نوبل الآداب 2005

هارولد بينتر أن يُمنَح كاتب، أيّ كاتب، وخصوصاً إذا كان مسرحياً وشاعراً، جائزة نوبل للآداب، لأنه "يكشف المتاهات الكامنة وراء ثرثرة الحياة اليومية ويقتحم مواطن الظلم الخفية"، بحسب ما ورد في براءة الجائزة، فهذا يعني أنه يستحق الدخول الى كل مكتبة، الى كل عين، بل الى كل حياة. هارولد بينتر هو في هذا المعنى المشار إليه، الكشّاف الأنغلوسكسوني الباحث في أعماق مناجم الذات واللغة عما لا يظهر، لا أمام الرؤية العابرة والمجردة، ولا على سطح الكلمات. انحناؤه هذا، الصبور، المثابر، العنيد، والملتزم، من شأنه أن يبعث فينا شعوراً بالتواطؤ والأخوّة والعزاء. هذا البريطاني الذي يقف بصلابة مذهلة ضد سياسات بلاده والسياسة الأميركية، وخصوصاً في شأن الحرب على العراق، هو رجل ذو هوية إنسانية، ومن حقه علينا، ككاتب وإنسان، أن نحتفي به، وأن نروّج لأعماله التي تتخطى مكانها وزمانها لتصير ملك البشرية جمعاء، وملكنا نحن في وجه خاص. في هذه الصفحة، نقدّمه الى قرائنا من خلال ترجمة بعض نصوصه وأقواله، عساها تكون مندوبته الينا لكي نتعرف إليه أكثر، وتجعلنا نتوق الى المزيد.

****

أنا كاتب مسرحي أجلس وحيداً على ملعـبي
وأعيد كإلـه اختراع الـكون الـبديل

(مقـتطفات من حوارات معه)

ترجمة: سامر أبو هواش

سيد بينتر، ما أكثر ما يثير اهتمامك في الحياة؟

- إضافة إلى الكتابة، إنها القراءة. أقرأ كثيرا، وخصوصا الشعر.

لأي من الشعراء تقرأ؟

- لقد اكتشفت الكسندر بوب أخيرا. لم أقرأ له شيئاً منذ أيام المدرسة. هناك باستمرار أبيات شعرية في خاطري له ولشعراء آخرين، من أمثال دان وهوبكينز. وأحب من الشعر المعاصر لاركن وييتس وإليوت.

أما زلت تكتب الشعر؟

- كنت أكتب الكثير من الشعر قبل زمن طويل. الآن، أكتب أقل. كتبت قصيدتين خلال العامين الأخيرين. قصيدتان قصيرتان جداً، إحداهما قبل ستة أشهر، وتتكون من بضعة أبيات، وهي حول تجربتي مع مرض السرطان، لكني أذكر أني كتبت 13 مسوّدة منها قبل ان اصل الى نسختها النهائية.

كم مسوّدة تكتب عادةً قبل أن تنجز مسرحية؟

- نحو ثلاث مسودات.

على ذكر المسرح، إلى أي حد أثـــر صموئيل بيكيت، ككاتب وصديق، في تجربتك الخلاّقة؟

- أجده بالتأكيد مصدر إيحاء لي، ولا أعتقد أن هناك كاتباً يشبه صموئيل بيكيت. إنه فريد من نوعه. حين قرأت للمرة الأولى أعماله (وكانت في المناسبة روايات، وقرأتها بين 1949 و1950)، فكرت أن هذه الروايات استثنائية بالفعل، وأعني "مولوي"، "مالون يموت"، و"اللامسمّى". لكني أنا أيضاً كنت أكتب في تلك الأثناء، وكان الأمر مثيراً للاهتمام، إذ شعرت بكل بساطة بنوع من العلاقة أو الترابط مع ما يكتبه بيكيت، غير أني لا أقارن نفسي به على الإطلاق. أعتقد أن بيكيت يغرد خارج سربه. ولاحقاً حين تعرفتُ إليه وصرنا صديقين، أصبحنا مقرّبين جداً.

هارولد بينتر * وما المسرح بالنسبة اليك؟

- انه ملعبي. فيه اطلق العنان لكل ما اوتيت من جنون وهلوسة، لذا غالبا ما تكون شخصياتي غريبة على نفسها وعلى العالم، مثلي. وهذا ما يدفعني ايضا الى التمثيل في مسرحياتي. أعشق ذلك. إنها عالمي البديل الذي اصنعه على مزاجي، وبه انتقم من حدود العالم الفعلي الضيق الذي أُعطي لي. الكاتب المسرحي إله. إله يعيد اختراع الكون مع كل مسرحية جديدة. إله يجلس وحيدا مع نفسه ويفكّر: من سأخلق اليوم وماذا سأفعل بتلك المخلوقات؟ اني عاجز عن تفسير شخصياتي وعلاقتي بها، مثلما انا عاجز عن تفسير علاقتي بالمسرح، لأنها أمور تتخطى الشروح المنطقية.

هارولد بينتر * ولكن كثيرا ما يقال إن مسرحك صعب للغاية.

- فعلا، هذا ما يردده النقاد، ورغم ذلك يتلقى الحضور أعمالي ويفهمونها بسهولة مدهشة وحدسية. مما لا شك فيه أن بعض كتاباتي غير قابلة للاختراق، على غرار "حفلة عيد المولد" مثلا، لكنها صعبة فقط من حيث أنها لا تتيح دائما للمشاهد او القارىء استنتاج موضوعها في شكل تلقائي. مسرحياتي لا تأتي مجهّزة برسائل بسيطة وبحلول واضحة، بل هي تتيح للمتلقي امتياز ان يقرر بنفسه ما المقصود منها. ولهذا، المقصود طبعا الف معنى ومعنى.

هارولد بينتر * في العودة إلى تجربتك مع مرض السرطان، حين يمر الانسان بتجربة كهذه، غالباً ما يفكر بالزمن وبما هو طارئ وبما هو ملحّ. أنت معروف بطاقتك الكبيرة، فهل وجدت أنك تحتاج الى التركيز على بعض الأعمال أكثر من سواها؟ لنقل التركيز على السياسة مثلا بدلاً من الكتابة، أو على الشعر بدلاً من المسرح أو النثر؟

- أظن أن الأمر الوحيد الذي شغلني في تلك اللحظة هو أن أحيا. أن أصمد. أن أبقى هنا. كان هذا همّي الأساسي. وهذا يقود إلى حقائق بسيطة. كيف نستعمل طاقتنا، وننمّيها تدريجا، ثم نصرّفها. كما قلت للتو، كتبت قصيدة واحدة عن السرطان. لذا تصدمني الكلمات أحياناً، حين أراها على الورقة، حتى حين تكون كلمات قليلة. انها متعة رائعة. العمل القليل الكلمات لا يقل أهمية بالنسبة إليّ عن العمل الكبير.

