فرنسيس بونج

ترجمة وتقديم: هنري فريد صعب

التحيّز للأشياءإذا كان النقد يعتبر هنري ميشو شاعراً مضاداً Antipoète، فإن فرنسيس بونج هو اللاشاعر Apoète. ويصرّ على ذلك رافضاً أن يسمّى شاعراً. الواقع أن بونج لا يمكننا تصنيفه بسهولة. فهو منذ البداية أبحر بعكس كل التيارات الائدة، وفي عزّ الوثبة السوريالية. جاء بقطع من النثر أرقى من النثر، لكنها لا ترقى الى الشعر. فهو ينفي، عن عمد وتصميم، كل المقومات التي تجعل من الشعر شعراً. فليس من همّه أن يقلق، أن يُبهر، أن يُغري، وأن يثير عند الآخر تأملات غامضة، ولا أن يُطربه بغنائية آسرة بأبعادها وأسرارها. كلا. لا شيء من ذلك. ما يشاءه هو أن يُقنع. نصوصه واضحة. لا تستدعي العودة الى ينابيع غير مرئية. إنها تتجّه الى غايتها مباشرة بلا مواربة. "الشيء المعنيّ عنده قبل الاشارة". الكلمة في خدمة الشيء وليس العكس. ولكن من جهة أخرى، وإن لم تُعتبر أي قطعة من أعماله قصيدة (في المفهوم الحصري)، فإن أياً منها لا تخفي كونها مقاربة بسيطة وخالصة - أسلوبياً وذهنياً - من الواقع. استطاع بونج، بوسائل الفيزيائي، والجيولوجي، والمحلّل، والمنطقي، والفكاهي، أن يجعلنا نلمس المادة، ندخل عالمها، نتحسّسها بتعاطف ما كنّا نظننا قادرين عليه. من هنا نعتقد أنه استحق أن يدعوه النقاد "شاعراً" برغم إرادته. فهو، وإن لم يسحرنا بتراكيب الشعر العجيب، فقد تمكّن من أن يؤثّر فينا بوصفه النثري الراقي لآلام حصاة أو هموم حلزون ومعاناة فراشة وجذع شجرة وغيرها. هكذا، نتيجة هذا الانحباس الارادي في دائرة الاشياء، أصبح المؤسس للشعر المادي بامتياز. وقد لفت موقفه هذا، يومذاك، فيلسوف الوجودية الشهير جان بول سارتر، فكتب عنه مقالاً مستفيضاً في مجلته "الأزمنة الحديثة" ضمّه في ما بعد الجزء الاول من سلسلة "مواقف" الجامعة لمقالاته النقدية. ومما قاله: "لقد كتب بونج بعض القصائد الرائعة، وفي نبرة جديدة تماماً، وخلق طبيعة مادية خاصة به. ولا يسعنا أن نطالبه بالمزيد. وانما يجب أن نضيف أن محاولته، بما لها من أرضيات - خلفية، هي من أغرب المحاولات، وقد تكون من أهمها في هذا الزمن". وبعد، فإن بونج، وإن لم يقتفِ أثره سوى قلّة ضئيلة من الشعراء، فلا يمكن "الرواية الحديثة" أن تنكر أنه من معلّميها الاوائل، ولاسيما ألان روب غريّيه وفيليب سولرز، على سبيل المثل لا الحصر.
الحلازينإن الحلازين، بعكس خَبَث الفحم الحجري، ضيف الرماد الحار، تحب الارض الرطبة. وبمثابرة تتقدم ملتصقة بالارض بكل أجسامها. وتقتطع منها، وتأكل، وتبرّز منها. فالارض تخرقها، وهي تخرق الارض. في تداخل من الأشهى لأنه نوعاً ما تداخل لون في لون - مع عنصر سلبي وآخر إيجابي، والسلبي يغمر الايجابي ويغذّيه معاً - بينما هو يتنقّل ويأكل.

