(حسكو حسكوــ سوريا)
ينتسب غالب هلسا (1932 ــ 1989) إلى مصر أكثر مما ينتسب إلى وطنه الأردن، لأسباب تتصل بشخصياته الروائية والجغرافيا التخيلية، التي تتحرك في فضائها تلك الشخصيات، فهو في معظم أعماله الروائية، يتحرك ضمن الفضاء السياسي والاجتماعي المصري لقاهرة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لا يشذّ عن ذلك من أعماله الروائية إلا «سلطانة» (1987)، التي تتخذ من المكان والشخصيات والأحداث والذكريات الأردنية مادة روائية تستعيدها من الطفولة.
أما في باقي أعماله الروائية، فإنّ هلسا يكتب عن القاهرة، ويبني من أحيائها الشعبية، وشخوصها المهمشين في معظم الأحيان، ومن نقاشات اليسار المصري وانشقاقاته، عالمه السردي، مازجاً ذلك كله بتذكرات شخصية «غالب»، أو «خالد»، الذي عادة ما يأخذ دور الراوي، وتتصفى من خلال رؤيته باقي الرؤى التي تحملها باقي الشخصيات. وتذكرنا هذه الشخصية من حين إلى آخر بماضيها أو بطفولتها البعيدة في مسقط رأس غالب هلسا، وبلدته ماعين، أو مكان دراسته الإعدادية والثانوية في مادبا، ومدرسة المطران في عمان.
من هنا يبدو عالم غالب هلسا، الذي غادر الأردن لآخر مرة عام 1956 ولم يعد إلا محمولاً على نعش يوم وفاته (18 كانون الأول/ ديسمبر 1989)، مسكوناً بالحياة الثقافية والسياسية المصرية في فترة معقدة من تاريخ العلاقة بين اليسار المصري والحكم الناصري في خمسينات القرن الماضي وستيناته. وتتصل الجغرافيا التخيلية لروايات غالب وقصصه بتلك الحقبة الزمنية التي عمل فيها الكاتب في كل من «وكالة أنباء الصين الجديدة» ثم «وكالة أنباء ألمانيا الديموقراطية» لفترة تتجاوز 16 عاماً، مشاركاً بفاعلية في الحياة الثقافية المصرية، إلى أن أبعد من القاهرة بأمر من السادات عام 1978 مغادراً إلى بغداد ثم إلى بيروت عام 1979، ومن ثمّ إلى دمشق بعد الحصار الإسرائيلي عام 1982.
ولعل اتصال غالب الحميميّ بالبيئة المصرية، وصعود اسمه كروائي وناقد على صفحات مجلات اليسار المصري وصحفه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، جعلا هويته الجغرافية ملتبسة بالنسبة إلى العديد من النقاد والباحثين، إلى درجة انعكست على الأبحاث والدراسات التي كتبت عن الرواية في الأردن. أدرج غالب في بعض هذه الدراسات، وأُقصي عن بعضها الآخر. وأنا لا أعرف في الحقيقة في ما إذا كان هاجس الهوية مدعاة للتفكر الشخصي بالنسبة إلى غالب، فهو كان مصري اللهجة، ظل يتحدث بها أينما ذهب، بعد إبعاده عن مصر مازجاً تلك اللهجة من حين إلى آخر بلهجات العواصم التي سكنها، كما ظل يختزن العوالم القاهرية ليعيد إنتاجها في رواياته التي كتبها لاحقاً، غير قادر على التخلص من مخزون السنوات الاثنتين والعشرين التي عاشها في القاهرة. ويمكن أن نلحظ ذلك في أعماله الروائية الأولى التي كتبها في القاهرة، «الضحك» (1970)، و«الخماسين» (1975) و«السؤال» (1979)، و«البكاء على الأطلال» (1980)، وحتى في عملين أخيرين «ثلاثة وجوه لبغداد» (1984)، و«الروائيون» (1988) التي ينتحر فيها بطله غالب، ممروراً معتزلاً العالم وشاعراً بالخراب الذي يسكن التاريخ.
لكن الحنين الجارف إلى مسقط الرأس تجلى في بعض أعمال هلسا الروائية، على هيئة تذكّر جانبي أحياناً أو من خلال إفراد رواية كاملة (سلطانة)، يستعيد فيها الكاتب ذكريات الطفولة البعيدة، معيداً تتبّع خطى بطله في طفولته وصباه، ما يجعل «سلطانة» قريبة من روايات التكوين والتعلم، ويجعلنا نعيد النظر إلى أعماله الروائية الأولى على ضوء هذه الرواية المميزة لغةً وشخصيات وطرائقَ حكي، واصلين عالم «سلطانة» بتلك التذكّرات الجانبية التي نعثر عليها في قصصه ورواياته الأخرى.
من هنا، يبدو من الصعب انتزاع غالب من حنينه الطفولي إلى مسقط رأسه، وتغليب مرحلة الشباب والنضج على خلفية نموه الثقافي والأدبي. إن هواجس الطفولة وأحلامها واستيهاماتها عوامل أساسية في تكوين الشخصية الإنسانية، وقد برزت مرحلة الطفولة والصبا في أعمال غالب الأخيرة كنوع من الاستعادة الحميميّة لذكريات الطفولة التي غيّبها النسيانُ وتراكمُ المشكلات اليومية وضغطُ حاجات العيش. ومن ثمّ فقد فتح الروائي الأردني خزائن ذاكرته وأعاد عجن هذه الذكريات مع أحلامه واستيهاماته وطريقة نظره إلى مسقط رأسه وسنوات تكونه. ولا تهمنا بالطبع صحة هذه الاستيهامات، التي ترد على الدوام في أعمال غالب على هيئة حلم يقظة طويل يعيد فيه الراوي غالب تشكيل العالم من حوله، بل إن ما يهمنا هو قدرة روائي متميز مثل هلسا على اللجوء إلى ذاكرة الطفل فيه لينبش عالما كان منسياً داخله.
«البكاء على الأطلال» محاولة لإضاءة نص روائي حداثي يعتمد الحلم بصورة أساسية
ولعل كتابة غالب لـ «سلطانة»، بوصفها الرواية الوحيدة المكتوبة ضمن جغرافيا أردنية، هي ما أعاده إلى مسقط رأسه إبداعياً، إلى حد أنها ذكرتنا بـ «زنوج وبدو وفلاحون» (1976) التي كانت عملاً قصصياً ــ روائياً نهل من بيئة سياسية واجتماعية غير البيئة القاهرية، لكن يد الموت التي اختطفت غالب في نهاية الثمانينات جعلت من «سلطانة» رواية وحيدة منقطعة السياق تقريباً عن أعماله الروائية الأخرى، وهي الرواية التي مثّلت مع «زنوج وبدو وفلاحون» نوعاً من الثنائية السردية الضدية، حيث تعيد «سلطانة» تأمل الطفولة البكر، والعالم الفردوسي، فيما تصور «زنوج وبدو وفلاحون» قسوة العلاقات الاجتماعية التي تربط البدو بأهالي القرى، وتقيم مراتبية مقلوبة يتسم بها مجتمع البداوة.
يمكن النظر إلى أعمال غالب الروائية، استناداً إلى هذه الخلفية، بوصفها توتراً بين الفضاء المديني الصاخب المعقد والمكان الريفي البسيط الذي يرتبط بالحلم الفردوسي وحضن الأم والشعور بالحماية الذي افتقده الراوي في أعمال غالب، التي تتخذ من المدينة فضاء لحركة شخصياتها. ويتجلى هذا التوتر، الذي يتخذ هيئة قوس مشدود على مدار السرد في معظم روايات غالب، في الحضور الوافر للأحلام، وأحلام اليقظة بصورة أساسية، التي تقطع سياق السرد وتعيد الرواية في العادة إلى الطفولة وفردوسها الريفي المفقود. بهذا المعنى، تمثل المدينة في عالم هلسا كياناً مهدداً باعثاً على الرعب وعدم الاستقرار وافتقاد الطمأنينة، مهما كانت هذه المدينة: القاهرة، أو عمان أو بغداد. لتوضيح الرؤية السابقة سآخذ عملين روائيين لغالب هلسا هما «الضحك»، وهي أولى رواياته، و«البكاء على الأطلال»، وهي من بين أعماله التي نشرها في بداية الثمانينات، وإن كانت مكتوبة في القاهرة في فترة سابقة عام 1975، لنرى صيغة التوتر في كل من الروايتين بين فضاء القاهرة وأحلام الراوي وتذكراته لطفولته ومطلع شبابه. يبدأ الفصل الأول من «الضحك»، وعنوانه «جنة اليقين» الذي يوحي بمفارقة ضدية، بوصف لحالة الراوي بعدما أقام علاقة جنسية مع بغيّ. كل ما في هذا الفصل من الرواية يوحي بالشعور بالدنس والقذارة، وامتزاج الروائح العطرية بروائح العرق والجسد الآثم، بالحنين إلى النظافة وبراءة الطبيعة. يختلط ذلك كله بالإحساس بوجود خطر قريب يتربّص بالراوي دون أن يكون واعياً له، وبحلم يعيد تركيب الخطر والإحساس به.
ومع أننا لا نستطيع تحديد مكان الحلم، إذ أن الراوي يطالع فيه منظراً من قريته مسقط رأسه، حيث يتحدث عن أكوام من الحجارة التي تتكدس كتلال صغيرة، ويحلم بأنه يسير في شوارع مسقوفة تشبه الأنفاق، إلا إننا نتبين في نهاية الفصل أنه «كان يركض في شوارع القاهرة»، التي «كانت خالية واسعة»، و«عماراتها كانت كتلاً صماء كبيرة قد ملأ الظلام فجواتها»، لينتهي إلى غرفة تحقيق ليحاكم بارتكاب جريمة لم يقترفها.