هارولد بينتر * فعلا، غالباً ما تتحدث عن المتعة التي تعيشها أثناء كتابة قصيدة، ومن الواضح أنك لطالما كنت شغوفاً باللغة. في هذه الأيام يبدو استعمال الكلمات في لغة الحروب اعتداء على اللغة وعلى المعنى، فهلا تجعلنا نتشارك أفكارك حول هذا الأمر؟

- التعبير المفضل عندي بين تلك التعبيرات الحربية هو: "الشعب الذي يعشق الحرية". حين أسمع بوش يقول "باسم كل عشاق الحرية"، ويتابع: "سنمضي قدماً في حربنا على الإرهاب" وما إلى ذلك... أتساءل كيف تبدو أشكال "كارهي الحرية" يا ترى؟ أنا شخصياً لم ألتق هذا النوع من البشر، ولا أستطيع تخيلهم حتى. بكلمات أخرى، كلام بوش هو قمامة، نوع من البلاغة الإنشائية الشائعة في ما نسمّيه بـ "العالم الغربي". إنها تطالعنا كل يوم من أيام الأسبوع اللعين. وحكومتنا تستعمل هذه اللغة طوال الوقت، من دون أن تفكّر بجدية وبدقة في ما تتحدث عنه. قصف العراق كان عملاً إجرامياً، عملاً إجرامياً مع سابق الإصرار والتصميم. وأظن أن ما يتحدث عنه سياسيّونا استثنائي، في مدى جمعه بين النفاق الأصلي وعدم فهم اللغة في آن واحد، أو تحريف اللغة والاعتداء عليها، وهو في ذاته أمر مدمر للغاية، لأن اللغة تقودنا، تسيّرنا وتوجّهنا.

* لقد تعاملت الصحافة غالبا مع اقتحامك الشأن السياسي كأنه نوع من المزحة. ثمة تقليد في الحياة الثقافية البريطانية يقضي بالسخرية من كل شخص غير سياسي يتدخل في السياسة، لاسيما اذا كان ينتمي الى مجال الفنون والمسرح. كيف تتعامل مع ذلك؟

- حسناً، لا أنوي ان أبتعد ببساطة عن السياسة وأن أكتفي بكتابة مسرحياتي، مؤدياً دور الولد الشاطر. أعتزم البقاء مستقلاً ومفكراً في الشأن السياسي على طريقتي الخاصة. أستطيع أن أكون مزعجاً أكثر. وبما أني نجوت من السرطان ينبغي أن أقول إني أعتزم أن أكون مزعجاً أكثر، لأني أعتقد أنها مسؤولية كل مواطن في كل بلد أن يقول ما يفكّر فيه. وأعتقد أن ما يجري حقاً في أرجاء العالم كله هو أن أولئك الملايين من البشر الذين حُرموا أن يقولوا ما يفكرون به، لأنهم مذلولون ومضطهدون، والذين يعصف فيهم الفقر ولا يملكون فرصة للتعلم والحصول على الضمان الصحي، هؤلاء البشر الموزعين في أنحاء العالم كله، هم المقاومة المتنامية ضد الطريقة التي تعبّر فيها السلطة عن نفسها في العالمين السياسي والمالي.

هارولد بينتر * ما دليلك على ذلك؟

- دليلي؟ حسناً، دليلي بل أدلتي منتشرة في أنحاء العالم كله. على سبيل المثال، ما حدث في نيويورك كان بالتأكيد تعبيراً عن قوة عدائية عميقة ضد الولايات المتحدة، موجودة في كل العالم. ومن واجبنا أن نكافح التسلط الأميركي.

* في الحديث عن الكفاح، أنت كنت مكافحا طوال حياتك، منذ السنوات المبكرة التي واجهت فيها كفتى العصابات المعادية للسامية شرق لندن، وصولا الى نضالك الفني والاجتماعي والسياسي، أتساءل ما مصدر هذه الطاقة النضالية؟ هل يكون السبب أنك متحدر من عائلة مهاجرين من الطبقة الكادحة؟

هارولد بينتر - ليس لدي أيّ فكرة. لكني لا أعتقد ذلك حقاً، لأني نشأت في عائلة مستقرة إلى حدّ كبير. أبي وأمي ولدا في إنكلترا، في مطلع القرن الفائت، لذا فقد كانا إنكليزيين وكانا باستمرار رائعين معي وداعمين لكتاباتي. أذكر أني في الرابعة عشرة كنت أكتب قصيدة في المطبخ، وكنت واقعاً في غرام إحدى الفتيات. على أي حال مضت الليلة وكنت أكتب تلك القصيدة البكائية والدموع تنهمر على خدي، حين دخل أبي إلى المطبخ، حوالى السادسة صباحاً، لكي يستعد للذهاب إلى العمل. كان رجلاً كادحاً، خياطاً يغادر المنزل عند السادسة والنصف ويعود عند السادسة والنصف مساء. قال لي: "ما الذي تفعله؟ لماذا لست في سريرك؟". نظرت إليه وعيناي مغرورقتان بالدموع، وقلت له: "إني أكتب شيئاً"، فقال لي: "دعني أقرأ"، وقرأ القصيدة ثم قال لي: "أوه، هذا جيد، تابع...".

هارولد بينتر * من المعروف أيضاً ولعك بلعبة الكريكت: كيف يجتمع الكريكت والسياسة والمسرح معاً؟

- حياة المرء عبارة عن بيت يحتوي على حجرات عدة، وأنا أجد الكريكت لعبة "حربية" متحضرة ورائعة، كما أني أجدها مُرضية جداً على المستوى الجمالي.

* لكن، أليست أيضاً لعبة فيها الكثير من القواعد؟ بالنسبة إلى شخص يكسر القواعد مثلك، شخص يقارع النظام طوال حياته، يحيّرني كيف يمكن أن تحب هذه اللعبة؟

هارولد بينتر - أحب القواعد حين تكون لصالح الإنسانية. وأعتقد أن هناك قواعد جيدة وقواعد سيئة. قواعد الكريكت محترمة للغاية.

* أخيراً، سيد بينتر، أتحسب نفسك حكيماً؟

هارولد بينتر - لا أفكر في نفسي إطلاقاً على أني حكيم. أعتبر نفسي شخصاً يمتلك ذكاء نقدياً، وأنوي "تشغيله" على الدوام (يضحك).