(ثمة شيء آخر يقال عن الحلازين، أولاً في شأن رطوبتها الخاصة، ودمها البارد، وقابليتها للتمدّد).

الملاحظ من جهة أخرى، أننا لا نتصوّر حلزوناً خارج صدفته ولا يتحرك. فهو ما إن يستريح حتى يتكوّر في الحال. وبالعكس، فإن حياءه يجبره على التحرّك ما إن يكشف عريه، ويسلّم للعراء بنيته القابلة للانجراح. إنه حالما يعرّض نفسه للخارج يزحف.

في الاوقات الجافة تأوي الحلازين الى حفرها حيث يبدو أن خاصية أجسامها تساعد في حفظ الرطوبة. ولا شك أنها تجاور أنواعاً أخرى من ذوات الدم البارد، كالعلاجيم والضفادع. لكنها لا تخرج من حفرها بالهمّة نفسها. فمقدرتها أكبر في العودة الى تلك الحفر، من الخروج منها، حيث يصعب ذلك عليها كثيراً.

نلاحظ أيضاً أنها اذا كانت تحب الارض الرطبة، فهي لا تميل الى الاماكن التي يطغى عليها منسوب الماء، كالمستنقعات والغدران. والواقع أنها تؤثر اليابسة، شرط أن تكون زَلقة ورطبة.

وتتلذذ ايضاً بالبقول والنباتات ذات الأوراق الخضراء والماوية. وتعرف كيف تتغذّى بها، فتتخلى فقط عن الضلوع، ومقتطعة الورقة الأطرى. إنها على سبيل المثال آفة بقل السَّلَطة.

فما هي في قعر حفرها؟ كائنات تُحَبّ لبعض ميزاتها، لكنها تنوي الخروج منها. وهذه الميزات عنصر مكوِّن لها، لكنه تائه. والى ذلك، فإن اهدافها في روحاتها الثابتة تحمي تحفّظها.

الحقيقة انه من المزعج لها احياناً أن تحمل الى كل مكان هذه الأهداف. لكنها لا تتشكى منها، لا بل تتقبلها بسرور. وانه لأمر رائع أن تأوي الى بيتها اينما وجدت وتتحدى المزعجين. فذلك يستحق التعب.

ويسيل لعابها كبرياءً لتلك الخاصية، تلك الرفاهية. فكيف يمكن أن أكون مخلوقاً شديد الحساسية وسريع الانجراح، وفي الوقت عينه في مأمن من هجمات المزعجين، ومتمتعاً بهنائي وطمأنينتي. فمن اين هذا الملجأ المدهش لرأسي.

ومع أني جد ملتصق بالتربة، وكثير التلمّس والبطء، وسريع التقدم، وقادر على التملص من التربة والتكور، وليكن آنذاك من بعدي الطوفان، فإن ضربة قدم كافية لتدحرجني الى اي مكان. وانا موقن تماماً بأن أعود الى حالي وألتصق ثانية بالتربة، حيث طوّح بي القدر، وأن اجد ثمة طعامي: التراب،
أكثر الأطعمة شيوعاً.

فأي سعادة، وأي فرح، اذاً، أن اكون حلزونا. لكن ذلك اللعاب، لعاب الكبرياء الذي تفرض الحلازين علامته على كل ما تلامسه، يتبعها في خط فضي. وهو قد يدلّ عليها منقاد الدواجن التي تتذوقها. وهنا العقدة، المشكلة، أن نكون او لا نكون (عند المتكبرين)، والخطر.

الحلزون وحيد، طبعاً، جدّ وحيد. ليس لديه اصدقاء كثيرون. ولا يحتاج اليهم بالنسبة الى سعادته. انه جد لصيق بالطبيعة، ويتمتع بها على الوجه الأكمل عن قرب قريب. إنه صديق التربة التي يقبّلها بكل جسمه، وصديق الأوراق، والسماء التي يرفع نحوها رأسه بأنفة، مع مقلتيه البالغتي الإحساس، ومع النبل، والتمهل، والحكمة، والكبرياء، والعجب، والفخر.

