بيروت ـ ‘القدس العربي’ ـ من ناديا الياس: وداعاً ايها الشاعر جوزيف حرب قالها بحزن واأسى اللبنانيون الذين اّلمهم الاثنين رحيل شاعر من أبرز الشعراء والكتّاب اللبنانيين,كيف لا؟ وهو الذي أغنى المكتبات بأعماله الفكريّة والنثرية ودواوينه بقصائده التي غنّاها ولحّنها له الكبار الكبار في عالم الغناء المحلّي والعربي.
نعم’ كوجه بحّار قديم ‘ من رائعته’ لبيروت ‘ التي غنّتها له السيدة فيروز أغمض الشاعر جوزف حرب عينيه وطوى شراعه ليدخل المدى الارحب ,هو الرئيس السابق لاتحاد الكتّاب اللبنانيين الذي توّفي بعد صراع مرير مع المرض .
وبرحيله يفقد لبنان علماً من أعلام الشعر هو الذي طبعت كلماته وأغانيه ودواوينه في ذاكرة الوطن والشعب,و,تميّز بأنه شاعر الاكتواء بالحّب والرحيل فرحل اليوم تاركاً وراءه ارثاً لا ينسى ابداً.
وفي رصيد الشاعر جوزيف حرب العديد العديد من القصائد التي غنّت من أجملها سفيرة لبنان الى النجوم السيدة فيروز ومن أجمل هذه القصائد :’أسامينا ‘، ‘ أسوارة العروس ‘، ‘حبيتك تنسيت النوم ‘، و’بليل وشتي ‘، ولمّا على باب ‘، و ‘راح نبقى سوا ‘، و’ فيكن تنسوا’، والبّوابّ ‘، ‘ يا قونة شعبيّة’ ،’ ورق الاصفر ‘، و’ زعلي طّول أنا وايّاك ‘.
كما لحّن وغّنى له قصائده الفنان مارسيل خليفة فكانت أغنية ‘انهض وناضل’ واغنية ‘غّني قليلاً يا عصافير ‘ ,أما أشهر دواوينه الشعرية فكانت ‘شجرة الاكاسيا ، مملكة الخبز والورد ، الخصر والمزمار ,السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية ,شيخ الغيم وعّكازه الريح وغيرها وغيرها ….’
والشاعر حرب الذي قّدّم أعمالاً اذاعية وبرامج دراميّة للتلفزيون نال جوائز تكريميّة أبرزها جائزة الابداع الادبي من مؤسسة الفكر العربي والجائزة الاولى للادب اللبناني من مجلس العمل اللبناني في دولة الامارات العربيّة .ويبقى أن نشير في الختام أن ّ الشاعر الكبير الراحل هو من بلدة المعمرية قضاء الزهراني وتنّقل في طفولته وشبابه بين مسقط رأسه وبيروت والبترون وجبيل وتلّقى دروسه في مدرسة القلبين الاقدسين في جبيل وفي المعهد الانطوني لاحقاً ,,اكمل تخصصه الجامعي في كليتي الحقوق والاداب , فنال اجازة في الحقوق ومارس المحاماة وفتح مكتباً خاصاً له .
الى ذلك ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بأسمى العبارات والمشاعر لروح الراحل الكبير الذي تركنا من دون وداع فكتب بعضهم ‘انّ لروح الابجديّة نكهة لا تموت …يهوي الجسد وتخلد الروح ….’ومما كتب ايضأً ‘جوزيف حرب وفيروز… ابداع يستمرّ عبر الفصول … ورق الاصفر شهر ايلول …ذكّرني فيك …’وفي الختام لك ايها الشاعر الكبير الراحة الابدية وستـبقى بصماتك وأعمالك شعلة مضيئة …تذّكرنا فيك …تحت الشبابيك .
القدس العربي- February 10, 2014
تاريخ المقال: 11-02-2014 02:05 AM
... ولكن "أجمل ما في الأرض أن تبقى عليها"، فلماذا خذلتنا أيها الفارس المفرد وغدرت بنا فرحلت بلا وداع محكماً فينا مزاجك المفرد "طالع ع بالي فلّ"...
وكنا قد ارتضينا منك أن تبقى ولو بعيداً، فإذا ما هزنا الشوق قصدناك في ديوانك المفتوح دائماً على الحب فوق "المعمرية" تغني صيدا بحنينك إلى مهدك في الناقورة على بُعد شطرين من صور وعلى قرب آهين من جزين تكاد تسمع "المصرع" في عاشوراء النبطية وأنت في الطريق إلى دير مشموشة ترن في مسامعك أجراس القدس.
ولطالما انتظرناك فلم يصلنا غير ظلك وأنت تجتاح بيروت قاصداً الشام التي عاشت معك بصوتك عالي البحة أو بترنيمات فيروز حاملة وطن الرحابنة منها وإليها، فإذا ما عدت فإلى جنوب الجنوب لتغني المقاومة التي جعلت إنجازها ديواناً خالداً في عشق الأرض، أمّنا وعنوان العزة.
أيها الذي عاش عمره مزيجاً من العاشق والشهيد، العاشق والقديس، العاشق والأرض التي تنبت الحب والقمح والبيلسان وورود السرير التي ستغرق فيها أسراب الفاتنات وقد خرجن من دواوينك عرايا إلا من النشوة، في حراسة "شيخ الغيم الذي عكازه الريح".
أيها الشاعر الفريد مثاله غزارة ونبلاً والذي لم يغادر قلبه قلمه مرة، بل جعله أمامه دائماً يسحر الناس فيخرجهم في تظاهرة ممتدة بين عصرين، ثم يعيدهم واحداً واحداً إلى مملكة الخبز والورد.
ولقد وعدتني، وأنا من الغاوين، أننا سنكون معاً، وأنك سوف تسمعني البيت الأول من القصيدة ـ النهر، وأنك سوف تكمل الديوان في "السفير"... وهكذا ظلت علاقتنا الحميمة معلقة بين شطري "البيت" الذي لما يجد "قافيته" في بحرك الممتد ما بين البحتري وديك الجن.
وكان آخر وعودك أن تكتب لها وعنها وهي تخطو سنتها الأولى بعد الأربعين... ولم يخطر في البال أن نملأ "السفير" بالحديث عنك غائباً وطيفك يحوم حولنا قارئاً علينا شعرك فيستحضر "العيد".
... وسمعتك خطيباً ترثي من سبقك فتسلق شعره إلى جنته فإذا المرئي يشق قبره لينتشي بالشعر مرة أخرى وأخيرة.. وسمعتك داعية فإذا صفوف جمهورك تكاد تخرج باحثة عن السلاح حتى لا يفوتها موعد المواجهة المرتجاة مع العدو الذي كان قد اعتاد أن يهزمنا بغير قتال، فلما حضرنا احترقت دباباته ببركان الأرض المقدسة وانسحب طائراً بأجنحة الخوف.
