ضمن سلسلتها الشهيرة (شعر) أعادت دار غاليمار الفرنسية إصدار طبعة جديدة من ديوان الشاعر التشيكي فلاديمير هولان، (التي كانت أصدرته في ستينيات القرن المنصرم)، (ليلة مع هاملت)، الذي نقله إلى الفرنسية الشاعر الفرنسي دومينيك غراندمون وكتب له مقدّمته يومها الشاعر لوي أراغون. الكتاب صدر في نهاية العام الماضي لمناسبة المئوية الأولى على ميلاد هولان في العام 1905 والذي توفى العام 1980، أي صادفت الذكرى أيضاً مرور ربع قرن على رحيله.
يُعتبر هولان من أشهر شعراء تشيكيا في القرن العشرين، وأحد أبرز مناهضي النازية والستالينية، تعرّض للقهر ومنع من النشر، فانعزل قسماً كبيراً من حياته في منزله، ولم ينشر حقاً إلا في الفترة القليلة التي عرفت باسم ربيع براغ.
انطلاقاً من هذا الكتاب، هذا (البورتريه) للشاعر (وهو مُعَدّ من مصادر عدة).
(في هذه المَطيَرة الملعونة التي هي بوهيميا
كان يرمي قصائده بازدراء
كما لو أنها قطع لحم دامية)
ياروسلاف سيفيرت، من قصيدة تحية (على فلاديمير هولان)
(ما الذي كانت عليه حياتك؟ غادرت المعلوم لأجل المجهول
وقدرك؟ لم يبتسم لك إلا مرة واحدة
ولم تكن هنا...)
لقد عاش فلاديمير هولان (الشاعر التشيكي) في العزلة والانتفاء الطوعي. قارب حافة الهاوية: هاوية الرعب الذي لم يبنه إلا البشر. لذلك أيضاً، شاهد تلك الجدران التي شيّدها هؤلاء، فلم يكن أمامه، إلاّ أن يشيد جداراً في داخله، وأن يشيد واحداً آخر، حوله. إزاء ذلك، إن كان ثمة شخص قد استطاع، في هذا القرن المنصرم، أن يمس بإصبعه، مأساة الحياة والعالم، فإننا نجد هذا الشاعر الذي عرف كيف يتحدث، من قلب هاويته، عن هذه الهاويات الأخرى المحيطة به. كان يحمل (حصته من الظلام) فوق كتفيه، أما في صوته، فكان الغضب والتضرع. هو واحد من تلك الأشجار الكبيرة والغامقة التي تنتصب كشواهد على طول طريق الإنسانية، حين يرغب البشر في أن يرفعوا رؤوسهم حقاً. لقد سكن (مملكة ألمه السوداء)؛ لأن ذلك، كان بالنسبة إليه، أفضل بكثير من أن (يهرب إلى الأمام أو إلى الوراء). عاش بعيداً عن هذا الواقع التافه، بعيداً عن هذه الأشياء التي تلفنا، بكراهية.
(الإنسانية ليست شيئا، بالنسبة إلي
عشت للإنسان
لمأساته).
فكمواطنيه دفوراك وياناشيك وسميتانا، حمل فلاديمير هولان، في داخله هذه الحرقة، المتعذر تخطيها، حرقة فقدان ابنته كاتارينا، التي توفيت العام 1977. كذلك حمل موت الأمة التشيكية التي تخلّت عنها أوروبا الغربية للسوفيات، لذلك لم يسامح جبنهم طيلة حياته.
(ما إن أتعرّف على الإنسان
حتى أبدأ بالنحيب...).
الصمت المرعب
من هنا يقول عنه الكاتب الفرنسي نيكولا بوفييه بأنه وجد فيه أخ روحه. في مذكرات هذا الأخير نقرأ التالي: (...عائدا من رحلة طويلة، وبينما كنت أتهيأ لأستعيد حياتي الحضرية، وقعت على ديوان (ألم)، وبخاصة على هذه الجملة: (ها جاءت اللحظة التي تجمد فيها النهر بدءا من ضفتيه/ والإنسان انطلاقا من قلبه) (من قصيدة (فجر)). لم أكن بحاجة إلى أكثر من هذا الوقت لأعرف فيه بأن هذا الكتاب الصغير، ذا اللمعان المعتم والأخوي جداً، سيكون بالنسبة إليّ رفيق حياتي بأسرها، دليلا روحيا لهذا الشاب الذي كنته، الدرس اللاعقلاني الذي كنت بحاجة إليه، هذه الأخلاق عن الفشل الذي يدندنه رجل كان يعرف كمثل حكيم ياباني بشكل أفضل من غيره، بأن الشعر يستطيع حقا أن يصيب قلب الهدف وبأن العالم سيندثر والنجوم ستنطفئ مثلما ننفخ على شمعدانات).