يبدو هذا الفصل إرهاصاً وتكثيفا لما سيحدث في باقي فصول الرواية. إن الراوي، وهو عضو في حزب يساري، يشعر بالخطيئة والدنس والقذارة في المدينة، مطلقِ مدينة، التي تمثل الرذيلة وانحدار القيم والتحلل والتلاشي والإحساس بالبرد بمعناه الفيزيقي والرمزي. لا يخفف من ذلك الإحساس الآمال الكبيرة التي يتشبث بها المثقفون الذين يظهرون في خلفية الرواية، أو علاقة الحب العميقة التي تقوم بين الراوي ونادية، أو الروح الرفاقية التي تنشأ بين المشاركين في معسكر تدريب المتطوعين الذين يرغبون بالدفاع عن المدينة إذا هاجمتها إسرائيل. إن المدينة، التي يتنقل الراوي في شوارعها، وبين مقاهيها وفنادقها، تظل كياناً مهدداً بارداً مصمتاً يتراءى للراوي في أحلامه الهذيانية المتكررة على مدار فصول الرواية.
في مقابل مدينة القاهرة، تبدو مدينة مسقط الرأس مثالاً للمدينة ــ المنفى، مدينة البوليس والبغاء والزيف، حيث المال سيد الموقف، والرجال والنساء يبيعون أنفسهم من أجل النفوذ والمال. إن الراوي، الغريب عن البلدة، يحاول كتابة تاريخها، والكشف عن «أكاذيب مثقفيها وادعائهم ورعب نسائها من الجنس، وجشع تجارها بكروشهم الكبيرة، وقاماتهم القزمة ووجوههم المترهلة البيضاء وأصواتهم النسائية… والحقد الذي يملأ قلوب صغار موظفيها». ويحكي الراوي أنه أتى إلى البلدة مقيد اليدين في إحدى عربات البوليس لينفذ به حكم الإقامة الجبرية بعيداً عن قريته بتهمة الإخلال بالأمن، حيث يجد نفسه شاهداً على وحشة المدينة وقبحها وموت البراءة فيها، واهتراء نسيجها الاجتماعي الذي يتشكل من آتين من القرى والمدن الشامية المجاورة، ومن شخصيات إنكليزية لا منتمية آتية لتجرب حظها، في الجنس والحب، في هذه المدينة الطالعة على أطراف الصحراء الشامية.
القرية ــ مسقط الرأس هي المكان الذي يعادل الإحساس بالبراءة واليقين حيث يستعيد الراوي في مواضع قليلة من الرواية حنينه إلى «البلدة الصغيرة التائهة بين الجبال»، و«الشوق إلى الإحساس القديم بمحدودية العالم وباليقين.. إلى خلود الإنسان الذي لا يعرف الخوف من الموت ولا القلق»، وكذلك عندما يستعيد صور الأرض المشمسة ومشهد الحصادين الذين يتناولون طعامهم وقت الظهيرة، والنساء وهن يتحلقن حول أباريق القهوة المرة، أو يحلم بأنه يطير فوق القرية ويهبط فوق قبة الكنيسة.
إذا انتقلنا إلى «البكاء على الأطلال»، فسنجد أنها تعتمد أسلوب المعارضة Pastiche تقنيةً أساسية تنبني فصول العمل الروائي حولها، وتبدو المادة التاريخية المقتبسة من كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني موضوعاً للمعارضة في موضع معين من الرواية، وللمحاكاة الساخرة كذلك، ولتأمل الحالة الشخصية للراوي في ضوء تلك الحكايات التاريخية المقتبسة في مواضع أخرى. وبغضّ النظر عن درجة معقولية استخدام هذه التقنية الأسلوبية في بناء العمل الروائي، ومدى إسهامها في توضيح معنى العمل وتكثيف الدلالة من خلال هذا الاستخدام، فإنّ «البكاء على الأطلال» محاولة لإضاءة نص روائي حداثي، يعتمد بصورة أساسية على الحلم، وهو حلم يقظة بصورة لا تخطئها العين في الرواية، عبر معارضته حلمَ اليقظة وهلوسات الراوي الحسية الشهوانية (التي يتمازج فيها الهلع الشديد من فكرة الموت مع الإحساس ببرد العالم والحنين إلى الطفولة) بمادة تراثية تدور حول الشهوة العارمة والغُلمة والمثال الحسيّ التراثي المجسد في حكاية عائشة بنت طلحة مع من أحبوها وتزوجوها بحسب ما يروي أبو الفرج في «الأغاني»، لكن هذه المعارضة لا تكتمل إلا في إطار بعث حلم يقظة يتكوّن من زمن الطفولة، وتذكر الراوي مشهداً مستلاً من ماضيه في القرية ليمثل هذا المشهد فعل تحفيز للعمل الروائي، ويعيد الراوي، بالاستناد إليه، تركيب المادة السردية ويتمكن من ثمّ من تأويل حاضره وسقوطه في يأس شامل وعلاقات جسدية متعثرة وفقدانه القدرة على الاحتفاظ بمن يحب، ويمثل له الشفاء من السقوط في العدمية الحسية والروحية في آن معاً، في جو مدينة كبيرة لا تبالي بسكانها.
* ناقد فلسطيني
كان مفاجئاً قوله لي، متّصلاً بي من دمشق حيث كان يقيم، أن أساعد الصبيتين قريبتيه على الانتساب إلى الجامعة. كانتا، حين التقيتهما، تذكرانه باسم عمّو غالب، وقد بدا هذا أشبه بصدى تردّد عن تلك المفاجأة. خطر لي أنّه لم يحدث له، هو غالب هلسا، أن سمع اسمه مسبوقاً بتلك الكلمة، أو بكلمة أخرى من قبيلها. لا لأنّه قضى حياته متنقّلاً بين البلدان، جاعلاً حصّته من كلّ منها مساوية لحصته من بلد ولادته ومنشئه، بل لتفرّده الدائم، حتى وهو يعيش حياته كما أرادها، منقّلاً إقامته بين الأردن ومصر والعراق ولبنان وسوريا.
في كتابه «ثلاثة وجوه لبغداد»، بدا لي منفصلاً عمّن أقام معهم في ذلك المنزل. في «الروائيون» كان كذلك أيضاً، وإن بين كثيرين آخرين. أما في عيشه، فبدا لي حتى من دون رفقة. وكان بيته في دمشق موحشاً أشبه بمكان انعزال أو اختباء، إذ لم تتخلّل جدرانه نوافذ، بحسب ما بدا لي، ولا تفضي إلى شرفات.
أما أكثر ما ينبّه لوحدته، فمجالسته والتمشي معه، سواء هناك في دمشق أو هنا في بيروت. ولم أكن أحتاج إلى دليل لتبيّن ذلك. يكفي مثلاً تركه وقت تمشّيه يجري على رسله، هكذا كأنه غير مرتبط بموعد لاحق أو كأنه أتى من ساعات قضاها من دون صحبة أحد. كنت أقول آنذاك إنه لا بدّ عاش مرارات لم يتمكّن لا هدوؤه ولا مسالمته من محوها. ولم أكفّ عن التساؤل عن تجاربه في البلدان التي نقّل عيشه بينها: لماذا، على الدوام، خرج حانقاً محبطاً من تلك البلدان. وهو أجابني ببعض التفصيل عن ذلك، في ما خصّ «ثلاثة وجوه لبغداد».
أعرف أنّ البعض قد يرى في السطور أعلاه تغليباً لتجربته الشخصية على ما كان يراه في تسلّط الأنظمة وتخلّفها. لكنّني، فيما كنت أقرأ كتبه، لم أجد نفسي مبتعداً عنه، هو غالب، الشخص، الذي أعرفه. كان دائماً هناك، إما الشخصية الرئيسية في الرواية، وإما واحداً من آخرين تجمّعت الرواية حولهم. ولا أعرف إن كان ذلك ينطبق على روايته «السؤال» التي، حين صدورها في مطلع الثمانينيات ربما، بدت لي مختلفة عما سبق من كتابته في «الخماسين» و«الضحك» و«زنوج وبدو وفلاحون». كانت تجمع بين الرواية السياسية والرواية البوليسية. وأذكر أنني سألته يومها من هو السّفاح، السفاح الذي هو الشخصية الأولى في الرواية. رحنا نقول يومها، نحن الذين اجتمعنا حول قراءتها، إنها الرواية البوليسية الأولى في الأدب العربي.
وفيما هو يكتب الصفحات الأولى من روايته «سلطانة»، قال لي إنّ الماضي الذي أغفله وراكم فوقه أزمنة تنقّله الكثير، يعود إليه بتفاصيله. أشياء كثيرة كنت أظنّ أني نسيتها وها إنني أستعيدها بالكتابة، قال. «سلطانة» هي روايته ما قبل الأخيرة، بحسب ما أذكر. وربما كنت مخطئاً، إذْ ـ في تلك السنوات التي أعقبت وفاته ـ رحت أتذكّره هو، تاركاً كتبه، أو قراءتي لكتبه، عرضةً لما يأتي به الزمن على الذاكرة. وما بقي من تلك الكتب على حاله هو ما حفظته متّصلاً بنقاشاتنا حوله، أو بما كان يقوله لي عنها ناقلاً إياها إلى ما كنا نتساير به في جلوسنا أو تمشّينا.