وقرأتك عاشقاً في دواوينك التي اتسعت لنساء الأرض جميعاً في صورة مَن أحببت، وقرأت أبياتك التي من آهات وتنهدات ونسمات تحملها النورسات التي كنت تستعرضها كل صباح وكأنها أسراب من الشعر المنثور ينتظر من يمنحه رنين الموسيقى التي تختزن... ولقد التقيت بعض الجميلات من مرهفات الحس الآتيات من أمسياتك وقد انتشين وكأن كلاً منهن في موعد حبها الأول.
ولقد جمعتنا قربى بلا رحم، فكلانا "ابن الدركي" الذي قرأ أكثر مما تعلم، والذي حفر كلماته الأولى في الصخر فأخرج معك زهراً وأخرج معي شوكاً، ولكننا كتبنا الناس أنت في تجلياتهم الممتعة في قلب العشق وأنا في همومهم الأثقل من أن تحملها الكلمات.
على أنها أيام للحزن أيها الصديق النبيل الذي سيتزاحم الكتبة الآن على رثائه، وهم هم الذين تجاهلوه في حياته مدعين أنه قد عزل نفسه في صومعته يسهر مع طيف عاصي الرحباني على صوت فيروز مستدعياً حريمه ليأنس إليهن فيسمعهن أحزان محمد الماغوط وحداء طلال حيدر ثم يتركهن للهوى والشباب مع الأخطل الصغير، ويذهب إلى النوم.
لقد غادرتنا ونحن نخرج من الهزيمة إلى الحرب الأهلية... ولكنك أوصيتنا بألا نيأس وألا نهجر "الميدان" الذي قد تحتله الفوضى زمناً ما قبل أن نسمع صرخة ميلاد العصر العربي الجديد الذي طالما بشّرت به.
جوزف حرب: سنظل نقرأ غدنا في ديوانك ـ البحر، وسنظل نقصد "المعمرية" لنسمعك تقرأ شعرك فتصير الريح موسيقى فرح تراقص النورس المبشّر بقرب الانتصار بالأرض وإنسانها الذي بغير الحب والشعر والإيمان بذاته لا يمكن أن يخرج من جحيم الهزيمة.
جوزف حرب: إلى اللقاء، أيها الذي سافر بغير وداع.
تاريخ المقال: 11-02-2014 02:05 AM
كان في قامة جوزف حرب الممشوقة وفي أناقته وفي طوله الذي يغلف "أنا" وحيدة منتحية متمحورة حول نفسها، ما يبعد به قليلاً أو كثيراً عن مكان هو فيه وما يجعل منه ضيفاً في الأرض وزائراً سرياً وكائنا نصفه في الضباب والظل. كان في ذلك نموذجاً للشاعر الذي لا يخرجه من الغيم إلا كلمته التي هي مثله نصفها وضوح ونصفها سراب. الشاعر الذي سقط من كوكب آخر وهو يجاهد ليبني عشه في أرض أخرى، يجاهد ليتوطن، يغرس أشجاراً ليغرس نفسه فيها، ينصب دوراً ليبقى راكزاً مثلها، لكن الغريب الذي نسي أين وُلد ومن أي عالم جاء، لا يفعل سوى أن تترقرق نفسه حنيناً إلى مهد نسيه وطلل يتركه وأثر لم يتركه في الطين ولم يتركه في الحبر ولم يتركه في القدح، انه يتبنى طفولته التي تركت أثراً في الحيطان والشتول والبرك والأعشاش والأشجار المسكونة بالشحارير. يتبنى طفولته ويتابع الركض فيها ويعيدها برموز أثقل وأكبر وبصور أكثر سيولة وبطرق أوعر. انه أخو الغيم تسود المطر الذي يهطل والسماء التي تغيم والروابي التي تسود والجبال التي تغور والغابات التي تتحبّر، كل ذلك سقط من جيوبه ومن نوافذه وأمطرته طفولته العائدة، لكن دائماً اقصر ودائماً أسرع ودائماً أكثر وحشة ودائماً أكثر ظلمة ودائماً مسكونة بعيون متحجرة ومناقير مبرية تطل من داخل الليل الذي لن يطول أمده، الليل الذي يقع في البئر ولا ينشله أحد.
الشاعر، نموذج الشاعر وقامة الشاعر، الهائم يشتري بالأحلام أحلاماً أقل. يكسب بالأغاني أغاني اقصر، يقول ويكره نفسه لأنه قال. يحب الى ان يزرّر الحب قلبه وفمه، يحب إلى أن تمتلئ رئتاه ماء، يحب إلى ألا يحب، إلى أن يغدو الحب عملة باطلة، إلى ان يشتري بالحب أقراصا للنوم. الشاعر الذي لا يجد ما يبيعه سوى قلبه، الذي يعير قلبه للصيادين. الذي يراشق بالكلمات التي لا تصيب ولا تغدو حجارة، الذي يؤاخي الطير والشجر والنجوم لكنها تهاجر وتتركه ينعى نفسه. الشاعر الذي كلمته الأخيرة هي الحجر الذي جثم على صدره، كلمته الأخيرة هي ان يغص بماء صدره. كلمته الأخيرة ألا تكون هناك كلمة أخيرة، انه يترك لنا وللأجيال أن نجد الخاتمة.
رحل جوزف حرب. هذه الصفحة تحية اتليه. شعراء من غير بلد وغير أسلوب وغير جيل يودعونه
تاريخ المقال: 11-02-2014 02:05 AM
في سنة من أوائل ثمانينيات القرن الماضي، تسلَّم أمر الإذاعة اللبنانية مَن أراد أن ينهض بها، إنه على ما أذكر مستشار الرئيس رفيق الحريري الأستاذ داود الصايغ. وكان الشاعر جوزيف حرب ناشطاً في الإذاعة في تلك الأيام، فعمل إلى جانب الصايغ في عملية دفع الإذاعة إلى الأمام. وأبرز ما قام به جوزيف في هذا المجال هو استدعاؤنا أنا ومجموعة من الشعراء والكتّاب، لكتابة برامج للإذاعة. وما إن وافقنا على ذلك، وشرعنا في العمل حتى وجدنا أنفسنا وسط جوٍّ أسطوري من الترف الذي لم نعتد عليه. فقد كان جوزيف حرب ـ وبكرم أهوج ـ يدعونا باستمرار (وربما يومياً) إلى أفخر مائدة عشاء في بيته، تحتوي على أفخر طعام وأفخر شراب. لا أظن انه كان يملك مالاً كثيراً، ولكنه كان يملك على الأرجح أضعاف ما نملك، وكان ينثر هذا الذي يملكه يميناً وشمالاً، وظل كذلك على طول معرفتي به.