****

* سيرة :

ولد هارولد بينتر في احدى ضواحي لندن في العاشر من تشرين الاول 1930. كان والده خياطاً يهودياً. بدأ كتابة القصائد في سن صغيرة لكنه بسبب ولعه بالمسرح اتجه نحو التمثيل بعد الحرب العالمية الثانية. اعتلى المسرح ممثلاً عام 1951 تحت اسم ديفيد بايرون، ونشر قصائد وكتب رواية "الاقزام" شبه البيوغرافية. في 1957، عرضت مسرحيته الاولى، "الغرفة"، في البريستول، فلفتت انتباه منتج مسرحي تكفل إنتاج مسرحيته الثانية "حفلة عيد الميلاد" في كامبريدج، اوكسفورد ومن ثم في "ليريك ثياتر" في لندن. لكنها توقفت بعد اسبوع من العرض. لقيت اعماله الراديوفونية استقبالاً افضل وخصوصاً "الم خفيف". لكن النجاح سيأتيه مع "الحارس"، "المجموعة"، "العشيق"، "حفل الشاي" و"العودة" التي ستقتبس الى السينما بعد سنوات في فيلم من اخراجه. أصيب أخيرا بمرض السرطان، وهو متزوج من الكاتبة البريطانية الليدي انتونيا فريزر منذ ما يزيد على ثلاثين عاما.
في موازاة مهنته كاتباً مسرحياً، مارس بينتر التمثيل لاسيما في المسرحيات التي كتبها. أخرج أيضاً فيلما طويلا مقتبسا من مسرحية "باتلي" لسايمن غراي. عام 1988 نشر "الاصوات المتنوعة"، وهي مجموعة قصائد ونصوص شعرية. في تشرين الثاني من عام 2000، السيناريو الذي كتبه بينتر لـ"بحثاً عن الزمن الضائع" لبروست، بطلب من جوزف لوزي في مشروع ولم ير النور، اقتبس الى المسرح تحت عنوان "ذكرى الاشياء الاخيرة". من اعمال هارولد بينتر نذكر "الغرفة"، "حفلة عيد الميلاد"، "الساقي الابكم"، "الم خفيف"، "التوأم"، "الحارس"، "الاسود والابيض"، "مشكلة في الاعمال"، "ليلة في الخارج"، "آخر من يرحل"، "طلب بالتوقف"، "عرض خاص"، "مدرسة ليلية"، "الاقزام"، "الحارس"، "آكل القرع"، "الخادم"، "المجموعة"، "العشيق"، "حفلة الشاي"، "انها مشكلتك"، "هذا كل شيء"، "مقابلة"، "العودة"، "القبو"، "الحادث"، "مشهد طبيعي"، "الصمت"، "ليلة السكيتش"، "العودة"، "الازمنة القديمة"، "مونولوغ"، "نو مانز لاند"، "الخيانة"، "اصوات عائلية"، "محطة فيكتوريا"، "واحد من اجل الطريق"، "جبل اللغة"، "نظام العالم الجديد"، "وقت الاحتفال"، "ضوء القمر"، "من رماد الى رماد"، "احتفال"...

*******************

كلمات:

  • احيانا، عندما اكتب قصيدة، أكون غير واع تقريبا لما اقوم به، وتتقدم الكلمات بمعزل عني، وفق قانونها الخاص، كما لو أني محض وسيط بينها وبين الورق.
  • ليس ثمة حدود واضحة بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، ولا بين ما هو أصيل وما هو مزيّف. ليس الشيء في الضرورة إما حقيقياً وإما مزيّفاً. هو يمكن أن يكون الاثنين في آن واحد.
  • أعتقد ان طريقة الانسانية في استخدام اللغة هي التي أوقعتها في مآزقها العظمى.
  • قوانيننا وحشية وكلبية، وليس لأي منها علاقة بالطموحات الديموقراطية. كلها تهدف فقط الى ترسيخ سلطة الدولة.
  • ما تريدونه من كتابتي ليس تعبيرا ذاتيا، بل اعترافات ذاتية، ولن تحصلوا عليها. انتم تريدونني أن اشرّع أبوابي، وليس هذا ما اصبو اليه، ولا ما أنوي فعله.
  • عندما كنت فاشلا، لم اكن فاشلا في نظر نفسي. وعندما اصبحت ناجحا، لم اصبح مجنون نجاح.
  • ليس في وسعي اختصار أي من مسرحياتي. ليس في وسعي وصف اي منها. يمكنني فقط ان اقول: هذا ما حصل. هذا ما قالوه. وهذا ما قاموا به.
  • "الفيل" الأميركي اصبح تدريجا وحشا ذا أحجام كاريكاتورية وفاحشة.
  • ترى ماذا يرى بوش وبلير فعلا عندما ينظران نفسيهما في المرآة؟

*********

إحدى عشرة قصيدة

عن الانكليزية
ج. ح.
و س. أ. هـ.

لا تنظر

لا تنظر
العالم على وشك ان ينكسر.
لا تنظر
العالم على وشك أن يطفىء كل أضوائه
ويحشرنا في حفرة سواده،
ذاك المكان الأسود والسمين والخانق
حيث سوف نَقتل أو نموت، نرقص أو نبكي
أو نصرخ أو نلمع أو نصيء كالفئران
لكي نعيد مفاوضة اسعارنا الأساسية.

*

ليبارك الرب أميركا

ها هم ينطلقون ثانية
اليانكيز في استعراضهم المصفّح
منشدين أغاني فرحهم
بينما يهرعون عبر العالم الكبير
مصلّين لرب أميركا.

*

المزاريب مسدودة بالجثث

جثث أولئك الذين لم يلتحقوا بالركب
أولئك الذين رفضوا أن يغنّوا
أولئك الذين يفقدون أصواتهم
أولئك الذين نسوا النغمة.

*

الفرسان يحملون سياطاً باترة.

رأسك يتدحرج على الرمل
رأسك كرة في الطين
رأسك لطخة في الغبار
عيناك انطفأتا وأنفك
يشم فقط عفن الموت
وكل الهواء الميت مشبّع
برائحة رب أميركا.

*

موت

أين وجدت الجثة؟
من وجد الجثة؟
هل كانت الجثة جثة عندما وجدت؟
كيف وجدوها، الجثة؟

*

من كانت الجثة؟

من كان والد الجثة المهجورة
او ابنها او شقيقها
او عمّها او اختها او والدها او ابنها؟
هل كانت الجثة جثة عندما هجروها؟
هل هجرت الجثة؟
من هجرها؟
هل كانت الجثة عارية أم ترتدي ثياب الرحلة؟
ما الذي دفعكم الى اعلان الجثة جثةً؟
هل أعلنتموها جثة؟
الى اي مدى كنتم تعرفون الجثة؟
كيف عرفتم انها جثة؟
هل غسلتم الجثة؟
هل أغمضتم عينيها الاثنتين
هل دفنتم الجثة
هل هجرتموها؟
هل قبّلتم الجثة؟

*

قصيدة

الأنوار تبرق.
ماذا يحصل بعد ذلك؟

نزل الليل
والمطر توقّف.
ماذا يحصل بعد ذلك؟

العتمة ستزداد عمقا
هو لا يعرف
ما سوف اقوله له.

عندما يرحل

سأسرّ بكلمة في أذنه
وأقول ما كنتُ على وشك قوله
عند اللقاء الذي كان على وشك الحصول
والذي، الآن، قد انتهى.