أنا واحد إذن من أولئك المجهولين الذين ظللت أقول إنّهم يجب أن يفعلوا شيئاً من أجل أن يبقى أدب غالب، ذاك الذي كان يُغنينا مع كلّ كتاب جديد، والذي علّمنا أنّ الكتابة ينبغي لها أن تتعدّى الموهبة وتتخطّاها.
بقيت أقول إنني يجب أن أبادر إلى شيء لغالب، كأن نعود ونجتمع حول أدبه مثلاً، كأن نحاول رفعه إلى الضوء لئلا تضعفه تلك العتمة أو تنال منه. لم أبادر، لم أفعل، استعضت عن ذلك بشعور بالذنب ما زال مقيماً، منضماً إلى مشاعر مماثلة أخرى.
* روائي لبناني
في عام 1994، كنتُ في مستهل حياتي العملية. بالكاد تخرجت في الجامعة، وأعمل محرّراً مساعداً في مجلة ثقافية. بعد يوم العمل، كنت أقضي ما تبقى من النهار على أحد مقاهي منطقة باب اللوق في وسط القاهرة. وفي مرة، كنت جالساً في مقهى «زهرة البستان» الشهير، على شرفته الرئيسية التي يسميها الرواد المخضرمون «المنصة»، وكان يجلس بالقرب مني «الملك» وليم إسحق، وهو تشكيلي شيوعي قديم من رعيل «معتقلي الواحات».
وجاء شخص مشدوه لا أذكر من هو على وجه التحديد ليخبر الملك أنّه قد لمح للتو غالب هلسا يعبر شارع طلعت حرب. كانت خمسة أعوام أو ما يزيد قد مرّت على وفاة هلسا، لكن الملك لم يندهش، وأومأ موافقاً وقال: «يعملها غالب!». هكذا كانت صورة الأردني التائه في القاهرة: واحد من أولياء الله «أهل الخطوة»، هو حاضر في القاهرة التي أحبّها بعد موته، يعبر الشارع الذي عبره مئات المرات، وهو في اللحظة نفسه في سفينة تحمل رجال المقاومة الفلسطينية إلى عدن، وهو في بيروت، ودمشق، وبغداد، وفي عمّان. مواطن عربيّ يحمل سمات ذلك الزمن القومي، برغم انتمائه الماركسي الصريح. عاش غالب أكثر من حياة، وأنا أميل إلى تصديق أنه لم يعش في هذه المدن على التعاقب، وإنما عاشها في الزمن نفسه.
يكتب غالب في مدونته الروائية حياته ولا شيء غير، مُستخلصاً طبقة من تحت طبقة في سرده المكتوب بالدم. كاتب من نسل سقراط وكيركغارد، تحوّلت حركته في الحياة إلى نسق جمالي وعالم روائي. هي حياة عيشت حتى الثمالة، حد الانخراط في تنظيمات سرّية والاعتقال في مختلف العواصم التي عبر بها، حد حمل السلاح للمقاومة في قضية هي الأكثر عدالة. في القاهرة التي عاش فيها الجانب الأكبر من حياته الإبداعية (نحو 22 عاماً)، انخرط مع رفاقه ومجايليه من جماعة الستينيات المصرية: بهاء طاهر، وإدوار الخراط، وجميل عطية، وإبراهيم أصلان وإبراهيم منصور وعلاء الديب وباقي الشلة. وشاركهم في تحرير مجلة «غاليري 68» المعبرة عن طموحاتهم الفنية في أعقاب النكسة. وكان غالب، إلى جوار الخراط وإبراهيم فتحي، من أكثرهم إسهاماً في الجهد التنظيري، ناقداً ومحللاً لأعمال أبناء الجيل. ولا عجب أنه لم يكن يخفي انحيازه لأكثرهم شبهاً به، ألا وهو عبد الحكيم قاسم، الذي اتكأ منجزه الروائي والقصصي هو أيضاً على خبرته الذاتية. هلسا وعبد الحكيم قاسم، لطالما اعتبرتهما سلفيّ المباشرين، على ما يباعد بيني وبينهما من مسافات فكرية وأمزجة، وعلى الرغم من تأثري المباشر بكُتاب آخرين من الجيل نفسه أو من أجيال وثقافات أخرى. وكنت أنظر لنفسي باعتباري امتداداً لذلك التيار، سمّه تيار «كتابة الخبرة الذاتية»، أو تيار «الكتابة الوجودية» بالمعنى المنهجي لا المذهبي لتلك الكلمة التي باخ استخدامها. وكثيراً ما أُسيء تفسير هذه الكتابة، وقُرئت باعتبارها ضرباً من السيرة الذاتية، ليواجهك غالباً السؤال المُحرج: «هل حدثت تلك الأشياء بالفعل؟». ورأى فريق آخر أنها كانت «موضة» سادت في كتابة جيلي، جيل التسعينيات، تدليلاً بالوسوم النظرية نفسها التي رافقت إبداعات ذلك الجيل «كتابة الحياتي المعيش» أو «أدب التفاصيل اليومية». ولم يفطن أحد أنّ ذلك المزاج قديم قِدَمَ صنعة الكتابة نفسها. وكنت كثيراً ما أتساءل عقب كل حوار عبثي من هذه الحوارات: ألا يعرفون عبد الحكيم قاسم؟ ألم يقرأوا غالب هلسا؟ بعد ارتحاله عنها بعقدين وما يزيد، وتطوافه بعدة مدن مع مغامرات سياسية مثيرة واستقراره الأخير في دمشق، استعاد غالب القاهرة في روايته الأخيرة «الروائيون»، الأقوى من وجهة نظري بين أعماله. سردية بديعة عن خبرة اعتقاله مع مجموعة من اليساريين عام 1966، تلك التي عُرفت بـ «حبسة سارتر» إذ تدخّل المفكر الفرنسي الشهير الذي زار القاهرة آنذاك لدى عبد الناصر بشكل ما للإفراج عن هذه المجموعة بعد اعتقال دام نحو ستة أشهر. ومن ثم تابع راوي هلسا مصائر ذلك الفريق، الذي كان جلّه من الروائيين وأشباههم بعد خروجهم من السجن، وتبعات ووقع هزيمة 67 عليهم وعلى حياتهم الشخصية والعاطفية في رصد شفيف، ومن مكانه الدائم كراصد عابر وشخص مجروح في مواطنته. ثمة أسى عميق يغلف كلَ ما كتبه هلسا عن القاهرة، بخلاف نبرة الحنين التي تطبع كتابته الاستعادية عن بادية الأردن، كما في «سلطانة» أو في مفتتح «البكاء على الأطلال». ذلك الأسى هو تكثيف لما سماه يحيى حقي «أشجان العضو المنتسب». وقد تكون «الروائيون» أعمق ما كُتب عربياً حتى الآن عن ذلك الحدث المُزلزِل.
مات غالب بعد نشر هذا العمل مباشرةً. مات في يوم مولده نفسه المسجل في الأوراق الرسمية 18 ديسمبر (كانون أول). وقد ذهب الكاتب الفرنسي غريغوار بوييه، وهو ينتمي إلى السلالة نفسها بشكل ما، إلى أن لدى الإنسان تلك الغريزة لأن يخرج من المكان نفسه الذي دخل منه، أن نستعير الشق نفسه في الزمن الذي استطاعت الروح أن تتجسد عبره في جسد. وبناءً عليه، فقد غادر قطّ البراري الأردنية من الفرجة الزمنية نفسها التي جاء منها.
* روائي وشاعر مصري
كلمات
العدد ٢٤٧٤ الجمعة ١٩ كانون الأول ٢٠١٤
بعدما خرج من بيروت، في خريف 1982، ومرّ على أكثر من بلد، انتهى إلى دمشق، وبدأ يتعرّف إلى أحيائها، وحلم بأن يكون فيها شيء من القاهرة. استأنف عاداته التي كان يتصدّرها: التجوال في شوارع المدينة، والتعرّف إلى مقاهيها وحدائقها ومطاعمها، وبحث طويلاً عن مكتبات تبيع الكتب الصادرة باللغة الإنكليزية. غير أن حلمه انحسر حين عرف أن الشوارع التي ينتظرها تختصر في شارع واحد طويل، يمتد من الجسر الأبيض وينتهي بـ«ساحة الأشمر» في نهاية حي الميدان. اغترب مرتين: اغترابه المستمر الذي لازم وجهاً آثر ألّا يغادر الطفولة، واغتراب وافد من ضيق المدينة، التي كان يظن أنها تشبه القاهرة.
كان يتجول متأبطاً رخاوة يومية فضفاضة، ينظر، ويدقّق، ويسأل، ولا يتعجّل في السير إلى أن يصل، بعد ساعتين، إلى شبه مطعم، فيه ثلاث طاولات، في أحد حواري حي الميدان، حيث كان يتمتع بالطعام، يبتسم بين حين وآخر، ينظر إلى السقف والجدران ويقول: «ده يشبه مكاناً في القاهرة»، ويكمل: ولكن بلا نيل. كان مسكوناً بأطياف مدينة المعزّ، وبذاته المغتربة الموزعة على أكثر من اتجاه، ذلك الاغتراب الموجع الذي عبّر عنه في روايته الأولى «الضحك»، وعاد إليه بوجع كاسح في رواية «الخماسين»، حيث الحكم البوليسي يداعب أصوات الذئاب، ويحوّل القمر إلى حجر بارد تخاف منه العينان.
