دينيس ليفرتوف تشهد الجبال على حضورها

آمال نوّار
(لبنان/امريكا)

دينيس ليفرتوف

لقد اختار حياة ً مُلقاةً عند شفير...
هو يعلم أنّه لو استطاع الرؤية
فلن يكونَ أكثر حكمة.
عالياً فوق جُرْف تعصفُ فيه الريح
يتنفّسُ
وجهاً لوجه مع الرغبة.
من قصيدة "بيت الأعمى عند حافّة الجُرْف"

الظلام هو النصف الآخر للضوء، هذا ما اكتشفته لاحقاً دينيس ليفرتوف (1923-1997)، واحدة ممن لـُـقــِّـبـوا بشعراء الجبل الأسود (نسبة إلى كليّة الجبل الأسود في نورث كارولاينا، التي تخرّجت منها مجموعة من مشاهير الفاعلين في حقلَي الأدب والفن كانوا من طليعي الستينيـات إلى جانب روّاد موجة البِيت). تخبرنا في قصيدة "البئر"، كيف في عمر السادسة عشرة كانت تستحمّ بضوء القمر ظناً منها أنه قادر على تغييرها. فتروح تنقل رأسها على الوسادة متتبعةً حركته عبر نافذتها المشرّعة، وأحياناً لا تتوانى عن نقل السرير.

ولكنّ استحماماً قمرياً كهذا كان يكلّفها أرقاً شديداً وشعوراً بالمرض، في حين أنّ استحمامها بالظلام كان يُغرقها في نوم عميق، لتستيقظَ منتعشـة شاعرة بجمالها أو أقلّه بامتلائها بطاقة ما. هكذا أيقنتِ الشاعرة أن الظلام لا الضوء هو ما تستطيع من خلاله الرؤية إلى ذاتها بعينٍ جديدة، وأن هذا العالم هو مصدر إيمانٍ بحقيقة جوهرية أعمق؛ بأنّ خلف ماديته ثمة عالم آخر يرقد في الظلام؛ عالم أوّلي، هو أصل الحياة ومآلها. في قصيدة أخرى من "الحياة في الغابة" 1978، تشير الشاعرة إلى أنّ هناك دائماً في الخارج، عالمَ غابٍ أزليّـاً يُعيد طمأنة نفسه حالما ترخي تلك الحضارات الزائلة يدها. "الحدائق تتوارى/ هي كانت غريبة هنا/ مثلي.../ الآلهة القديمة/ تستردّ ما لها".

نقرأ ليفرتوف فنتوهّج بوميض قلب الشعر، حيث لا هذر ولا معانـي تتثاءب، بل هو الحريق كلّه يتراصّ بلغة الماسّ. ومع هذا لم ينل بريقها حظوته من الشهرة. فهي لسوء طالعها عاشت في زمن كان مفترق طريق بالنسبة إلى الثقافة الامريكية (ظهور جيل البيت والهيبيز والبوهيمييـن في الستينيـات) فحلّت لعنة الحديد على كل ما يلمع دون تفرقة بين بريق الشعر وبريق الرأسمالية.

تعود ليفرتوف منذ مدة إلى الواجهة، فتفرد إحدى المجلات الأدبية عدداً خاصاً عـنـهـا، عطفاً على اهتمام الشعراء الشباب المتزايد بها، وصدور طبعات جديدة من أعمالها.

ورغم أنها ولدت في بريطانيا وعاشت فيها حتى أواخر الأربعينيـات، إلا أنها تأمركت بسرعة مذهلة إثر زواجها من الكاتب الأمريكي ميتشل غودمان، وانتقالها للعيش في بلاد ثورو وإمرسون وويتمان الذين قرأتهم وأحبتهم كثيراً مثلما قرأت أيضاً وبالشغف نفسه، روّاد الشعر الأمريكي المعاصر. لم تتعلّم في مدرسة أو تتخرّج من جامعة، بيد أنها اكتسبت تعليماً منزلياً خاصاً، وترعرت بين الكتب. أمها الويلزية كانت تقرأ لها منذ طفولتها روايات وأشعاراً من عيون الأدب الإنكليزي والعالمي. ووالدها المهاجر اليهودي الروسي الأصل، الذي اعتنق المسيحية وأصبح قسيساً في لندن، كان كاتباً غزيراً يكتب بلغاتٍ أربع. في الخامسة من عمرها قررت أنها ستكون كاتبة، وفي الثانية عشرة بعثت بقصائدها إلى ت. س. إليوت. رقصت الباليه، وعزفت البيانو، وتطوعت ممرضة في لندن إبان الحرب العالمية الثانية. لاحقاً في أمريكا أصبحت ناشطة سياسية ونسوية، وخلال الستينيـات والسبعينيـات عملت محررة للشعر في مجلة "نايشِن" ثم "ماذر جونز"، وكانت ناقدة فذّة أيضاً ومترجمة. امتهنت التعليم لمدة، وفي الثمانينيـات وأوائل التسعينيـات درّست اللغة الإنكليزية والكتابة الإبداعية في جامعة ستانفورد. لها في الشعر ما يفوق العشرين إصداراً وفي النثر أربعة. في مراهقتها كانت تتأبّط دائماً أعمال تنيسون، ثم بات ريلكه ملهمها الأكبر. ومع اتساع رقعة قراءاتها، سحرها وليام كارلوس وليامز، وبدا تأثيره واضحاً في مجموعتيها الثانية والثالثة، "هنا والآن" 1957، و"براً نحو الجزر" 1958. كذلك أحبّت أشعار روبرت كريلي وروبرت دانكان وتشارلز أولسون وبالطبع إمرسون وباوند وإليوت وغيرهم.