أما الإذاعة، فقد كتبت لها مسلسلين مسرحيين، عن حياة جبران خليل جبران، والعالِم والمخترع اللبناني حسن كامل الصباح، وعندما قصّرت في تسليم آخر عشر حلقات من مسلسل جبران، وطلبت خمسة عشر يوماً إضافياً للعمل، استلّ جوزيف حرب قلمه وكتب الحلقات العشر في ما يقل عن ثلاثة أيام وأهداها لي! وهذا أيضاً ضرب من ضروب كرمه الجميل.
وفي جلساتنا المنفردة في تلك الأيام، ولم يكن قد نشر عملاً شعرياً بعد، كان يحدّثني عن ديوان ضخم ومهم له، وعندما أسأله عن موعد نشره، كان يقول لي إنه لم يكتبه بعد أو انه بصدد كتابته! ولم أكن لأحمل ذلك على محمل الجد. وكلما نسيت موضوع هذا الكتاب المفترض، كان جوزيف حرب يذكرني به باستمرار ونحن نقرع ونكرع كؤوس الويسكي في بيته في قلب منطقة الحمرا.. ثم تمر الأيام، وتنقطع لقاءاتنا، ثم لا تلبث أن تتوقف، شأنها في ذلك شأن كثير من العلاقات التي مزّقتها الأحداث العنيفة المتلاحقة، لأفاجأ بعد سنوات بصدور ديوان جوزيف حرب الأول "شجرة الاكاسيا". ثم يندفع في الكتابة كالسيل فيفاجئني بغزارته وتدفقه وبشاعريته الفذّة والمتميّزة. وفي كونه أبرع شاعر لبناني، إن لم أقل أبرع شاعر عربي، في العمل على التفعيلات الصعبة لبعض بحور الشعر العربي، لا يجاريه في ذلك، على ما أذكر سوى الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور.
إذا استثنينا نصوص أغانيه لفيروز، فيمكن القول إن جوزيف حرب نزل إلى ميدان الشعر متأخراً، ولعلّه، وبدافع التعويض عمّا فات، قصد إلى أن تكون دواوينه ضخمة الحجم، وهو قصد لا يخلو من تحدٍّ، ولو على صعيد الكمّ لأولئك الذين ركضوا وسبقوه. لكن التحدي الأكبر كان في نزوعه الدائم إلى ان يكون عميقاً وإنسانياً في ما يكتب، وتذهب هذه النزعة لديه إلى حدّ التحول إلى نزعة دينية تبشيرية، فلا أحد ممن أعرف من الشعراء لديه هذا العطف الصادق على الإنسان المقهور والمعذّب، هنا وفي أي مكان آخر في العالم.
لقد بدأت علاقتي بجوزيف حرب حول مائدة فخمة، وآخر لقاء لنا كان حول مائدة فخمة أيضاً في فندق "الفينيسيا" في بيروت، حيث كان علينا أن نتسلّم أنا وهو والشاعر محمد علي شمس الدين والكاتبة الهام منصور وآخرون، جائزة الأدب اللبناني في احتفال أقيم هناك.
لا أذكر كلمة واحدة مما تحدثنا به في ذلك اللقاء، ولا بد أن نكون قد اتفقنا على أن نلتقي مجدداً فلا يمكن أن نكون قد افترقنا من دون الاتفاق على لقاء مقبل، ولا بد أن نكون قد اتفقنا على اللقاء في بيته الفخم في بلدته المعمرية في شرق صيدا (حيث هجّر بيروت للإقامة هناك)، وإلا فما سرّ هذا الإحساس بالندم الذي أشعر به الآن لأنني أجلت أكثر من مرة مشروع ذهابي إلى هناك؟
الجميل النبيل اللطيف المحب الشاعر جوزف حرب سيترك فراغاً كبيراً في أدبنا وفي حياتنا.
تاريخ المقال: 11-02-2014 02:05 AM
لم يكن في حسبان هذا الصباح أن يحمل إلينا خبر رحيل جوزف حرب. ذلك أن الاحتمالات الكثيرة للموت لم تكن قد وضعت شاعر «شجرة الأكاسيا» في جدول أولوياتها. كنا نترقب بالكثير من الحذر والخوف موعد السيارة التالية التي ستنفجر في مكان ما من أمكنة بيروت وضاحيتها التي باتت شبيهة بالقلعة. وكنا نعرف أن جوزف مصاب بمرض غامض، آثر كعادته أن يُبقيه طي الكتمان. ومع ذلك فلم يخطر في بال أحد أن خبر رحيله سيكون العلامة الأكثر قتامة وإثارة للأسى في هذا الصباح المشمس. ليس لأن الشعراء لا يموتون كغيرهم من خلق الله، بل لأن الشاعر الذي تتردّد لفظة الموت كثيراً بين ثنايا نصوصه كان يحسب دائماً أن نقل الموت إلى اللغة تحوّله إلى حالة جمالية مجردة وتبعده عن الحضور الواقعي المباشر. كأنه كان يضلل الموت بوضعه في خانة الرمز، تماماً كما يفعل المصارعون بالقماشة الحمراء على حلبات الصراع مع الثيران.
إضافة إلى كل ذلك لم يكن جوزف حرب يهيئ لحياة بهذا القِصر.
كان يتعامل مع الحياة وكأنه سيعيشها أبداً. وسواء التهمها دفعة واحدة أو ضغضغها على مهل فقد كانت ربيبة جسده وروحه ولغته وقصائده. ولولا حبه لها لما بنى في قريته «المعمرية»، وفي منتصف الستينيات من عمره، ذلك القصر الباذخ الذي انتقم من خلاله من الصورة النمطية لعوز الشعراء وفقرهم المدقع. ولما زرع أزهاراً وحدائق وأشجاراً معمرة كان يريد من خلالها أن يقنع الموت بتركه وشأنه لأن انهماكه بتربية أشجاره لا يترك له الوقت الكافي للإنصات إلى موسيقى العدم.
لم يكن لدى جوزف دقيقة يضيّعها. فمنذ البدء تراءت له الحياة أقصر مما يجب. لذلك لم نكن لنراه في مطعم أو مقهى أو حانة. ولم نكن نلمحه على رصيف أو ناصية شارع أو شاشة تلفاز، رغم أنه كتب للإذاعة والتلفزيون الكثير من البرامج والأعمال اللافتة. كانت الحياة عنده مثلثاً ذهبياً تحتلّ القراءة ضلعه الأول والكتابة ضلعه الثاني، فيما يتم تقاسم ضلعه الثالث بين موجبات الصداقة والشغف بأطايب العيش والوله الصوفي بالأنوثة. لكن تبرمه بالاستعراضية وحب الظهور جعلاه أقرب إلى التنسك والزهد منه إلى أي شيء آخر. فقد كان يخلد إلى عزلته شهوراً طوالاً قبل أن يطل عبر أمسية أو مهرجان شعري أو مناسبة اجتماعية. ربما كان يعرف أن جوهره الحقيقي متمثل بالقصيدة ولغة المجاز الأدبي ولذلك فقد دفع بأعماله الشعرية الكثيرة والغزيرة إلى الواجهة، واختبأ في صومعته في الحمراء لكي يضيف المسافة بين ألق الكتابة وكاريزما الحضور الشخصي. وكان طوله الفارع وصوته الرجولي على بحّة مثخنة بالشجن، إضافة إلى وقفته الواثقة وإلقائه المسرحي المتمكّن، يجعلان منه في المهرجانات الحاشدة فارس المنابر الذي لا يُضاهى.
حتى ثمانينيات القرن الفائت لم يكن صاحب «مملكة الخبز والورد» قد أصدر أية مجموعة شعرية رغم أن عمره كان قد شارف على الأربعين آنذاك. كان شعره يصل إلينا عبر صوت فيروز وحده، ولم يكن ذلك على أي حال بالأمر القليل. إذ أن كل نص يلامسه ذلك الصوت كان يتحوّل إلى ذهب خالص، فكيف إذا كان النص موشّى بذهب أيلول وورقه الأصفر، أو مغسولاً بصباحات بيروت، أو طالعاً من ثقوب الأبواب المقفلة على أحزانها، أو مرهقاً بثقل الأسماء التي يحملها الناس، أو مشغولاً بقلوب الجنوبيين التي تحارب، بنبضها المتسارع، وحيدة ضد وحوش العالم وبرابرته الجدد.
وكحياته تماماً، لم يكن جوزف ليقف في المكان الوسط من الخيارات. إذا كانت قصيدته تتسع لتملأ آلاف الصفحات كما في معلقته «المحبرة» الأكثر طولاً في الشعر العربي، أو تضيف من ناحية أخرى لتكتفي ببضعة أسطر. صحيح أننا كنا نأخذ عليه، أحياناً، غزارة فائضة وجيشاناً للغة لم يعمل على لجمه وترويضه، ولكن الصحيح أيضاً أنه كان يملك مخيلة برية لا تكفُّ أحصنتها عن الركض في الأماكن غير المأهولة للكلمات. والصحيح أيضاً أن شعره هو حصيلة تضافر خلاق بين ضوء الشمس وطراوة الينابيع، بين الصور المباغتة والإيقاعات المتهدجة كالنايات، كما بين الاستنفار الشبق للحواس وبين الانتشاء الروحي بفرح العالم وخفة عناصره التكوينية. إنه شعر ريفي بامتياز، لا بالمعنى الرومنسي المحض للتوصيف، بل بمعنى الانبثاق الدائم لحركة الخلق والعودة المستمرة إلى كنف الطبيعة التي ترفد القصائد بكل ما تحتاجه من صور وأطياف وتجليات. على أن شاعرية جوزف حرب الأكثر اتصالاً بالكثافة والإبهار والبراعة المشهدية الخاطفة تتمثل في مقطوعاته القصيرة، حيث في نص جميل بعنوان «بدو يشربون الشاي» نقرأ له «الريح نايْ/ والبحرُ سهلٌ أزرقٌ أصفرْ/ ونوارسٌ بيضاء ظنت أن هذا الغيم/ بدوٌ في الغروب تربَّعوا/ والشمس بين أكفِّهم إبريق شايْ/. وحيث نقرأ له في ديوان «زرتك قصب فلَّيت ناي» المكتوب باللهجة المحكية «بيضلّ عن بعضو الشجر عايش بعيد/ مشتاق ناطر دمعتو الخضرا وحيدْ../ وأيلول ورقة/ والهوا ساعي بريد». وحيث يرهص الشاعر بقرب رحيله يكتب: «ما في حدا بهالبيت/ اللي بيشبه بوادي دير فاضي/ كان شمع وذاب/ تخُّو سنيني من الوقوف بهالشتي والريح/ وكتافي انمحو من جمرة كياس المسا/ وحفِّ العْتاب/ ونزْلو دموعو وما لقي/ مين اللي يمسح دمعتو هالباب».
جوزف حرب لا تغلق الباب خلفك. اتركه موارباً فحسب. فثمة كثيرون يريدون الدخول إلى المملكة التي أثثتها بحجارة الحب والشغف والكلمات. وليس المستقبل سوى واحد من زوارك الكثر.
تاريخ المقال: 11-02-2014 02:05 AM
يصوّر جوزيف حرب في قصيدة من قصائده المشهد التالي: كانوا طلاباً في الدير، وفي ليلة شتوية عاصفة يدق باب الدير دقاً عنيفاً فيقوم الطلاب مذعورين من سجنهم الأسود نحو الباب المطروق، يقول: «أسرعنا نحو الباب كسرناه/ كان وراء الباب الله».
يعود اليوم ولد السنديان الضائع إلى بيته، يدق الباب، وحين يُفتح له سيجد وجه الله في استقباله. عاش جوزيف حرب عمره وهو يبحث عن لاهوت ضائع، لكنه في غمرة هذا البحث وقلقه كان يعيش في لاهوت آخر أرضي، هو الحقيقي الذي منه انبثق الشاعر وأشعاره وإليه الآن يعود. وفي امتداد شعره الساحر الريفي ما كان يروي سوى سيرته العائلية كولد بريّ أو ولد السنديان العائد اليوم بعناصر كثيرة من الدهشة والدمع والمغامرة، لا إلى القصر الذي شيّده من حجر في أعالي بلدته المعمارية، بل إلى شجرة السنديان التي نبت على جذعها قصره الطفْليّ العجيب الآخر، ولو نفضت اليوم كُمّ جوزيف أو لمست طرف نعشه لسقطت منه بلابل وأتربة كثيرة وحقول وعصافير وأعناق صخور وأفراس ريح وقصب على امتداد الينابيع. وما كنت أراه يأتي أو يذهب إلا وهو محتشد بالبراري، بما فيها من شيح وعرعر وصفصاف وهو يدلل العصفور المزقزق المعربد فيسميه أبا نؤاس، والحمار الصامت المتأمل كفيلسوف، والديك الذي تجسدت فيه العناية الإلهية فأكله الكاهن في ما أكل من طعام.