كان أوسع من حياته الدمشقية، بعد حين سيُدمن النومَ إدماناً مريضاً منتظراً أحلاماً ملونة، تأتيه إن أخذه النعاس. وكان أوسع من التنظيم السياسي الفلسطيني الذي اقترب منه، وأوسع من «مجلته»، ومن الحزبيين الذين يحيطون به.... الوحيد الواسع كان اغترابه، لم تكن دمشق تلك المدينة المحافظة تفتح بيوتها للغرباء، لا عن بخل ولا كراهية، بل عن عادات متأصلة عمرها طويل. كان يذكر أن البيت الدمشقي الوحيد الذي زاره هو بيت الروائي خيري الذهبي، ومنزل سعد الله ونوس، الذي كان يشير إلى أطوار غالب الغريبة. كان غالب يقول: إن ظاهر البيت الدمشقي يغاير داخله، فالظاهر فقير متقشّف عتيق، والداخل أنيق مترف غني، واعتبر أن «الباب الضيق» في الأحياء القديمة مدخلٌ إلى فهم الشخصية الدمشقية. فهو ضيق للعيان وواسع لأهله، كما لو كان للإنسان الدمشقي سر لا يدركه إلا الدمشقيون. ولذلك كان يألف المخيم الفلسطيني، حيث للبيت باب واحد، يساوي ظاهره داخله. وكثيراً ما كان ينام عند أصدقائه من الفلسطينيين، زاهداً ببيته «الراقي»، الذي تلازمه فوضى عاتية.
ذلك الأردني الأصيل المصري اللهجة كان يوسع عالمه توسيعاً قسرياً، كأن يألف مجموعة من الشباب الهامشيين ويقاسمهم الطعام، أو أن يحضر ندوة أدبية ـ سياسية ويسوطها بأسئلة غاضبة، أو أن يمعن في كتابة هجائية عن الذين يختلف معهم، ينشرها في مجلات فلسطينية فقيرة العدد، أو أن يكتب مقالات قصية لها عنوان طريف: تأمل في تاريخ علم الجمال، أو الثقافة ومشاكل المثقفين، أو بصيرة تروتسكي التي حذّرت من البيروقراطية والبيروقراطيين.
كان وهو يوسّع عالمه توسيعاً لا طائل منه، يمشي في حارات دمشق ويتحدث عن القاهرة، فيذكر بائعي الشواء المنتشرين على ضفاف النيل، ويتوقف طويلاً أمام إدوار الخراط وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم أصلان ورضوى عاشور، ويؤكد أنه عرف الشخصيات التي كتب عنها في «الخماسين»، سواء ذلك الذي بال على نفسه وهو ينتظر مثوله أمام المحقق، أو «نادية» إحدى شخصيات رواية «الضحك» التي كان يتحدث عنها بحنين يخالطه البكاء.
في رواية «البكاء على الأطلال»، التي اقتربت من هزيمة حزيران عام 1967 يذكر غالب أن بطله، وبطله هو نفسه، يتذكر «دقة المهباش»، وفي القلب فقدان ولوعة. عاش غالب في دمشق على «أطلال لا ترى»، وكان له صور استعادها بفقدان ولوعة، وغاص في لوعة الفقد حتى اضطرب. فكان «معنا ومنا وبيننا»، وكان وحيداً مأزوماً، ينتظر أحلاماً تقوده إلى حدائق مليئة بالرمان وبنساء خضر العيون، كما كان يقول، ويتحدث عن جدّه «الذي عاش مئة وخمسة عشر عاماً»، ويردد بلهجة حازمة، علتها ابتسامة متلاشية، أنه سيعيش أكثر من جده. حين زرته في مكتب، كان من المفترض أنه يعمل فيه، طلب مني بإلحاح أن أطلب له من «الموظف الصغير» كأساً من الشاي. قلت له: لماذا لا تطلب أنت؟ قال جملة حزينة مؤذية: أخاف، لا أتجرّأ. وظننت أن الموظف شرس، لكننا حين ركبنا سيارة تاكسي وأعطى السائق قطعة نقدية كبيرة سارع إلى الخروج من السيارة وقال: اطلب منه الباقي أنا لا أتجرأ على النظر إلى وجه السائق، وفي الشهر الأخير الذي سبق رحيله، كان يطلب من أصدقائه أن يساعدوه على اجتياز الشارع،... ظواهر غريبة عن هذا الرجل الذي كان يفاجئ الجميع بشجاعته، خلال حرب 1982، والذي احتفظ ببراءة حارقة، تدفعه إلى طرح الأسئلة بلا تحفظ أو تهيّب.
كانت دمشق أضيق منه، أو كان أوسع منها، أو كان «البكاء على الأطلال»، التي لم نكن نعرفها، قد أرهق روحه وضيّق الأمكنة. كانت فيه تلك الرومانسية الجامحة، التي تلازم كبار الفنانين، وتأمرهم بأن يغيرّوا العالم، من دون أن يغيّروا أنفسهم، وذلك الفضول المعرفي الغريب، الذي يجعله مهموماً بالعثور على كتاب لباشلار «علم نفس النار»، أو مهجوساً بالسؤال عن كتاب ثودور أدورنو «ديالكتيك النفي»، وكانت عنده: أسطورة القاهرة، التي اضطرب لفراقها ووعد النفس بالرجوع إليها.
حين كان يكتب روايته الأخيرة «الروائيون»، التي تحكي عن مسار شيوعي مصري خانه الطريق، كان يقول: قررت أن أضع حداً لحياته. وكان سعد الله ونوس يرفض تشاؤمه ويقول: نهاية غير منطقية، ويعود في اليوم اللاحق ويقول: بطلي لن يموت، لكنه لا يلبث أن يغيّر رأيه، ويرى في الموت نهاية منطقية لهذا المتمرّد الذي أرهقه تمرده ووقع على الخواء.
في اللقاء الأخير بيني وبينه، شرب من حنفية في «ساحة الأشمر» في حي الميدان، ونظر إلى السماء طويلاً، ومسح يديه، وأعلن بابتسامة راضية: في العام القادم، سأعود شاباً، سأعود إلى القاهرة، سأحصل قريباً على إذن بالرجوع.
كان سعد الله ونوس وهو يتحدث عن العراقي غائب طعمة فرمان والأردني غالب هلسا والمصري يوسف الشاروني، يقول: إنهم مظاليم الأدب، فهم جديرون باحتفاء واسع، لم يظفروا به. لم يكن غالب، الروائي الذي مارس حداثة روائية مبكّرة، يعبأ بنهاية الطريق الذي يمضي فيه، مردداً دائماً: المهم ما نصادفه في الطريق، لا النهاية التي يوصلنا إليها.
* ناقد فلسطيني
أميلُ إلى الاعتقاد، وبثقة عالية، بأنَّ غالب هلسا الكاتب، ومن داخله كإنسانٍ ومثقف، كان مَدَنيّاً صِرفاً. فهو، رغم انتمائه للريف من حيث النشأة الأولى، اختزنَ توقاً حميماً وعميقاً إلى أن يكون ابناً لمدينة.. لمدينة كبيرة بكل ما تعنيه كلمة «مدينة» بوصفها حلم المثقف الآتي من أدب عالمي وقراءات متنوعة. ولهذا السبب تحديداً يمكننا فهم تعلقه بالقاهرة: عَيشاً ومعايشةً غائرةً لها ولحيواتها المتنوعة، وحنيناً أشبه بنوستالجيا «الفردوس الضائع». لم يتنكَّر لبيئته الأولى المتمثلة في «ماعين وعمّان»، غير أنه ما كان مكتفياً أو راضياً بها كاستقرارٍ مقبول.
ويبدو أنَّ «رؤية ومفهوم» المدينة لدى غالب هلسا، وعلى نحو مبكِّر، تمثلا في ما هو ليس بـ«عَمّان» بوصفها عاصمة وطنه. لا بل نجده، في غير مكان، يمارس عليها نقداً مريراً وصل درجة النفور فالرفض. وأكاد أنتهي إلى أنّه رأى فيها مكاناً أضيق من أن يتسع لطموحه في أن يكون «كاتباً» و«مثقفاً» – بالمدلول الأرحب من «كاتب ومثقف أردني». كذلك أزعم بأنه أجرى تماهياً بين المدينة والمثقف، وأنَّ هاتين الكلمتين تلازمتا لديه، فإذا غابت الأولى (المدينة) أو استحالت، انتفت الثانية (المثقف) أو انْتُقِصَ من كمالها.
لعلّني، عند هذه الوقفة الناتجة من تأملٍ في كثير من حواراته الصحافية وسروده القصصية والروائية، قد أغراني الاستنتاج المُفضي إلى أنَّ «حكاية» وصفه بـ«المناضل المُلاحَق، وبالتالي المنفيّ» من قِبَل النظام في بلده، قد تمّ تضخيمها والإطالة من عمرها إلى حدّ «الأسطرة الثقافية»، وإنْ كنت أعي الموجبات السياسية لذلك ودوافعها، ولمحطّة اعتقاله الأولى وهو في شرخ شبابه. لكنَّ اللافت في سيرة غالب هلسا ومسيرته الكيفيةُ التي عالج بها «شطره السياسي/ النضالي» في كُلٍّ من عمّان، وبيروت مرحلة الدراسة المؤقتة، وبغداد نشاطه الأول فيها. وأراني أتخيّله، عند مراجعاته لتلك المحطّات بينه وبينه، يعتمل في نفسه يقينٌ أو ما يماثل اليقين في: «نعم؛ هكذا ينبغي للمثقف أن يكتب حياته»، كأنما «ظاهر شخصية» غالب هلسا هو «بِطانة بطل» الكاتب غالب هلسا، وليس ثمّة من فارق بينهما!
كتبَ في أزقة شطر بيروت الغربي وشوارعها الجزءَ الكامل للبُعد النضاليّ في شخصيته
أكان يطمح إلى أن يتسم بـ«بطولة الخاسر» في أزمنة الخيانات، والانتكاسات، والتخلّي الوطني القبيح؟ (ولا أقصد هنا، بالتأكيد، سعيه ـ كما سعى ويسعى كثيرون حتّى الآن ـ لأن يدخل إطار «الضحية» وصورتها) فهو، بموقفه الصريح في قولته وجرأته، في القاهرة أيام سادات التخلّي والتنازلات المهينة حيث دفع الضريبة بنفيه عنها، لم يكن إلّا مخلصاً لجوهره كمثقف وطنيّ في الصميم منه، مجانِباً لأيّ حزب، وككاتب تنسجم نصوصه مع حياته وتنضفر بها.
المدينة الكبيرة، المثقف النقدي، الكاتب لنصوصٍ تحديثية، المناضل صاحب الرؤية المتحررة والموقف غير المساوم: هذا هو غالب هلسا.
أما إذا أردنا ترجمة المدينة الكبيرة بتعيينها؛ فإنها القاهرة لا سواها. والمثقف النقدي؛ فيتجلّى في «العالم مادة وحركة: دراسات في الفلسفة العربية الإسلامية» و«الجهل في معركة الحضارة». والكاتب لنصوص تحديثية؛ فلدينا أعماله السردية الكاملة، روايةً وقصصاً قصيرة. والمناضل المتحرر المستقلّ غير المساوم؛ ففي «أزمة ثورة أم أزمة قيادة»، وعار إبعاده عن فردوسه ثمناً لكونه لم يخن نفسه بما تتضمن من اقَتناعات.
لم تشكِّل بيروت لغالب هلسا مدينة تعويضية عن القاهرة أو بديلاً، بقدر ما كانت ساحة مفتوحة كتب في أزقة شطرها الغربي وشوارعها الفقيرة الجزءَ الكامل للبُعد النضاليّ في شخصيته، واحتمالية الموت داخل سياج الحصار ونيران القصف الصهيوني، والقبول به ما دام هذا هو الاختيار. وبغداد بعد الإبعاد/ النفي؛ فتجربة بدا أنَّ «المرارة» التي تجرعها هناك كانت أثقل من أن يرتضيها لنفسه، رغم «الضيافة» إيّاها و«التقدير» إيّاه!
ودمشق! يا لتلك الـ«دمشق» المدينة الأخيرة، حيث لم تقدر أن تبذرَ فيه سوى احتراق متصاعد صوب القاهرة/ المدينة الحقة. ولَمّا لم تنجح كل محاولات مُحبّيه في إعادته إليها، استسلمَ لأن تنتهي رحلته من حيث بدأت: إلى عَمّان، في تابوت مغلق، رغم إرادته!
أكان «المغترب الأبدي» حقاً؟
حيّاً... وميتاً؟
* كاتب أردني
غالب هلسا هو الروائي الذي نجده، حين نقرأه، حاضراً في حوار مستمر مع الكتابة والعيش والحياة، مع السّياسة والحبّ والحريّة، مع الناس، معنا، ومع هؤلاء الذين سيأتون بعدنا. في «الخماسين»، في «السؤال»، في «ثلاثة وجوه لبغداد»… وربّما في كلّ ما كتب وأبدع من روايات، طرح غالب سؤال الكتابة الأعمق، عن معنى علاقة الكتابة بالحياة، واكتشف أنّ لهذه العلاقة طابع الضرورة، وعلى مسافة من هذه الضرورة يموت الكاتب، أو يفقد حياته. يعيش الروائي، كما يقول غالب، «اللحظة ليكتب عنها»، وفي لحظة الكتابة، تكون الحياة مؤجّلة.
يعيش فيترك الحياة وراءه، وإذ يكتب يعصر «كلَّ ما فيه من حياة»، ويبدو له ذلك فاجعاً جداً، كالموت يأتي بعد حياة مليئة بالآلام والعذاب…يأتي «قبل أن يمتلىء الإنسان بالحياة» (ثلاثة وجوه لبغداد).
بين الكتابة والحياة، طرح غالب السؤال، فلم يترك الكتابة ولم يترك الحياة، بل وقف بينهما مدركاً علاقة الضرورة هذه. وقف روائيّاً من نوع خاص يحوِّل الحياة إلى لحظة كتابة ويبدع بالكتابة الحياة. كان، كما يقول، يفقد روحه وتوهّجه «وتتمزق الخيوط التي تصله بالحياة الحقيقيّة، الحياة الحارّة البكر، لأنّه يخلق حياة أخرى بديلة على الورق».
يخلق حياة بديلة فيعيد إليها حقيقة الحياة، حرارتها وبكارتها، ويدخل هو نفسه، ككاتب، إليها. يدخل لا ليروي سيرته الذاتية، بل ليجعل من الكاتب الذي يكتب واحداً من هؤلاء الذين يروي عنهم، واحداً يتحرّك بينهم، يحاورهم، يعيش علاقات الصراع. لا يعظ، ولا يأتي بالرسالة. لا يقف على منبر ويحكي مِنْ عل كأنّه وحده يقبض على الحقيقة، أو كأنّ الحقيقة لغزٌ لا يفكّه إلاّ سدنتها، بل يمارس العيش مع شخصيّاته، وبالممارسة هذه يولد الكلام، تتبلور الرؤية فتتعرّى سلطة القمع، يتكشّف المكبوت مخزوناً داخليّاً يخلُّ بتوازن الإنسان والحياة (شخصيّة السفاح في رواية «السؤال»). مكبوت جنسي يحرّك سلطةً قمعيّة ويحكمها، أو قمع سياسي هو رمزٌ لقمع أعمق يطال جوهر الوجود بما يعنيه من حبٍّ وولادة واستمرار (رواية «السؤال» ورواية «ثلاثة وجوه لبغداد»).
القمع، حسب غالب، علامةٌ على لجم تعيشه مجتمعاتنا العربية، ويحول دون تطوّرها. إنه تكبيلٌ لطاقات العطاء البشري، وارتدادٌ بمشاعر البشر إلى مستوى الغريزة.
كتب غالب الرواية ليعيش في عالمها، ولتعيش شخصيات الرواية عالم الناس والمجتمع، فإذا الرواية نسيجٌ لعلاقاتٍ صراعيّة تعيش زمنها وتقوله. في روايات غالب تتحوّل الكتابةُ عن الحياة إلى موضوعٍ للرواية. هكذا يطرح السردُ سؤاله عن الخيال وعن أشياء الخيال.
طرح غالب سؤاله، حمل أوراقه ودار بين الناس يطلب إليهم أن يحكوا عن حياتهم (الخماسين)، فتسقط المسافة بين المتخيّل والوقائعي، بين الحياة والسرد عن الحياة.. بين قول الحياة والإخبار عنها. تسقط المسافة بين الراوي والكاتب.. فالكتابة، أو هذه الحياة الأخرى التي على الورق، ليست سوى سؤال مطروح على الحياة نفسها، على العيش.. وغالب الذي يكتب، الروائي الذي يموت «ليكتب حياة الآخرين، يدخل بنفسه، وباسمه، عالمَ الرواية (كما في «ثلاثة وجوه لبغداد).
يتكشّف لنا سؤال غالب هلسا عن معنى العلاقة بين الكتابة والحياة كسؤال عن معنى العلاقة بين الحياة والحياة، فهو لم يضع الحياة والكتابة في جانب يواجه بهما الموت، ويخلِّد الحياة كتابةً بنفيها واقعاً. أي ليست الكتابة، في نظره، حياةً يناقض بها الموت.. فالصراع عند غالب هو بين حياة الكتابة وعيش الحياة. هكذا وحين يختار الكاتب حياة الكتابة يموت.
إنّ الصراع، بهذا المعنى، هو في نظر غالب، وكما يتمظهر في معظم رواياته، صراعٌ بين أن يعيش الكاتب، وأن يكتب هذه الحياة البديلة على الورق، وفي هذا الصراع يتبدّى «موت» الكاتب كضرورة للكلام كتابةً على الحياة.
* ناقدة لبنانية
حين طُلب مني أن أساهم في الملف عن الراحل غالب هلسا، لم أُعْطَ ما يكفي من الوقت كي أعود إلى ما أنتجه فأقول عنه كلمات. لذا فقد بدا لي أن ليس لدي ما أقوله سوى لمح من ذكريات. هذا هو ما أملكه.
ولا أستطيع أن أقول أنني كنت صديقاً لغالب هلسا. تقابلنا أكثر من مرة في بيروت لكن ضمن مجموعات. غير أنه، بالتأكيد، ما كان ليتذكر اسمي أو وجهي لو صادفني وحدي. لكن علاقة ما، فيها مودة ما، ربطت بيننا في الشام. لكن كان في هذه العلاقة شيء من حذر وغرابة أحياناً.
كنت أعمل في مقر مجلة «الحرية» في ساحة «الشهبندر» في دمشق. وكان هو يأتينا هناك بين الحين والحين. يقف مع الجميع، ويحادثهم. أو قل: يسائلهم. فغالب هلسا سؤال لا يتوقف. إنه مثل عنوان روايته «السؤال». ثمة شوق هائل لديه لمعرفة الناس، معرفة قصصهم، وعوالمهم. وهو يفعل ذلك بأرقّ الطرق، وأشدها تواضعاً. كان يقف معنا كي يسأل ويسمع. وكنا لغرورنا نقول أكثر مما يقول هو، ونسمع أقل مما يسمع هو. كان مكتب «الحرية» قبواً، لكن فسحة صغيرة فيها بعض أشجار كانت أمامه. وكان يقف هناك تحت الشمس الشتوية الدافئة.