ولا نعني بذلك أنه يشبه الخنّوص. لا، ليس له تلك الأرجل الضئيلة، ولا تلك الكردحة القلقة، ولا تلك الضرورة، وذلك الحياء في الهرب جهاراً. فهو أكثر صموداً ورباطة جأش. وأحسن اسلوباً، وأكثر فخاراً، وبلا ريب أقل شراهة – وأقل تقلباً، كأن يتخلى عن هذا الطعام لينقضّ على ذاك وأقل ولعاً وتسرعاً في الالتهام، وأقل خوفاً من ضياع شيء من طعامه.

لا شيء يضاهي جمال تلك الطريقة في التقدم جد البطيء، وجدّ الأكيد، وجد الحذر، وأي مجهود يبذله ذلك الانزلاق الكامل الذي تكرّم به الحلازين الارض! كأنها سفينة طويلة، ذات خط فضي. إنه لمهيب هذا السلوك، وبخاصة اذا اعتبرنا مرة اخرى قابليتها للانجراح، وشدة حساسية مقلتيها.
وماذا عن غضب الحلازين، هل تمكن ملاحظته؟ وهل هناك امثلة؟ بما انها لا تُظهر اشارة، فلا شك أنها تُعرب عن ذلك فقط بإفراز لُعاب أكثر إرغاءً وأسرع. إنه لعاب الكبرياء بذاته. اذ نلاحظ هنا أن التعبير عن غضبها مماثلٌ لتعبيرها عن كبريائها. هكذا تسكّن روعها وتفرض ذاتها على العالم بطريقة أغنى، ومفضَّضة.

التعبير عن غضبها كما عن كبريائها يصبح لمّاعاً حين يجفّ لكنه أيضاً يحدّد أثرها ويُهدي إليها الخاطف (والمفترس). أضفْ إلى ذلك أنه وقتيّ ولا يدوم إلاّ للمطرة المقبلة.

هكذا هي الحال مع كل من يُفصحون عن مشاعرهم بطريقة ذاتية تماماً ومن دون ندم، وبآثارهم فقط، غير مكترثين لصوغ تعبيرهم وتشكيله كسكنٍ لهم متين، ذي أبعاد عدة، وأكثر دواماً منهم أنفسهم.

لكن الحلازين بلا شك لا تشعر بهذه الحاجة. إنها بالأحرى من فصيلة الأبطال، أي كائناتٌ وجودُها نفسه عملٌ فني – وليس فصيلة الفنانين، أي صانعي الأعمال الفنية.

هنا أصل الى احدى النقاط الأساسية في أمثولتها لنا، وهي لا تختصّ بها وحدها، بل تملكها كسائر الكائنات الصدفية: وأعني بها الصدفة. فهذا الجزء من كينونة الحلازين، هو في الوقت عينه عمل فني، أثرٌ تذكاري. يدوم طويلاً من بعدها.

وإليك المثل الذي تقدّمه لنا. إنها كالقديسين، تصنع من حياتها عملاً فنياً، - عملاً فنياً لتكاملها، وإفرازها ذاته يحصل على نحو تشكّلي. لا شيء في عملها خارج ذاتها، وضرورتها، وحاجتها. ولا شيء غير متناسب – من جهة أخرى – مع كينونتها الفيزيائية. لا شيء غير ضروري لها، وإلزامي.

هكذا ترسم الحلازين للناس واجبهم. الأفكار العظيمة تنبع من القلب. حسِّن ذاتك أخلاقياً وستكتب أجمل الأشعار. إن الأخلاقيات والبلاغة تتلاقيان في طموح الحكيم ورغبته.