لا يليق بجوزيف حرب سوى البرية. إن ما ينشده ليس الزمن الزراعي في الحضارة بل ما قبله، أي الزمن الأول الذي لم تمسسه سوى يد الخالق، فجاءت قصائده كأنها إجابات غنائية لطبائع الكائنات الأولى وغرائزها الصافية المقدسة، وهو أمر محكوم باللاهوت، لكنه لاهوت بشري. جوزيف حرب في الجوهري من قصائده واقف بين الرعوية والسحرية والإيقاع. لذلك لا يستطيع أن يبتعد عن طفولة اللغة وغنائيتها ودادائيتها والأقرب منها المقطوف للتو من فم الناس.
توليد عنصر سحري أو غرائبي من عدة عناصر واقعية قريبة هذا هو أساس شعره العظيم: «هناك تلميذ من الفقراء ظلّ معي ولكن أهله أخذوه عند غياب نور الشمس في سيارة تدعى الغمامة واسمه ظلي». وفي الخصوصية الرعوية السحرية نكهة من سوريال بدائي، كأن مثلاً، في المدرسة الأولى العجيبة مدرسة الطبيعة، يلقي الطيّون الشعر، ويجلس التراب في الصف الأمامي، إلى جانبه العريشة شاعرة الأرض، وخارج الصف يقف الخوخ والحور والزيتون ومياه الساقية، أما الناظر في هذه المدرسة العجيبة التي يروح ويجيء هادئاً فهو الضبابة. وهو لا يقف عند حدود أنسنة الطبيعة بل يسقط عليها الكتابة إسقاطاً شعرياً ولغوياً، ليتحول بين يديه كل شيء إلى كتاب: «الطريق ابتداءً من الألف سُنبلي بلفظة أمي إلى الياء فيها/ هنا السين سهلٌ، هنا الحاء حورٌ، هنا النون نهرٌ، هنا القاف قبّرة القمر».
حركة الشعر دائماً هكذا.. الخروج من الكهف أو الدير إلى البرية على أجنحة الشعر: «صار النحل فوق العشب همزة/.. أنا في انتظاركَ عند ميم الماء، تاء التوت، فاهرب قبل صاد الصيف». وفي هذا الهروب الدائم من الطقوس في كل شيء، في الدين والحب والمدينة، كان جوزيف حرب يعثر على إلهه في الحرية والحقول التي هي قلبه هنا، حيث الخوخ أطيب من صلاة الصبح، والرعيان أكرم من ملائكة السماء، ولا قصائد غير ما يلقي الغمام من المطر. خط هجرته هو من المدرسة إلى الطبيعة، ومن الدير إلى الله المتجلي في الكائنات، ومن هياكل البشر إلى هياكل الصخور، مع انحياز للحُب والتراب والطفولة والفقراء والحرية. وإذا كان شعر جوزيف حرب يعبق بروائح البرية وبُروق الحرية ونقاء الحُب وديمومة الطفولة، فإنه أيضاً شِعرُ سيرة ذاتية وعائلية بامتياز، يظهر ذلك في مجموعة «شيخ الغيم وعكازه الريح»، فهو يستعيد ملامح أمّه ويربطها بالطبيعة، يمنحها بهاء الأرض وبطولتها، ويبتكر بعد ذلك بطولة الأب: «فأبي الرحمة الخضراء، سرّ القمح، ريش النوم، دينار الملاك، يمامة الزيتون، جسر النحل، عملاق المسا/ بطلي». حتى كأنه يمارس طقوس عبادة بدائية للأب، فيدخله في هرم الموت والحياة، ويسكنه تابوت الوصايا.
اليوم يعود جوزيف حرب إلى فضائه البهي، كي يذوب فيه، وكي نذكره كلما طلعت نجمة في السماء، أو لثغت طفلةٌ اسمها بعينيها.
ها أنذا الآن أعيد قراءة جوزف حرب:
شعره يجري في الروح كنهر أبديّ، رقيقٌ هو، يسكن بيت الشعر كأنه يسكن بيت الوردة. يغفو في غرفة نوم الوزّال، ويصحو على إيقاع موسيقى الحور.
يزور الله على طريقته، يرافقه الموج وشربين الغابة. يدخل الليل، يناغي القنديل، يشعل الماء، يجالس الحكماء: يسافر في ديوان الغيب...
جوزف حرب لكثرة العسل المصفّى في شعره، يبدو عريساً من النحل، ولشدة ما يستمر لديه مطر الكلام، يتجلّى أميراً للغمام!.. هو سيّد القلق الجميل، لغته من ياسمين، وأحرفه مريمات!.. شكّه من مُقل لا تنام، وأضلعه أسطر نُقشت فوقها خطبة العاصفة. هذا الشاعر كان يرى أن أقسى سجونه جسده، حيث يحرسه قبره، وحيث الباب والجدران أيامه، ولا شيء سوى نافذة يلمح منها شجرات في ضباب الدمع قد فاح على أغصانها الكحليّة الدمع حمام الحسرات!.. لكَم حفرَ عميقاً في جسد الليل حتى غدا بئراً أنزل فيها دلوَ الأيام ليملأها بمياه الشمس!..
جوزف حرب انطلق من «شجرة الأكاسيا» طائراً إلى «مملكة الخبز والورد» ملكاً يحمل بقلبه «الخصر والمزمار» وراح يشذّب بـ «مقصّ الحبر» حائكاً أجمل ثوب لـ «السيدة البيضاء بشهوتها الكحلية» حاملاً حكمته إلى «شيخ الغيم وعكازه الريح» منتظراً «سنونو تحت شمس بنفسجية» ليقدّم إليه «المحبرة» المفعمة بالشعر النابض بالحس الإنساني العميق، فلا يكون أمامها إلا أن تصرخ: «طالع ع بالي فلّ» إلى «رخام الماء» حيث كل شيء ينزلق إلى الأجمل، هناك امرأة من وزّال وبنفسج وحور ولوز، تتنفّس حُباً وشغفاً ولكن في حمّى البعد حيث تعبّر عن حسرتها: «كلّك عندي إلا أنت»، فلا يكون أمام الشاعر إلا أن يبادلها الحب والحنين إذ «يزورها قصباً فيرجع ناياً» ليعزف على إيقاع يومياته الحزينة النبيلة «أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها». وهل أجمل من أن يبقى شاعر مثل جوزف حرب على هذه الأرض ليقدّم لها «دواة المسك» فتعطّر يديها وتأخذه إلى حضنها متعاهدين على البقاء عشيقين أبديين، هو يكتب وهي تقرأ؟!
أخي وتوأم روحي جوزف حرب: سأظل أراك في العشبة والعصفورة وسنبلة القمح وزرقة الماء!.. يا عاصر الشمس المعتّقة التي نبيذها الغروب، ويا حبر حكايا الموج، وصانع مقل الرؤيا، ألست أنت السائل أيهما كان أجدى؟! مجيئي أو ليتني لم أجئ؟! ولكنني سأموت أخيراً، فأيّهما كان أجدى؟ مجيء يرافقه موته؟! أم مجيء بغير ضريح؟!
أخي وصديقي جوزف رغم هدوء المجاذيف فيك، ورغم أنك محوت المدى، سيبقى رسولك إلى الليل قنديل روحك.
يا صاحب القامة الإبداعية الوطنية الشامخة، نحن في انتظارك.
عُد إلينا.. عُد إليك!..
تاريخ المقال: 11-02-2014 02:05 AM
تلقيّنا في الأردن خبر رحيل الشاعر جوزف حرب، بمزيد من الألم والحسرة، فهذا الشاعر الكبير الذي زار الأردن مراراً، وقرأ قصائده في مهرجانات جرش وعمّان والفحيص، يُعَدّ واحداً مهمّاً من عشّاق الجمهور الأردني، الذي فُتِنَ بشعره وأحبّه. ليس هذا فحسب، فجوزف حرب هو من ذلك الطراز الرفيع من الشّعراء، الذي كان يجمع في شخصيّته، بين الشعرية العالية ورهافة الروح الإنسانية النبيلة. بالإضافة إلى ذلك كلّه، فهو واحدٌ من تلك الثّلّة من الشعراء المخلصين للشعر، أولئك الذين حدبوا على قصيدتهم، وقطّروها، حتى كانت على ما هي عليه من جماليات مدهشة وحضور لافت.
عدّد جوزف حرب في الموضوعات التي كتبها في شعره، فكان يكتب في القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، وفي الوقت نفسه في القضايا الذاتية والوجودية. لقد كتب في كلّ تلك القضايا بمثابرة، وحسّ شعريٍّ عالٍ. أجمل ما كتب جوزف كان في الحب، فقد ابتكر هنا قصيدة الأعماق، تلك القصيدة الفائضة بالأحلام والأحاسيس، وقد فعلت قصيدة الحب لدى جوزف فعلها لدى القرّاء والمشاهدين، حين غنّت العظيمة فيروز عدداً كبيراً من قصائده العاطفية، فكانت سبباً في سعادة أجيال من العشّاق في العالم العربي.
مما يلفت النّظر أيضاً في تجربة هذا الشاعر الكبير، هو هذا التّنقّل الحاذق في كتابته الشعرية، بين اللهجتين العربية الفصيحة والعاميّة اللبنانية، إذ استطاع بمهارة فائقة أن يزاوج بينهما، ويزجّ بهما، في تيّار الشعرية المتدفّق. مثل هذا الأمر يمكن أن يشكّل صعوبة للشعراء الذين يكتبون هذين النوعين من الشعر، بحيث نرى في حالات كثيرة طغيان نوع شعري على آخر، لكنّ جوزف كتبهما بالسوية والشاعرية نفسها.
لعلّ الجنوب اللبناني الذي نشأ فيه الشاعر وترعرع، حيث الطبيعة الساحرة وجرابها العظيم المحتشد بالألوان والأزهار والنجوم والغيوم، كان سبباً واضحاً في تلك المشهدية الأخّاذة التي تَسِمُ شعره. عمل جوزف في كتابة القصيدة، كان شبيهاً بعمل الفنان التشكيلي، حيث نلاحظ في قصيدة جوزف الألوان والخطوط والمشهد العام الذي يتشكّل في اللوحة القصيدة، عن شغفه بالجنوب، وصلته الروحية به يقول جوزف: "أتحدّرُ من شجرٍ شرسٍ، وصخورٍ غامقةٍ، وينابيعَ كمهرٍ برّيٍّ، من أينَ إذن جاءَ سنونو الحقلِ وأصبحَ كفّيَّ؟ ومرَّ ندى الأعشابِ وصار دموعي؟ من أينَ أتت أديرة النّسّاكِ إليّ؟ وكان ضباب الوديانِ بخوري؟ وأصابعُ زيتون الليلِ شموعي؟".
(عمان)
السفير -11-2-12014
منذ أربع سنوات ونيّف، قرَّر جوزف حرب التحرر من الوقت والاعتكاف في صومعة النَّظم. غادر بيروت وصخبها، وركَن داخل قصره الجنوبي، على أعلى تلّة مطلة على البحر والساحل القريب من صيدا، في بلدته المعمرية. هناك يقيم شاعرنا في الظلّ واللغة، يمارس طقوس «مقارعة الموت» بالقصيدة والكلمة. «أتصور أن أيّ وجود مع الآخرين اليوم، خارج مفهوم الوظيفة، هو نوع من تضييع الوقت»، يقول. كان نصيب ابن العائلة المرتحلة دوماً خلف الوالد الدركي، أن يولد في الناقورة، هناك، على طرف الساحل اللبناني لجهة فلسطين. ويوم أقام في البترون عام 1951، سجّل الوالد جوزف في مدرسة داخلية عند «راهبات القلبين الأقدسين» في جبيل. وكان نصيبه أن يكون الصبيَّ الوحيد في المدرسة، فصار يخدم الخوري في قداس المساء، ويقرأ الرسائل. من هنا نمت علاقته مع اللغة والطقس الكنسي. من ذلك الدير، شاهد البحر للمرة الأولى، ارتعب منه، ثمّ أُغرم به. أمّا في صيف «الضيعة»، فـ«كانت الأحصنة قصباً، وكانت علب السردين سيارات ركّابها من تراب أو بحص... وكانت الدابّة نوعاً من الأحلام، كأنها سيارة «كاديلاك» أو «رولز رويس»؛ «نركب على الدابّة ونروح في كروم الزيتون، ونشعر أنَّ بقاءَنا على ظهرها هو أجمل ما قدَّمته لنا هذه الحياة». حطّت العائلة رحالها في برج البراجنة حيث أكمل حرب دراسته التكميلية والثانويّة في «المعهد الأنطوني» عام 1959. في بيروت، ارتبط بأرصفة ساحة البرج، ومنها اشترى كتباً جعلها نواة مكتبته الخاصة. هناك أيضاً، شاهد السينما للمرة الأولى وخاف أن تصيبه رصاصة أحد «الكاوبوي» في فيلم ويسترن. بداياته في الكتابة سببت مواجهة بينه وبين والده. إذ كان يمزِّق له كل ما يكتب، فتجمع والدته نتف الورق في كيس وتخبئه في خزانتها. في العشرين من عمره، أعطى دروس لغة للراهبات الأنطونيات في الدكوانة، وفي السنة التالية، صار يعلّم الصفوف التكميلية في مدرستهم وفي مدرسة ثانية وثالثة وتسجّل في كليتي الحقوق والآداب، عام 1964. التقى في بيروت أستاذه في البترون، ميشال سليمان، وكان الأخير على علاقة طيبة بالمفكر الشيخ عبد الله العلايلي وبالروائي والصحافي رئيف خوري، فعرّفه إليهما. استأجر مكتب محاماة إلى جانب مكتب خوري، «ودخلت في جو مجموعة من الأدباء، لأنّ خوري كان قطباً، يستقطب مجموعة كبيرة من المفكرين». سُجِنَ والده ظلماً بعدما رفض تنفيذ قرار رؤسائه بمعاقبة قرية بأكملها على جريمة ارتكبها أحدهم. ومرضت أمه التي كانت تنتظر ساعات بوسطة تقلّها إلى البترون، بعد زيارة طبيبها في ساحة البرج... وهو مال إلى اليسار. «تعلقتُ بالماركسية بعدما قرأتها. أنا ماركسي، وبطبيعة الأمر، لا أحب الإنتماء إلى حزب، لأن الحزب لسان طويل، والشاعر جوانح طويلة، وهناك فرق شاسع بين الحالتين». في الستينيات، طبع باكورته النثريّة «عذارى الهياكل» (1960)، ودخل لاحقاً «الإذاعة اللبنانية» حيث قدم بصوته برنامج «مع الغروب» (1966) وكتب قصائد كلاسيكية «عملية»، ألقتها ناهدة فضل الدجاني بصوتها في برنامج «مع الصباح». برأيه «الزمن الإبداعي غير الزمن العادي. في الزمن العادي تتعرف إلى امرأة الآن، لكنّ قصيدتها قد لا تخرج إلا بعد ثلاثين سنة... ليست العلاقة ما ينتج القصيدة. في الزمن الداخلي هناك اختمار في اللاوعي للأشياء، لا يمكنك أن تقرره بإرادتك. قد يكون تكتبه اليوم نصاً إبداعياً لزمن آخر... هناك أسئلة عن الفن والإبداع لم تتوافر أجوبة عليها، لدرجة أن غباء بعض النقاد أو المتطفلين على النقد، يحمّسهم ليضعوا نظريات، حسب تجاربهم هم». مع اندلاع الحرب الأهليّة، ترك بيته في ضبيّة إثر محاولة اغتيال أدّت إلى إحراق مكتبته. في تلك المكتبة جمع آلاف الكتب والمجلدات ومخطوطات مثل «المجدلية» بخط سعيد عقل وقصائد بخط أحمد شوقي والأخطل الصغير وحافظ إبراهيم، ونحو 82 نصاً مشابهاً، فضلاً عن القسم الإسلامي والقسم اللاهوتي وقسم التراث... كان ذلك يوماً واحداً من أيام الحرب السوداء التي تعرّض خلالها جوزف حرب لأكثر من محاولة خطف وقتل واعتقال. «أهمّ محرّك لكلّ شيء هو هاجس الموت، عندي إحساس بأنه لم يبقَ لي وقت؛ منذ كنت طفلاً وهذا الإحساس يتملكني»، يقول. التقى زياد الرحباني في «الإذاعة اللبنانية» عام 1976، وتعرَّف إلى فيروز من خلال ابنها. كان لقاؤه الغنائي الأول مع «الستّ» من خلال أغنية «حبيتك تَ نسيت النوم». حينها، كان «الأخوين رحباني» قد طلبا من زياد تلحين ستّ أغنيات لبرنامج يعرضانه في الأردن، فاشترط أن تكون كلُّها من شعر جوزف حرب، كانت هذه البداية، فغنَّت فيروز أكثر من ست عشرة أغنية من كلماته منها: «زعلي طوّل»، «أسوارة العروس»، «لبيروت»، «لما ع الباب»، «يا ريت منن»، «فيكن تنسوا»، «طلعلي البكي»، «أسامينا»... يقول: «مرّ وقت طويل من دون أن ألتقي زياد، وأنا مشتاق إليه فعلاً... زياد ساهم في إنقاذ أرواحنا كلّنا، بالمسرح والموسيقى. أعطانا شيئاً من التوازن والقدرة على الاحتمال». طبع ديوانه الأول «شجرة الأكاسيا» بتشجيع من «دار الفارابي» عام 1986، وكتب لاحقاً للتلفزيون مسلسلات منها «رماد وملح» لهيثم حقّي و«أوراق الزمن المرّ» لنجدة إسماعيل أنزور... «زرتك قصب، فلّيت ناي» عنوان ديوانه المحكيّ الأخير الذي يصدر قريباً عن «دار الريّس». الشاعر الذي انتخب بين 1998 و2004 رئيساً لـ«اتحاد الكتّاب اللبنانيين»، يرى في الكتابة «حالة صَلب... لا تعرف كيف ينزلونك عن هذا الصليب ومتى، وكيف ستكون ساعتئذ؛ مرّات كثيرة تدخل إلى السرير وتقول هذه آخر ليلة، خلص؛ لن أعي ثانية». 5 تواريخ 1944 الولادة في المعمرية (جنوب لبنان) 1984 غنت فيروز «أسوارة العروس» تحية إلى الجنوب المحاصر بالنار الإسرائيلية 1986 صدر ديوانه الشعري الأول «شجرة الأكاسيا» عن «دار الفارابي» 2006 صدر له «المحبرة» أكبر ديوان في التراث العربي من 1750 صفحة عن «دار الريّس» 2009 يطبع ديوانين، واحد بالفصحى «أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها»؛ وآخر بالمحكية «زرتك قصب فلّيت ناي»؛ يصدران قريباً عن «دار الريّس»
الاخبار
تاريخ المقال: 10-02-2014 11:07 AM
"إذا كان هناك هجرة إلى وطن الرحابنة فأنا أول من يقدّم طلباً للهجرة إلى هذا الوطن"، قال الشاعر جوزيف حرب لصحيفة "الثورة" السورية في 15 حزيران 1995. واليوم، هاجر جوزيف ليلتحق بالأخوين الرحباني. غادر شاعر "المحبرة" تاركاً صوت فيروز الذي عشقه "من دون كلام" ليلتحق بعاصي الذي "لا عظمة في تاريخ لبنان توازي عظمته"، حسب قوله.
غادر شاعر "إسوارة العروس"، "زعلي طوّل"، "ورقو الأصفر"، "البواب"، "خليك بالبيت"، "لما عالباب"، "أسامينا"، "لبيروت"، "حبيتك تنسيت النوم"، "طلعلي البكي"، يا ريت منّن" ليتركنا مع عشرات الأغنيات "المشغولة بالذهب" بصوت فيروز الأنقى من الذهب.
"عشت، وعرفت. حزنت، وفرحت، وكبرت. وهلق ي هالدفّي، انغمسي بموج الليل. بيكفّي. زهقت من هالكون، زهقت من هالكلّ، وطالع ع بالي فِل". "طالع ع بالي فل" كتب جوزيف يوماً ولكنه هذه المرة "فلّ عنجد".
سيرة ذاتية: جوزف حرب
- لبناني.
- من مواليد الناقورة العام 1943.
- والده: مارون، ووالدته: سنيّة.
- تلقّى دروسه الابتدائية في مدرسة راهبات القلبين الأقدسين في جبيل، والتكميلية والثانوية في المعهد الأنطوني والثانوية الجديدة في الحدث.
- مجاز في الحقوق والأدب العربي من الجامعة اللبنانية.
- درّس مادة الأدب العربي والفلسفة في العديد من المدارس والمعاهد الليلية والنهارية لمدّة 11 سنة.
- توقف عن التدريس، وانصرف إلى كتابة الشعر والبرامج الإذاعية والمسلسلات التلفزيونية.
- انتخب في 1997/12/11 رئيساً لإتحاد الكتاب اللبنانيين.
- غادر بيروت وصخبها منذ أكثر من خمس سنوات، وأقام في المعمرية (قضاء الزهراني) مسقط رأس والده وهو يمتلك منزلاً على أعلى تلة فيها يطل منها على البحر والساحل القريب من صيدا.
- له العديد من الدواوين الشعرية والكتب المدرسية أبرزها:
* المرجع في دراسة النصوص الأدبية (لطلاب البكالوريا).
- له في الشعر عدّة دواوين منها:
* شجرة الآكاسيا.
* مملكة الخبز والورد.
* الخصر والمزمار.
* مقص الحبر (بالمحكية).
- وله في النثر الفني عدّة أعمال منها:
* حقول اللوز.
* قناديل شعبية.
* أسفار.
* شبابيك.
- غنّت له فيروز مجموعة أغان وقصائد وتراتيل مثل: إسوارة العروس، زعلي طوّل، ورقو الأصفر، راح نبقى سوا، خليك بالبيت، لما عالباب، أسأمينا ، لبيروت، بليل وشتي وغيرها.
- لحَّن وغنّى له مارسيل خليفة: "غني قليلاً يا عصافير" و"انهض وناضل".
- لحَّن له رياض السنباطي: "بيني وبينك" و"أصابعي".
- مارس الصحافة لفترة في مجلة "الحوادث" اللبنانية.
- له ما لا يقل عن 200 برنامج إذاعي في الإذاعات العربية (قطر، البحرين، الإمارات، الكويت).
- كتب وأعدّ للإذاعة اللبنانية عدداً من البرامج استمرّت ما يزيد على العشر سنوات، مثل: "مع الغروب" و"مع الصباح" و"دفاتر الأيام" و"كلمات لهذا الزمن".
- كتب مسلسل "امرؤ القيس" لتلفزيون لبنان، وقد لعب دور البطولة فيه عبد الحميد مجذوب، كما كتب مسلسل "أواخر الأيام"، ومسلسل "قالت العرب" الذي اشترك فيه عدد من الممثلين العرب.
- كان له برنامج على "سن الرمح" في إذاعة "صوت الشعب".
- له مسلسل "أوراق الزمن المرّ" الذي لعب أدوار البطولة فيه الفنانون: منى واصف، أنطوان كرباج، جوليا، عمّار شلق.
- وله مسلسل "قناديل شعبية" (كتبه لتلفزيون الإمارات).
- ألّف وكتب مسلسل "رماد وملح" (34 حلقة) بطولة نضال الأشقر، أنطوان كرباج، عمّار شلق، دينا عازار.
قيل فيه:
- إثر صدور ديوانه "أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها" كتب عنه الشاعر محمد علي شمس الدين قائلاً:
"إن ثمة انفجاراً شعرياً، على غرار أي انفجار كوني، حصل في صدر جوزيف حرب فأعطى على امتداد ثلاثة وعشرين عاماً ثلاثة عشر ديواناً تتميز بالغزارة العالية في الكم والنوع، فإن ديواناً كديوان "المحبرة" على سبيل المثال، يزيد على خمسين وسبعمائة وألف من الصفحات، ولعله أطول ديوان شعر عربي حديث، مجموع بين دفتي كتاب واحد، لا يضاهيه في ذلك إلا كتاب "الكتاب" لأدونيس، علماً بأن "الكتاب" صدر منجَّماً في ثلاثة أجزاء، في حين أن "المحبرة" كلٌّ واحد في مجموع". (مجلة العربي، العدد 616-3/2010).
- الشاعر المصري فاروق شوشة:
"لا تفارق الموسيقى شعر جوزيف حرب ولا تجافيه. هي فيه ومعه نبض ملازم. الموسيقى بكل معانيها التي عرفها القدماء ودعا إليها المروجون للحداثة. موسيقى الوزن الشعري، وموسيقى الإتساق بين المفردات والتراكيب والأصوات والتجليات الروحية والنفسية". (جريدة الأهرام العدد/41726 تاريخ 4/3/2001).
- في دراسته الإيقاع والمختلف في كتاب "مملكة الخبز والورد" لجوزيف حرب، كتب الدكتور ديزيريه حبيب سقّال قائلاً:
"ومن الواضح أن هذا الشاعر، في ديوانه هذا، وفي باقي دواوينه، لا يخضع لقوة المؤتلف في الإيقاع الشعري، حتى في التغييرات الإيقاعية التي أحدثتها الحداثة الأولى في الشعر العربي، بل يذهب أبعد من التجريب، ويستنبط أشكالاً إيقاعية تلائم طبيعة تجربته الوجودية الملحمية التي يعبر عنها." صفحة /96/ من "تحية إلى جوزيف حرب" الصادر عن اتحاد الكتاب اللبنانيين.
- في كتابه "المحبرة"، عن ديوان "المحبرة" لجوزيف حرب، كتب الدكتور علي شلق:
" ذلك هو كتاب العصر، والعربية، والإنسانية، فهو كتاب لكل ما في الكون، لكل ما هو للإنسان، وحضارته، وربّه من خلال الذات المنفتحة على الكون."
السفير 10-2-2014