لكنه لم يقل شيئا

عن اللقاء الذي كان على وشك الحصول.
التفت فحسب
ابتسم وهمس:
لا أعرف
ماذا يحصل بعد ذلك.

*

الله

نظر الله في قلبه السرّي
باحثا عن كلمة
ليبارك حشد البشر في الأسفل.
لكنه بقدر ما نظر ونظر
وبقدر ما رجا الأشباح لكي تعيش من جديد
لم يسمع أي أغنية في تلك الغرفة
واكتشف بألم حارق شرس
أن ليس لديه بركات يمنحها.
نشرة الطقس
سيبدأ النهار غائماً.
سيكون صقيع
لكن مع تقدّم النهار
ستشرق الشمس
وسيكون العصر جافاً ودافئاً.

عند المساء سيشعّ القمر

وسيكون مشرقاً.
سيكون هناك، ينبغي قول ذلك،
ريح عاتية
لكنها ستنتهي مع منتصف الليل.
لا شيء سيحدث بعد ذلك.
هذه نشرة الطقس الأخيرة.

*

شبح

شعرت بأصابع رقيقة على عنقي
وبدا كأن احدهم يخنقني

كانت الشفاه قاسية بقدر ما كانت ناعمة
وبدا كأن أحدهم يقبّلني

واذ أوشكت عظامي على التفتّت
حدّقت في عينيّ آخر

فرأيت انه وجه أعرفه
وجه حلو بقدر ما متجهّماً
لم يبتسم لم يبكِ
كانت عيناه واسعتين وبيضاء كانت بشرته

لم ابتسم لم ابكِ
رفعت يدي فقط
ولمست خدّه.

*

خلايا السرطان

"خلايا السرطان هي الخلايا التي نسيت أن تموت"
(ممرضة في مستشفى رويال مارسدن)
لقد نسيت كيف تموت،
فمدّدت عمرها الذي للقتل.
أنا وورمي نتقاتل بحميمية:
لنأمل موتاً مزدوجاً.
أحتاج إلى أن أرى ورمي ميتاً،
ورمي الذي ينسى أن يموت
ويخطط لقتلي في المقابل.
لكني أذكر  كيف أموت
مع أن كل شهودي ماتوا.
لكني أذكر ما قالوه
عن الأورام التي تحيلهم
عمياناً وصمّاً مثلما كانوا
قبل ولادة هذا المرض
الذي بث الحياة في الورم.
الخلايا السود ستجف وتموت
أو تغنّي مبتهجة وتسلك طريقها.
بصمت شديد تتناسل ليل نهار.
لا أنت تعرف، ولا هي تخبرك شيئاً.

*

لقاء

إنه الليل الأصم
قدامى الموتى ينظرون
إلى الموتى الجدد
يسيرون نحوهم


نبضات قلب رقيقة،
حين يتعانق الموتى،
أولئك الذين ماتوا منذ زمن بعيد
وأولئك الجدد
الذين يسيرون نحوهم


يبكون ويتبادلون القبل
إذ يلتقون ثانية
للمرة الأولى والأخيرة.

*

ديموقراطية

لا مفر.
السفلة في الخارج
سيضاجعون كل من يرونه:
انتبه لظهرك.

*

المطعم

لا، أنت مخطئ.
الجميع يكونون رائعين
بقدر ما يستطيعون
لاسيما وقت  الغداء
في مطعم ضاحك.

الكل رائع
بقدر ما يستطيعون.
ويحرّكهم زخم
جمالهم الخاص.
ويذرفون الدموع في التاكسي
وهم عائدون إلى البيت.

النهار- الجمعة 14 تشرين الأول 2005

هارولد بينتر "مفاجأة" جائزة نوبل

(ندد بالحرب على العراق ويعتبر بريطانيا "تابعاً" للولايات المتحدة)

عبده وازن

هارولد بينتر تجاوزت الأكاديمية السويدية أمس كل التوقعات، وفاجأت الأوساط الأدبية والإعلامية بمنحها جائزة نوبل للآداب للعام 2005 إلى الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بينتر الذي أنهى الخامسة والسبعين قبل أيام. ورأت الأكاديمية في "براءة" الجائزة ان بينتر هو "أفضل من يمثل المسرح البريطاني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية"، وأضافت: "انه يكشف في مسرحياته المتاهات الكامنة وراء كلام الحياة اليومية ويقتحم مواطن الظلم الخفية".

ولئن بدا فوز هارولد بينتر بالجائزة مفاجئاً نظراً إلى ان اسمه لم يرد في لائحة المرشحين، فهو يستحقها تماماً ليس لأنه واحد من رواد المسرح العالمي الحديث فحسب، وإنما لكونه أيضا صانع أحداث يعرف كيف يحرّك التيارات الفكرية والسياسية وكيف يخوض المعارك والسجالات الكبيرة. ولعله الكاتب شبه الوحيد القادر على الجمع بين هذين البعدين: الكتابة والفعل. والجميع يذكر مواقفه المعارضة للحرب التي شنت على العراق وآراءه النقدية القاسية التي أطلقها ضد الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ولم يسع هذا الكاتب الذي سمّي بـ "المعارض ذي الضمير الحي" إلى مثل هذه المواقف النقدية حباً في الظهور أو في إحداث الصخب إعلامياً وسياسياً. بل إن بعض مواقفه انعكست سلباً عليه لا سيما عندما عمل ضد حكومة مارغريت تاتشر أو عندما نشر رسائل "غاضبة" في الصحف البريطانية لم يوفر فيها الفضيحة الرئاسية الأميركية "مونيكاغيت". ولم يشعر بينتر يوماً بأي حرج في القول ان بريطانيا ليست إلا تابعاً يدور في فلك الولايات المتحدة الأميركية. وفي الآونة الأخيرة، عقب نهوضه من كبوة المرض الخبيث أصدر ديواناً اسماه "الحرب" (2003) وضمّنه قصائد تتناول بشاعة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق، وراح يرثي الضحايا، أطفالا ونساء، والأبرياء الذين قتلوا ظلماً. (راجع ص 16)