ولكن بمَ هي كالقدّيسين؟ في طواعيتها بالضبط لطبيعتها. إعرف نفسك أولاً. واقبل نفسك كما أنت، في انسجامٍ مع نقائصك، وفي حجم طاقتك.
ولكن ما هو معنى الانسان الخاص؟ هو الكلام والأخلاقيات. هو الانسانية.
المحارة
المحارة، في حجم حصاة متوسطة، مظهرها خشن، لونها غير موحّد، وبياضها لمّاع. إنها عالم مغلقٌ بإحكام. ومع ذلك يمكننا ان نفتحها. واذ ذاك علينا ان نمسكها في جوف قطعة قماش، وأن نستعمل سكيناً مغلولاً وغير قاطع تقريباً، ونعالجها به تكراراً. قد تتعرض الأصابع الفضولية للقطع، وقد تكسر أظفارها: أنه عمل شاق. والضربات التي نسددها الى المحارة تترك على غلافها دوائر بيضاء، أنواعاً من الهالات.

أما في داخلها فنجد عالماً بكامله، للشرب والأكل. تحت جَلَدٍ (بحصر المعنى) من عِرق اللؤلؤ، السموات في الأعلى تنحني على السموات في الأسفل، لتشكّل حوضاً، كيساً صغيراً لزجاً وأخضر، يفيض وينحسر عند الشمّ والنظر، ويُهدّبه دانتيل أسود على أطرافه.

أحياناً ولكن نادراً، يظهر تشكّل لؤلؤة في حنجرة عِرق اللؤلؤ، بحيث يمكننا في الحال أن نتّخدها حلية.
الفراشة
عندما ينبثق السكّر المتكوّن في سيقان الزهور، الشبيهة بكؤوس لم تنظّف جيداً - يحدث جهد عظيم في الأرض تبدأ على إثره الفراشات تطير في الحال.
ولكن بما أن لكل سرفةٍ رأساً أعمى يظلّ أسود، وجِذعاً هزيلاً بفعل الانفجار الحقيقي الذي يتوهّج به جناحاها المتناسقان، مذ ذاك لا تحط الفراشة الهائمة أثناء طيرانها تقريباً، إلا بالمصادفة.

إنها عود ثقابٍ طائر لكن شعلته غير معدية. وهي، من جهة اخرى، تصل متأخرة ولا يمكنها ان تلاحظ سوى الزهور المتفتحة. ومهما يكن: فإنها تتحقق من مؤونة كل زهرة من الزيت، كما يفعل مشعل المصابيح في الشوارع. فتضع على رأس الزهرة الخِرقة البالية التي تحملها من محيطها وتثأر هكذا من ذلّها الطويل كسرفةٍ عديمة الشكل عند قدم الساق.
شراع منمنم مبحر في الأجواء، يشرد في الحديقة كبتلةٍ غير مجدية تعاملها الريح بقسوة.

جذع الشجرة

بما ان الشتاء سوف يستغلّنا قريباً
فلنتهيأ لخدمات الغابة

جلاجل تثور بجنونٍ لأقل حركة
ألا تكفّين عن الأسراف على حسابنا ايتها الأوراق
تقلّب مزاجك يغطّينا أو يعرّينا
بصعوبة نتصوّرك باستمرار
ولم نعد نصدّقك إلا بصعوبة

إنزعي عني لحائي المخلص لي بإفراط
إذهبي لملاقاة أجيال أخرى عند قدمي
جموعٍ من الوجوه الماضية من الأقنعة الماضية
لا تزال شاهدةً على أذيّتك لي
كلّها كان لها مثلك الكفّ الحيّة لحظةً من الزمن
ونراها الآن مخذولةً من الأرض والماء
وبرغم اعتقادي بأنك الاقرب الى فضائلي
إمضي للنزاع في الأماكن العامة التي صُنعت لأجلها
موتي عمدا. فتصرّفك هذا يطرد النحس
ويُسقط القناع طوعاً عن صانعك الطوعي...

هكذا لا تزال شجرةٌ تبذل جهدها تحت لحائها
لتُظهر حيوية هذا الجِذع الذي سوف يستكمله الموت

النهار
يناير 2008-01-23