بدوره حيّاه الشاعر الفرنسي لوي أراغون في المقدمة التي كتبها لديوان هولان (ليلة مع هاملت):
( في مكان ما في جبال بوهيميا، في قلب أوروبا هذا، يحيا رجل تلفه شهرة من الظلال. الشعراء هم مثل الجياد، يملكون عزة النفس عينها. من سألتم هناك عن فلاديمير هولان يعرف بأنه أعلى شجرة من أشجار الغابة التشيكية، تلك الشجرة الأقرب إلى العاصفة حيث تعكس عيناه البرق بشكل طبيعي).
كان هولان شخص (براغي) (من براغ) بشكل كامل. ولد فيها في 16 أيلول من العام 1905. كانت فترة الحرب الروسية اليابانية، فأعطته أمه اسم فلاديمير تعاطفاً مع روسيا. لكنه تعلّم كيف يكره الروس واسمه. توفي في 31 آذار من العام 1980، أي بعد ثلاث سنوات من رحيل ابنته. بالتأكيد لم يكن لحظتها، متصالحاً لا مع الحياة ولا مع نفسه. كان يشعر بأنه غريب في بلده، (غريب الغربة) في هذا الخواء المنظم الذي أصبحت عليه (تشيكوسلوفاكيا) في تلك الفترة، فعاش (خاملاً) في سنوات الحديد السوداء التي أعقبت الحرب العالمية، ليعتاش من الترجمات وليبتلع الذل في صمت كلماته. لكن، شيئاً فشيئاً، بدأت الدائرة التي يحيا فيها تتسع تدريجياً، إذ كان من المستحيل على كل ستائر العالم الحديدية أن تُبقي هذه العبارة الجميلة، سجينة داخل جدرانها. في العام 1967، تُرجم للمرة الأولى إلى الفرنسية من قبل الشاعر الفرنسي دومينيك غراندمون لتعقبها في السنة اللاحقة ترجمة (هاملت). وكانت الصدمة الصاعقة بالنسبة إلى الجمهور الفرنسي الذي اكتشف فيه شاعراً كبيراً. وانتهى الأمر بعمله الشعري، الذي يتطلع نحو الكوني، بأن يفيض من على جوانب كل حواجز الرقابة والمنع التي تعرّض لها. ثمة هالة بدأت تتراكم من حوله لتشيد نصبها وبخاصة عبر هذه القراءات المقدسة والسرية التي يقوم بها قراؤه في تلك السراديب الموجودة في أعماق المدن، وهي أشبه بتلك السراديب التي عرفتها روما زمن المسيحية الأول، لكنها سرعان ما توسعت وتفتتت لتنتشر في العالم بأسره.
جاءت أحداث (ربيع براغ) القصيرة في العام 1968 لتجعل منه شاعراً قومياً ووطنياً، لتجعل منه صوت المقاومة ضد الغزاة والطغاة السوفيات. لتبدأ (أعماله الكاملة) بالصدور ولتجد عدداً غير متوقع من القراء. ربما تأخّر الوقت بالنسبة إلى هولان إذ لم يكن يميل إلى الشهرة كثيراً ولا إلى المجد. وحين يحدثونه عن إمكانية حصوله على جائزة نوبل كان يغرق في صمت عميق إذ لم يكن يصدّق أن ثمة أملاً بالخروج من هذا النفق المظلم الذي شيّده الشيوعيون. لقد تعرّض لذل (النازية السوداء والشيوعية الحمراء). من هنا كان يكره كل الإيديولوجيات. إذ كان يرى أن المعرفة غير موجودة، وأننا لا نعيش سوى الوهم.
( اللامبالاة ذاتها
قد تبدأ بالأمل
في هذه الرجفة التافهة).
%من قصيدة (الستار الذي يقع).
لم يكن هولان يرغب في أن يشهد على طريقة غروسمان أو على طريقة سولجنتسين. لذلك كان صمته أكثر رعباً بالنسبة إلى النظام. أكان صمتاً اختيارياً أو مدفوعاً إليه، لا يبدو أن الأهمية تكمن في معرفة هذا. لقد مُنع من التعبير لمدة عشرين سنة وهو يحيا في هذه المدينة (الأشبه بجزيرة). ربما لذلك وجد الوقت لكي يتمّم عملاً أدبياً مسكوناً باليأس والحاجة و(زيارة الجنون). عاش منزوياً في بيته الواقع في جزيرة (كامبا) منذ الخمسينيات ولم يغادرها مطلقاً. كان (يرمي قصائده فوق المدينة مثل طيور سوداء خطرة). إذ بقي هذا الصوت، الذي لم يرغب في الانطفاء، يسبب برعشة في ظهر المرء، لأنه حاول أن يقول (المَطهَر اليومي) على الرغم من أن يديّ الأمل والرجاء قد قطعتا.
فخارج هذا العالم الضّاج، وتقريباً مثلما كان يفعل بيير ريفردي (الشاعر الفرنسي) لأسباب ذاتية، كانت محاولة مساءلة السماء بالنسبة إلى فلاديمير هولان، بمثابة استعادة لغياب الإيمان الذي فرض عليه. وعلى الرغم من أن اسمه طرح مراراً كأحد مرشحي نوبل، إلا أنه قطع الجسور مع الجميع ليبدأ بترجمة الشعراء الصينيين الذين عاشوا في حقبة سلالة سونغ. واستمرّ ابتعاده عن الجميع ليغرق في صمت مطبق، ولينعزل عن العالم في جزيرته الملجأ (كامبا) (القريبة من براغ). أصبح أكثر سواداً من الليل. وكتاباته الأخيرة تبدو كتابات شخص مجرد من الروح والكلمات. كأنه كان يحفر الخواء والليل، الميتافيزيقيا والمبتذل. ثمة شكوك كبيرة بدأت تغطيه بأكمله:
( إن لم يكن الله بحاجة إلى شيء، وليس بحاجة إلينا، فإنه ليس بحاجة إلى نفسه)..
لقد (مضغ) هولان هذه الكلمات مراراً قبل أن يدخلها في قلب الفعل الشعري: (الواقع بأسره ضروري ليصبح الفعل صورة). وكان يحمل هذا الواقع بشكل أليم. ليعبر عنه عبر كلمات بسيطة جداً؛ لكنها منحوتة بالرياح التي تنهض وسط لياليه. كلمات تتحول إلى بلورات متفرقة تكتب هذه الكارثة المظلمة. غالبية قصائد هولان هي قصائد ملمومة، وجيزة، مقتضبة، قصيرة مثل هذا التنفس الذي يكتشف أنه ينقصه. بهذا المعنى تبدو كتابة فلاديمير هولان، كتابة من غرانيت، كتابة أساسية، لأن شعره ليس سوى تساؤل دائم مع العلم أنه لا ينتظر أي جواب في المقابل. من هنا تبدو جملة الشاعر الفرنسي دومينيك غراندمون (مترجم شعر هولان إلى الفرنسية) دقيقة وصائبة: (لم تكن عبارته إلا الجزء المنبثق من صمته، كانت جمرته الداخلية). لقد دحرج هذا السيزيف المتعَب كتلة كلماته المسنونة، المثقلة بالليالي الشاحبة، المثقلة بالوحدة المرعبة:
(لديّ، في وحدتي المختلة، قطعة أرض جيدة، لأستقبل عليها ولأعيش كل رعب العصور).
مجرد وواضح
تبدو كتابة هولان غريبة بعض الشيء إذ يمزج فيها حكاية كل يوم بيومه مع الماوراء. قصائد مشدودة إلى أقصى درجاتها لكنها هشة وقابلة للانكسار في الوقت عينه. أحياناً تبدو ككتلة تجريدية هائلة، وأحياناً تذهب إلى آخر درجات الغنائية. ليس شعره إلا حركة، تجولاً وكأنه يرغب في أن يهرب من مستنقعات عصره. تتقابل فيه أشياء الحياة الأكثر رضى مع تجريديته: الحجر مع اليومي الذي يطرق... شعره ضغط كبير، تأكيدات قاسية وشكوك فاغرة. (أفوريسمات) على طريقة رينيه شار؛ لكنه أبقاها على درجة كبيرة من الوضوح. كتابة مجردة وواضحة. لم يكن يرغب في أن يصبح البشير الكبير عبر (شعر كبير) بل بقي، هذا الشعر، تلقائي على مستوى الإنسان.
قصائد تخرج من طين الأيام. إنها كتابة شخص وحيد يغور طوعياً في الصمت، لكنه صوت لا يعزّيه في أي شيء: (للصمت نفسه شيء ينبغي أن يخفيه). بهذا المعنى كان هولان يمارس هذه الظاهرة الثابتة في الثقافة التشيكية: السخرية المتوحشة التي تبدو بمثابة رقية وحجاب ضد الكاتب نفسه، تماماً كما عند كافكا أو حتى عند سيفيرت. شعره أكثر راديكالية. وليشهد على كل التناقضات يستعمل هولان (لغات مختلفة) بدءاً من (الفظاظة) وحتى حدود (الرعب من اللغة): كلمات في حالاتها الخام، كلمات (سحرية) قد تظهر كلها دفعة واحدة. إنه شاعر (يفلح) بغضب هذه اللغة التشيكية، ليحفرها مراراً ومراراً كما لو أنه يحفر قبراً ما.
يدعونا فلاديمير هولان إلى شعر يملك جميع أنواع الغموض. شعره مرير بشكل عميق، حيث تمطر فيه (الشتائم) ويسيل فيه (اليأس) بغزارة، وحيث تتحول فيه الدماء إلى دخان.
( كيف نحيا، كيف نكون بسطاء ولا تنقصنا العبارة؟
لا أفعل شيئاً إلا بالبحث عن الكلمة
التي لم تقل سوى مرة واحدة،
إن لم تكن الكلمة التي لم تقل أبداً لغاية الآن.
كان عليّ أن أبحث عن كلمات كل يوم.
حتى على النبيذ غير المعروف
لا نستطيع زيادة أي شيء)...
أو:
(الحياة كلعبة قاسية؟
لن تكون ممكنة
إلا في أن تصبح السخرية
أقوى من القدر؟).
في شقّ من شقوق الأرض
من دون شك، نستطيع أن نعتبر أن أفضل أعمال فلاديمير هولان الشعرية هي كتاب (ألم) الذي عكف على تأليفه مدة ست سنوات، وهي السنوات التي عرف فيها ضغوطاً هائلة وآلاماً كبيرة وحميمة (حين منع من النشر، ولادة طفولته المنغولية، فكرة الانتحار التي راودته مراراً) كما ديوان (ليلة مع هاملت) (وهي قصيدة طويلة، كبيرة، لم تظهر نسختها النهائية إلا في العام 1960)، الذي كان سبب شهرته في (الغرب) والذي أمّن له التخفيف من وطأة الاضطهادات الستالينية. لقد حمل شعره بأسره، ندوب الحرب العالمية الثانية كما ندوب الاحتلال الشيوعي لبلاده. وهما أمران لم يشفَ منهما أبداً.
( أقل من أن أتحدث
وأن أسكت من أجل لا شيء
هذا ما ينتظرنا)...
يقال إن آخر الكلمات التي تفوه بها قبل موته كانت: (ستختفي اللغة، الموسيقى، النشيد الضحك، الصمت إزاء زئير العالم). كان يعرف ذلك ملياً، لقد عرف ذلك وشاهده، وهذا ما كتبه في مختلف قصائده.
(أحياناً يقول نيكولا بوفييه عن هولان وكما في لعبة الأطفال هذه، حيث يصرخون فيها: (برد، حر، تشتعل)، تلامس قصائد هولان هذه الأعجوبة التي تتلخص في كون أن إحدى قدميه لا تزال في الكلمات بينما الثانية فموجودة في الصمت).
كيف سينتبه المرء للأعجوبة من دون أن ينزع نفسه عن نفسه؟ ربما أجاب هولان بالقول: (تعيد كل قصيدة إلى النار ما ينتزعه النور من الشعلة)، ولربما وجدنا أيضاً في ما كتبه أراغون جواباً آخر: (يحيا رجل في مكان ما، في شق من شقوق الأرض. يكتب هذه الأشياء الجميلة والمريرة. أطلب منكم الاستماع إليه حتى وإن لم تسمعوه. أما كل الذين يؤمنون بأنهم يستطيعون أن يتحدثوا ليلاً بصوت خفيض فسيقولون بأنه عبقري... وسيشيحون أبصارهم).
السفير
2006/03/03