العائدة بعد سنوات وكأنها لم تغب
اليزابيث بيشوب رائدة في الشعر الأميركي المعاصر

آمال نوار
(لبنان/ أمريكا)

Elizabeth Bishopعلى رغم تأثر الشاعرة الأميركية المعاصرة اليزابيث بيشوب (1911-1979) بشعراء كبار أمثال "وليام وردث ورز, والس ستيفنز, أميلي ديكنسون, ومريان موور, إلا أن مفهومها للشعر جمح بعيدا مما كان سائدا بين شعراء الرعيل السابق.

فالشعر عندها شيء خالص ومجرد, قائم بذاته ولذاته, ولا ينطوي على أي ادعاءات أو تأويلات أدبية أو أخلاقية. ولطالما عبّرت الشاعرة عن نفورها الشديد من الاحتفاء بمقدرة الشعر و طاقاته المؤثرة والخارقة, مؤكدة ببساطة بالغة أنه في الأغلب شيء عقيم وعبثي وعديم النفع! ولعلّ تطرفا في الرأي كهذا يحمل في طيّاته مقولة أوسكار وايلد عن ضرورة تحرير الشعر من ربقة الوعظ .

لقّبها النقاد بشاعرة "العين" اذ كانت ترى ما لا يرى وتقول ما لا يقال. أسفارها وترحالها بين بلدان عدة كانكلترا وفرنسا وشمال أفريقيا وجنوب أميركا واسبانيا وايطاليا وغيرها أغنت تجربتها الشعرية, وأشبعت "عينها" النهمة, تاركة بصمة فريدة على معظم نتاجها. وإذا كان من محفز أساس أو شرارة أولى لإشعال فتنة الكتابة, فان مجمل أشعار "بيشوب" تشي بأن "المكان" بلا ريب, بسحره وسطوته وجاذبيته هو من أشعل فتيلها من النظرة الأولى. لكأنه مفتاح الإلهام الأول الذي في رحابته تتواتر عناصر القصيدة, وبقدرته السحرية يتجلى الكثير من الأحاسيس والانفعالات, ما يستفز قريحة الشاعرة ومخيلتها.

عرفت الشاعرة بهوسها الشديد في نقدها لذاتها وبتأنيها المفرط في مراجعة كتاباتها, ولذلك فان مجموعتها الشعرية الأولى "الشمال والجنوب" لن ترى النور حتى عام 1946, أي وهي في الخامسة و الثلاثين من العمر, وذلك بعد فوزها في إحدى المسابقات الشعرية. ستلي هذه المجموعة مجموعات ثلاث فقط على مدار حياتها, تفصل الواحدة منها عن الأخرى مدة زمنية لا تقل عن العشر سنوات و هي على التوالي: "ربيع بارد" 1955, "أسئلة الترحال" 1965, و"جغرافيا 3" 1976, إضافة إلى بعض القصائد غير المنشورة والترجمات وكتابات الصبا التي ظهرت لاحقا في عام 1983 ضمن "مجلد الأعمال الكاملة 1927-1979" . نتاج قليل نسبيا لصاحبة صيت ذائع, إلا أنه علامة فارقة في الشعر الأميركي المعاصر, و تحفة فنية سلبت لبّ الجميع. منذ ديوانها الأول والذي ضمّ أشهر قصائدها مثل: "النصب التذكاري", "الديوك", "الجبل الجليدي الوهمي" و"السمكة" تألقت "بيشوب" بشغفها في تناول موضوعة الأسفار والرحلات, وبأسلوبها الوصفي المبهم والمجازي, وبعاطفتها المتحفظة والمتماسكة إزاء الرومانسية المغالية في البوح و الإسهاب. ونظرا للشهرة التي نالتها, فإنها عينت مستشارة لقسم الشعر في مكتبة الكونغرس الأميركي عام1949. وفي عام 1956 حازت مجموعتها الثانية "ربيع بارد" جائزة بوليتزر.

قصائد "بيشوب" تحف حقيقية. وعلى رغم أنّ بعض النقاد كان أغفل أهميتها واعتبرها تقليدية وغارقة في الوصف, إلا أن كثيرا منها ينمّ عن عمق إدراك ومعرفة وثقافة عالية ومحاولة لنبذ المألوف والسائد وبصورة خاصة, عن مقدرة على إثارة أسئلة الحياة الكبيرة من خلال التفاتات ذكية و ثاقبة إلى شؤون الحياة الصغيرة. وفي ما يخصّ الوصف فلا غلو في القول أنه كانت للشاعرة عين رائدة لا يخفى عليها حتى ولا رائد العين.

"فن وحيد" هي الأكثر من بين قصائد مجموعتها الأخيرة "جغرافيا3" ورودا في الانطولوجيات, لذا ارتأينا ترجمتها, إضافة إلى قصيدة أخرى بعنوان "تمرين بسيط" من مجموعتها الأولى "الشمال والجنوب".

فن وحيد

ليس الخسران فنا صعب الإتقان
أشياء كثيرة لتبدو مفطورة لأجله
وفقدانها إذن ليس بكارثة


اخسر شيئا كلّ يوم ولا تأبه,
أباب هو ضاعت مفاتيحه
أم ساعة من الوقت أهدرت عبثا
سيّان
ليس الخسران فنا صعب الإتقان

و لتروّض النّفس على مزيد من الخسارة
وبأسرع ممّا كان
لأماكن وأسماء ولوجهة كنت
تحسبها المآل
شيء من هذا لن يوقع كارثة.

لقد أضعت ساعة أمي, وتخيّل!
أنّ بيتي الأخير أو ما قبل الأخير
من بين بيوتي الثلاثة الحميمة
هو الآخر ولّى
ليس الخسران فنا صعب الإتقان.

لقد أضعت مدينتين بهيتين, وما هو أجسم:
بضع ممالك حزتها, ونهرين وقارة
لكم أتوق إليها, ولكن ما ثمة من كارثة.

وحتى في خسرانك أنت (الصوت المداعب,
أسلوب أعشقه) ما كان يجدر بي الكذب
لجلي أن الخسران فن
ليس عصي الإتقان
وان يبدو شبيها (دوّنها!)
شبيها بكارثة.

***

تمرين بسيط

"إلى توماس ادواردز وانينغ"

فكّر في العاصفة التي تجوب السماء هائجة
ككلب يرود مطرحا لرقاده
أصغ إليها مزمجرة.

فكّر كيف تبدو الآن جمام شجر القرام
وهي مستلقية خارجا في الظلام
مستكينة للبرق.

وفصائل الشعر الخشن,
حيث قد يقوى مالك الحزين أحيانا
على حلّ العقد في شعر رأسه
ونفض ريشه
بينما خاطرة مريبة تراوده
اذ الماء من حوله يلتمع.

فكّر في الكورنيش وأشجار النخيل الغضّة
كيف بصفوفها المتماسكة بغتة تتبدّى
كحفنة من هياكل حسك رخوة.

انها تمطر هناك,
ولكأن الكورنيش بعشب أرصفته المتصدّعة
قد روّح عن نفسه بأن تندّى
والبحر بأن تجدّد.

الآن, ها هي العاصفة تتراجع تباعا
في مشاهد معارك صغيرة,
خافتة الإضاءة
وكل منها في "جزء آخر من الحقل".

فكّر في أحد ما راقد في قاع قارب
موثق إلى أحد جذور شجر القرام
أو إلى ركام جسر
فكّر فيه آمنا
وبالكاد مكدّرا.