وفي ما بعد، عرفت أنه لم يكن متأكداً تماماً ممن أكون في الحقيقة. أي أنه لم يكن يعرفني في الحقيقة. إذ تبين لي أنه كان يخلط بيني وبين المخرج المسرحي فتحي عبد الرحمن. لم يكن قادراً على التمييز بيننا، رغم أن ملامحنا مختلفة، إذا ما استثنيت السمرة والشيب الذي كان قد بدأ يغزو رأسينا بقوة. عرفت هذا لاحقاً، وبعد سنوات طويلة من رحيله. إذ كنت بين مجموعة من الأصدقاء فتذكرنا غالب هلسا. فقلت أن الرجل كانت يعاملني بشكل غريب، فمرة يقابلني هاشّاً باشّاً، وأخرى يسلم عليّ ببرود وحذر، ولم أكن أدرك السبب، فتبسّم فتحي عبد الرحمن، بل ضحك وقال: «أنا السبب. فقد كان يخلط بيني وبينك. كان يظن أنني زكريا محمد. وكنت أنا ألعب على هذه الغفلة. مثلاً أجلس على طاولة قبالته في مقهى فندق الشام، وأحدق فيه غاضباً حانقاً، فيحرف وجهه عني». في تلك اللحظة انفكّ اللغز. فهمت لِمَ كان يستقبلني حذراً ومتحفظاً أحياناً. فحين يقابلني في مقهى فندق الشام - أي يقابل فتحي عبد الرحمن - ثم يجيء إلى مقر «الحرية» فيسلم علي ببرود. إذْ كيف له أن يهشّ في وجهي وأنا قد رميته بنظرات الغضب في المقهى أمس أو أول من أمس؟ لكن حين لا يقطع فتحي عبد الرحمن بين لقائين لنا، يقابلني هاشاً باشاً. وبعد أن أفشى لي فتحي بالسر صار يمكنني تخيل فكرته عني. لا بد أنه تساءل: ما له هذا الرجل يقابلني مرة ودوداً محبّاً، ثم يقابلني ثانية كارهاً غاضباً؟ لا بد أنه مجنون.
حين كنا نحاول التغلّب على خوفنا تحت القذائف في حصار بيروت، لم يكن هو بحاجة إلى تكلف الشجاعة
ولم أكن مجنوناً، بل كان الأمر يخصّ غفلةً ما عند غالب هلسا. وفي الحقيقة، فقد بدا دوماً أن غالب خليط من فراسة وغفلة، ثمة جانب عميق نفّاذ عنده، جانب مستقصٍ متسائل لا يهدأ، وجانب فيه قدر من الغفلة والسذاجة، وهو خليط جميل ورقيق منهما. وأقول «رقيق» لأن في غالب رقةً لا توصف، لا أعرف من أين أتى بهذه الرقة، فهي ليست من شرقي النهر ولا غربيّه.
وحين أتذكر الرجل أتذكر أنه من مواليد «ماعين» أو إحدى قراها، حيث «البدو والفلاحون»، فأتذكر شلالات ماعين التي تسقط مياهها الحارة وتجلد ظهرك حين تقف تحتها. أنا أربط بينه وبين الشلالات من دون إرادتي. وأفكر أنه خارج من تحت ضربات الماء الساخن للشلال، فنَعمَ جلدُه، ورقت يده وعينه وفكرته. هذا رجل خارج للتو من حمام دافئ.
في كل حال، ثمة جرأة لا توصف عند هذا الرجل. هو لا يعرف الخوف. لحمه لا يعرف الخوف، ولا يرتجف. وفي حين كنا نحاول ان نتغلب على خوفنا تحت القذائف في حصار بيروت، لم يكن هو بحاجة إلى تكلف الشجاعة. وقد خبر هذه الجرأة من عاشره أيامها. كان قادراً على أن يمشي تحت القصف هادئاً كأنه ملاك. وكان يدوام على الذهاب إلى مواقع المقاتلين على خطوط التماس في كل المناطق. وحدثني صديق مرة أنه ذهب معه إلى موقع تماس في «حيّ السّلّم»، وأنه أصر على أن يصعد فوق الحاجز الترابي لكي يرى اليهود. أن يرى بعينيه، ويلمس بيده، هذه هي فكرة غالب هلسا. الكتب لا تكفي عنده. ثمة كتب أشد إثارة عنده هي كتب الحياه، وكان يقرأها. كان يشربها حتى الثمالة.
وحين أحاول الآن أن أربط غالب ببلد عربي، لا أستطيع إلا أن أراه مصرياً. لقد تمصّر حتى العظام، رغم أن مصر رمتْه. لا أستطيع أن أراه شامياً (واحداً من بلاد الشام). أما هو، فقد بدا لي أنه هو غير راغب في أن ينتمي إلى بلد محدد. فالحنين إلى مكان الطفولة لم يجعل منه «أردنياً» بشكل كاف. لم يكن الحنين إلى مسقط رأسه قتله، لم يكن حنيناً يغلي غلياناً، أو هكذا بدا الأمر ظاهرياً على الأقل. وللأسف لم يكن هناك حنينٌ لدى النظام في الأردن كي يعيد غالب هلسا إلى بلده، كان النظام حديدياً يومها، كان لا يرحم. وبعد هبّة 1989 حصل تحول ما، لكن غالب كان وقتها قد رحل عنا. كان مصرياً كما بدا لي، لكن الحنين إلى مصر لا يسيطر عليه أيضاً. وكانت روحه عطوفة على الكل، على مصر وعلى العراق ولبنان وفلسطين. وفي السياسة كان فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. غير أنه لم يكن يدمج نفسه بهم. كان عربياً إلى حد ما، لكن أيضاً ليس حد الاندماج.
كأن غالب هلسا كان قد تخطى فكرة الاندماج. كأن الاندماج فكرة ضد السؤال والتساؤل. وكان غالب هلسا سؤالاً. وكانت حياته مساءلة واستجواباً.
* شاعر وباحث فلسطيني
كان ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أثناء جولات نهم شديدة على القراءة في مكتبة «المركز الثقافي» في مسقط الرأس. إلى تلك المدينة الصغيرة والمهملة والبعيدة من العاصمة، كانت تصل نسخٌ من المطبوعات ذاتها التي يمكن أن تجدها في سلسلة المراكز الثقافية المنتشرة في دمشق والمدن الكبرى أيضاً. كانت الكتب تكسر ذاك الإهمال وتلك الجغرافيا، وتصنع لقراء مجهولين علاقات شغف مدهشة مع مؤلفين من جنسيات مختلفة سورية وعربية وأجنبية. كانت القراءة شغفاً، ولكنها كانت تمضية للوقت المديد الذي كان يستغرقه اليوم الواحد لكي يمضي ويأتي الغد الذي سيطول بدوره، ولا بد من قتل الضجر والساعات بقراءات متواصلة.
على الرفوف المعدنية المغبرّة لمكتبة المركز التي كنت أتردد عليها بشكل يومي تقريباً، لإعادة ما استعرتُه وأخذ كتاب جديد. على واحد من تلك الرفوف التي خُصصت للروايات والقصص، كنتُ أتعثر بعنوان رواية اسمها «الضحك».
لا أتذكر عدد المرات التي وقع نظري فيها على باكورة غالب هلسا الروائية، ولكني لا أزال أتذكر استغرابي أن تكون مفردة مثل «الضحك» عنواناً لرواية. كان العنوان الذي يُفترض أن تصنع غرابته جاذبية ما للقارئ يؤجل فكرة قراءة الرواية، بل يُبعدها ويطردها أيضاً، وكانت كنية المؤلف الغريبة أيضاً (هلسا) تعزز هذا التأجيل وتقتل فكرة القراءة من أساسها.
لا أتذكر الآن إن كنت تجرأتُ وقررت أن أستعير الرواية ذات الغلاف الرصاصي الباهت لأتخلص من تعثّري بعنوانها واسم صاحبها، أم أنني تجرأت وراهنتُ على أن العنوان الغريب للرواية ربما يحمل مفاجأة سردية سارّة في صفحاتها التي كانت كثيرة ومن القطع الكبير، أم أنني أنهيت قراءات الروايات التي كانت موجودة في الرف المخصص لها، ولم يبقَ سوى رواية غالب هلسا لكي أقرأها كتحصيل حاصل.
قرأت الرواية أخيراً، وكان انطباعي الأول هو أن علي أن أقرأ فوراً أعمال غالب هلسا كلها. كانت «الضحك» بداية مطاردة رواياته ومؤلفاته وترجماته. صحيح أن «الضحك» كانت تحمل أغلب الانطباعات التي كانت تنبعث من النماذج الجيدة للرواية المصرية، إلا أنها كانت تتجاوز أو تتفوق بطريقة ما على طابعها المصري بشيء يصعب تحديده بدقة، بشيء يمنحها مذاقاً أجنبياً، ويجعل مصريتها غير صافية. عرفت لاحقاً أن غالب أردني، وأن هذا قد يكون دليلاً على «أجنبية» ما، ولكن تلك الأجنبية كانت تتجاوز هذه المعلومة أيضاً، وتتدخل في تأليف رواياته وفي أسلوبيتها وسرديته وحواراتها التي كانت تأخذ حيزاً واضحاً في مساحات السرد والوصف.