لم يكن هارولد بينتر ينتظر أي جائزة بعد انتقاده اللاذع للحرب على العراق، لكن "نوبل" لم تغفل فرادة أدبه المسرحي وجرأة صوته، هو الذي كتب مسرحية عن القضية التركية عنوانها "لغة الجبل" ودان النازية في أكثر من عمل. لكن بينتر يظل أولاً وآخراً كاتباً مسرحياً، استطاع ان يؤسس عالماً جديداً قائماً عند "مفترق" مسرحين: مسرح العبث (صموئيل بيكيت، يونسكو) والمسرح البريطاني "النيو - ناتوراليست" (الطبيعي الجديد). وتمكّن بينتر من تجديد الكتابة المسرحية منطلقاً من مراسه الصعب والتجارب التي خاضها حياتياً وثقافياً. فهو عمل في يفاعه بواباً وسائقاً ودخل عالم التمثيل كممثل احتياطي، وكان حينذاك يكتب الشعر. وقد رفض في مرحلته الأولى تلك أداء الخدمة العسكرية وآثر السجن على التخلي عن موقفه الرافض. لكنه ما ان بدأ في كتابة المسرح في العام 1957 وكانت أولى مسرحياته "الغرفة") حتى راح يكتب بغزارة، وبلغت مسرحياته الثلاثين، موزعة بين نصوص قصيرة ذات فصل واحد ونصوص طويلة حافلة بالشخصيات والوقائع. عطفاً على القصائد الكثيرة والمقالات والسيناريوهات التي لقيت نجاحاً كبيراً في عالم السينما الحديثة. وليس من المستهجن ان تكون الموضوعات الأثيرة لدى بينتر مشوبة بطابع سوداوي وحس مأسوي وعبثي ومنها مثلاً: الكراهية العائلية، الخيانة، القلق الوجودي، التهديد المجهول، الفانتازيا المثيرة، السخرية المرة... أما الشخصيات فهي في حال من التأزم والتردد والخوف. أنها شخصيات تعيش أقدارها من غير ان تسعى إلى مواجهتها وتحدّيها. ولعل العالم الداخلي الذي تدور فيه معظم مسرحيات بينتر يخفى وراء بساطته العادية وطابعه "اليومي" الكثير من القلق والاضطراب والجنون. وقد يبدو الحوار في بعض أعماله ولا سيما الثنائية أشبه بالمونولوغ الغامض والعبثي الذي بصوغه الكاتب داخل بنية هرمية، فيبدأ بقوة ثم يخفت تدريجاً إلى ان تبلغ اللغة ذروة الصمت. واللغة عنصر أساس في مسرح بينتر وهي تحل في أحيان محل الحدث نفسه، بل تصبح هي الحدث الذي تتبادله الشخصيات وتصنعه عبر حواراتها المتواصلة والمتقطعة. وتؤلف اللغة في مثل هذا المسرح ما يسمى "النص المتواري" الذي لا يقوم من دونه النص المكتوب.

وإذا عرفت مسرحيات هارولد بينتر رواجاً في لغات كثيرة وفي مسارح عدة في العالم، فهي شهدت نجاحاً أيضا في العالم العربي وعلى خشباته. ولطالما استعان المخرجون العرب، في القاهرة ودمشق وبيروت وتونس وسواها، بهذه الأعمال، فترجموها أو اقتبسوها وقدموها في صيغ مختلفة. والجمهور المسرحي العربي ولا سيما جمهور المهرجانات، يعرف جيداً مسرح هارولد بينتر ويعرف شخصياته الكثيرة التي شاهدها على الخشبة. ويمكن وصف هذا الكاتب البريطاني بأحد "نجوم" المسرح العربي الحديث تبعاً لتعريب معظم أعماله وإخراجها مسرحياً.

****

الشاعر الذي بدأ مسرحه بالصمت
انتهى إلى النضال السياسي

جاد الحاج

بعد برنارد شو (1925) وبيراند يللو (1934) وأوجين اونيل (1936) وبيكيت (1969) وداريو فو (1997) يأتي هارولد بينتر المفاجأة السادسة في سياق المسرحيين الحائزين على نوبل. الفارق ان بينتر اشتغل في صميم الحياة الدرامية والسياسية والثقافية كما لم يتورط فنان انكليزي من قبل. والواقع ان مواقفه السياسية اليسارية عموماً والمعارضة المعترضة على سياسة بلاده الخارجية طالما اعتبرها كثر حائلاً دون منحه جائزة نوبل، إلا ان هؤلاء سيصفقون اليوم للجنة المانحة وبينتر... وأنفسهم، خصوصاً ان بينتر كان ولا يزال احد ابرز المناهضين للحرب على العراق، كما كان طرفاً في المجموعة الثقافية المطالبة بإطلاق سراح النووي الإسرائيلي المنشق موردخاي فعنونو.

ويعتبر بينتر طليعة المسرحيين البريطانيين بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يأت الصمت إلى المسرح الإنكليزي بقوة صادحة وقصيرة كما حدث مع ظهور مسرحيات بينتر، ولا عرفت خشبة لندن حوارات مقتضبة، سريعة، مشحونة بالتوتر الذهني والاحتقان العاطفي كما ورد في حوارات مسرحياته. تأثر بينتر باكراً بأعمال كافكا وإرنست همنغواي، وكان رفضه الالتحاق الإجباري بالخدمة العسكرية بداية مواقفه الرفضية اللاحقة. "كان محتملاً ان اذهب إلى السجن، أخذت فرشاة أسناني معي إلى المحكمة، لكن القاضي كان سموحاً وغرّمني ثلاثين جنيهاً، ربما سيطلبونني إلى الحرب المقبلة، لكنني لن اذهب". يقول بينتر عن تلك الواقعة عام 1949 بعدما كان نال منحة لدراسة الدراما في المعهد الملكي ولم يصمد أكثر من سنتين بسبب طبيعته المتمردة وشغفه بالكتابة، خصوصاً الشعر، إذ بدأ ينشر قصائده باسم هارولد بينتا (أي كما يلفظ اسمه بالإنكليزية بعد ضمور حرف الراء).

بعدئذ عمل بينتر لفترة وجيزة ممثلاً إذاعيا في "بي بي سي" ثم اخذ دروساً في معهد النطق والإلقاء الدرامي وقام بدورة في ايرلندا، الا ان مسرحيته الأولى "الغرفة" التي كتبها في أربعة أيام عام 1957 بدأت تشي بالملامح الأولية لما تبدى لاحقاً في أعماله، وسرعان ما دخل "جنة" الوست اند عام 1958 مع "حفلة عيد الميلاد" مما أدى إلى وقف العروض بعد أسبوع على بدئها. وظهرت في هذه المسرحية اتجاهات بينتر نحو العبثية المدروسة خصوصاً ما عرف لاحقاً باسم "الوعيد اللامنظور". فهناك دائماً تهديد ما، بلا منطلق منطقي يخيّم على أعماله، وذلك بالطبع من المؤثرات الكافكاوية المباشرة عليه. بعد سنوات على "حفلة عيد الميلاد" وبعدما رد بينتر على النقاد بسلسلة صادرة من الأعمال قال في إحدى مقابلاته: "برأيي ان النقاد مجموعة من الناس غير الضروريين. لسنا بحاجة إليهم كي نقول للجمهور بماذا يفكّر".

"الغرفة الواحدة" طابع عام وشم أعمال بينتر منذ البداية. وفي تلك الغرفة يخيّم على الممثلين تهديد مجهول المصدر. عموماً تراهم يكافحون للبقاء أو لتأكيد الهوية. وكما في "مونولوغ" (1973) و "أرض لا أحد" _1975) تتحول الكلمات المقطعة، المتكررة، المبتسرة إلى سلاح دفاعي في أفواه الممثلين والى باليه لفظي يقوده خفية شاعر جعل المسرح وزنه وقوافيه:

أستون: قلت لي ان أوقظك.

