، العجزة، البؤساء
مستهلكو المشهد.

أنا

النساءُ لا يفقهن أي شيء في الحب، قالت لي.
أنتم الرجال تعرفون كيف تحبونَ
بينما النساء لا يبغين غير مصِّ الدماء.
أعرف هذا لأنني امرأة.
هاهاها، قهقهتُ.
آذن لا تنشغل بقطيعتكَ مع سوزان
لأنها من دون شك بصدد مصِّ دماء
رجلٍ آخر الآن.
ثرثرنا هكذا بعض الوقت ثم ودعتها.
أعدت سماعة الهاتف الي موضعها.
ذهبت للمرحاض
وقلت لنفسي بأنني سأظل علي قيد الحياة
ما دمتُ أستطيع أن ألفظ النفايات من جسمي
وبعض القصائد.
وبأنني طالما بقيت قادرا علي هذا
فبإمكاني تحمل الخيانة
والوحدة
والتصفيق
والتقارير الاقتصادية
في الصفحات المالية.
نهضتُ وغسلتُ يدي ثم فكرتُ:
حقيقةً
أنني أعرف كيف أحب.
لبستُ وتوجهتُ نحو الغرفة.
هذا المساء
ستظل قصائدكَ عن الفتيات
تُقرأ حتى بعد خمسين عاما من الآن
قال لي الناشر في الهاتف.
عزيزي الناشر
انك تتحدثُ كما لو أن الفتيات
قد انقرضنَ فعلا.
أعرف قصدكَ
لكن أعطني فتاةً حقيقية
من لحم وعظم هذا المساء
دَعْها تتدحرجُ نحوي علي البلاط
واحتفظ بكل قصائدي
الجيدة
والرديئة
وكل ما سأكتبه لاحقا
نعم أعرفُ قصدكَ
لكن هل تدري ماذا أقصد أنا؟

***

وحيدا مع العالم أجمع
اللحم يغطي العظام
ثم يضيفون دماغا
وأحيانا روحا.
النساء يضربن
المزهريات عرض الحائط
والرجال يفرطون في السكر
ولا أحد يجد ضالته،
لكنهم يحتفظون جميعا بالأمل
زاحفين من سرير لآخر.
اللحم يبحث عن ما هو أَنْفَسُ من اللحم.
ليس هناك أي خلاص:
كلنا منذورين لقدرٍ فريد.
لا أحد يعثرُ علي مثيله.
امتلأت المدينة بالقاذورات
امتلأت المزابل
امتلأت الملاجئ
امتلأت المستشفيات
امتلأت المقابر
إنها فعلا الأشياءُ الوحيدة
التي تمتلئ.

- القدس العربي

**********************

تشارلز بوكوفسكي، دعوة للاحتفاء بالرداءة بوصفها أول وآخر ما توصلت إليه البشرية

زياد عبدالله
(سوريا)

لن يكون علي - عليكم الا معاينة هكذا جنون، أبعد ما يكون عن أقرب عبارة ملفقة قد تصادف أيامنا لتتخذ مكانها بكل وهنها وارتباكها في سياق قصيدة لا تحقق أي شرط من شروط القصيدة سوى صدقها واتساقها مع ما تقوله لتقوله جيدا.

قصيدة تشارلز بوكوفسكي (1920- 1994) تتكئ على الرداءة، فهي على إلمام مفرط بالحياة ساعة بساعة، مع إصراره إصرار قصيدته على إيجاد متكئ آخر غير الرداءة، والتي بنفس الوقت لم يجد إلاها لتوصيف حياة آثر الالتصاق بها والترنم بلعناتها صارخا في واحد من أصواته: "أنا كاتب ردئ" ومضيفا في آخر: "ذات مرة سجلت صوتي وأنا أقرأ قصائدي على مسمع أسد في حديقة الحيوان فزأر بعنف، وكأنه يتوجع، والشعراء كلهم يستمعون لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون".

شاعر، قصاص، روائي، كتبه التي تجاوزت الخمسة والأربعين كتابا، جنون لا ينضب، أو عزف منفرد على آلة كاتبة تحرص على إخماد روح شفافة لاتني تتسرب من بين السطور وتنتقم من كاتبها لكاتبها، بنصوص تلوح وتعانق بدل أن تصفع، تتضرع بصرخات سرعان ما يتبدى رنينها.

انهم ، جميعا، يعرفون
أسأل رسامي الأرصفة في باريس
أسأل نور الشمس على كلب نائم
أسأل الخنازير الثلاثة
أسأل موزع الصحف
أسأل موسيقى دون زيتي
أسأل الحلاق
أسأل المجرم
أسأل الرجل المتكئ على حائط
أسأل المبشر
أسأل صانع الخزن
أسأل النشال أو المرابي
أو نافخ الزجاج أو بائع السماد
أو طبيب الأسنان
أسأل الثائر
أسأل الرجل الذي أقحم رأسه
في فم أسد
أسأل الرجل الذي يظن نفسه المسيح
أسأل العصفور الأزرق الذي يعود الى بيته
في الليل
أسأل المتلصص توم
أسأل المحتضر بالسرطان
أسأل رجلا بحاجة لحمام
أسأل الرجل ذي الساق الواحدة
أسأل الأعمى
أسأل الرجل ذي اللثغة
أسأل مدمن الأفيون
أسأل الجراح المرتجف
أسأل الأوراق التي تمشي عليها
أسأل مغتصبا أو قاطع تذاكر في تراموي
أو رجلا عجوزا ينتزع العشب الضار من حديقته
أسأل مصاص دماء
أسأل مروض براغيث
أسأل رجلا يلتهم النار
أسأل أتعس رجل تصادفه
في أتعس لحظاته
أسأل معلم الجيدو
أسأل راكب الفيلة
أسأل مريض الجذام، المسلول، المحكوم بالسجن المؤبد
أسأل بروفيسيرا في التاريخ
أسأل الرجل الذي لم يقلم أظافره أبدا
أسل مهرجا أو أول وجه تصادفه
في وضح النهار
أسأل أباك
أسأل ابنك وابنه القادم
اسألني
اسأل ؛لمبة" متوهجة في كيس ورقي
أسأل المغوي، الملعون، الأحمق
الحكيم، النخاس
أسأل بنائي المعابد
اسأل رجالا لم ينتعلوا أحذية في حياتهم
اسأل المسيح
اسأل القمر
اسأل الظلال في المرحاض
اسأل الفراشة، الراهب، المجنون
أسأل من يرسم كاريكاتير جريدة النيوركر
أسأل سمكة ذهبية
أسأل ورقة سرخس تتمايل لدرجة الرقص
أسأل خريطة الهند
أسأل وجها طيبا
أسأل الرجل المختبئ تحت سريرك
أسأل أكثر رجل تكرهه في العالم
أسأل الرجل الذي خرم قفازات جاك شاركي
سأل رجلا يشرب القهوة بوجه حزين
اسأل السمكري
اسأل الرجل الذي يحلم بالنعامات كل ليلة
اسأل جامع التذاكر في حفل استثنائي
اسأل مزور النقود
اسأل الرجل النائم في زقاق
تحت جريدة
اسأل فاتحي الأمم والكواكب
اسأل الرجل الذي قطع إصبعه للتو
اسأل الدالة في الإنجيل
اسأل الماء ينقط من حنفية بينما يرن الهاتف
اسأل اليمين الكاذب
اسأل الأزرق الغامق
اسأل المظلي
اسأل رجلا يؤلمه بطنه
اسأل العين الإلهية اللامعة جدا والمغرورقة بالدموع
اسأل الولد الذي يرتدي بناطيل ضيقة
في الأكاديمية الباهظة
اسأل الرجل الذي تزحلق في حوض الحمام
اسأل الرجل الذي التهمه سمك القرش
اسأل من باعني زوج قفازات مختلفة
اسأل هؤلاء وكل أولئك الذين تركتهم
اسأل النار النار النار-
اسأل حتى الكاذبين
اسأل أي واحد تشاء في أي وقت
تشاء في أي يوم تشاء
سواء كان الجو ماطرا
او مثلجا
أو كنت تخطو خارج مدخل
مصفر من التدفئة
اسأل هذا اسأل ذاك
اسأل الرجل الذي على شعره خراء عصفور
اسأل معذب الحيوانات
اسأل الرجل الذي شاهد الكثير من مصارعات الثيران
في اسبانيا
اسأل مالكي سيارات الكاديلاك الجديدة
اسأل المشهور
اسأل الجبان
اسأل الأمهق
والموظف الحكومي
اسأل أصحاب البيوت ولاعبي البلياردو
اسأل المحتالين
اسأل القتلة المأجورين
اسأل الصلعان والبدناء
والرجال الطوال والقصار
اسأل الأعور، الشبقين
والباردين جنسيا
اسأل الرجال الذين يقرأون
كل افتتاحيات الصحف
اسأل رجالا نسلهم ورود
اسأل الرجال الذين لا يشعرون بألم يذكر
اسأل المحتضر
اسأل جزازات العشب ومشجعي
كرة القدم
اسأل أي واحد منهم أو جميعهم
اسأل اسأل اسأل
وجميعهم سيخبرونك:
زوجة مزمجرة على الدرابزين
أكثر مما يحتمله رجل.
فاقة
يحثك على المضي
ولم تره أبدا
رجل قد يصل في يوم ما
لن يكون في الشوارع
أو المباني
أو الملاعب
او ان كان هناك
فقد أضعته بطريقة ما.
ليس واحدا من رؤسائنا
أو رجال الدولة أو الممثلين
أتساءل ان كان هناك
مشيت في الشوارع
مارا بالصيدليات والمشافي
مارا بالمسارح والمقاهي
ثم تساءلت ان كان هناك
لم ير
وقد بحثت ما يقارب نصف القرن
رجل حي، حي بحق،
يقال انه عندما ينزل يديه
بعد إشعال سيجارة
ترى عينيه
عيني نمر في المهب
لكن متى أنزل يديه
دائما تكون
هناك عيون أخرى
دائما دائما..
وعما قليل سيكون من المتأخر جدا علي
وسأكون قد عشت حياة
مع الصيدليات، القطط، الملاءات، البصاق
الصحف، النساء، الأبواب وتشكيلة أخرى
لكن لا وجود
لرجل حي
في أي مكان.
ماما
ها أنا
على الأرض
فمي
فاغر
و
لا أستطيع قول
ماما،
و
الكلاب تمر بجانبي تتوقف وتتبول
على شاهدتي، نلتها تماما
عدا الشمس
وبدلتي بدت
رثة
والبارحة
ما تبقى من ذراعي
الأيمن اختفى
بقي القليل، تماما مثل قيثارة
دون موسيقى.
على الأقل ؛سكرة"
في السرير مع سيجارة
قد تسبب خمس سيارات
إطفاء و
ثلاثة وثلاثون رجلا
لا استطيع
القيام
بشيء
ملاحظة - هيكتور ريشموند في
القبر المجاور الذي لا يفكر الا بموزارت وحلوى
اليرقات
صحبة
سيئة جدا

حب

الحب، قال، غاز
قبلني قبلة الوداع
قبل شفتي
قبل شعري
أصابعي
عيني
عقلي
اجعلني أنسى
الحب، قال، غاز
كان لديه غرفة في الطابق الثالث
رفض من قبل دزينة من النساء
خمسة وثلاثون ناشرا
ونصف دزينة من مكاتب التوظيف،
لا أقول الآن انه كان على ما يرام.
فتح كل عيون الغاز
دون إشعالها
ومضى الى السرير
بعد ساعات
شخص في طريقه الى الغرفة 309
أشعل سيجارا في الممر
ثم أريكة لفظت من النافذة
حائط تداعى مثل تراب رطب
أربعون قدما في الجو تموج لهب ارجواني
الفتى في السرير
لم يعرف أو يهتم
لكن علي القول
بأنه كان على أحسن حال
ذلك اليوم
خارج الذراعين
خارج ذراعي حب
بين ذراعي آخر
أنقذت من الموت على الصليب
بمساعدة سيدة تدخن الحشيش
تؤلف أغاني وقصصا،
وأكثر لطفا من الأخيرة
أكثر لطفا بكثير
والجنس بلطفها أو أكثر
ليس ممتعا أن توضع على الصليب وتترك هناك،
الأمتع بكثير أن تنسى حبا فشل
كما كل حب
في النهاية
يفشل.
الأمتع بكثير أن تمارس الحب
قرب الشاطئ في "دل مار"
في الغرفة 42، وبعد ذلك
تجلس في السرير
تشرب نبيذا جيدا، تثرثر وتمسك الدخان
منصتا للأمواج...
مت مرارا
مؤمنا ومنتظرا، انتظر
في غرفة
أحدق في سقف متشقق
بانتظار مكالمة، رسالة، نقرة على الباب، نأمة..
ازداد وحشة من الداخل
بينما ترقص مع الغرباء في النوادي الليلية
خارج ذراعي حب
بين ذراعي آخر
ليس ممتعا ان تموت على الصليب
الأمتع بكثير أن تسمع اسمك يهمس
في العتمة.

مجلة (نزوى)

**********************

تشارلز بوكوفسكي: انأ كاتب يبحث عن بعض الوقت والقليل من الطعام وما يكفي إيجار علية

إعداد: زياد عبدالله

تشارلز بوكوفسكيكان على الكاتب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي (1920 ــ 1994) السفر الى نيو اورليانز للتعرف على الناشر جون وب، او الأصح ليتعرف جون على بوكوفسكي الذي يؤمن بضرورة تعرفه على الكاتب قبل أن ينشر له. وقبل ان يغادر بوكوفسكي، صرخ جون في وجهه: (بوكوفسكي انت سافل، لكني سأنشر كتابك على أي حال). كان هذا طبيعياً جدا، ذلك ان تشارلز بوكوفسكي هو آخر كاتب يمكنه زعزعة إيمان جون الراسخ بأن الكتاب سفلة متى كانوا بعيدين عن الآلة الكاتبة.
في عام 1965 وبعد نشر جون وب (بيديها تمسك قلبي)، كان على بوكوفسكي كتابة المزيد من القصائد في واحد من شهور نيو اورليانز الحارة وذلك لإرضائه. حفنة من القصائد وسيتحسن مزاجه. وهكذا واصلت الكتابة ــ يروي بوكوفسكي ـ شربنا أنا وجون وزوجته برفقة الصراصير. كان المكان ضيقا والصفحات 5، 6، 7، 8 مكدسة في حوض الحمام، لا احد يستطيع الاستحمام. والصفحات 1، 2، 3، 4 كانت في صندوق كبير للثياب، وسريعاً لم يبق مكان لأي شيء.
في كل مكان رزم أوراق بعلو سبعة أقدام ونصف. كنا نتحرك بحذر شديد. الحوض كان نافعا لكن السرير أعاقنا ولذلك بنى جون علية صغيرة من الخرداوات مع سلم، ونام جون ولويز فيها ورحل السرير. صار هناك متسع لتكريس الأوراق بوكوفسكي، بوكوفسكي، في كل مكان سأجن صرخت لويز. الصراصير تدور بينما تتجرع المطبعة قصائد (صليب في يد الموت).
أصدقاء مثل جون ولا احد غيرهم وقتها، ومن ثم حياة يعيانها بوكوفسكي بلا رحمة وبلا أدنى شك بحماقتها، ويحرص على مرارتها ومزقات أخرى حافلة بآثامه وأفراحه وتشرده، متنقلا من عمل الى آخر: سائق شاحنة، غاسل صحون، حارس سيارات، ساعي بريد، عامل مصعد، عامل في مسلخ بهائم، مجند في الصليب الأحمر... الخ ولكي لا ينتحر، شرب وقرأ، أعجب بسيلين ودوستو يفسكي وهمنجواي وميلر. وما بين سكرتين قويتين لم ير وصول (حركة البيت) (Beat Generation) الى مجدها وعلى رأسها، الثالوث المقدس، وليم بوروز وجاك كيرواك وآلن جينسبرج، كذلك لم ير جميع دعاتها: كورسو وسبندر وكاسادي وماك كلور وهو في اليوم الذي نشر فيه كتابه الأول في العام 1959.
وكان ديوان شعر يتضمن (قصائده المهلوسة) كان بوروز قد نشر (جنكي) و(الوليمة) وجينسبرج (عواء) و(قاديش) وكرواك (البلدة والمدينة) و(على الطريق) أي وجد نفسه في محيط يدفع المرء، حقا، الى الشعور بالانهيار الكامل، وانه لم ينجز شيئا إزاء هؤلاء. (كنت أعيش في علية في فيلادلفيا، في الصيف تصبح حارة، لذا أبقى في الحانات. لم أكن املك فلسا واحدا، فوضعت إعلانا في الجريدة وقلت اني كاتب يبحث عن عمل... كانت كذبة لعينة، أنا كاتب يبحث عن بعض الوقت والقليل من الطعام وما يكفي إيجار علية).
لا يمكن وصف أدب تشارلز بوكوفسكي الا بمرآة هائلة حافلة بمشاهد لا متناهية لما وقعت عليه عيناه ولامسته يداه، او حياته في هكذا حياة لم يغفر لها قسوتها، ولم يفوت فرصة واحدة، سطرا واحدا دون ان يهزأ بها. قصائد وقصص بجنون ورعب الحياة.
(قصائد كتبت قبل القفر من نافذة الطابق الثامن)، بنبل الحياة وبذاءتها، بنضرتها ياللعفونة! قصائد او ترانيم ناشدة للرداءة بوصفها أول وآخر ما توصلت اليه البشرية وليكن (أنا كاتب رديء) يقول بوكوفسكي في صوت من أصواته ويضيف في آخر: (ذات مرة سجلت صوتي وأنا اقرأ قصائدي على مسمع أسد في حديقة الحيوان فزأر بعنف، وكأنه يتوجع، والشعراء كلهم يستمعون لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون) لا ينفي تشارلز بوكوفسكي اتهامات بعض النقاد لأدبه بالسطحية والإباحية رغم انه بعيد عن ذلك.
كما انه لا يهتم بصعود المواهب البارزة لأنهم سرعان ما سيكتبون من سيء الى أسوأ، ولكي تصير كاتبا كبيرا عليك ان تنام حتى الزوال، وان تذهب الى مراهنات الخيل، تراهن وتكسب ان كان بمقدورك، لان بإمكان أي حقير ان يصبح خاسرا جميلا. لا تنتظر رسالة او مكالمة من احد. عليك بالنساء ـ النساء الجميلات ـ وكتابة اقل عدد ممكن من القصائد العاطفية. اشرب المزيد المزيد من البيرة وتبول قصائد القرف ومن ثم الفرح.
(من الصعب جدا ان أجد اسما لما يدفعني للكتابة يقول بوكوفسكي... ربما كان ذلك بسببين: القرف والفرح. صحيح اني لا اشعر بهما في الوقت نفسه، الا إنهما يشكلان حقل تماريني).
شهرة في الخمسين
بعد محاولاته العديدة في القصة يكتب قصيدته الاولى في الخامسة والثلاثين من عمره، وتفاجئه الشهرة في الخمسين. خمسون سنة لم يتوقف قلمه لحظة واحدة عن الكتابة، فاتحا ذراعيه أمام حياة يتقزز منها ويلتهمها. حياة ملؤها الفشل والصخب والهزيمة والفرح، يعيش على الحظ حسبما يقول، ولا ربما في هذا الكثير من الحقيقة ان تعلق الأمر بقصائده التي تنجو من مصير القمامة أحيانا كما يروي في قصة نشره لكتابه الثالث (في شارع الرعب في درب الأسى) والقصة جديرة بالذكر إذ انها من بطولة جون آخر هو جون توماس وإدمانه على تسجيل أي حديث يجري في غرفته. وفي إحدى سهراته يقرأ بوكوفسكي عددا لا بأس به من القصائد لينساها بعد ذلك تماما وتلقى مصيرها في القمامة.
ولولا مسجل توماس لبقيت إجابة بوكوفسكي كما هي أمام رغبة (بلاك سبرو) بنشر كتاب له ليس لدي أية قصائد جديدة حاليا ولما عادت القصائد لتستقر بين دفتي كتاب متلقية عنوانها بوداعة.
مع بوكوفسكي كل شيء يستحق الكتابة عنه: حديقة الحيوان، الحب، السرير، المرحاض، العشاق، اللصوص، القتلة، وذلك الذي أراد إسقاط الحكومة فاسقط زوجة احدهم، واليوم الذي أمطرت فيه على متحف لوس انجلوس الإقليمي. ثم ان كنتم لا تعرفون فأنا اعرف رجالا نسلهم ورود ومعتوه يتكلم مع الفئران وعصافير الدوري، وذلك الذي يقول:

$$الحب غاز
اقصد، اني نمت للتو
استيقظت وذبابة على مرفقي
أسميت الذبابة بيني
ثم قتلتها

شاعر، قصاص، روائي. كتبه التي تجاوزت خمسة وأربعين كتابا، جنون لا ينضب او عزف منفرد على آلة كاتبة تحرص على إخماد روح شفافة لاتني تتسرب من بين السطور، وتنتقم من كاتبها لكاتبها، بنصوص تلوح وتعانق بدل ان تصفع، تتضرع بصرخات سرعان ما يتبدى رنينها.

**

قصائد لبوكوفسكي

إضافة الى غلاء الإيجار

ثمة وحوش في رشاشة الملح
ومطارات في ركوة القهوة
يد أمي في الدرج
ومن قفا الملاعق تأتي
صرخات حيوانات صغيرة معذبة
في الخزانة مجرم
يرتدي ربطة عنق خضراء جديدة
وتحت البلاط
ثمة ملاك مخنوق
مع منخرين مشعين
من الصعب العيش هنا
من الصعب جدا العيش هنا
الظلال ليلا مخلوقات لم تولد بعد

تحت السرير

العناكب تقتل أفكارا صغيرة بيضاء
في الصباح
بعد الفطور
أراهم يدحرجون الميت في الشارع
لم اقرأ عن ذلك في الصحف
ونسور في كل مكان
جاثمة على السطح، في المرج، داخل سيارتي
نسور بلا أعين وتفوح منها رائحة الكبريت
يزورني الناس
يجلسون على كراس أمامي
وارى الهواء يدب عليهم
برغش اخضر وذهبي واصفر
ولا ينفضوه عنهم
عشت طويلا هنا
وفي اقرب وقت علي الرحيل الى اوماها
يقولون ان كل شيء منهك هناك
ولا يتحرك
يقولون ان بمقدورك رسم اشكال على الماء
والنوم أعلى أشجار الزيتون
أتساءل ان كان هذا صحيح؟
لا استطيع العيش هنا أكثر
حتى انه بدا لطيفا
حزمها جيدا في طرود مختلفة
الأرجل أرسلها الى عمة في سان لويس
الرأس الى قائد كشفي في بروكلين
البطن الى لحام أحول في دمونيه
الأعضاء الأنثوية أرسلت الى كاهن شاب في لوس انجلوس
رمى بالذراعين لكلبه
وأبقى اليدين ليستعملهما ككسارتي بندق،
وكل ما تبقى والأجزاء المتجانسة
مثل النهدين والردفين فقد تركها تغلي مع الحساء
الذي كان مذاقه يا للغرابة
أفضل من أي مذاق لها
انفق المال الذي كان في حقيبتها
اشترى نبيذا فرنسيا فاخرا، بقول، رطلا من المارجوانا
وببغاءين صغيرين، اشترى الأعمال الكاملة لكيتس،
منديل احمر مزركش طوله خمسة أقدام، مقص ذو مقابض عاجية، صندوق حلوى
لصاحبة البيت.
ومن ثم ثمل واكل ونام لثلاثة أيام وثلاث ليال
وعندما أتت الشرطة
بدا مسالما وهادئا
وطوال الطريق الى مركز الشرطة
تحدث عن الطقس، لون الجبال،
وأشياء كثيرة مثل هذه، لم يبد ذلك القاتل أبدا
كان ذلك غريبا جدا
لا تأتِ
لكن ان فعلت...
نعم بالتأكيد، في الداخل ما لم أكن في الخارج
لا تقرع الباب
ان كانت الأضواء مطفأة
او سمعت اصواتا
ربما كنت اقرأ بروست
ان مرر احدهم بروست من تحت الباب
او واحدة من عظامه ليخنتي،
لا استطيع قرض المال
او إعارة الهاتف
او ما تبقى من سيارتي
مع ذلك يمكنك الحصول على جريدة البارحة
قميص مهترىء او شطيرة نقانق
او النوم على الأريكة
ان كنت لا تصرخ في الليل
وتستطيع التكلم عن نفسك
هذا طبيعي في نهاية الأمر،
الأوقات العصيبة على عاتقنا جميعا

فقط

لم أكون عائلة
لأرسل الى هارفرد
او لاشتري ارض صيد،
لا اطمح بالكثير
فقط
أحاول البقاء حيا
لمدة أطول قليلا
وهكذا ان قرعت الباب أحيانا
ولم اجب
ولم تكن امرأة في الداخل
ربما حنكي قد كسرته
وابحث عن سلك
او اتبع الفراشات على
ورق الجدران،
ان لم اجب يعني
اني لن أجيب، والسبب اني
لست مستعدا بعد لان أقتلك،
لان احبك، وحتى لان استقبلك،
يعني اني لا اريد الكلام
أنا مشغول، أنا مجنون، أنا سعيد
او ربما اعلق حبلا،
حتى وان كانت الأضواء ساطعة
وسمعت صوتا
مثل نفس او صلاة او غناء
(راديو) او صوت نرد
او ضربا على الآلة الكاتبة
امض، ليس اليوم
ليست الليلة، ليست الساعة
ليس جهلا بالوقاحة
بودي الا أؤذي شيئا، ولا حتى بعوضة
لكن أحيانا اجمع أدلة من نوع يتطلب مزاجا ما، وعيناك الزرقاوان، لتكن زرقاء وشعرك، ان كان لديك او عقلك
ـ لن يستطيعوا الدخول ما لم يقطع الحبل او ينعقد او ما لم أكن قد حلقت في مرايا جديدة، ما لم يتوقف العالم او يفتح للأبد.

******

أنا كاتب رديء، أحياناً حتى الكتّاب الرديئون يقولون الحقيقة

لتشارلز بوكوفسكي

ترجمة وتقديم: زياد عبد الله


يبقى الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي (0291 4991) المولود بأندرناخ في ألمانيا، والمهاجر ابن الثلاث سنوات إلى الولايات المتحدة، دعوة ملحة للاحتفاء بالرداءة بوصفها أول وآخر ما توصلت إليه البشرية، ومجاراتها انتقاماً إن صحت العبارة.
لا ينفي بوكوفسكي اتهامات بعض النقاد لأدبه بالسطحية والإباحية، رغم أنه بعيد عن ذلك، ولا يتوانى عن الصراخ: "أنا كاتب رديء".
قصائده بنبل الحياة وبذاءتها، بنضرتها وبالعفونة! "قصائد كُتبت قبل القفز من نافذة الطابق الثامن"، وغالبا بنكهة تشرده وطفولته الموسومة بلكمات والده، إضافة إلى تنقله من عمل لآخر: عامل مصعد، ساعي بريد، سائق شاحنة، مجند في الصليب الأحمر...
بعد محاولاته العديدة في القصة، يكتب قصيدته الأولى بعد تجاوزه الخامسة والثلاثين من عمره، وتفاجئه الشهرة في الخمسين. كتبه التي تجاوزت خمسة وأربعين كتاباً، جنون لا ينضب أو عزف منفرد على آلة كاتبة تحرص على إخماد روح شفافة لا تني تتسرب من بين السطور، وتنتقم من كاتبها لكاتبها، بنصوص تلوح وتعانق بدل أن تصفع، تتضرع بصرخات سرعان ما يتبدى رنينها.

***

حياة بورودين (*)

في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكّر أنه كان كيميائياً فحسب
يؤلف الموسيقى ليرتاح،
كان بيته مكتظاً بالناس:
طلاب، فنانون، سكِّيرون، معربدون،
ولم يتعلم أبداً كيف يقول: لا.
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكّر زوجته التي استعملت مؤلفاته
لفرش علب القطط
أو لتغطية مرطبانات الحليب الفاسد
كانت تعاني من الربو والأرق
وتطعمه بيضاً نصف مسلوق
وعندما يود إخماد الأصوات في البيت
تسمح له فقط باستعمال الملاءة
إضافةً إلى كون أحدهم في سريره عادةً
(كان كلٌ ينام وحده هذا إن ناموا)
وبما أن كل الكراسي استُولي عليها
غالباً ما نام على الدرج
ملفوفا بشالٍ متهرئ
كانت تخبره متى يقلّم أظافره
وألا يغني أو يصفر
أو أن يضع الكثير من الليمون في الشاي
وألا يعصرها بملعقة.
السيمفونية الثانية، مينور B
الأمير إيفور
على أبواب آسيا الوسطى
لم يكن بمقدوره النوم
ما لم يضع قطعةً من القماش الأسود على عينيه.
في عام 7881 حضر حفلةً راقصة
في الأكاديمية الطبية
مرتدياً زي مهرجٍ شعبي،
في النهاية بدا مرحاً على غير عادته
وعندما سقط على الأرض
ظنوا أنه يهرج.
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكّر...
إلى مارلين مونرو
تنسل توقاً داخل الرماد المضاء
مبتغىً لدموع الفانيلا
في الليالي المظلمة
جسدك الواثق أضاء شموعاً للرجال،
والآن ليلكِ أشدّ حلكةً
مما قد تتطاله الشموع.
سننساكِ بعض الشيء
ومن المؤسف
أن الأجساد الحقيقية أكثر قرباً
كما لهاث الدود من عظامكِ،
لذا أود أن أخبرك
أن هذا يحدث للدببة والفيلة
للطغاة والأبطال والعمّات
والضفادع،
ما زلت تستدعين شيئاً لنا
شيئاً من الانتصار الطفيف،
ولهذا أقول:
أبعدي الأسى عنا تماماً
مثل وردةٍ جفت ورُميت
ننسى
نتذكر
ننتظر.
طفلةٌ، طفلةٌ، طفلة
أرفع كأسي لدقيقةٍ
وأبتسم.

أصوات

1

شاربي مُلصَقٌ
وشعري المستعار وحاجباي
وحتى عيناي...
ثم يذهلني شيء...
تترنح ظلات المصابيح، أسمع
أصوات مخيفة
وسحرية وهادرة

2

أعرف أني جُننت، كفصلٍ
في نظرية:
التائهون عادوا
والمرضى صحّوا
والعقيمون أضحوا
خلاّقين.

3

حتى ولو كنت هانئ البال، ومدجناً
ومحنّكاً لما أقدمت أبداً على شرب
دماء القداديس
وتسميتها نبيذاً.

4

لماذا اضطررت إلى رفع سيارة تلك الفتاة
الجميلة من مصدها لأن الرافعة تعطلت؟
لم أستطع الوقوف باستقامة
فأبعدوني مثل قطعة بسكويت قاسية وجلّسوني
غير أني لم أقدر على الحركة...
كان خطأ المشفى، خطأ الأطباء
ثم أسقطني الشابان في الطريق إلى
غرفة الأشعة... صحت "قضية!"
لكني أعتقد أنه خطأ الفتاة تلك
فما كان عليها أن تكشف لي كل تلك الساق
والفخذ.

5

اسمع، اسمع، يا حبي القذر، مزّق واقذف،
يا حبي القذر، يا حبي، يا حبي، اقتل، تعلّم أن تستخدم
سلاحاً، افتح مناطق، تعلّم، كن قديساً، يا حبي
القذر. إنه يقترب...

6

في روايتي الأولى ابتعدت عن E.H،
ومن وقتها وأنا أعيش حياةً نضرة. لعلي
أفضل صحافي أنجبته أميركا، أستطيع
التبرّز على أي موضوع، ولهذا أساس.
وإعجابك بي يفوق كثيراً إعجابك
بأول رجلٍ تقابله في الشارع
صباحاً. ولكن صحيح، مع ذلك
أني عشت خلال فترةٍ خاليةٍ من أي
كاتب، لذا نلت مكانة بارزة
لأنه لم يبرز أي شيء آخر. حسن،
إنه عصر سيّئ. أعتقد أني في القمة.
لكن الوضع يختلف عما كان عليه عندما كان
بيننا عمالقة يؤثرون فينا. لا عليك:
إني أعيش حياةً نضرة.

7

أنا كاتب رديء، قتلت N.C لأني أعطيته
أكثر من حقه، ومن ثم أضفت التفاصيل
على كتابي أكثر مما يستحق، كان هناك
فقط ثلاثة كتّاب سيئين مقبولين
في الأدب الأميركي.
ثم كان لدينا توماس وولف، ثم جئت أنا. لكن
عندما حاولت أن أختار بيني وبين توماس وولف،
كان لا بد لي من اختيار وولف. أقصد بوصفه أسوأنا. أحب
أن أفكر بما قاله كابون عني، وهو كاتب رديء آخر:
إنه ينسخ فقط. أحياناً حتى
الكتّاب الرديئون يقولون الحقيقة.

8

مشكلتي، كمشكلة أغلبنا، التكلف الفني.
أعيش، مملوءاً بالمقليات الفرنسية والمجد
ثم أنظر حولي، فأرى الشكل الفني، فأقفز إليه
وأخبرهم كم أنا جيد وعما أفكر فيه.
والسمة المضجرة تلك هي نفسها التي كادت
تدمر الفن طوال قرون، وذات مرة سجلت صوتي
وأنا أقرأ قصائدي على مسمع أسد في حديقة الحيوان
فزأر بعنف، كأنه يتوجع، والشعراء كلهم يستمعون
لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون.

9

أتذكر روايتي التي تدور حول سجن
تغطي جدرانه الصخرية
صور الأبطال والعشاق؟
حققت شهرةً. وجئت إلى هنا.
اشتهيت سائقي الدراجات النارية السود من
فالي ويست وبيكر زفيلد
الذين أخذوا شهرتي وخرقوها
وجعلوني أمص وحدتهم وجنونهم
وحلمهم بالروح البيضاء الكاديلاك
وبالروح السوداء الكاديلاك
وحلبوه في مؤخرتي
وفي منخريّ وفي أذنيّ
وأنا أقول، الشيوعية، الشيوعية
فكشّروا وعلموا أني لم أكن أقصد.

السفير- 2000/02/04