سأجد «السؤال» و«البكاء على الأطلال» في مكتبة دمشقية، وستتعزز أجنبية غالب هلسا في ترجمته لرواية «الحارس في حقل الشوفان» لسالنجر، و«جماليات المكان» لغاستون باشلار. وسيتعزز ذلك أكثر في كتاب صغير سينشره صاحب «الضحك» بعنوان «أدباء علموني أدباء عرفتهم». كانت «الأجنبية» مادة مخلوطة بالسرد وذائبة في مبدأ الكتابة والتأليف، وليست صفة ملصوقة برواياته. لقد اهتدى صاحب «الروائيون» مبكراً إلى جملة روائية تخصّه. جملةٌ مدينةٌ لتأثيرات عديدة طبعاً، ولكنها تحولت إلى مقتنيات شخصية في أعماله. جملة يمكن التعرّف إليها في حيادية الوصف، وفي طريقة استخراج الأداء الروائي للشخصيات الرئيسية والثانوية، وفي مزج الواقع السياسي مع مصائر تلك الشخصيات وأفكارها وتخيلاتها الذاتية. لعلّ تلك «الأجنبية» تغذّت من فكرة أنه عاش «أجنبياً» في مصر والعراق وسوريا ولبنان، قبل أن يعود في تابوت إلى الأردن. ولعل الكثيرين استبسلوا في الكتابة عن منعه من العودة إلى الأردن، ظانّين أن ذلك كان مرارةً يومية أو جرحاً مستديماً عانى منه غالب هلسا، بينما تقول رواياته أن إقامته في الكتابة كانت تتفوق لديه على فكرة العودة. كان غالب منفياً بصيغة ثيودور أدورنو عن المنفى الذي يجعل الكاتب والمثقف مقيماً في اللغة والكتابة. ولعل المكان الوحيد الذي أراد غالب العودة إليه هو القاهرة التي قدمت له تلك العوالم التي تقدمها المدن الكبرى والمتعددة الطبقات والأمزجة. مقارنةً بالقاهرة، كان باستطاعة غالب أن يقول إن بلاد الشام كلها لا تصلح لكتابة الرواية لأن العلاقات فيها ليست روائية.
هذه أفكار وخلاصات من بين انطباعات كثيرة كانت تبثها أعمال غالب التي أعدتُ قراءتها أكثر من مرة، ولكن قبل ذلك، قبل أن تنشأ تلك الصداقة الثمينة التي تصنعها الروايات والكتب مع القراء، حدثت مفاجأة غريبة في أحد تلك الأيام الطويلة والمضجرة في مسقط الرأس، حين رأيتُ اسم غالب هلسا في لوحة الإعلانات المثبتة على مدخل «المركز الثقافي». لا أتذكر بدقة عنوان المحاضرة التي كان غالب هلسا مدعوّاً لإلقائها، ولكنها لم تكن عن الرواية، بل عن شيء ما له علاقة بتاريخ الإسلام! أتذكر جرأته وسخريته في طرح أفكارٍ لم تكن مألوفة لجمهور تلك المدينة الصغيرة والبعيدة، ولكن المهم أن غالب هلسا كان هناك على المنصة، وأنه جاء بنفسه إلى المكان الذي بدأت فيه علاقتي بروايته الأولى «الضحك». كانت هناك متعة ثمينة وغريبة أن ترى الكاتب الذي أدهشتْكَ روايتُه يتحدث أمامك، وهو لا يعرف شيئاً عن ذلك، بل لا يعرف أن نسخة من روايته نفسها موجودة في تلك اللحظة على رف مكتبة «المركز الثقافي» الذي قطع مئات الكيلومترات من دمشق لكي يصل ويُلقي محاضرته هناك.
القاهرة | في الجامعة، كان ياسر عبد اللطيف شبه مسؤول عن تثقيفنا، فهو بحكم تربيته في مدارس فرنسية، كان دائماً أسرعنا في الوصول الى الكتب العلامات. ساعد في ذلك أنّ والده كان قارئاً جيداً يمنحه خبرته في الكتب. لذا كان كل كتاب يقترحه ياسر «خطوة ضرورية» لنعبر الى مساحة أخرى في أرواحنا، وزاد من ذلك أنّ كل المجموعات التي كانت تتقاطع معنا في الاهتمامات غلبت عليها سمة «التجنيد السياسي» لصالح مختلف التنظيمات، وكان مزاجنا الأدبي يقاوم دوماً هذا الشرط الذي يقرن المعرفة بـ «الاستعمال».
في ظل تلك الأجواء التكوينية، جاءنا ياسر ذات يوم برواية «الحارس في حقل الشوفان» التي ترجمها غالب هلسا للروائي الأميركي ج. د . سالنجر، وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها اسمه، ومن مقدمته عرفنا أن تلك الرواية تعادل في تأثيرها أثر رواية «عوليس» لجميس جويس وبفضلها تعرفنا على ما سمي بـ «أدب الغاضبين». كانت الرواية غريبة الأجواء. ولما كانت التجربة اختياراً، فقد تجلى أنّ مترجمها رجل صاحب «مزاج» لأن اختيار عمل مماثل يركز على فكرة التزييف بلغة متقشفة جداً، كان يكشف عن مزاج أدبي معتبر. وأغلب الظن أنّ ياسر تعرّف إلى هذه الرواية بفضل صداقته بالكاتب الراحل ابراهيم منصور الذي كان من أقرب أصدقاء هلسا في مصر. ثم كانت المحطة الثانية مع اكتشاف ترجمة غالب لكتاب «جماليات المكان» لغاستون باشلار. كتاب كرّس لمترجمه صورة أسطورية غير واضحة المعالم حتى جاءت لحظة أخرى كنت أستمع فيها للفنان التشكيلي الراحل عدلي رزق الله وهو يقدم شهادة عن تجربته. وبدلاً من أن يفعل ذلك، ظل لأكثر من ساعتين يروي أثر غالب هلسا في حياته، وقد كتب ذلك في سيرته «الطريق الى البدايات». غير أني لم أضع يدي بقوة على ذلك الأثر لأنّ أعمال غالب لم تكن متاحة في مصر، لكن صورته ظلت تزداد غموضاً بفضل المرويّات التي كانت تتناقل عنه بين كتاب جيلي الستينيات والسبعينيات التي كانت تختلف إلى حد التناقض، لكنها تلتقي في زاوية وحيدة تتعلق بفكرة «التأثير». بدا غالب هلسا أقرب الى صورة «المبشر» منه إلى «المحرّض».
بشّر بنماذج أخرى للكتابة تقاوم النماذج التي كانت الواقعية الاشتراكية تعمل على ترسيخها
بعد أيام، وقعت في يدي نسخة من كتابه الذي صدر بعد وفاته بنحو عشر سنوات، وحرره ناهض حتر. كان عنوانه «اختيار النهاية الحزينة». وبفضل شاعرية العنوان، قرأت الكتاب في ليلة واحدة. وفي الصباح، كنت أمام الكاتب الراحل إبراهيم أصلان الذي كنت أعمل الى جواره، وسألته عن ابن جيله الموهوب الذي تأخرت كتاباته الإبداعية لصالح طاقته كمترجم ومنظر سياسي. كنت أعرف أن لصاحب «مالك الحزين» ميزانه الحساس، فهو لا يبالغ في تقدير أحد ويستطيع التخلص من الأحكام التي وقفت وراءها دائماً المعايير السياسية. ولما كان غالب لدى الغالبية مناضلاً سياسياً يسارياً تم ترحيله في ظل نظام السادات، فقد توقعت أن يكون رأي أصلان حذراً في تقدير أعماله. لكنه فاجئني يومها برغبته في إصدار طبعة مصرية من رواية «الخماسين» لغالب هلسا ضمن سلسلة «آفاق عربية» التي كان يشرفها على تحريرها. حكى عن «غالب» بحماس، وأشرقت أمامي صورة أخرى تقارب صورة أفراد «الشطار والعيّارين» في مصر المملوكية، وهم نمط من الناس عاش بقانون التحايل على العيش. لكن غالب استند إلى موهبة كبيرة وثقافة استثنائية بفضل تعلمه في الجامعة الأميركية وامتلاكه لغة انكليزية رفيعة مكّنته من الاطلاع والتبشير بنماذج أخرى للكتابة تقاوم النماذج التي كانت الواقعية الاشتراكية تعمل على ترسيخها كما فهمتُ من أصلان الذي حمل لي في اليوم التالي رواية «سلطانة». رواية فريدة في تركيبها وعالمها ومستوى التداخل اللغوي فيها، حيث قدمها امرأة تكاد تكون مستحيلة لها شبقها المتمدّد كسحر خالص. وفهمت تدريجاً أنّ مؤلفها ــ رغم التزامه السياسي ــ راهن على جماليات أخرى للكتابة. ربما يفسر هذا جزئياً تأخره في الكتابة، ويفسر أيضاً تأخره في النشر، ويبرر صداقته مع ابراهيم منصور الذي عرفناه عن قرب يعطي بسخاء، لكنه اكتفى بالتبشير بالمواهب وأعطى للحياة أكثر مما أعطى للكتابة، فهما ـ بنمط العيش الذي أخلصا له ـ راهنا معاً على الحياة شرطاً من شروط الكتابة.