ديفيز: لماذا؟

أستون" قلت انك تنوي الذهاب إلى سيكاب.

ديفيز: آي، لعله أمر طيب لو وصلت إلى هناك.

أستون: لكنه لا يبدو نهاراً لطيفاً.

ديفيز: آي، هذا قضى على الأمر، أليس كذلك؟

في هذا الحوار النموذجي من "الفراش" (1960) ثاني أهم مسرحياته يكون بينتر وضع حجر الأساس والمداميك الأولى لأسلوب الاقتضاب في الحوار إلى أقصى حدوده. تلي تلك المسرحية عنقود من الأعمال المتلاحقة أبرزها عام 1963 "العودة إلى البيت" وهي تروي قصة فتى يأتي بزوجته إلى منزله الوالدي كي يعرّفها بأسرته. حاز بينتر عن أدائها في الولايات المتحدة جائزة توني، وجائزة ويتبريد وجائزة نقاد نيويورك. واتسمت تلك المسرحية بقسوة مستجدة في أعمال بينتر، فالعروس روث تبقى وحدها في أميركا بينما يستبد بروث والده القصاب السابق وبقية الذكور في العائلة. ويتكرر واقع الصراع الذكوري - الأنثوي في مسرحيتي "المشهد" و"الصمت" وأيضا في "الأيام الخوالي" بين أواخر الستينات وبداية السبعينات.

كتب بينتر عدداً كبيراً من السيناريوات السينمائية بات بعضها في عداد كلاسيكيات القرن العشرين. وحاز معظمها جوائز عالمية في مهرجانات برلين وكان وهمبورغ. ويذكر انه رفض عرضاً من رئيس الحكومة البريطانية جون ميجور بتقليده وسام الفروسية.

- لا أعرف كيف للموسيقى ان تؤثر على الكتابة، لكنها كانت مهمة جداً نسبة اليّ، الجاز والموسيقى الكلاسيكية. أحس بروح الموسيقى باستمرار خلال الكتابة، لعل ذلك هو تأثري بها".

- "هناك قصة معروفة عن كرومويل، فبعدما غزا مدينة دروغيدا وجيء بسكانها إلى الساحة العامة، أعلن كرومويل بضباطه: تمام! اقتلوا كل النساء واغتصبوا كل الرجال. وإذا بأحد رجاله يسأله: عفواً أيها الجنرال. أليس الأمر بالعكس؟ وعندئذ جاء صوت من الجمهور قائلاً: السيد كرومويل يعرف ما هو فاعل.

هكذا هو صوت طوني بلير: السيد بوش يعرف ما هو فاعل.

كان ذلك مطلع خطاب هارولد بينتر في اعتراضه على مشاركة بريطانيا في حرب العراق الأخيرة. ومن بين "حملات" بينتر في مجال حقوق الإنسان وقوفه الصارخ إلى جانب الأكراد في تمزقهم المستمر بين تركيا والعراق ناهيك بسورية وإيران: "كردستان تحيا" يقول بينتر "إنها ملتهبة في عقول 35 مليون إنسان نُهبت هويتهم وتشردوا في تركيا والعراق وأوروبا. أنها تلتهب وتعيش في عقول 12 ألف سجين سياسي مدفونين في الاعتقال الفردي، تحيا ذاكرة أولئك الذين اختفوا وندوب الذين تعذبوا. أنها تحيا في جبال المقاومة الشعبية التي يسميها العالم الغربي إرهابا".

صحيح ان نوبل أعطيت لهارولد بينتر وهو في أواخر شتاته الحياتي، لكنه، في رأيي، أكثر المسرحيين استحقاقاً لها منذ برنارد شو.