تناغم الأضداد

الشعر الأمريكي عموماً على غرار الثقافة الامريكية، هو خلاصة مزيج الدنيوي بالديني. هذا الخليط العجيب للحضارة الامريكية من مادي وروحاني (في تطرفهما الأقصى أحياناً) أنتج على المستوى الشعري تحديداً ما يمكن تسميته بشعراء متدينين بلا دين. منذ ويتمان ونحن نستشعر سريان النَفَس الديني البلا عقيدة محددة أو مذهب أو حتى مُسلّمة أحياناً. الأمثلة كثيرة، يخطر في بالي الآن ستيفينز، مروين، رتكي وغيرهم كثر بالطبع. ليفرتوف واحدة من هؤلاء الذين يأخذ المقدّس والإلهي في شعريتهم رموزاً مادية وحسيّة.

الرومنسية خيّمت على بداياتها، ولكن بلا حسّ مأساوي متطرف. ثم في مرحلة متقدّمة من تجربتها، حضر بقوة المناخ الصوفي الباطني والميتافيزيقيا والغموض والبعد اللامرئي للأشياء. وتحوّلت بعض قصائدها إلى ما يشبه الصلوات أو الأناشيد أو التراتيل، مع حفاظ الشاعرة على نمط القصيدة القصيرة الذي اعتمدته منذ البداية، وتجنّب نموذج "كانتوات" عزرا باوند مثلاً. باستثناء السنين الأخيرة من عمرها، لم تكن ليفرتوف شاعرة متديّنة، بل ظلّت معظم حياتها أقرب إلى مذهب اللاأدريين بصرف النظر عن ارتفاع أو انخفاض المنسوب الروحاني في شعرها. تطلعت إلى شعر يتمخّض عن تناغم داخلي، ويكون طريقة للإدراك الباطني الشعوري، وأطلقت عليه مصطلح "الشعر العضوي". كانت تروم شعراً مرناً يستوعب من ناحية انشغالها بالواقعي والمادي من سياسي واجتماعي، ومن ناحية أخرى انشغالها بالماورائي والرؤيوي والوجداني. هكذا كتبت شعراً ميتافيزيقياً بلغة فيزيقية وواقعية تزخر بتفاصيل من الطبيعة والحياة، مستعيضةً عن التجريد بالترميز. خالفت مفهوم أولسون وكريلي في أن "الشكل ليس أبداً أكثر من امتداد للمحتوى"، وأعلنت أن "الشكل ليس أبداً أكثر من تمظهر للمحتوى"، أو ربما هو مجرّد انعكاس له وإيحاء به، ويلزم إلى جانب البصر بصيرة، لرؤية ما يصعب تجسّده في مادّة؛ لرؤية البعد الميتافيزيقي. في الحضور ثمة ما هو غائب دائماً. إن اجتمع شخصان ثمة غياب يتخلّق من داخل حضورهما، فالحاضر لا يحضر بذاته الكليّة في كل لحظة. هكذا تتحوّل ثيمة الحضور في أشعار ليفرتوف إلى ثيمة غياب، دون إمكان القبض على حضور كلّي مطلق للأشياء داخل أشكالها. الجسد، النهر، السماء، الشجرة...أشياء أكثر غموضاً من كل كتابة طلسمية منقوشة على حجر عتيق. وتذهب الشاعرة في جدلية الحضور والغياب إلى استخدام الجبل في احتجابه وتبدّيه رمزاً لحضور الخالق والحاجة إلى يقظة إنسانية مستتبة. وعن الجبل تقول: "غياباته لازبة مثلما الصمت للموسيقى". وتلاحظ أكان الجبل مستتراً بالغيوم أم هي مستترة بالغفلة، يظلّ كلاهما شاهداً على الحضور.

التبصّر الروحي في مرحلة متقدمة قادها إلى شعرية الحلول الصوفية. المعرفة في نظرها تتطلب الحلول في الأشياء ومعايشتها بالجسد والحواسّ. من هنا كان إصرارها على مادية أو حسيّة التجربة الشعرية، واللغة فعلياً. لم توافق إمرسون على أن المخيلة تنقل الأشياء الحيّة إلى عقولنا وأرواحنا، وإنما إلى أجسادنا. ما يُعاش في المخيلة يُعاش جسدياً ولا ينتهي مجرّداً. والإلهام مصدره ما تختبره أجسادنا بحواسّها. المادة البصرية بالنسبة إليها وكذلك الرؤيوية كانتا تتحوّلان إلى شيء له طعم ورائحة، ويمكن عضّه ومضغه وتنفّسه وابتلاعه. (عملية الانفعال تتمثل حسيّاً). الكتابة الشعرية تتولّد نتيجة انفعال لا إدراك. الشاعر لا يرى ثم يبدأ بالبحث عن كلمات للتعبير عما رآه، هو يرى وفوراً يبدأ بالغناء، وفقط عبر عملية تعبيره اللفظي هذه، يستطيع أن يرى أكثر. وعليه، لغته لا تعتمد على رؤيته أكثر مما رؤيته تعتمد على لغته. هكذا تغدو لغة الشاعر جزءاً من عملية الرؤية الحسيّة ونتيجة لها في آن. واستطراداً نضيف، أن اللغة الشعرية تطمح إلى أن تتجسّد حسيّاً أيضاً، فتحلّ الكلمات في الجسد حلول الجسد في الكلمات، لأن اللغة انفعال وتفاعل. هي الفراشة في جسد الراقصة. تتجسّد حجرياً زيتياً ضوئياً ورقياً هوائياً وفي غيرها من أشكال الوجود الحسّي. ولا عجب أن الشاعرة كانت تطمح إلى أن تتجسّد قصائدها بأقصى ما يُمكن من آليات الحسّ، فتدعو القارىء إلى تناول أشعارها بصرياً وصوتياً. "القصيدة كينونة لا تُختبر تماماً إن لم تُسمع مثلما تُبصر". ثم لا ننسى أنها قادمة من ثقافة شفوية، وقراءة سماعية.

اعتراض النقد

أعمال الشاعرة الأولى كانت أكثر زخرفة ووردية من اللاحقة. الأسود لم يكن مستفحلاً فيها بعد. هي تنطوي على ترنيمة فرح مجّاني لاتّقاء ذكرى مآسي الحرب. وفيها توق إلى النور والألوان وإلى استعادة الدهشة بطابعها الحيواني البدئي فينا. وفيها احتفاء بالطبيعة فيما هي باستمرار تعيد خلق الحياة - وخصوصاً في ديوانها " بعيونٍ في مؤخرة رؤوسنا" 1959ـ وسبر لأدقّ تفاصيلها في حركة جوفية نحو الجوهر الأساسي. وفيها تأمّل للموت ليس في صفته تهديداً بل حقاً ينبغي تقبّله وتوقيره. ترهف الشاعرة السمع إلى الإيقاعات البسيطة، إلى سقوط أو صعود ورقة شجر أو نجمة. مثلما السقوط مُتأمََّل ومُثمَّن على قدر الصعود، كذلك هو الموت على قدر الحياة. في مرحلة لاحقة انغمست ليفرتوف في ثيمات اجتماعية ـ سياسية ـ بيئية توالت في أربعـة إصدارات آخرها "شموع في بابل" 1982. المرحلة الأخيرة من تجربتها لم يغب عنها شعر القضية، ولكنها أخذت تنحو أكثر نحو الدين والميثولوجيا، (كما في " تنشق الماء " 1987، و"باب في القفير" 1989) ونمّت عن حساسية أكبر تجاه مسيرة التقدّم بالسنّ (كما في "قطار المساء" 1992).

النقد كان لصالحها حتى أواخر الستينيـات، (شبّهها كينيث ركسروث بمالارميه وبيار ريفردي باستثناء أنها سهلة الفهم ) ولكنه عاد وانقلب عليها مع انقلاب المزاج العام لتلك اللحظة التاريخية وهيمنة مناخ عدواني ضد شعر الميتافيزيقا / الرومنسية. ففي تلك الآونة كانت "اللغة"، "الذات"، "الطبيعة" استحالت إلى معانٍ أو بنيات اجتماعية، وكل بُعد ميتافيزيقي لها، مشكوك فيه. وما أخذه النقد على الشاعرة، ليس أنها لم تكتب شعراً سياسياً من وحي الحرب الفيتنامية وسباق التسلح النووي وغيرهما من قضايا الواقع الملحّة، وليس أنها لم تؤمن بدور الشاعر في إنارة الحقبات المظلمة من تاريخ البشرية، ولكن هي الذاتية في أشعارها، والنَفَس الصوفي الباطني، وتوسّلها رموزاً دينية (أنبياء العهد القديم) وأحياناً علوّ النبرة الخطابية على حساب الشعرية، وسقوطها في نثرية الشعر الاعترافي، ما اعتبرها النقد مقومات قاصرة عن محاكاة فيتنام الواقع وأمريكا الحاضر.

العين الحسّاسة التي استـُخدمِت سابقاً لتوحيد "الأنا" بالمشهد الروحاني، لم تستطع آنذاك رؤية المشهد الواقعي إلا في وصفه تجسّداً إبليسياً، بمعنى أن عيناً ذات مرجعية ميتافيزيقية لطالما انهكمت بجماليات الوجود، لم تقوَ على مقاربة الواقع إلا من منظار ديني. وعليه، لم تستطع الشاعرة خلق قيم أخلاقية معينة وتصوّرات معنوية، أكثر ملاءمة مع ذهنية عامة باتت تأنف الوعظ، وتشكّك بالموروث، وتتمرّد على التقاليد والتابوات، وتمجّد العلم والتكنولوجيا، وتنغمس بالحياة المادية، وتسعى إلى التجديد. أخذ النقد على قصائدها النبوئية (بحسب توصيفه) في تلك الفترة، افتقارها إلى محفــّـزات تفاعل القارىء معها. ثم إن نبرتها الخطابية توحي كما لو أنها كُتبت لمستمع لا لقارئ. وحول قصائدها الاحتجاجية ضد الحروب ودفاعاً عن حقوق الإنسان والطبيعة والبيئة، وخصوصاً مجموعتها "تعلُّم الأبجدية من جديد" 1970، تساءل النقد معترضاً، على ماذا ترتكز الشاعرة في شجبها صنّاع الحروب سوى على محض مشاعر شخصية لشخص حزين، مُحبَط، بِرّ في عين نفسه، ولا حيلة له؟ وهل يتفوّق الشخص أخلاقياً على غيره لمجرّد أنه شاعر، ويصير من حقه تقريع الأقلّ حساسية منه على فشل مخيلاتهم الأدبية؟

وعموماً لا نستغرب هذا التعاطي السلبي للنقد مع بعض أعمال الشاعرة (نستثني قصائدها السياسية في مجموعة "رقصة الحزن" 1967 التي لاقت استحساناً لافتاً) إذ لطالما اعتبر الذهن النقدي العام أن الإسراف في "الذاتي" في الأدب والفن، يقابله قصور في "الواقعي" و"السياسي". وربما لم يكن معهوداً للبعض أو مستساغاً أن يكون "الذاتي الخيالي" أداة تعبير عن "العام الواقعي". ولا نعرف إذا كان النقد في حينه، رأى أن الشعر نفسه هو موقف سياسي بغض النظر عن مضمونه. في مطلع الثمانينيـات وفي معرض دفاع ليفرتوف عن الطبيعة الذاتية والدينية لأشعارها، لفتت إلى إمكان وجود شعر يستطيع من داخل تجارب أدبية وذاتية متخيّلة، ومرجعيات تاريخية تراثية، فلسفية ودينية، تصوير الظلم والطغيان والوحشية بأشكالهـا الماثلة في الواقع. ونقرأ لدى الشاعرة أيضاً ترجيعات لفكرة الشاعر ـ النبي، وبأنّ القصيدة التي تملك خصال النص الديني، تداوم على محاكاة الزمن، وتظلّ موضع تأويل وتأمّل.

من ناحية ثانية، لطالما تنازعت ليفرتوف مشاعر متناقضة. فهي رغم دفاعها الشرس عن المجتمع الإنساني وتطلعها إلى السلام في العالم، كانت تؤمن بأن عالمنا الحالي منذور للهلاك بفعل قوى كونية خارقة. "الخارق" عادةً يستنفر حسّ الإنسان المأساوي بالعجز - صحيح ـ ولكن، فيه أيضاً من الشاعرية ما يجعل النضال ضدّه منافياً للحكمة! (وهذا ربما سبب آخر لعدم تجيير شعرها بطريقة فجّة مباشرة لمحاربة الواقع ). الأعمى (الحكيم) في أعلى الجُرْف سيقع في النهاية، والحضارات كلها ستنهار، والحديقة التي من صنع الإنسان ستنكفـىء إلى طبيعة الغاب مجدداً، إلى حياة بدائية أولية أكبر من كل الإنسانية وأشدّ رهبة وأكثر قوة من أي شيء تستطيع أن تبدعه البشرية في فن الحياة.

القدس العربي
27/01/2009