أعطاني أصلان بروفات الطبعة الجديدة من رواية «الخماسين» وسمح لي بمراجعتها. كانت تجربة في المتعة الخالصة. وما إن انتهيت، حتى طلبت بقية الأعمال التي كانت موزعة بين مكتبة أصلان القديمة في بيت «الكيت كات» والجديدة في بيت «المقطم»، وظل يفاجئني كل فترة بنسخة من عمل إلى أن صدرت الأعمال الكاملة لغالب هلسا عن «دار أزمنة»، فاشتريت نسخة منها. والمفارقة أنني بعد أيام من تلك الواقعة زرت الأردن وتعرفت إلى ناشر أعماله الكاتب الياس فركوح الذي أهداني نسخة أخرى قرأت منها على شرفة فندق صغير في مدينة «مادبا» على بعد كيلومترات من «ماعين» القرية التي ولد فيها غالب «المتمرد الأبدي» بتعبير شقيقه. مشيت في شوارعها باحثاً عن هؤلاء الذين كتب عنهم ولم أجدهم، بينما كنت أجد أبطاله حاضرين في شوارع القاهرة ودمشق، الحضور الذي يشير إلى نموذج لمثقف عربي لم يعد قائماً الآن، ويخص حضور الكاتب الذي كان يعبر بامتياز عن زمن الوحدة العربية، ويقاوم بانفتاحه انغلاق الأنظمة التي تستعمله.
تخيلت للحظة لو أنّ غالب كان ابن أيامنا، كيف كان بإمكانه أن يقنع السلطات المصرية بعروبته وسعة اطلاعه وهي تتشكك في من يقرأ رواية «1984» ويمشي بها في الشوارع. كيف كان بإمكانه أن يحب دمشق التي عاش فيها أيامه الأخيرة وهي على صورتها الآن، محاصرة بين واقع كئيب ومعجزة لا تجيء، وكيف كانت ستستقبله بغداد التي لم تعد بـ «ثلاثة وجوه».
إلى غالب هلسا
* لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذرافِ الدموع السوافك
يقول: أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى
فدعني.. فهذا كله قبر مالك
«متمم بن نويره»ـ في رثاء أخيه مالك
تلك روما إذن
واسمها مأدبا
فاسمها دير ماما إذنْ
كل هذه المقابر روما
على مشرف القلب ترصدنا
قاب رمشين أو دمعة
قبر «مالك» روما إذنْ
فلماذا إذن
طال درب الذي
كان يبحث في لوعة عن وطن
ثم عاد وليس على ظهره
غير هذا الكفنْ
***
حينما جفت المرحبا
بيننا
وتصحّر نبع العتابْ
لم يعد ليَ أن أغضبا
أتزمل بالحقد
كي أشتفي بالعقاب
لم يعد لخصوماتنا أن
ترمِّمَ هذا الخرابْ
لم يعد لانتصار هزيل
أتى هَيّنا
أن يخفف هذا العذاب
قد خسرنا توهج أحلامنا
وخسرنا تدفق أيامنا
ومحبة أوطاننا
والشبابا
مُزِّقَتْ، دون أن ندخل الحرب
أعلامنا
لم يعد عندنا
ما يستِّر عوراتنا
من ثيابْ
لم يعد ينفع الميت، وهو يُوارى،
بأن يُندبا
لم يعد يوقف النزف
أو ينفع الجرح
أن يُعصبا
أو يُسفّ عليه الترابْ
فلتكمِّل، إذن، يا صديقي خساراتنا
ولتؤجج عداء الشقيقين
واختر مبارزة بيننا
مثل عبدين في حلبة
يتراهن من أجل أشرسنا
سادة وخصوم لنا
ثم يخلو المجال لهم
للتفرُّد في الأرض
أو للتنعُّم في عالم
ليس فيه مكان لنا
كنت أحلم لو أننا
قد عرفنا الطريق
إلى حيث أعداؤنا
لنسير معاً
سيف ملحمة وقرابْ
ثم يأتي زمان يلائمنا
لنصفِّي الحسابْ
الذي بيننا
غير أنك تمضي لموتك
دون مراجعة.. أو جواب
***
كيف صغَّرتَ مرماك
حتى انتهى في فؤادي
وتضربُ لا يصل السيف
تطعنُ لا يصل الرمح
تطلق لا يصل السهم
أرجوك أن تتريث
تسمعني:
إننا وسط غابْ
تَحَوَّل معي ضد غدر الذئاب
وأناديك: ما كلّ طفلين تاها
سيلتقيان بذئبة غدر
تقدم أثداءها للرضاعة
هذا زمان الذئاب التي تتبدى لنا بشراً
وأناديك: يا صاحبي
ليس دربك هذا
وقتليَ لن يفتح الباب
نحو ضياء يحقق حلمَكْ
فأنا لست خصمَكْ
أنت درعي
أنا السهم في قوس حربكْ
حين أصيب المقَاتلَ
مثلي تصيب
وهذا العدو يوحِّد أقدرانا
وأنا، في المتاهات
أرقب، كي أهتدي لطريقيَ
نجمكْ
ولأني أحسُّك قربي
تقدمت
لم أخش طعنة غدر
ولم أتلفت ورائي بخوف
فأنت العزيمة في رحلتي
وأنا مَنْ، على عتبة الحرب،
قد شدّ عزمكْ
فلماذا تلحُّ عليَّ كأنيَ روما
وكأني الطريق إلى مأدبا
وأظل أداري بمغفرتي
وكأني تحوَّلت أمكْ.
***
أنت صدقت ما قدموا من وعود
أو تعبت فراوحت قبل وصول الحدود
وأنا لم أكن مذنباً
لمع الحقد في برق ضحكاتهم شامتين
رأيت الذي لم تشأ أن تراه
وأن تدركه
(أنت علَّمتني أن أرى)
قدموا حلبة وسلاحاً
ورصُّوا الشهودْ
لكي يشهدوا بيننا المعركهْ
كان درباً سلكت، بغفلة عمر
وحاولتُ أن استردَّكَ:
هل نتسلح من أجلهم بالشكوكْ
نتبارز بالألسنهْ
ننفش الريش
كي نتناقر مثل الديوكْ
نتجاهل أنا نُسَمَّن في مدجنهْ
أن رائحة من شواء الدجاج
تفوح من المدخنهْ
كي تقدم مائدة للملوك
ويبيعوننا نيئين وأحياء
نصبح أرصدة في البنوك
يا صديقي
تعال لنكمل درس الدجاج
الذي نسي الأجنحهْ
لم يعد يتضايق من بطئه
لم يعد يتطاول بالنظرات وراء سياج.
وتناسى زماناً لتحليقه
ثم راح يدب على الأرض
يبحث عن لقمة بين بعر النعاج
يغلق العين للنوم قبل الغروب
فلم تبق من حاجة
للنجوم أو البدر
أو للسراج
ويموت بغير جنائز أو أضرحة
أنت صدَّقتهم
فارتضيت الحروب الصغيرهْ
رحت تطالب بالأسلحهْ
أنت صدَّقتهم
حين قاموا على أمرنا
أغرقونا وعودا
لم تشأ أن ترى
أن من زوقوا الكلمات
تزيوا بهيئتنا مبدعين
وكانوا جنودا
إن من أججوا النار
كانوا يريدوننا
للثريد وقودا
أن هذي الخطوط
التي طرزت وهج أحلامنا
إنما رسخت حولنا حرساً وحدودا
لم تشأ أن تراهم معي
إن من طالبوا بدم التضحيات سماسرة
يحسبون الدماء نقودا
إن من طلبوا، باسمنا، القدس
كانوا يهودا
***
أيَّ روما تريد إذن يا صديقْ؟!..
كل روما لها رحلة وطريقْ
كل درب يؤدي إليها
إذا ما وجدت الرفيقْ
والرفيق، كما أوضحت لك أمك،
قبل الطريق
إن روما التي كنت تسعى إليها بلا رفقتي
قد تحولت الآن سوق رقيقْ
هل تعّمر «روما» ك
لا بأس، لكن تَذَكَرْ
فما كان روما
تقوم على جثة لشقيق
***
حينما جفَّت المرحبا
وتطاولتِ الكلمات لكي لا تقولْ
حرنت، دون أن تتحقق
ضيَّقتِ الدرب حتى يطولْ
حين غابت وراء خصاماتنا مأدبا
واختفت دير ماما
وأصبحت الأرض زنزانة
لم نجد بين قضبانها مهربا
كنتَ تصرخ مستنجداً
كنتُ أنوي الغناء لحلمي
ولكنَّ صوتي وصوتك ضاعا
أمام هدير الطبول
وانتهينا إلى باب مقبرة
نفقت تحتنا،
للوصول إليها، الخيولْ
وإذا الصبح، وهو يداورنا
قد تبدل
حتى انتهى مغربا
ففتحنا الظلام الكئيب
وسرنا إلى مأدبا
كي نلاقيَ روما التي أصبحت
كومة من وحولْ.
***
ها هو الموت يوقف هذا الخصام
ها هو الموت يعلن أني
هُزِمتُ بموتك
يمنحني فرصة للكلام
وأراهم يجيئون نحوي
يشدون أزري
لعل الذي في دمي
رغبة لانتقام
أنت لا تستطيع سماعي
ولن تستطيع الكلامْ
لن ترد العتاب أو المرحبا
سأقول: أحبك
وسأغسل قلبك من زيف أمجادهم
وأعيدك نحوي حليفا ودودا
يا صديقي اللدودا
أحبسُ الدمع
كي أبصر الدرب وسط الزحامْ
فأواريك في مأدبا
بين أطلال روما الظلامْ
ثم ألقي عليك السلامْ.
1990 ـ من ديوان ـ لا دروب إلى روما
كلمات
العدد ٢٤٧٤ الجمعة ١٩ كانون الأول ٢٠١٤
كلمات
العدد ٢٤٧٤ الجمعة ١٩ كانون الأول ٢٠١٤