****

كاتب التفتّت والالتباس والاحتجاج

بيار أبي صعب

بيار أبي صعبالأكاديميّة السويديّة تضرب من جديد. فبعد منحها نوبل الآداب العام الماضي لإلفريد يلينك، الكاتبة النمسويّة المثيرة للجدل التي "أضرمت النار" في بنى المجتمع التقليديّة وعلاقاته السلطويّة والبطريركيّة، ها هي تعاود الكرّة، مع كاتب يضاهي يلينك إزعاجا وشغباً وإثارة للجدل... ألا وهو البريطاني هارولد بينتر الذي اتهم رئيس حكومته طوني بلير قبل عامين، والحرب على العراق في أوجها، بأنّه "مجرم حرب"! إنّه الممثّل والشاعر والمخرج والروائي... والكاتب المسرحي أولاً وأخيراً، الذي أعطى مسرح العبث نكهته الخاصة : تلك النكهة الانكليزيّة بامتياز، تمتّ بقرابة إلى سينما هتشكوك وجوزيف لوزي وإلى مناخات صموئيل بيكيت... وقد أنبتت مدارس وتجارب أدبيّة - مثل نصوص إدوارد بوند وسارا كاين - هي اليوم بين الأغنى والأكثر راديكاليّة في ثقافتنا المعاصرة.
بينتر الذي يتمتّع بشهرة واسعة في العالم منذ ستينات القرن الماضي، بعيد صدور أعماله الأولى، ويحتلّ مكانة خاصة في المسرح العربي من لبنان إلى فلسطين، مروراً بمصر والجزائر، يكاد يكون غنياً عن التعريف. والكاتب الذي فكّك العلاقات القمعيّة في مسرحه، وعرّى القيم التقليديّة للمجتمع، والنظرة البورجوازيّة إلى العالم، برز في السنوات الأخيرة من خلال مواقفه السياسيّة الراديكاليّة إلى جانب المقهورين، ودفاعاً عن حريّة التعبير، وضدّ الحرب، كما وقف قبلها ضدّ ديكتاتوريّة أوغوستو بينوشيه في تشيلي. إنّه الرجل الذي ينتصر كلّ يوم على سرطان يتهدده في منتصف ثمانيناته، والفتى الذي رفض أن يذهب إلى الحرب أيّام الجنديّة... ونزل يومذاك إلى شوارع لندن ليقف في وجه دعاة الفاشيّة.
وكان بينتر فاز قبل عامين بجائرة "أوين" المرموقة (على اسم الشاعر ويلفريد أوين)، عن كتاب شعري له بعنوان "حرب"، ومن أشهر قصائده "فليحفظ الله أميركا". يكتب بينتر: "ها انّهم يذهبون ثانية/ جنود اليانكي في موكبهم المصفّح/ وهم يرددون أغنيات مرحهم/ ويعدون على امتداد العالم الكبير/ ممجدين سلطان أميركا. والمصارف مسدودة بالموتى...".
ولد صاحب "الحارس" و"حفلة الميلاد"، في حي شعبي صناعي من الشرق اللندني ذات يوم من 1930. أبوه خيّاط يهودي كان يواجه صعوبة في إعالة الأسرة. ذاق مبكراً سموم اللاساميّة، وعرف الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، واختبر الفقر... واحتفظ من ذلك الديكور بأكثر من غصّة، وبروائح عطنة في الزوايا... ستتسرّب إلى نصوصه التي تخاصرنا بالقلق والخوف والتوتّر الدائم. دائماً تقف شخصيّاته في دائرة من القلق والغرابة، ودائماً يشعر المشاهد بغصّة، بضيق، بحالة حصار... قبل أن يأخذه الحدث المسرحي إلى موقــــف عبثي ساخـــر، فتفلــــت منه ضحكـــــة هستيريّة، كمن يتحرر من طاقات سلبية كامنة في أعماقه. يلتقط بينتر بمهارة ذلك الليــــل الذي فينــــا، يصوّر المشاعر الإنسانية الملتبسة، والمواقف الغامضة، والأهواء الكامنة في عتمتنا الحميمة، تطلع فجـــأة كالوحــــوش الضارية، أو تفترس أصحابهــــا ببـــطء خلــف ستار من الأحداث والكلمات العاديّة، وفي ديكور واقعي مبتهج ومضيء.
يشير بيان جائزة نوبل إلى الدور الذي تلعبه أعماله الدراميّة في "اكتشاف الهوّة الشاهقة التي تختبئ وراء شتّى أشكال الثرثرة"، وفي "اقتحام غرفة القمع الصمّاء"... شخصياته تحمل في أعماقها إحساسا مريراً بالوحدة التي يستحيل تجاوزها، وهي ضحايا عنف العالم الخارجي. وعالمه يقوم على تلك اللغة الخاصة، "القاسية والصعبة" بتعبير مترجمه الفرنسي، العادية جداً في ظاهرها، الملتبسة والمشبوهة في حقيقتها.
يكتب بينتر نصوصه كمقطوعات موسيقية يلعب فيها الصمت دوراً أساسياً، ويلازمها الإيقاع وتواتر النغمات. نصوصه قائمة على التفتيت، تفتيت المواقف والحالات الإنسانية، وتفتيت البنية نفسها. فيها الضحكة تعانق الغصّة، والتراجيدي يلازم الكوميدي. والمواقف الغامضة، المتوتّرة دائماً، المشدودة بحبال القلق، تخبّئ دائماً المقلب الآخر، ينسلّ إلينا الواقع ببطء. إنّه مسرح العبث، ذلك الذي ولد بعد الحرب العالميّة الثانية، بشخصيات ليست كالشخصيات، وأحاديث لا تبدأ ولا تنتهي، ومواقف غريبة، على أنقاض عالم تهدّمت معه كلّ الآمال. إنّه مسرح ينضح بقلق ميتافيزيقي، بصراع بين الامتلاء والفراغ، وبمشاغل وجوديّة مستعصية. جمل غير مكتملة، غير منطوقة، ذاكرة خائنة، وكلمات قاطعة، لتقول الأهواء والرغبات والخيبات. تأكّل البورجوازيّة المنهارة.الجنون والأكاذيب والبحث غير المجدي عن السعادة، عن المعنى. كل ذلك من خلال لغة مزدوجة، وجهها عادي وسطحي، وباطنها متفجّر، مزروع بالألغام والمعاني الكامنة. عالم مزيج من القسوة والغموض، لم يعد من الضروري أن ننعته بـ "العبثيّة"... فقد صارت صفة "البينتريّة" التي يعتبر المخرج البريطاني الشهير بيتر هول من أبرز المدافعين عنها، مصطلحاً نقدياً وجمالياً قائماً بذاته.
وبينتر الذي بدأ حياته ممثلاً، مطلع خمسينات القرن الماضي، باسم مستعار هو دايفيد بارون، كتب رواية "الأقزام" قبل أن يبدأ بخوض مجال التأليف المسرحي. مسرحيته الأولى كانت بعنوان "الغرفة" تلتها مسرحيّة "الخادم الأخرس" (1957)... وبعدها كتب "حلة الميلاد" التي شهرته على نطاق واسع. وتتالت النصوص المرجعيّة "الحارس" (1960)، "المجموعة" (1961)، "العشيق" (1963)، "العودة" (1965) التي اقتبسها بنفسه للسينما. وقد اشتهر بينتر عالمياً بعد تعاونه مع السينمائي الكبير جوزيف لوزي في فيلم "الخادم" (1962) مع ديرك بوغارد وجيمس فوكس وسارا ميلز. ثم عاد فتعاون مع لوزي في "الحادث" (1967) و"الوسيط" (1969)... كما كتب مع لوزي سيناريواً لم يجد طريقه إلى التصوير عن رائعة بروست "البحث عن الزمن الضائع" (1972). وكتب عشرات السيناريوات للسينما، من أبرزها "عشيقة الضابط الفرنسي" (1980).
من مسرحيات بينتر الأخرى "أيّام زمان" (1971)، "نو مانز لاند" (1974)، "الخيانة" (1978)، "أصوات عادبيّة" (1980)، "أمكان أخرى" (1982)... وصولاً إلى "ضوء القمر" (1993)، و"من الرماد وإلى الرماد" (1996)، "طقس" (1999). وآخر مسرحياته "ذاكرة الأشياء الماضية" التي عرضت على خشبة المسرح الوطني، كما أعاد تقديم "نو مانز لاند" من إخراجه الشتاء الماضي في لندن.
في العالم العربي قدّم بينتر واقتبس بغزارة خلال العقود الماضية.... بدءاً بنصوص مرجعيّة في المسرح اللبناني خلال عصره الذهبي، مثل "الديكتاتور" لعصام محفوظ التي تحمل لمسات بينتر وبصماته، وإن كانت نصاً مستقلاً له عالمه ولغته الخاصة.... وانتهاء بالمسرح الفلسطيني. وكانت آخر إطلالة عربية لبينتر في فلسطين المحتلة إذ قدّم الثنائي مكرم حرب ويوسف أبو وردة "الحارس" (إخراج ايلان تورن/ مسرح حيفا البلدي)، في محاولة لفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وتصوير معاناة المواطنين العرب تحت الاحتلال.

******

مشهد من مسرحية "الخيانة"

ترجمة: عدنان المبارك

في العام 1983 أصدر هارولد بنتر مسرحيته "الخيانة" مواصلاً عبرها خطه المسرحي الفريد. شخصيات المسرحية ثلاث إضافة إلى النادل. هنا المشهد الثالث من المسرحية.

المشهد الثالث

البيت. عام 1975. الشتاء.

جيري وإيما. صمت.

جيري - ماذا تنوين عمله في هذا الظرف؟

وقفة

إيما - لا أعرف جيداً ماذا نفعل نحن.

جيري - أنا لا أعرف أيضاً.

وقفة

إيما - كنت أقصد هذا البيت.

جيري - نعم.

إيما - هل تذكر متى كنا هنا آخر مرة؟

جيري - أظنها كانت في الصيف؟

إيما - أكيد؟

جيري - أنا أعرف بأنه يبدو...

إيما - كان ذلك في بداية أيلول...

جيري - أي في الصيف؟

إيما - كان الجو بارداً جداً. وكان الخريف مبكراً.

جيري - الجو بارد الآن أيضاً.

إيما - أردنا شراء مدفأة كهربائية أخرى.

جيري - نعم، ولكن لم أقم بذلك.

إيما - لا معنى للشراء... طالما اننا لا نأتي إلى هنا دائماً.

جيري - نحن الآن هنا.

إيما - لسنا موجودين.

صمت

جيري - تغيّر هذا وذاك. أنت مشغولة في العمل.

إيما - أنا أعرف. لكنني أحب ذلك وأريد عمله.

جيري - رائع. إنه شيء حسن بالنسبة إليك لكنك لا...

إيما - من يملك غاليري فعليه أن يكون هناك.

جيري - لكنك لا تملكين وقتاً بعد الظهر. ربما تملكين؟

إيما - كلا.

جيري - إذاً متى سنلتقي؟

إيما - وأنت أيضاً غالباً ما تسافر إلى الخارج. ولا تأتي إلى هنا دائماً.

جيري - حين أكون موجوداً هنا تكونين مشغولة بعد الظهر. إذاً لا يمكننا أن نلتقي أبداً.

إيما - يمكننا أن تناول الغداء، معاً.

جيري - يمكننا بالطبع، ولكن لا يمكننا القدوم إلى هنا وقطع مثل هذه المسافة كي نأكل ثم نعود على الفور. سنّي لا يسمح بذلك.

إيما - لم أقصد هذا الأمر.

وقفة

إيما - في السابق... كنا نبتكر وكنا مصممين وكان يبدو أمراً غير ممكن أن لا نلتقي...غير ممكن... وعلى رغم كل شيء كنا نلتقي. التقينا هنا واستأجرنا هذا البيت واجتمعنا في هذا البيت، والسبب هو إننا أردنا أن نلتقي.

جيري - لا معنى لهذا كله. فمهما أردنا فنحن لا نستطيع طالما أنت مشغولة بعد الظهر وأنا في أميركا.

صمت

جيري - الليالي كانت غير واردة دائماً. لديّ عائلة.

إيما - أنا لدي عائلة أيضاً.

جيري - أعرف ذلك جيداً. ويمكنني أن أذكرك بأن زوجك هو صديقي منذ سنين.

إيما - ماذا تقصد؟

جيري - لا شيء.

إيما - ولكن أردت أن تقول بذلك شيئاً؟

جيري - بحق السماء، لم أحاول قول أي شيء. قلت بالضبط ما أردت قوله.

إيما - أها...

وقفة

إيما - هذا حق بأننا كنا في السابق نملك خيالاً. عرفنا كيف نرتب الأمور كي نقضي الليل معاً، أن نخطط ذلك ونذهب إلى الفندق.

جيري - صحيح. لقد فعلنا ذلك.

وقفة

جيري - إلا أن ذلك كان... في الدرجة الرئيسة، وقبل أن نستأجر هذا البيت.

إيما - لم نقض ليالي كثيرة في هذا البيت.

جيري - نعم.

صمت

إيما - هل يسمح جيبك بدفع إيجار البيت طوال هذه الشهور؟

جيري - أوه.

إيما - إنه تبذير. لا أحد يأتي إلى هنا. وأنا لا أطيق التفكير بالأمر. ببساطة، انه فارغ. في النهار والليل، يوماً بعد يوم، ليلة بعد ليلة. هذه الأواني والستائر. وغطاء السرير وكل شيء. وغطاء المائدة الذي اشتريته في فينيسيا (تضحك). هذا عبث.

وقفة

إيما - هذا بيت فارغ، ببساطة.

جيري - إنه ليس بيتاً.

وقفة

جيري - أنا أعرف... أعرف أي شيء تريدين، إلا أن هذا غير ممكن أبداً...أن يكون بيتاً. لديك بيت. ولدي بيت ذو ستائر وأطفال. وفي كل بيت طفلان. وهنا لا وجود للأطفال. إذاً ليس هو البيت نفسه.

إيما - ولم يكن من المقرر أن يكون البيت نفسه. صحيح؟

جيري - إعتبرته مسكناً وليس بيتاً.

إيما - للمضاجعة فقط.

جيري - لا. للحب.

إيما - إلا أن الكثير من هذا لم يبق.

صمت

جيري - لا أعتقد بأننا لم نكن متحابين.

وقفة

إيما - وماذا بعد؟

وقفة

إيما - ماذا سنفعل بهذا الأثاث كله؟

جيري - عفواً؟

إيما - بالأشياء.

صمت

جيري - أنت تعرفين إننا يمكننا القيام بعمل بسيط جداً وإذا أردنا...

إيما - تقصد إننا نستطيع أن نبيع كل شيء بثمن رخيص للسيدة بانكس وهي بدورها يمكنها أن تؤجر بيتاً مؤثثاً؟

جيري - بالضبط. هل الأسرة كانت من قبل؟

إيما - ماذا؟

جيري - الأسرّة.

إيما - نحن اشتريناها. اشترينا كل شيء. والأسرّة اشتريناها معاً.

جيري - صحيح.

إيما - (تنهض) هل تنهي أنت هذه المسألة مع السيدة بانكس؟

وقفة

إيما - أنا لا أريد أي شيء. حتى لو أردت فلا مكان في بيتي. لدي بيت ذو أغطية منضدة وكل شيء.

جيري - سأتحدث مع السيدة بانكس. سيكون هناك شيء من الفلوس، إذاً...

إيما - كلا. لا أريد أي مبلغ مدفوع. شكراً جزيلاً.

صمت

إيما - (ترتدي معطفها) أنا ذاهبة.

جيري يستدير وينظر إليها.

إيما - أها. هذا هو المفتاح (تحاول انتزاع المفتاح من الحلقة) يا ألله (لا تفلح. تلقي بالمفاتيح كلها إلى جيري) انزعه أنت.

جيري يمسك بالمفاتيح. ينظر إليها.

إيما - هل تفهم أن الوقت الآن هو بعد الظهر؟ إنه بعد الظهر وحين يكون الغاليري مغلقاً. ولهذا السبب أنا موجودة هنا. في أيام الخميس نغلق الغاليري بعد الظهر. المفاتيح رجاءً.

جيري يسلمها حلقة المفاتيح.

إيما - شكراً. اسمع. أعتقد بأننا اتخذنا قراراً صحيحاً تماماً. إيما تغادر المكان. جيري يظل واقفاً.

الحياة - 14/10/05


أقرأ أيضاً: