(أربعمئة عام على ولادته)

جمانة حداد
(لبنان)

"إعلم يا سانشو أنّ الإنسان لا يساوي
أكثر من غيره إلا إذا أنجز أكثر من غيره".
ثرفانتس على لسان دون كيشوت

الفارس دون كيشوت كُتب الكثير عن "دون كيشوت" ثرفانتس خلال الاثني عشر شهراً الماضية، ناهيك بما كُتب قبلاً، حدّ أن كل ما نضيفه قد يبدو، للوهلة الأولى، محض تكرار أو صدى. ذلك أن سنة 2005 كانت سنة "دون كيشوت" بامتياز. فطوال هذه السنة التي شارفنا نهايتها، احتفل العالمان الاسباني والاسبانوفوني، لا بل العالم عموماً، بذكرى ولادة "دون كيشوت" لأربعمئة عام خلت، لأب هو الكاتب الاسباني ميغال دي ثرفانتس. ومنذ كانون الثاني الماضي، شرعت الكرة الأرضية تحتفي بهذا المولود المعجزة، بدءا من أمّه اسبانيا و"خالاته" فنزويلا وكولومبيا وتشيلي والمكسيك والأرجنتين، وصولا الى فرنسا وايطاليا وروسيا والصين، مرورا بأستراليا وكندا والولايات المتحدة، الى آخره. أكثر من ألفي تظاهرة ومؤتمر ومعرض وندوة، أقيم معظمها طبعا في اسبانيا، حيث شكلت الحكومة لجنة وطنية تعنى بالاحتفالات، وحيث نُظّمت جولات سياحية أدبية في الأمكنة التي جال فيها دون كيشوت على متن حصانه روثينانت، و"محجّات" الى حيث حارب طواحين الهواء، وأخرى الى حيث تعرّف بحبيبته دولثينيا، فضلا عن الزيارة الأهم الى مسقط ثرفانتس، أي بلدة ألكالا دي اينارس. وقد أدركت الاحتفالات الآن ذروتها مع سلسلة معارض جوّالة في المدن الاسبانية الرئيسية، وأوبرا ضخمة تعرض في بوينس أيريس، وفيلم ذي إنتاج عال في مكسيكو، ومحاضرات يومية في كلية الآداب في ليما، ومسرحية راقصة في هافانا، وهكذا دواليك. أما الكتاب فقد ضرب أرقاما قياسية في المبيع، حيث صدرت منه، هذه السنة وحدها، طبعات خاصة في أكثر من خمسين لغة، منها مصوّرة، وأخرى مزيّنة بلوحات، موزّعة بين طبعات فاخرة وطبعات جيب.
نعم، كُتب الكثير حول مأثرة ثرفانتس خلال الاثني عشر شهراً الماضية، وقيل الكثير، ونُظّم وطُبع وصُنع، تبجيلاً وتبخيراً وتمجيداً، ولأجل ذلك اخترنا، هنا في لبنان وفي "الملحق" تحديداً، ان نكون توما "دون كيشوت"؛ أي أن نتبنى موقفاً شكّاكاً لدى مقاربة العمل وحضوره وامتداداته. هكذا جمعنا في هذا العدد، الذي أردناه "تتويجا" ختاميا لسنة "دون كيشوت" على طريقتنا، نصوصاً من كتّاب ونقّاد وأكاديميين من إسبانيا ومختلف بلدان أميركا اللاتينية، كُتبت خصيصا ل"النهار"، تتمحور حول الجدلية الآتية: "ماذا بقي حقاً في رأيك من تأثيرات "دون كيشوت" في آداب بلدك وثقافته؟". وقد زينّا العدد بلوحات لرسامين من العالم الاسبانوفوني، غمسوا ريشاتهم في ألوان الفارس واخترعه كلّ منهم على هوى موهبته ورؤيته. كما نثرنا على الصفحات مقاطع من الكتاب الشهير، لعلها تحفّز على اكتشافه أو إعادة اكتشافه، وخصوصا أنه العمل الذي قيل فيه إنه "يُقرأ كأنه كُتب الآن، ويُقرأ كل مرّة كأنما للمرّة الأولى".
هناك أعمال مرصودة لكي تتجاوز خالقها: لم يكن ثرفانتس ليتخيل الأهمية التي سيتخذها كتابه، الذي وضع أسس الرواية الحديثة، عندما شرع في كتابته عام 1592. انتهت طباعة الجزء الأول من "دون كيشوت دي لا مانشا" في 20 كانون الأول 1604 في مطابع "خوان دي لا ثستا" في وسط مدريد، وكان يتضمن 52 فصلا، ولم تتجاوز يومذاك الطبعة الأولى ال1200 نسخة، والتي وصلت الى المكتبات في بدايات عام 1605. ولد إذاً بطلنا دون كيشوت فجر عام 1605، ومعه ولدت إحدى أهم الشخصيات في تاريخ الأدب الاسباني والعالمي: شخصية سرعان ما سوف تتخطى حدود أرضها الأم لتحظى بشهرة في أصقاع الأرض كلها. شخصية، ايضا، سرعان ما سوف تقضي على خالقها، إذ ليس من المبالغ القول إن دون كيشوت "قتل" ثرفانتس وطمس اسمه. الكاتب انتقم من حياته عندما خلق الشخصية، والشخصية انتقمت من الخالق بأن انتصرت شعبيتها على شعبيته وشهرتها على شهرته. فعلا، ألهمت هذه الشخصية عددا لا يحصى من الكتب واللوحات والرسوم والأعمال الموسيقية والمنحوتات والأفلام السينمائية، وحتى الأغاني. وليس ثمة كاتب إسباني لم يتطرق في مرحلة أو أخرى من حياته الى مسألة تأثيرات "دون كيشوت" عليه. فضلا عن ذلك، ترجمت ملحمة ثرفانتس الروائية الى ما يزيد على مئة لغة، وهي أحد أكثر الكتب ترجمة في العالم بعد الإنجيل، بحسب منظمة الاونيسكو.
ليست "دون كيشوت" بعيدة عن عالمنا العربي، بل هي تحاذيه وتتقاطع معه مرارا: يكفي أن نذكّر بأن ثرفانتس نقل حكايات بطله على لسان راوٍ عربي أندلسي هو حامد بن نخلة (أو بن انجيلين كما تسمّيه ترجمات أخرى، وعددها أربع في لغتنا)، ويقال إنه كان يتكلم العربية بسبب انه أمضى خمس سنوات مسجونا في الجزائر. لا بل يزعم بعض كتّاب السيرة ان ثرفانتس كان مثليا، وان السلطان حسن الجزائري اغرم فيه عندما كان الكاتب أسيره. في أي حال، حياة ثرفانتس مثيرة للجدل، وغريب ان تكون سيرة هذا الرجل الذي عاش أيامه طولا وعرضا تبدو كأنها مجموعة من التواريخ المقتضبة والحوادث الغامضة والكثير من مناطق الظل. حياة ثرفانتس مثيرة للاهتمام وخصوصا عندما نعي أن دون كيشوت ليس محض شخصية من شخصيات كاتب، بل هو "أنا" ثرفانتس العميقة، الحلمية، الغنائية، الجوهرية. ثالوث ثرفانتس، أي الكاتب الشاعر الفارس، ينصهر في الزمان والمكان والنص، مثلما ينصهر الواقع والخيال والجنون والحكمة والمادة والروح في مغامرات بطله الحالم، هذا البطل الذي يخوض المعارك في سبيل مساعدة المحتاجين ومناصرة الضعفاء وإنصاف المظلومين. وقد تكون أهم معركة خاضها دون كيشوت نيابة عن ثرفانتس، من حيث دلالاتها الرمزية والإسقاطات التي يمكن ان تنطبق على حياة الكاتب، هي معركته مع طواحين الهواء التي ظنّها مجموعة من العمالقة الأشرار المتأهبين للهجوم عليه. طواحين أوهام لم ينفك كل كاتب، لا بل كل إنسان، يحاربها منذ الأزل، ولن يكفّ.
"دون كيشوت" سلسلة مسلية من المغامرات بالتأكيد، لكن الأهم أنها سلسلة من الخيبات ايضا، يمتشق ثرفانتس فيها سلاح التهكم والسخرية لينتقد القصص الخيالية التي ترويها كتب الفروسية و"تخرّب" بواسطتها أفكار الناس. إذ لم يكن دون كيشوت، الفارس الخمسيني الذي أفسدت عقله قراءة روايات الفروسية حدّ انه أراد عيشها، يرى اسبانيا سوى على ضوء روايات الفروسية القديمة، روايات كان يأخذ عليها ثرفانتس كذبها وزيفها وأوهامها وخلوها من الحقيقة التاريخية. أي أن دون كيشوت هو ايضا بطل مضاد، صنعه ثرفانتس لا لينتصر بل ليخيب. ورغم متاهات الحبكة، نستشف من خلال النثر الشفاف إنسانية الكاتب وموقفه الفلسفي من الحياة، والتواطوء في كتابته بين التواضع والذكاء والتشكيك. جنون دون كيشوت هو بدوره جنون ثرفانتس: إنه شكل سام من اشكال الحكمة التي تدفعه الى رؤية العالم بمثالية، والسعي الى جعله متطابقا مع رغباته ومع شروطه الأخلاقية. ليس الجنون هنا سوى تجسيد للصراع المرعب بين الإنسان وما يقاومه: انه علامة الكفاح، وعقاب الدون كيشوتيين الجسورين، وما أحوجنا إليهم في زمننا. ولكن بقدر ما نحن في حاجة الى دون كيشوتيين، ثمة حولنا دون كيشوتيون مزيفون، يزداد عددهم باضطراد. فمن هو دون كيشوت الحقيقي، الأصيل، وكيف نميّزه؟
إن دون كيشوت الحقيقي هو، قبل كل شيء آخر، قبل ان يكون شخصية، قبل أن يكون بطلا، قبل ان يكون فارسا، قبل أن يكون صاحب حق، قبل كل هذه الصفات وغيرها، شاعر. شاعر حي أبدا، قصيدته هي حياته نفسها. هوية دون كيشوت الشعرية تنطلق بداية من رغبته في التماهي مع نموذج الفارس النبيل، وهو تماهٍ يذهب به حدّ إشهاره معالم الجنون، جنون ليس إلا "المظهر" الشعري الخارجي الذي تتبناه الشخصية. ألم يقل أفلاطون في جمهوريته إن "الشعراء هم الوحيدون الذين ينفون الواقع ويزورونه"؟ هذا ما يفعله تماما دون كيشوت: ينقض الواقع ويرفضه ويلغيه، ويعطي بذلك معنى جديدا للأشياء. فهل الشعر سوى ذلك المعنى؟ كل أحداث "دون كيشوت" ومغامراته ومفرداته تبرهن شعريته، نبرةً ومضمونا على السواء. إنه الشاعر الذي يحرس الذاكرة ويسمّي الأرض، يسمّي أوجاعها وعيوبها وشرورها ومآسيها. أي ان دون كيشوت ليس شاعرا حالما متمردا وثوريا يشعرن حياته فحسب، بل هو ايضا "يشعرن" العالم، حالماً بالعودة الى العصر الذهبي، والى الجنة المفقودة. في هذا الإطار، قيل الكثير عن تأثير "دون كيشوت" في الرومنطيقية الأوروبية، والحقيقة ان دون كيشوت سبق أوانه بنحو من مئتي عام، وانه ملهم البطل الرومنطيقي الذي ستكون دعامته الاولى والاهم صورة الشاعر.
دون كيشوت الحقيقي هو إذاً، قبل كل شيء آخر، شاعر: شاعر يمشي بيننا مستلاً رمحه الذي هو قلمه، مرتدياً ترسه الطافح بالاستعارات والصور ودرعه التي من كلمات، حاملاً مطرته المملوءة غيماً ونبلاً وإنسانية، وإذ يمشي يخرّب الكون ويكتب الأحلام.
أحلام ليست، في آخر المطاف، سوى مرايا حقيقتنا الإنسانية الوحيدة.

***

انتقام ثرفانتس

ماريو فارغاس يوسا

ماريو فارغاس يوساغالباً ما أُسأل عن تأثير رواية "دون كيشوت" في حياتي وكتابتي، فأرتبك وأعود لا اعرف كيف أجيب. أحيانا لا يسع المرء أن يحدّد في شكل دقيق كيف تأثر بهذا الكاتب أو ذاك، فأبلغ التأثيرات تلك التي تكون غائمة. أعرف أني حاولت قراءة كتاب ثرفانتس عندما كنت في المدرسة الثانوية، ولم افلح. أتعبتني لغته الاركاييك وجمله الطويلة ولم يشدني، لم استطع إكماله، فصرفت النظر عنه. لكني عدت اليه أيام الجامعة، وقرأته بفضل كاتب اسباني هو مارتينيث أثورين، الذي كتب عام 1905 كتابا صغيرا جميلا عنوانه "طريق دون كيشوت"، هو ريبورتاج عن الأماكن التي جال فيها الفارس الكبير. لقد سحرني هذا الكتاب وحرضني على أن أحاول مرة ثانية قراءة مغامرات دون كيشوت، وهذه المرة قرأتها كاملة، بلذة كبيرة واهتمام وحماسة.
إن "دون كيشوت"، بكل ما فيها من مسافة ساخرة مع التاريخ والقيم والهويات، وبكل ما تبرهن عن فن حياكة القصص، هي التي صنعت من دون شك الرواية واللغة الحديثتين: ليس ما أقوله سوى أمر بديهي، لا بل إن كل ما يكتب في الاسبانية فيه رائحة ثرفانتس، مثلما كل ما يكتب في الانكليزية فيه رائحة شكسبير. لكن الأهم من هذا كله هو أني أستطيع ان ازعم ان ثرفانتس انتقم من حياته الحقيقية عندما كتب "دون كيشوت"، فهو عاش من دون ثروات ولا ألقاب نبيلة، وكان معذبا ومقموعا، فخلق العمل الأخصب في تاريخ الثقافة الاسبانية كفعل عصيان وثأر من واقعه. كان هذا الكاتب الكبير مدركا تماما أن الرواية ليست موجودة لتجسد الواقع، بل لتنفيه، وهذا ما فعله بالضبط إذ اخترع دون كيشوت، الفارس العنيد الحالم الذي يرى العمالقة حيث هناك طواحين، والأمل حيث هناك يأس، والطيبة حيث هناك شرّ. دون كيشوت دي لا مانشا إنسان متطرف، يظن انه يملك الحقيقة المطلقة، ويفشل باستمرار في التعلم من أخطائه. إنه رجل، على غرار خالقه ثرفانتس، يريد ان يهرب من عبودية الحياة الواحدة المحدودة، من خلال اختراع حيوات أخرى لنفسه. أما سانشو بانثا، فظني ان ثرفانتس اخترعه ليوازن تطرّف دون كيشوت. انه رجل عادي، براغماتي في نظر المجتمع، ومواطن مثالي.
لطالما حاولت الأنظمة التوتاليتارية ان تسيطر على حياة الإنسان، ولطالما مارست الرقابة على أعمال التخييل لأنها أدركت انها تحرّض على التمرد وتخلق حس النقد لدى القراء. وفعلا، عندما يقرأ المرء روايات كثيرة، قد يدفعه ذلك إما الى الجنون وإما الى اليأس، مثل الجنون الذي أصاب الونسو كيخانو، أو اليأس الذي وقعت بين براثنه مدام بوفاري مثلا. عندما يقرأ الإنسان، يكتشف انه "عالق" في عالم الواقع، وان عالم الواقع هذا فقير جدا مقارنة ب "ما يمكن ان يكون": وهذا ال"ما يمكن ان يكون" هو ما تقدمه لنا الروايات. شخصياً، استطعت بفضل أعمال ك"دون كيشوت" و"مدام بوفاري"، ان أحب بقدر ما أحببت، وان ارتكب كل الجرائم التي ارتكبت. تلك هي سلطة الرواية. إن "دون كيشوت"، على غرار "الاوديسيه" أو "الكوميديا الإلهية" أو "هاملت"، أعمال تغنينا كبشر وتثبت لنا ان المرء يمكنه من خلال الخلق الفني والأدبي، ان يكسر حدود ظروفه ليسمو أبعد منها.
الرواية رحلة أدبية، ليس هدفها قول الحقيقة بل نسج الأكاذيب، وذلك ما يفعله دون كيشوت، ولذلك نتلذذ بتصديقه. ولذلك ايضا أشعر بالتماهي مع روح هذا الفارس، من حيث أني ارفض ان اقبل الواقع كما هو، واني أحاول جاهدا تغيير العالم، عالمي، لكي يصير أكثر تطابقاً مع أحلامي وأفكاري ومبادئي. تلك هي الشجاعة العظيمة التي ينفحها فينا دون كيشوت، شجاعة ان نكون أحراراً. فقبل أي شيء آخر، "دون كيشوت" صورة: صورة الفارس الحرّ الذي يجول العالم، يساعد الضعفاء والمظلومين ويعمل على إحلال العدالة في العالم: نحن نعرف ان هذا المثال الأعلى مستحيل، وكل ما في واقع دون كيشوت كان ينقضه أصلا. إذ لم يكن ثمة حوله فرسان رحالة، ولم يكن هناك مبادئ، ولا كان احد يكترث بإحلال العدالة ولا باحترام القيم. عالم دون كيشوت أنوجد فقط في الخيال، في الأساطير واليوتوبيات التي يفبركها البشر للهرب من وحشية الواقع وإيجاد الأمان وتحقيق الحرية. ربما تتساءلون أي مفهوم عن الحرية لدى دون كيشوت؟ إنه المفهوم نفسه الذي صنع في أوروبا بدايات القرن الثامن عشر أولئك الذين نسمّيهم الليبيراليين: حرية ان يقرر الفرد حياته بلا قيود ولا ضغوط، بل بناء على ذكائه وإرادته الخاصين. لذلك يمكننا ان نمنح "دون كيشوت" معاني سياسية، وان نذهب حد القول ان كفاح البطل ضد طواحين الهواء يشبه مثلا كفاح معاصرينا ضد الشركات العالمية التي تمتص دماء الناس. إن "دون كيشوت" إذاً، فضلا عن كونها رواية تمجد سلطان الخيال، هي نشيد حرية. ألم يقل ثرفانتس على لسان فارسه: "الحرية يا سانشو هي أثمن هبات الله للإنسان. لا شيء يعادلها قيمة، لا كنوز الأرض ولا ثروات البحار. في سبيل الحرية، كما في سبيل الشرف، يجب على المرء أن يجازف بحياته"!

في اختصار، "دون كيشوت دي لا مانشا" متاهة حقيقية من الأنواع الأدبية والشخصيات والمفاهيم والأزمنة والأمكنة: أبعاد تتكاثر الى ما لا نهاية لتعكس في تنوعها الفائق تعقيدات الحياة الإنسانية. لهذا السبب فارسنا خالد، ولهذا السبب ما زلنا نتكلم عليه بعد مرور أربعة قرون على ولادته. فهو لم يزل هنا، معتليا حصانه الوفي، متجولا في لا مانشا واراغون وكاتالونيا واوروبا وأميركا والعالم أجمع. نعم، لم يزل هنا، تحت المطر وتحت الشمس الحارقة، في الأدغال والصحارى وبين ناطحات السحاب، في صمت الليالي القطبية وحرارة النهارات الاستوائية، يفكر ويختبر ويعيش ويصغي، في تأرجح مستمر وسحري بين الحلم واليقظة، بين الواقع والخيال، بين الروح والمادة، وأعني: بين الرواية والحياة.

حكى حامد بن نخلة، قال: كان سيد نبيل يعيش في ناحية من نواحي منطقة لامانشا من بلاد الأسبان. وكان هذا النبيل، الملقب بكيخادا أو كيسادا، أو كيخانا على أرجح الآراء في الخمسين من عمره أو دونها قليلا، وكان طويلاً، معروق الجسم، أعجف الوجه، يستيقظ باكراًً وهو لا يكاد ينام لشديد ولعه بقراءة كتب الفروسية، إذ يمضي أيامه كلها مكباً عليها حتى تحصّل له علم غزير بكل ما تضمنته تلك الروايات الكثيرة، فحفظ أسماء أبطالها، وعرف مزايا كل منهم، كما عرف أخلاقهم وعاداتهم، وأعمالهم ومآثرهم، ومن قُتل منهم، ومن أُسعف ومن أُنقذ، ومن أحب ومن كره. اجل لقد عرف كل شيء عن هؤلاء الأبطال الخياليين، فامتلأ رأسه بهم كما امتلأت داره برواياتهم، فعاشوا في ذهنه أشخاصا حقيقيين، وأغرم بالكثيرين منهم، وما زال الأمر به كذلك، حتى باع الكثير مما يملك من حقول القمح التي كانت تغلّ له الكثير ليشتري بأثمانها أمثال هذه الروايات، وبالتوازي كان يخسر بعض عقله كلما قرأ واحدة من هذه الروايات التي ما وضعها الواضعون، وما تخيلها المتخيّلون الا للتسلية وتزجية الوقت.

***

الفصل المنسي في التحفة

مانويل بوليفار غراتيرول

مانويل بوليفار غراتيرولكان لأعمال ثرفانتس أثر كبير على القراء منذ اللقاء الأول بينها وبينهم، إذ تتمتع هذه الأعمال في العالم الناطق باللغة الإسبانية على وجه الخصوص بشهرة كبيرة لكونها تمثل الرواية الأصيلة، التي يعترف الكثيرون بفضائلها الأدبية، فهي تعدّ بداية التطور البنيوي في الرواية كنوع أدبي ساهم ثرفانتس - المؤلف المثير للدهشة - في إثرائه، وهو الذي نال في زمنه الاعتراف بأنه مؤلف الأعاجيب الذي ليس له مثيل. وهو أيضا الذي يمعن النقاد النظر في زمننا الحاضر إلى أعماله وإلى ما فيها من نزعة تحررية.
من المعروف أن مؤلف رواية "دون كيشوت دي لا مانشا" أبدى رغبته عام 1590 في الذهاب إلى أميركا اللاتينية، وأعتقد أنه - مثل الكثيرين من معاصريه - كان يتحرّق الى اكتشاف حقيقي لهذه القارة التي لطالما روى عنها المغامرون والفاتحون العجائب والغرائب. ولم يكن هذا بالأمر الاستثنائي، فلقد عاش بعض الكتّاب الأسبان المهمين في هذه البلاد، مثل خوان دي كاستيانوس وآخرين. إلا أنه، وفقا لأبحاث العالم فرانثسكو رودريغيث مارين (1855- 1943) فإن جزءا من إحدى طبعات كتاب ثرفانتس العظيم قد وصل فعلا إلى هذه القارة، على الرغم من عدم وجود أثر لهذه المجلدات التي من المفترض أنها دخلت البلاد بواسطة البراميل كما كانت العادة في تلك الأيام. ومن المؤسف أن أكثر الأبحاث تفصيلا عن تلك الرحلات الآتية إلى قارتنا، والتي جمعها كريستوفر بيرموديث بلاتا في "دليل المسافرين إلى أميركا اللاتينية" قد اقتصرت على قائمة بأسماء وأحرف وأماكن لا تشير إلى وجود دلائل حول وصول الكتب خلال تلك القرون إلى بلادنا.
أما هنا في فنزويلا، وفي دول أخرى مجاورة، فلقد تم حثّ الباحثين والمتخصصين طويلا على القيام بعمليات استقصاء مكثفة عن كل المعلومات ذات العلاقة بهذا الموضوع. وعلى الرغم من عدم وجود تاريخ يحدد بدقة وقت وصول أول نموذج من رواية "دون كيشوت" إلى بلادنا، إلا أنه لا يمكن أن نغفل التأثير الذي أحدثته على مختلف أجيالنا وعصورنا.
لكن هذا التأثير لم يتجسّد دوما في شكل ايجابي: إن شخصية دون كيشوت أكبر من أن تكون مادة تستخدم في أحد الأوصاف العامية المرتبطة بواقعنا اليومي، ولكن هذا ما حصل مرارا للأسف: إذ انتشر تمثيل شخصية الرواية في المسرح السياسي والثقافي على نحو يتناسب مع غايات وأهداف خاصة، الى درجة أنه أدرك في بعض الأحيان حدّ التشويه بسبب الفهم الخاطئ. وزعم البعض أنه لم يعد يعرف على وجه التحديد، بناء على الأبحاث التاريخية والجغرافية، أيا من طبعات الرواية المتعددة تجسد على وجه دقيق ما كتبه ثرفانتس في المخطوط الأصلي. ولكن على الرغم من ذلك، وحتى مع وجود الاختلافات بين الطبعات، فلقد صمد المفهوم العام للرواية المكتوبة، وظل أبطالها وسياقها من دون تغيير جذري بسبب طريقة الكاتب في استخدام اللغة، ورؤيته أوان تأليفه العمل الجبّار.
أسفرت هذه الرواية عن ظهور مجموعة من الروايات الأخرى في بلدنا، تعيد من جديد إحياء رؤية أصيلة للشخصيات كما هي الحال في "جواد ليدسيما" للمؤلف ماريو بريثينيو إيراجوري (1942)، والكثير من العناوين الأخرى، التي توزّعت بحثا وشعرا ورواية، ونذكر منها أبحاث دون توليو فيبريس كورديرو، وخصوصا عمله "دون كيشوت في أميركا" الذي يعدّ بحثا أساسيا لفهم تطور التفاصيل الرئيسية لدراسة الكتاب. ومثلما يشير المعلم الكبير بابلو مورا، يتوجب علينا أن نتوقف أيضا أمام البحث الذي قام به أنخيل روزينبلات الذي بحث في الرواية من منظور آخر، ألا وهو العنصر اللغوي في أعمال ميغال دي ثرفانتس، في دراسته التي تحمل عنوان "لغة دون كيشوت" (1971) والتي يوضح فيها قيمة اللغة التي استخدمها ثرفانتس على لسان أبطال روايته، وفضائلها وخصوصياتها. هذا فضلا عن كتاب المؤلف الكبير بيدرو بابلو باريديس وعنوانه "أساطير دون كيشوت" (1976) الذي يعدّ كتاباً مقدساً للقراء.
يضاف إلى ما سبق، ضرورة قراءة الروايات الأخرى التي كتبها ثرفانتس، والتي استطاعت أن تترك أثرا كبيرا في الكتّاب والمفكرين الفنزويليين في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى تعدّد الأجيال التي نشأت على أعمال ثرفانتس العظيم. وهناك الكثير من المؤلفين والكتّاب الذين قاموا بتحليل اللغة الروائية لأعمال ميغال دي ثرفانتس، أمثال خوسيه بلاثا وأدريانو غونثاليث وآخرين.
معظم طبعات رواية "دون كيشوت" موجودة في المكتبة الوطنية ويرجع تاريخ بعضها إلى نهاية القرن السابع عشر، وبعضها أيضا من الطبعات المصورة لكنها ليست محفوظة في حال جيدة للأسف، مما قد يؤدي الى خسارتنا إياها قريبا. في بعض البلدان، على غرار كولومبيا وبيرو، وجدت نماذج من الرواية أكثر قدماً مما نمتلكه نحن في فنزويلا.
أذكر أخيرا أن ميغال دي ثرفانتس مؤلف الروايات الأكثر مبيعا في زمنه - قد توسل في رسالة وجهها إلى القصر منحه إذن السفر إلى قارتنا اللاتينية، ولكن جاء الرد على طلبه في غاية اللامبالاة والبيروقراطية. لذا، أعتقد أنه كوّن في مخيلته نتيجة ذلك تصورا فانتازيا عن هذه الأرض، ناجما عن الرؤية السحرية التي أعطيت عنها في معظم الكتابات. بل أذهب حد القول إنه نظرا الى عدم قدرته على زيارة أراضينا، فقد فتح طريقا لأسلوب انعكس في رواية "دون كيشوت دي لا مانشا".
لطالما رددنا هنا، في أميركا اللاتينية، ان هذا هو الفصل المنسي في رواية ثرفانتس، وانه لو كانت أتيحت له فرصة السفر إلينا، لكان احتضن أرضنا كما لو كانت من أعماله الخلاّقة الخاصة، ولكان أضاف فصلا غنيا الى مغامرات بطله، فصلاً سيظل دون كيشوت يبحث عنه في أسفاره الى الأبد .

ما سار دون كيشوت في طريقه الا قليلا حتى سمع صرخات متألم تنطلق من غابة كانت الى يمينه، فصاح بفرح: "شكرا لك يا رب. لقد يسّرت لي سريعا هذه الفرصة لأحقق بها ما أنا ساع اليه، فأغيث هذا المتألم وأخلصه من القهر الذي هو فيه، أياً كان هذا القهر". وأدار عنان فرسه الى جهة الصراخ الذي يسمع، فإذا هو بفرس مربوط الى سنديانة قد أُسند اليها رمح، وبصبيّ مسكين قد رُبط الى سنديانة أخرى، وبفلاح ينهال عليه ضربا بحزام جلدي. فصرخ دون كيشوت مغضبا: "أيها الفارس الفاسق! كف عن فعلتك الدنيئة هذه. كيف يحق لفارس ان يضرب من لا يستطيع الدفاع عن نفسه؟ لا بد انك جبان، وإلا لما فعلت هذا. كف عن الصبي، وفك أربطته قبل ان اؤذّبك تأديباً ما عرفته من قبل".

***

لغته هويتنا ونحن أبناؤه

بيلين خواريث

بيلين خواريثكوني اسبانية، عليَّ أن أبدأ خواطري بالقول إن كل شخص إسباني يعتز بكونه إسبانياً، يجب أن يقتني في بيته نسخة واحدة على الأقل من رواية "دون كيشوت"، وأن يكون قد قرأها ولو مرة واحدة على الأقل، وأن يعرف بطريقة ما وجهاً من أوجه شخصية ميغال دي ثرفانتس المتعددة، لكي يفهم، أو يحاول أن يفهم، الأسباب التي دفعته الى تأليف واحد من أكثر الأعمال الأدبية بروزا وامتيازا في الأدب العالمي على الإطلاق: عمل أثّر بأساليب لا تعدّ ولا تحصى في الحياة الثقافية في إسبانيا وفي بقية دول العالم. وإذا كنت أعتبرها سمة ضرورية لدى الشخص الإسباني العادي، فما بالنا بالكتّاب الذين يعتزون بكونهم إسبانيين في هذه الزاوية من العالم؟
يُعرّف معجم اللغة الإسبانية الذي تصدره الأكاديمية الملكية الإسبانية للغة في طبعته الحادية والعشرين - كلمة "كيشوت" على النحو الآتي: "رجل يقدم مبادئه على مصلحته الشخصية، وعامل لا يهدف إلى تحقيق منفعة خاصة، بل يهدف على طول الخط إلى الدفاع عن القضايا التي يعتقد أنها قضايا عادلة، ولكن من دون أن يستطيع تحقيق هدفه".
هي إذاً شخصية فريدة من نوعها، بقيت على قيد الحياة على مر القرون، واستطاعت أن تصبح صفة ملازمة للأشخاص الذين نلقاهم في الحياة اليومية، والذين يتمتعون بصبغة حالمة ومثالية. فهل معنى هذا أن الكتّاب الأسبان هم أشخاص دون كيشوتيون عندما يكتبون أو يرون أو يتخيلون أو يحلمون؟ أعتقد أنهم كذلك فعلاً.
هناك أشياء كثيرة تقال عن تأثير "دون كيشوت دي لا مانشا" على الأدب الإسباني في مرحلة ما بعد القرن الذهبي (عصر النهضة الأدبية)، بدءا من الوقت الذي نشرت فيه هذه الرواية المنتمية إلى أدب الفرسان. فلقد نشر خوان دي لا كويستا الجزء الأول من هذه الرواية للمرة الأولى عام 1605، والجزء الثاني عام 1615، ثم ظهرت طبعات أخرى متعاقبة، مثل طبعة بروكسيل عام 1706، وطبعة أندروب عام 1719، وطبعة غابريال دي سانشا عام 1798. وفي الوقت الراهن، هناك طبعات وترجمات إلى العديد من اللغات لهذه الرواية، تبرز بينها الترجمات إلى كل من اللغة العربية والروسية والعبرية والصينية والكورية أيضا.
في عهد ميغال دي ثرفانتس، كانت هناك أهمية كبرى للأمثال الشعبية والوعي العام والحذاقة والمهارة، نستشفّها من حكايات سانشو بانثا الموجهة إلى مجتمع كان يستمتع بمغامراته في مقابل الشخصية المثالية للمحارب ذي النيات الحسنة، أو "الفارس ذي الجسد الهزيل"، دون ألونسو كيخانو. من هذا التراث الثري بقيت كلمات يستخدمها الكتّاب الأسبان منذ ذلك الوقت وحتى الآن. فعلى سبيل المثال هم يكتبون "إنه شيء دون كيشوتي" لوصف عمل يخلو من التعقل أو موقف شديد الجنون. ويقولون أيضا "كيشوتيسكي"، وهي صفة للأشخاص الحالمين أو المتمتعين بصفات النبلاء والفرسان. هذه الكلمات والتعبيرات كلها، تملأ أعمال المؤلفين الأسبان منذ أربعة قرون الى اليوم. فمن جهة، استُخدم موضوع الفروسية والمغامرات استخداما لغويا شكّل العمود الفقري للألوف من الروايات التي أتت من بعد "دون كيشوت". ومن جهة ثانية، استعملت الكلمات المستقاة من الرواية في تعبيرات صارت شائعة الاستخدام في مجتمع القرن السابع عشر وجاءت خصوصا على لسان الجندي الخدوم سانشو بانثا.
يوضح أنطونيو إنريكه في كتابه الأخير "Canon Heterodoxo"، حول التأثير الذي أحدثته رواية ميغال دي ثرفانتس في الكتّاب الأسبان، كيفية ظهور الكتب التي تتناول الأخلاقيات الإنسانية بطريقة غير مباشرة: "إن الشعور بأن ما هو مكتوب يهدف الى الخير أو الى الشر يطبع في شكل جذري مفهوم الرواية"، يقول. وهذا الصراع يظهر جليا في مؤلفات بعض الكتّاب مثل أنطونيو غارثيا، وثرفانتس، وغارثيان، وهناك بعض الكتّاب الذين "ورثوه" عنهم في أعمالهم، مثل غونغورّا وفرانثيسكو روخاس ثورَيا، حيث يلاحظ لديهم طرق بينة لتجسيد صراعات الشعور بالذنب والشرف، كما لو أنها إشارة مباشرة الى أعمال ثرفانتس. كذلك كادالسو، يؤكد انطونيو انريكه، الذي "لا يظهر في "رسائله المغربية" عام 1789 تأثرا واضحا بثرفانتس في مصدر الكتاب اللغوي والأجنبي فحسب، وإنما أيضا في بصمة التفكير الحقيقي الواقعي القياسي الإنساني الفاعل". ويواصل أنطونيو إنريكه إمتاعنا من طريق المراجع التي أتى بها وأضافها إلى كتابه قائلا: "إن ثرفانتس هو الذي منح غالدوس عينيه"، مشيرا الى عملية تجديد الرواية في القرن الثامن عشر من جانب غالدوس. ويغدو هذا التأثير أكثر وضوحا مع كتّاب جاؤوا في ما بعد، من أمثال أونامونو، المدافع الأول عن ثرفانتس في حقبة اتسمت بالنفاق والنزعة الوطنية والمبادئ الحديثة المستعارة؛ فترة تغيرت فيها حتى رؤية دون كيشوت نفسه، وتم فيها تحويل ثرفانتس كاتبا مرتزقا فقيرا ذا قدرات ومواهب أدبية مشكوكا فيها.
على الرغم مما سبق، فإن التأثير الذي أحدثته رواية "دون كيشوت دي لا مانشا" في القرن العشرين الاسباني كان تأثيرا إيجابيا إلى حد بعيد، إذ استخدمت لغة هذه الرواية في أعمال لا حصر لها تتخذ من كلمة المغامرة عنوانا عريضا وصفة لصيقة بالشخصية الإسبانية، مما جعل من ثرفانتس عميد الأدب الإسباني بلا منازع. ولقد نهل كثيرون من الشعراء والرواة وكتّاب المسرح من التراث الذي تركه ثرفانتس في شكل مباشر أو غير مباشر، باستخدامهم لغة مشتركة مستقاة من اللغة القشتالية القديمة.
نحن إذاً أبناء ثرفانتس قبل أن نكون أندلسيين أو كتالونيين أو قشتاليين... الخ.وليس لدينا صلة هوية أكثر عمقا من هذه: أي اللغة التي ورثناها من ثرفانتس .
ثم تحول امبروزيو جهة دون كيشوت والمسافرين، وكأنه أراد ان يعلمهم بما لا يعلمون عن هذا الفتى صريع الغرام، فقال: "هذا جثمان الفتى الرائع خريسوستمو، هذا الفتى الذي تجسّدت في صدره كل معاني الإنسانية، هذا الفتى الذي كان يحمل في قلبه الكبير كل حب وكل تواضع وكل علم ينفع الناس. انه الشاعر الكبير الذي ما زال الناس ينشدون قصائده، وما زالت الكنائس ترتل أناشيده الدينية. انه سيبقى أبدا في قلوبنا، وفي قلوب المحبين للخير والسلام في كل أنحاء العالم. ولكن، وللأسف الشديد، فقد كان جزاؤه من هذه المخلوقة المدعوة مارثيلا ما تَرَون، لقد قتلته برفضها وكبريائها، وهذه أشعاره التي أوصانا بحرقها شاهدة على ذلك".

***

دون كيشوت انتهى وكذلك سانشو

خافيير رويث بورتيلا

خافيير رويث بورتيلاألبرت بواديلا كاتب مسرحي شهير ولاذع، كان له تصريح مثير للاهتمام أخيرا، وذلك عند تقديمه مسرحية "دون كيشوت" التي قامت بلدية مدريد بتكليفه إعدادها، لمناسبة الذكرى الأربعمئة لصدور الكتاب. أما ما تضمنه تصريح ألبرت بواديلا في مجلة "البيان" الاسبانية، فهو الآتي:
"مما لا شك فيه أن رواية "دون كيشوت" هي رواية أدبية وليست رواية مسرحية، لذلك لن أحاول أن أنسخ الرواية على الإطلاق ولن أقتبسها مسرحياً في شكل حرفي لأن هذا مستحيل، بل ما سأفعله هو أن أحاول العثور على "روح" دون كيشوت وإشاعته في النص المسرحي. أفضل ما يمكن القيام به اليوم هو إيجاد ما تبخّر واختفى من عالمنا، لأن الأكيد هو أن دون كيشوت وأمثاله ما عادوا حولنا. في غضون أعوام قليلة، عملت اسبانيا على القضاء على ما بقي من دون كيشوت وتأثيراته وأفكاره ومواقفه وروحه، في ناسها ومعالمها. يمكن القول انه مع نهاية عهد فرانكو انتهت الإشارة الى الدونكيشوتية كمرجع أو معيار، وأعني بالدونكيشوتية كل ما له علاقة بالقيم النبيلة والمكانة العالية التي ترتبط بسمعة دون كيشوت.
قد تسألون من قضى على دون كيشوت؟ حسنا، لا شك في أن من قضى عليه، وذلك في غضون ما لا يزيد على عشرين عاما، هو جيلنا نحن، جيل "التقدّم" والتطور المزعومين. عندما قرأت الكتاب في شبابي كنت ما زلت أجد مراجع دونكيشوتية من حولي، أما الآن فإني عندما أكتب شيئا ما حول هذا الموضوع، أضطر الى ان استعين بذاكراتي، ذاكرتي فحسب. أما الواقع فيخلو من أي مرجعية دونكيشوتية: بل لقد بات كل شيء جزءا من الماضي. اسبانيا نفسها على وشك الاختفاء. لذلك أراني قد أجد وسيلة لمعالجة "دون كيشوت" مسرحيا من هذا الجانب، من هذا الجانب التشاؤمي الحالك بالذات. وبما أنهم يتهمونني في كاتالونيا بالترويج لكاستيا، ستصبح هذه التهمة مبررة تماما اذا ما نجحت في تحقيق دفاع مشرّف عن دون كيشوت".
"اسبانيا نفسها على وشك الاختفاء"، قال بواديلا إذاً، مشيرا الى مشكلة الانقسام الخطيرة التي تواجهها اسبانيا في كاتالونيا وفي المقاطعات الباسكية. اذا كانت الأمة والهوية الاسبانيتان كما نعرفهما ونعيشهما، تواجهان الآن خطر الاختفاء، كيف يمكن الحفاظ على شيء دقيق مثل "الروح الدونكيشوتية"، وحمايتها من الأذى والضرر والدمار والخراب، وهي ما يعتبره معظم الناس، الأجانب خصوصا، ميزة اسبانيا وخصوصيتها؟ ولكن، ما لنا ولهذه الأفكار الآن؟ لنضع جانبا المشكلة القومية الاسبانية، ولنكتف بالحديث عن الهوة الروحية والثقافية العميقة، بل الفادحة، التي تعانيها البلاد، وهي هوّة على غرار الهوات القائمة في معظم البلدان الغربية الأخرى.
لا شيء مما كان يميز روح الفارس الذكي دون كيشوت دي لا مانشا في الزمن الماضي، يستمر قادرا على التأثير في رجال اليوم: لا الفروسية، ولا معنى الشرف ("الشرف؟ محض خرافات!"، سمعتهم يقولون منذ أيام على إحدى محطات الراديو)، ولا روح المغامرة، ولا الخيال الذي يبحث عن السمو والتجاوز وعن الوجه الآخر للأشياء. ان الروح النفعية، العملية، السريعة، التي هي في مستوى الأرض إن لم تكن أدنى باتت تسود على كل شيء وتنخر كل النفوس والعقول والتصرفات والعلاقات. ولكن ليست اسبانيا الوحيدة التي غضّت طرفها عن فارسها وابتعدت عنه وازدرته، إنما هو العالم الحديث كله، في الحال التي هو عليها الآن، الذي أعلن عداءه لدون كيشوت. ان اسبانيا بذلت على الأقل ما في وسعها من جهود خلال الاربعمئة عام الماضية - منذ بداية تجديد الأدب في سبيل الوقوف بكل قواها ضد ضياع الروح، ضياع جلبته الحداثة على رؤوسنا. لكن اسبانيا استسلمت في النهاية وسلّمت سلاحها، كان لا بد من ان تستسلم، ولكن يحسب لها على الأقل أنها حاربت مدة طويلة في سبيل الشرف والإباء.
لنعد الى دون كيشوت. هل يكون سانشو إذاً "البطل المضاد" anti-héros في زمننا هذا؟ ؟ هل يكون الرجل العادي، العاقل، العملاني، في آخر المطاف، هو الشخصية الضرورية لعصر فاسد كمثل عصرنا؟ لا، ليس المنتصر سانشو، إنما هي الشخصيات الحالكة مثل آما، والراهب، وأمثالهما. ولا المنتصر الشعب، الشعب المرتبط مصيره بمصير أسياده: فهذا الشعب اختفى وتحوّل "جمهورا"، والفرسان تحولوا بورجوازيين، والروح... الروح تحوّلت مادة

كان الإنسان في العصر الذهبي يتناول طعامه من الشجرة مباشرة، فلا يمنعه احد منها، ولا يضع احد دونها سياجاً يمنع الآخرين من الوصول اليها، وكذلك قل مع الحيوان الذي يريد ان يصيده. وشراب الإنسان، شرابه كان من الينبوع مباشرة أو من خلية النحل اذا أراد العسل أو من ضرع الشاة أو البقرة اذا أراد اللبن. والأمن، حتى الأمن كان موفورا، لا يعتدي احد على احد، وفيما يعتدي الناس بعضهم على بعض اذا لم يكن هنالك شيء يسمى الملكية؟ كل شيء للجميع، وخيرات الله كثيرة ومبذولة، وحتى النساء ما كن يخشين على أنفسهن أحدا، ولم يكن في نية احد من الرجال ان يُلزمهن امرأ هن لا يردنه. ولذلك لم تكن الواحدة منهن تتحرج من الخروج في النهار أو في الليل الى أي مكان تقصده، وإن سقطت إحداهن فإنما سقوطها بإرادتها ورغبتها، وليس الا ذلك.

***

الورثة

إيفان كارفاخال

إيفان كارفاخالسوف أطرح السؤال في شكل مباشر: هل يمكن أن يكون في أميركا الجنوبية أدب "قومي"، من دون أن يكون معتمدا في الأساس على "دون كيشوت" كمرجع له؟ لا أعتقد ذلك، وهذا يعود لسببين: السبب الأول هو المعنى والدور الجوهريان اللذان يتمتع بهما كتاب ثرفانتس في تاريخ الرواية الحديثة، والسبب الثاني مضمون هذا العمل الأخلاقي والايديولوجي. في سياق هذا المعنى ورث الأدب الاكوادوري "دون كيشوت". وفي وسعنا أن نقول ذلك عن الرواية أكثر مما نستطيع ان نقوله عن صاحبها، بما أن الرواية بالذات، وشخصيتها الرئيسية تحديداً، هي التي اكتسبت هذا الشرط الموروث في أدبنا.
لا يستطيع أحد الإفلات، لا في الأدب ولا في الحياة المعاصرة، من الحضور الدائم للروح العظيمة الهائلة لدون كيشوت دى لا مانشا. وهذا بالذات ما حدث في الاكوادور، وبتميز فريد من نوعه في تاريخ الأدب. لا أملك أدنى شك في أن الكثير مما تملكه هذه الروح يعيش بقوة بيننا. كلمات كالشرف، الكرامة، النبل، الإقدام، المجازفة بالحياة من أجل مفاهيم سامية، تخفي وراءها صفات الروح الاكوادورية اليوم. إن "دون كيشوت"، أقولها بإصرار، قد انطبعت في شكل واسع في أدب الشعب الاكوادوري.
لطالما عبّر الكاتب الإكوادوري الأكثر شهرة وأهمية في القرن التاسع عشر، خوان مونتالفو، عن إمتنانه الكبير لثرفانتس في عدد كبير من المناسبات، فضلا عن أنه كتب واحدة من أهم الروايات الإكوادورية بعنوان "فصول من "دون كيشوت" نسيها ثرفانتس "، لا يقلد فيها الأسلوب الثرفانتسي في الكتابة فحسب، بل يستولي أيضا على شخصيته الرئيسية العظيمة، الفارس النبيل الحزين، وعلى مساعده وحامل ترسه المخلص سانشو، فيحضرهما إلى جبالنا الشامخة. إن هذه "المغامرة الروائية" لمونتالفو، وإن لم تكن تحظى بأي تقدير أدبي في زمننا الحاضر، إلا انها تشهد إيما شهادة على جهده العظيم كناثر في المقال والنقاش، وذلك على غرار معظم معاصريه في أميركا الجنوبية واسبانيا. ولمن الفضل في هذه الموهبة النثرية لدى أولئك الكتاب، وفي إتقانهم جماليات السرد وتحليهم بالأفكار الأخلاقية؟ إن الفضل لثرفانتس بالتأكيد، وتحديدا لكتابه "دون كيشوت".
إن هذه العلاقة "الحميمة" ما بين مونتالفو و"دون كيشوت" هي علاقة نموذجية عاشها ولا يزال يعيشها غالبية الكتّاب الاكوادوريين من الأجيال اللاحقة، لا الروائيين منهم فحسب، بل أيضا كتّاب النثر والمقال. وتتجسد هذه العلاقة في طريقتين: الطريقة الأولى هي التماهي مع سلوك ثرفانتس أمام مشهد اللغة، وهذا معناه الوصول إلى شكل أدبي يستطيع أن يمزج ما بين التقليد الأدبي الإسباني وغنى الخلق اللغوي للمجتمع. ويُرصَد هذا التماهي عند بعض الروائيين التقليديين والواقعيين الاجتماعيين العاملين على التقرب من اللغة الشعبية، التي هي أصلا إرث من "دون كيشوت"، وعند الكثير من كتّاب المقالة في القرن العشرين. أما الطريقة الثانية فتتمثل في التمسّك بإرث مثالية دون كيشوت والنقد الايجابي الشعبي لسانشو. هاتان الصفتان موجودتان وبقوة في عاداتنا الموروثة من الحقبة الإستعمارية والمستمرة إلى اليوم، كشكل من اشكال النقد ومقاومة ايديولوجيات مرتبطة بالرأسمالية والفردية والإستهلاك.
الدون كيشوتية إرث إنساني يغنينا كبشر، فضلا عن إغنائها لغتنا وخيالنا وتعبيراتنا وأحلامنا. و"دون كيشوت" هو رسالة صداقة وتضامن وانفتاح لا محدود على الآخر، القريب والبعيد على السواء.
من الصعب معرفة ما إذا كانت الأجيال الشابة تقرأ "دون كيشوت" بالكثافة التي قرأها بها جيلي. الحقيقة أنه لأربعين سنة خلت، كانت فصول من هذه الرواية تدرّس في المدارس، لكن عدد الطلاب يومذاك كان قليلا جدا. لقد حالف بعضنا الحظ بقراءة هذا العمل العظيم في وقت مبكر من حياته، وكان لنا فخر الإعلان عن حبنا له في وقت مبكر ايضا، ولم نزل نعلن. "دون كيشوت" سكنت آفاقنا، والفضل في ذلك لا يعود إلى ثرفانتس وحده، بل الى أبنائه الكثر من أمثال خورخي لويس بورخيس وغابريل غارثيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا وسواهم من كبار كتّاب أميركا الجنوبية في القرن العشرين.
وراء هذه العلاقة الخاصة ما بين الكتّاب و"دون كيشوت"، هناك العلاقة الخاصة ايضا بين الشعب ودون كيشوت وسانشو، المشهورين حتى في أوساط أولئك الذين لم يقرأوا ثرفانتس. إن دون كيشوت وسانشو شخصيتان تتمتعان بنجومية جماهيرية، إذ حُملتا إلى السينما، الى الشرائط المصوّرة، الى شاشات التلفزيون، الى الإعلانات، وكل ما يمكن أن يخطر في البال من وسائل وفنون وميديا. بل إن هناك حرفيين اكوادوريين يصنعون أصناما صغيرة للفارس النحيل وحامل ترسه البدين لبيعها للسياح، وهم تعلموا صناعتها من أجدادهم وآبائهم ولم يقرأوا ثرفانتس في حياتهم. هناك إذاً، ابعد من الدون كيشوتية الأدبية، دون كيشوتية أخلاقية وإنسانية وجمالية نتناقلها نحن ورثة دون كيشوت من جيل الى جيل. لقد خرجت الشخصية من الكتاب، وتكررت أعجوبة الكلمة التي صارت جسداً
ذات ليلة، وهو في فراشه، سمع صرير مفتاح في باب غرفته، فظنّ أنها ألستيدورا جاءت تهاجم عفّته وإخلاصه للمنقطعة النظير دولثينيا، فأنشأ يناجي هذه بصوت مسموع: "لن تستطيعي أن تنالي من إخلاصي لمالكة قلبي، إن صورتها منقوشة فيه، وليس لامرأة أن تمحوها. لا تخشي يا سيدتي، وسواء عندي أكنت الفلاحة الجافية الطباع، أم كنتِ كما أنتِ في هذه الصورة الساكنة في أعماقي، فأنت أنتِ دولثينيا التي أعبدها".

***

الراهن أبداً

خايمي رودريغيز ساكريستان

خايمي رودريغيز ساكريستانرواية "دون كيشوت" لميغال دي ثرفانتس، التي نحتفل اليوم بمرور 400 سنة على تاريخ صدورها، هي الرواية التي يعترف جميع نقّاد العالم تقريبا بأنها العمل الأفضل على مر العصور: من المفروض أن لا نستغرب إجماعا مماثلا، فشخصية دون كيشوت تفوقت على الصورة الروائية، وغدت شخصية عالمية، شخصية يريد الكل التشبّه بها. كيف لا ودون كيشوت دي لا مانشا هو ذاك الرجل الشجاع، العادل، المدافع عن المحتاجين والمظلومين، والحالم أيضا وخصوصا، تكلله وتكلل أحلامه نفحة من الجنون؟!
الكتاب، كما نعلم، عبارة عن رواية لمغامرات تتخللها آلاف التقلبات والأحداث المشوّقة. أحداث تعيشها شخصيات، أناس عاملون، فقراء وأغنياء، نبلاء وعاديون، يعيشون ويعانون، يحلمون ويخدعون، يكافأون ويعاقبون، وفي وسط كل هذا الجمع من الشخصيات نجد دون كيشوت. لكن الكتاب هو أكثر بكثير مما يوحي سطحه، أي رواية المغامرات المشوّقة. فتحت المتن السردي ثمة أفكار وقيم وفلسفة حياة وصراعات نفسية وعاطفية. لذلك يجب قراءة الرواية من دون استعجال، بل على مهل، صفحة فصفحة، لأنها رغم كونها رواية طويلة (ما يقارب ال 700 صفحة)، فإن أفضل ما فيها هو استشفاف ما وراء الأحداث المكتوبة.
لكي نقوّم المخلوق كما ينبغي، علينا ان ندرك بدايةً قيمة الخالق. الكاتب ميغال دي ثرفانتس كان رجل عصره، وقد عاش حياته "بالطول والعرض": تابع دراسات عليا، قرأ بنهم وبلا كلل، عمل في مهن عدة، جُرح في أحداث الحرب، سُجن ظلما، عانى جراء بؤس زمنه، سافر كثيرا، عرف عن قرب دول البحر الأبيض المتوسط، مثلما عرف جيدا وعميقا مسقطه اسبانيا، تلك البلاد المتأرجحة ما بين الروحانية والصعلكة في القرنين السادس عشر والسابع عشر. هذا التأرجح متجسد تماما في "دون كيشوت"، المأخوذة شخصياتها من الحياة الواقعية، تلك الحياة التي يعالجها ثرفانتس بصورة فكاهية وساخرة، وبمزيج من الذكاء المتهكم والدراما الفلسفية، مما يثير في القارئ العجب والرغبة في الضحك، ويجعله في الوقت نفسه يتأمل بلا حدود.
دون كيشوت هو من الشخصيات التي أثارت، في جملة ما أثارت، اهتمام علماء النفس، فهذا الفارس الهزيل والطويل القامة يمتلك عالما داخليا قويا، وهو شخص حالم ومثالي، سمّاه العلماء النفسيون في القرن العشرين المنفصم الشخصية أو السكيزوفرين. السكيزوفرينيا، على ما نعلم، مرض يصلح لأن يكون استعارة لما يعانيه كل إنسان على وجه هذه الأرض: أي الصراع بين الأبيض والأسود، بين الخير والشر، بين "فوق" و"تحت"، ...الخ. الأمر نفسه ينطبق على سانشو بانثا، مساعد دون كيشوت الوفي، البدين والأكول، الواقعي والراجح العقل، اللطيف ذي الشخصية الطيبة. الاثنان مختلفان جدا على المستوى الظاهري، لكنهما متفاهمان ومنسجمان جدا لأن كل واحد يحترم الآخر ويساعده ويقدّره.
ثمة عنصر غنى، نادرا ما ينتبه اليه دارسو "دون كيشوت"، ألا وهو الحوارات الرائعة بين الفارس ومساعده. في الواقع، إن فصول الرواية التي تتناول تبادل الأحاديث بين دون كيشوت وسانشو بانثا حكيمة جدا، الى حد أنه يمكن القول إن ثرفانتس سبق عصره في علم السلوكيات الحديثة وفي دراسة الشخصيات. حتى جنون دون كيشوت هو جنون جذاب جدا، جنون ضروري ليستطيع أن يبقى كما هو، ولكي تصمد قيمه في عالم قاحل، جنون يشوّه له الحقيقة بجعلها مثالية. دون كيشوت يشبه نفسه، لكنه يشبه أيضا الى حد بعيد الشخصيات الروائية لكتب الفروسية الرائجة في العصور الوسطى، فهو يقلد الفرسان ويفكر ويتصرف مثلهم، ويحاول استرجاع معنى الشرف من العصور السابقة وإحياء شرارة الفروسية في العصر السابع عشر. هو طبعا سيخيب، فكيف يحيي المرء شعلة في كومة رماد بارد؟ هذه الصدمة كان لها عواقب وخيمة عليه، إذ انه لا يقبل حقيقة الحياة التي يعيشها ويجتاز الخط الفاصل ما بين الحقيقة والخيال، ويخلط بين ما يرى وما "يريد" أن يرى. يتوهم ان ألواح الطواحين ضخمة، يعتقد انه في قصر نبيل بينما هو في خان متواضع على الطريق، يرفع من شأن خادمة الى حد جعلها سيدة موقرة ومحترمة، وهكذا دواليك: لكن تشويه الحقيقة هذا، ينطوي على قيمة نسبية في مجمل الرواية، وله أيضا قيمة رمزية، إذ "ينقذ" الإنسان من العادي الملموس ويجعله يسمو فوق واقعه.
طوال هذه الرواية العظيمة نشهد حربا شعواء داخل الرجل الصالح الطيب الذي لا يرضى بفقدان القيم ولا بالفقر أو بالظلم، رجل كريم وشريف ومحب للحياة. وإن أفضل تكريم من جانبنا، في مناسبة الذكرى الاربعمئة لصدور هذا الكتاب، هو خوض تلك الحرب الضروس نفسها يوميا، والتعلم من هذا الشخص العالِم، المجنون، المثالي الذي لا ينفك يعود ليقف على قدميه بعد كل صدمات الفشل التي يمنى بها. لنبحث عن دون كيشوت حولنا، لنكن أبناءه وأحفاده ووارثيه بين البشر، لأننا نحتاج الى الكثير من الدون كيشوتيين في هذا العصر
همز دون كيشوت روثينانت وانطلق به خارجاً، وهو يحسب ان حامل سلاحه سانشو في أثره. غير ان صاحب الفندق امسك بسانشو الطيب، واخذ يطالبه بما ترتب عليه من تكاليف وأجور، لكن هذا أقسم انه لن يدفع شيئا، وليس هو الا تابعا لسيده الفارس الجوّال دون كيشوت، فاجتمع حوله نزلاء الفندق، وكان بينهم رجال يحبّون ان يلهوا ويمزحوا، فحمل هؤلاء المسكين سانشو، ووضعوه على البساط الذي نام عليه، واخذوا يؤرجحونه به، ويطوّحونه في الهواء، كأنه لعبة بين أيديهم، فكان يطير فينة عن البساط الى الجو، ثم يعود فيقع عليه في الفينة الأخرى وهو يصيح ويشتم، ويلعن الساعة التي عرف فيها نظام الفروسية حيناً، ثم يعود فيستعطفهم حينا آخر. لكن هؤلاء وجدوا في لعبتهم متعة وتسلية، فثابروا على ما هم فيه غير عابئين بصراخه.

***

التأثيرات الأربعمئة

ونستون موراليس

ونستون موراليس"دون كيشوت دي لا مانشا" هو بالنسبة الى كثير من الكتّاب المحليين في كولومبيا كما هو الإنجيل للمسيحيين، الكيبالون لتلاميذ الكيمياء الخرافية، والتاو لأتباع مفاهيم الزن. إحدى أبرز صفاته انه موضوع في كتاب لا زمني، وانه يشكل خريطة عقلية تقع في وقت مستقبلي، حاضري أو ماضوي لكنه باق في الحالين: بالنسبة الى كتاب له من العمر 400 سنة، كل السنوات، كل الأزمان تكون كالتاريخ. إنه كعالم بيثاغوراس الذي حسب كلامه - شاملا لكل شيء، الزمن فيه دائري، دائمي، مستمر بلا نهاية، ليس أفقيا ولا عموديا ولا متقطعا. إنه في اختصار الدائرة الكاملة التي تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ، وهكذا الى ما لا نهاية.
نستطيع طبعا، إذا أردنا التعريف بالرواية، أن نقول إنها رواية ساخرة، وأنها محاولة ناجحة من جانب ثرفانتس لتحقيق محاكاة تهكمية لقصص فرسان ذلك العصر. فثرفانتس العظيم يمزج فيها من ناحية أولى متاعبه والمتاعب الاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها عائلته، ويبالغ فيها، ومن ناحية أخرى يعرض لنا بجدية مطلقة، رغم النبرة الساخرة، أهمية المثل العليا التي تحلم بها شخصية الرواية. هذا الكتاب هو انعكاس ثمين وحقيقي للمجتمع الذي عاش فيه الكاتب، والحقيقة القاسية فيه ممثلة في الحوار مع سانشو وفي اللهجة التهكمية والمثالية في آن واحد التي يتكلم بها دون كيشوت.
لكن، هل يكفي تعريف كهذا، مبسّط، وإن يكن دقيقاً، لرواية تختصر كل الروايات؟ إن "دون كيشوت" تحتوي في الحقيقة على مراتب عدة من احتمالات قراءتها وتفسيرها:
أولا: قد تكون نتاج شخص مسنّ يعاني اختلالا عقليا من جراء ترهات كتب الفرسان.
ثانيا: قد تكون سردا لتحولات رجل هو ابن شحنات ايروس الكهربائية واحتداماتها الى حد فقدانه التوازن.
ثالثا: قد تكون قصة شخصيات تتكامل وتتوازن في بيئة ناتجة من عالم فوضوي.
لكن، مهما تعددت التفسيرات والقراءات، النتيجة الفعلية في آخر المطاف واحدة: دون كيشوت هو الروح، وسانشو بانثا هو المادة. إنهما يمثلان الحاجة إلى وضوح في الفكر والأسلوب على حد سواء، لكي نحصل على فكرة شاملة وكاملة عن كل كتابة أدبية. ذلك هو الكمال التام لدون كيشوت: احتواء عالمه على كل العالم، من المادة الى الضمير، من الآلهة الى عامة الناس، من القساوة الى الحب. من السهل العثور، مع كل قراءة ل"دون كيشوت" ثرفانتس، على الشعور بالنشوة الكيميائية الاولى الخاصة بالمبتدئين - كما لو ان القراءة فعل اصطدام مباشر بالضوء، وهو ما نشعر به كذلك في روايات مثل "اينيديا" لفرجيل، و"الجنة المفقودة" لميلتون، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي. ومن السهل كذلك أن نتعرف في "دون كيشوت"، تلك الرواية الآتية من الأمس، الى خورخي لويس بورخيس في "تخيلات"، وعلى غابريال غارثيا ماركيز في "مئة عام من العزلة"، وعلى خوان كارلوس أونيتي في "نسمة"، وعلى أليخو كاربنتيه في "مملكة هذا العالم" وعلى ليزاما ليما في "الفردوس".
كذلك المكان: لا مانشا هي العالم كله يكشفه لنا ثرفانتس، هي الهند والصين، هي بوينوس ايريس وهافانا، هي الشرق والغرب. ان هذا الكاتب الاسباني الكبير يمثل قوة في إطلاق عنان الفكر الحديث، إذ يدع الجنون يتفوق على المنطق، والشجاعة على هاجس الهيمنة، والأدب وقيمه على إغراءات العالم المادي القائم على المظاهر.
الأدب هو مقاومة، وبناء على ذلك، دون كيشوت هو على غرار سدّ يوقف المياه العكرة والكريهة الرائحة والراشحة من معاني "الصواب" و"الخير" و"اللياقة" التي يقررها الكاثوليكيون والسياسيون. ثمة ايضا ما هو "تاريخي" وسياسي في الرواية، وهذا ما يمكن ان نلمسه أصلا لدى عدد كبير من الكتّاب اللاتينيين الذين عبّروا على مر أعمالهم عن ثورة غير منظمة ضد السلطة. ولم تزل هذه الثورة قابلة للتطبيق في أيامنا هذه: ولهذا السبب ينطبق على "دون كيشوت" ما قاله القديس اغسطينوس من أن "العالم لم يخلق في الزمن؛ بل خلق قبله أو بعده". حقا، "دون كيشوت" لم تخلق في الزمن.
لأجل ذلك، وأيضا بفضل اللغة التي تلتجىء الى الحقيقة العارية، يشعر القارىء الحديث لتحفة ثرفانتس ان العمل كتب له، ويعنيه، وانه ليس محض قارئ مشاهد يكتفي بالتلصص على مرحلة زمنية ما وعلى شخصياتها وأحداثها.
ثمة تفسير آخر: من الممكن أن نكون، نحن ورثة دون كيشوت وأبناءه وأبناء أبنائه، شخصيات ثرفانتس "آخر"، ينتمي الى الأمس أو الغد، شخصيات إيجابية أو سلبية، ينهار مفهوم الوقت من حولها ولا يظل صامدا منها سوى الكلمة السيّدة. فكل عمل أدبي، في صفته ابن عالم الأفكار، ليس أدبا فحسب، ولا تخييلا، ولا مجموعة أوراق مكتوبة. إنه حياة. حياة تستمر وتنبض في كل العصور. هكذا دون كيشوت، الفارس الذي يختصر كل الفرسان، فرسان الماضي والمستقبل، وهكذا طواحين هوائه، الطواحين التي تختصر طواحين أحلامنا وخيباتنا وضيق عيشنا وعقم سياساتنا وتراكم مشكلاتنا اليومية، وهكذا كتابته، الكتابة التي تختصر كل ما كتبناه وسوف نكتبه، لا لتلغيه بل لتبرّر وجوده... ووجودنا
وفي يوم، وقد برّح بي الشوق اليها، مضيتُ الى أبيها، وطلبت منه يدها بأدب وحشمة وتصميم أكيد على الزواج. لم يمانع أبوها، ولم يرفض طلبي، لكنه رأى ان تقاليد الأسر النبيلة تقتضي ان يتقدم والد الشاب فيطلب يد الفتاة من والدها، وأنه لا يستطيع ان يخرق هذه السنّة، ولا يصح ان يخرقها حتى لا يقال ان فتاته تزوجت في قوم لم يطلبوها، أو لم يكونوا راضين بها زوجة لولدهم. وكان هذا حقا من حقوقه بل ومن حقوق كريمته لوسندا، فمضيت الى أبي لأعرض الأمر عليه وأنا واثق انه لن يخيّب طلبي، ولكن ظروف الحياة ليست دائماً الى جانب رغباتنا، فحين دخلت على أبي وجدت في يده رسالة، ومنذ ان رآني مد يده اليّ بها، فقرأتها، وعرفت منها ان "الدوق ريكاردو" وهو احد عظماء الأندلس يريد ان أكون عنده رفيقاً وصديقاً لأبنه الأكبر، وانه سيعمل على تعييني في منصب عال يليق بي.

***

حقيقة أم وهم؟

إميليو باليستيروس

إميليو باليستيروسإذا كانت رواية "دون كيشوت دي لا مانشا" قد وضعت حجر الزاوية الأول في هيكل الرواية الحديثة في العالم الغربي، واذا كان حتى العالم الشرقي يشعر بحجم هذا التأثير، فماذا نستطيع أن نقول عن البلد الذي وُلدت فيه، وعن الأثر الذي خلّفته هنا بالذات؟
كثيرون هم الدارسون الذين يؤكدون أن هناك توازياً وتشابهاً واضحين بين شخصية دون كيشوت وسانشو بانثا، وطباعهما وسلوكهما وأفكارهما، وبين الشخصية الإسبانية النمطية عموما، من حيث الروح التي تسيطر على هذه الشخصية وتميزها وتحدد ما هو "اسباني" وما ليس كذلك. ولكن، على غرار كل الصفات التي لا يمكن تطبيقها بشكل أوتوماتيكي، ليست هذه قاعدة تنطبق على كل الأسبان. وجهة النظر هذه مزيفة الى حد ما لأنه ليس ثمة أي شيء قاطع ونهائي ومطلق في الحياة، إلا أنها تعكس تصرفات ومواقف تتكرر لدى الشخص الاسباني، من خلال الثقافة عموما، ومن خلال الأدب في شكل خاص.
طبعا، لست أضيف جديدا إذ أشير الى التأثيرات التي أحدثتها رواية "دون كيشوت" في الأدب الاسباني، الى حد انه يمكن الحديث بلا مبالغة عن "عهد قديم" و"عهد جديد"، أي مرحلة ما قبل "دون كيشوت" ومرحلة ما بعد "دون كيشوت" في أدبنا. ولكن فضلا عن الأعمال التي انبجست من لدن تحفة ثرفانتس، إن شخصية دون كيشوت نفسها، مثلما هي، محافظة على اسمها وبنائها وخصوصيتها، تظهر كذلك في مئات أعمال الخلق الأسبانية الحديثة. ونذكر بين أكثر المؤلفين شهرة من الذين استعملوا هذه الشخصية في كتبهم، أونامونو وغونثالو تورينته بايستيرو من كتّاب النثر، وليون فيليبه من الشعراء، إلا أن تأثير "دون كيشوت" لم يقتصر على الأدب وحده، بل تجاوزه ليشمل كل أنواع الفنون، مثل سيمفونية إرنستو هالفتر الموسيقية، والرسم عند بيكاسو ودالي، والسينما عند مانويل غوتيريث أراغون، لا بل اننا نجده حتى في الأغنية الشعبية، كما عند خوان مانويل سيرات في أغنيته عن الفارس الذي يمتطي حصانه في سهول لا مانشا، وإن من دون ذكر مباشر لشخصيات ثرفانتس.
ما سبق لأقول إن "دون كيشوت" تجسّد أفضل ما تجسّد العلاقة بين الكتابة والحياة، بين المثالية والواقعية، أي هذه الثنائية بين الوهم والحقيقة، بين صورة الفارس الكريم والمعطاء والذي على شيء من الجنون الجميل، وبين الإنسان العادي، الأناني والمادي والمحب للمال والدنيء أحيانا، وإن لا تعوزه الظرافة. هذه الثنائية نجدها مكررة مرة تلو أخرى في النتاج الأسباني، على المستويات الأدبية والفنية والاجتماعية، وذلك بأشكال مختلفة، مع نقاط تشابه بين الكل.
الثنائية نفسها نجدها متمثلة ايضا في صورة المرأة في عمل ثرفانتس، من دولثينيا الطاهرة النبيلة ذات الجمال الخارق والأناقة التي تفوق الطبيعة، وصولا إلى خوانا غوتيريث، زوجة سانشو التي لا تهتم إلا بما يحمله زوجها لها ولأولاده من أغراض، من دون أن تسأله عما يعيشه في الطريق من مغامرات وأخطار مع سيده المجنون. بين هذين النموذجين المتضادين للمرأة، هناك مروحة من النساء، من جهة ثمة نساء الضيعة الوقحات، الصفيقات، القاسيات، الجاهلات، اللواتي يهزأن بالفارس الحزين وبآماله التائقة الى المثالية والكمال، ومن جهة ثانية نساء رزينات، حذرات، ذوات نيات صادقة، يتساعدن لحلّ بعض مشكلات الفارس المتطرف، ويستعملن ظرفهن وسيلة من أجل تحقيق ذلك.
لأجل كل هذه الأسباب المتضمنة في "دون كيشوت"، نجد أن الواقعية الطبيعية تطبع الأدب الاسباني عموماً، مع لمسة تهكمية حكيمة مضحكة تسمح بمشاهدة الحقيقة التراجيكوميدية، في تأرجح دائم بين المثالية وما دونها. نجد أيضا الحلم بالكمال وعدم المبالاة بما هو مادي، والتعاطف شبه الدائم مع ما هو مهمش ومضطهد. هذه الصفات حاضرة في قسم كبير مما يُكتب في هذا البلد ذي القلب الهائم والرأس الناقد، بلد "القوس"، مثلما يقال عنه. بلد يستطيع أن ينزف في حروب رومنسية ومغامرات ثورية، وفي وسعه في الوقت نفسه أن يدوس على جزء كامل من تاريخه ويمحوه من ذاكرته من دون ان ينظر الى الوراء.
قد تكون المرحلة الأكثر إشراقا وعذوبة في تاريخنا المزدوج القطب هذا، مرحلة الأندلس، مهد الحضارة الغربية اليوم، التي كانت مثالا للتعايش بين الثقافات، وللغنى باللغات. في أي حال، رغم انتهاء هذه المرحلة منذ قرون، لم تُقتلع بعد من القلب الأسباني جذور الحضارات التي امتزجت بدمهم، وإن تكن اسبانيا اليوم منقسمة بين من يحب هذا الإرث ومن يكرهه، إلى درجة أن ثمة من يحتقر كل ما هو "عربي"، وكأنه بقعة سوداء في سلالته. لكن ثرفانتس من جهته كان يظهر في مناسبات عديدة التعاطف مع ذوي الأصول العربية، وإن بحذر شديد، لأنه في ذلك الوقت لم يكن يستطيع أن يعلن موقفه بوضوح، لأن المسلمين كانوا ملاحقين وكان مفروضا عليهم التنصر إذا أرادوا البقاء في أسبانيا. لا بل ان ثرفانتس ذهب في ذلك الدعم الى حد انه نسب حكايات مغامرات دون كيشوت الى حامد بن نخلة، وهو مؤرخ عربي يقال إن ثرفانتس تفاوض معه على شراء الحقيبة التي تحوي القصص، ثم اتفق مع عربي ثان على ترجمة هذه القصص بأمانة وإخلاص.
من مزايا "دون كيشوت" الأساسية أنها تعكس ببراعة لا مثيل لها، وببساطة معقدة، الجوهر المتناقض للكائن الأسباني، وهو أيضا الجوهر المتناقض للكائن الإنساني. ألا يتحرك كل إنسان في تلك الأماكن الدون كيشوتية، بين الحلم والحقيقة، بين الرغبة في الطهارة والكمال، وقوة الوجود المادي التي تقتلعنا من غيومنا لتنزلنا إلى حلقات من الفساد والانحطاط؟
لهذا فإن "دون كيشوت دي لا مانشا" إسبانية طبعا، لكنها عالمية وكونية أيضا وخصوصا. وإن كل أسباني يكتب اليوم هو من دون شك، عن وعي أو بلا وعي، طالع من رحمها .
وبينما كانت الجماعة في هذا، خرج عليهم دون كيشوت وحامل سلاحه بهيئة أدهشت مَن لم يعرفه من قبل، ثم ما لبث ان تقدم من الأميرة ميكوميكونا باحترام ووقار، وقال يخاطبها: "سيدتي العظيمة الشأن، بلغني انك تحولت من أميرة تنتظر مُلكاً عريضاً الى فتاة مسكينة تمسح بدموعها أقدام الآخرين، فإذا كان هذا قد تم بإرادة من أبيك الملك الراحل خشية ان لا استطيع أنا الفارس الحزين الطلعة ان اقتل عدوّك، وأعيد إليك ملكك، اذا كان الأمر كذلك سيدتي فاعلمي ان أباك الحكيم قد أخطأته الحكمة في هذا، وهو لا يعرف شيئاً عن الفروسية، ولو عرف لأدرك ان فارساً مثلي لا يقف في وجهه أي مارد بالغاً ما بلغ. أوليس يعلم اني قطعت رأسه منذ حين قريب عندما بارزته في تلك الغرفة التي تمتلئ بدمائه؟ ومن قطع رأس المارد فهو قادر على ان يضع التاج على رأسك".

***

شخصية دولثينيا والانتشاء العقلي

ماريا أنطونيو أورتيغا

ماريا أنطونيو أورتيغاأذكر بشكل خاص أول "دون كيشوت" قرأته. كانت الطبعة الثامنة والعشرين من مجموعة "أوسترال" لإسباسا كالبي الصادرة عام 1979. تصاحبني هذه النسخة أنّى ذهبت، فهي أول كتاب وقع في يدي أثناء الدراسة، ولنقل إن أول مغامرة دون كيشوتية لي كانت أيام المدرسة، عندما لم أكن قادرة بعد على أن أدرك أهمية هذا الكتاب وكيفية تأثيره في حياتي. أذكر اني اندفعت يومذاك بحماسة نارية الى أن أقرأ وأن أعرف وأدرس وأحلل وأنقد (في دروس اللغة والأدب في المدرسة) أشياء وأشياء عن هذا المؤلف الرائع الذي وصف بأنه العمل الأدبي الأكثر بروزا في أدب اللغة الإسبانية في العصور كلها. ودعوني أعلن منذ البدء أني اعتقد أنه لا يوجد كاتب إسباني، منذ عصر ثرفانتس حتى الآن، لم ينهل بشكل أو بآخر من مشارب "دون كيشوت".
إسمحوا لي الآن ان أترك البطل ورفيقه في الظل، ولو لمرة، وأن أتوقف من جهتي عند شخصية محورية بالنسبة إليّ في هذا العمل الأدبي العظيم الذي يعدّ مصدرا لكل أديب، ألا وهي شخصية دولثينيا. تمثل دولثينيا قيمة الكرم (عدم الطمع) في الفلسفة الغربية، والعدمية في الحكمة الشرقية، حيث ينظر إلى العدم كأنه الكل، كونه العدم موجهاً نحو الأعلى.
يعتمد الفكر الأدبي على عنصرَي الترابط والتلاحم، وليس على فكرة التبادل التي تميز العلوم، والتي تتطلب إعطاء شروح، وإثبات الأفكار من طريق الحوادث التي تقع في الطبيعة. وإذا ما اعتمدنا هذا الفكر في قراءة محيط المشاعر والأحاسيس في الرواية، سيغدو ممكنا أن نؤكد أن كلاً من ثرفانتس وبطله دون كيشوت قد قدّسا حب المثالية الذي تمثله شخصية دولثينيا في الرواية، من دون أي حاجة لإثبات أي مشاعر أو أحاسيس تبرهن توكيدنا. إن كل ما فعله دون كيشوت يهدف الى تحقيق نظرته المثالية عن الحياة والبشر، لذا نسأل: ما الهدف، وما القوس في "دون كيشوت"؟ أليس الهدف هو ذاك الذي لا ينفكّ يقترب من القوس، على غرار الفارس، جريح حب دولثينيا؟ أليست دولثينيا النظرة التي تصل إلى العين، والفريسة التي تتودد الى الصياد؟ يمكننا أن نماهي دون كيشوت مع الفكر الكلي، ودولثينيا مع فعل "أحبَّ" منصهرا بفعل "فكّر"، منصهرا تماما، حتى يصبح "مشى" مثل "فكّر"، و"تكلم" مثل "فكّر"، و"نظر" مثل "فكّر"، و"أحب" مثل "فكّر"، وقبل كل ما سبق: حتى يصبح "مات" مثل "فكّر". تتحول دولثينيا بهذا إلى "فكر" الحب.
يجب ألا ننسى أن أسلاف سقراط بنوا فلسفتهم على أساس تحويل الانتشاء الجسدي انتشاء عقليا، كما قال برتران راسل. هذا الانتشاء موجود في دون كيشوت، ويستطيع بطله الأكثر تمثيلا للتقاليد الأدبية في بلادنا أن يجعلنا نفكر في سهولة الجانب المعنوي الذي تمتلكه التقاليد الإسبانية، وأن يدفعنا الى خلق أعمال أدبية يظهر فيها الميل الشديد نحو المثالية الترابطية، من دون طلب أي ضمان أو تأكيد "علمي". دعونا لا ننسى، ايضا وأيضا، أن بعض المتصوفة يعتقدون أن الله لا يكتفي فقط بفكرة الوجود، كما يقول ليفيناس في عرضه لسيمون ويل، وإنما أيضا بفكرة عدم الوجود؛ بمعنى أنه يرفض كل شرح "علمي" منطقي عن نفسه، فيظل احتمال وجوده أو لا وجوده مفتوحا. إن الله والحب لا يمكن أن يثبتا علمياً، وإنما هما مرتبطان بأحداث تقع خلف أبعد من أفق العقل، وهدفها الكبير هو أن تجعلنا ندرك حدود هذا العقل، أي حدودنا.
إن هذه النظرة الى الإنسان تمثلها شخصية دولثينيا التي، أكثر من كونها امرأة، هي اتساع الأفق، هي النظرة التي لا يُنظر إليها، هي الهدف الأشد أهمية الذي لم يستطع الإنسان تحقيقه قط، إذ تنعكس فيه القدرة الكبرى على العرفان والكرم، وعلى عدم الطمع والتعالي على الحسابات الآنية، وعلى القيام بالأشياء الأكثر جمالا ونبلا من دون انتظار أي شيء في المقابل؛ فكرتا الله والحب لا تتطلبان إثباتات، وإنما ما يسمّى في اللغة "الإيمان". فكل شيء معيّن وملموس يتحدث عن نفسه، فلا يحتاج إلى الكلمات، لذا فإن اللغة هي الكلام عن الأشياء التي لا تحتاج إلى تحديد مباشر، عن المحبوب الذي يرتمي مغمضا عينيه بين ذراعي حبيبه. دولثنيا تمثل ايضا مفهوم التجريد، ذاك الذي لا يُقبض عليه، الذي يحرر من جفاف ما هو شديد الوضوح، ومن صخب الموت الذي يعدّ منتهى الحسية.
لهذه الأسباب كلها قد تكون دولثينيا هي الإله الأنثى، الذي يسمح للإنسان بأن يتكلم، أي أن يحلم. فهنا، في هذا الحلم بالذات، تتكوّن اللغة الحقيقية التي لا تحوي إشارات وعلامات فقط، وإنما هي مليئة أيضا بالاستعارات، وخصوصا بأقلام أُطلق عنانها. أليس هذا الانفلات الفلسفي جديرا ببطل مثل دون كيشوت؟

مضت العربة في طريقها، فالتفت دون كيشوت الى الفارس ذي الرداء الأخضر، وقال: "انت، يا سيدي دي ميرندا لا اشك في انك تحسبني أحمق أو مجنوناً، وهذا طبيعي لأن أقوالي وأفعالي تعني هذا، وتدل عليه، ولكن كان لا بد لي من هذه الحماقات ما دمت قد قطعت عهداً على نفسي بإحياء الفروسية. واذا كنت قد قطعت هذا العهد على نفسي فعليّ ان أكون القدوة في المغامرات والتهور، علماً انني اعلم ان الشجاعة نقطة الوسط بين الجبن والتهور. افعل ذلك لأنه من الأفضل ان يقول الناس هذا فارس شجاع متهوّر من ان يقولوا جبان ناكس".

***

مكانٌ له في هافانا

إنريكيه رومان

إنريكيه رومانعلى بعد أمتار قليلة من وسط هافانا، هناك حديقة صغيرة، يستيقظ فيها كل يوم عشاق تعساء وعجائز حائرون وشعراء باتوا الليل في نقاش مع زملاء آخرين ساهرين، ويمر بها كل صباح موظفون مسرعون وطلاب الفترة الصباحية. هي حديقة "دون كيشوت" كما يسمّيها الجميع. ينتصب في وسط هذه الحديقة تمثال من المعدن الصلب للفارس الكريم، عاري الجسد، ومعه رمحه الذي استبدله النحات بنوع من أنواع السكاكين، مشجّعا المناضلين الكوبيين على الكفاح ضد المستعمر الإسباني، ممتطيا جواده روثينانتي الهزيل النحيل، المصنوع من المعدن نفسه.
في البداية أدت هذه الطريقة الفريدة الغريبة في تجسيد ألونسو كيخانو إلى تباين الآراء. فشخصية "دون كيشوت دي لا مانشا" هي بلا شك الشخصية الأدبية الأكثر شهرة ورسوخا في الثقافة الشعبية الكوبية في الخمسين سنة الأخيرة. لخمسين عاما خلت، لم يكن هناك تمثال، ولم يكن هذا المكان موجودا وسط هافانا، وكانت معرفة الناس بدون كيشوت تقتصر أساسا على قطاع المتعلمين في المجتمع الكوبي الذي كان يضم نسبة ثلاثين في المئة من الأميين.
عام 1961، أي بعد عامين من انتصار الثورة الكوبية، انخرطت البلاد في عملية متابعة تعليمية مكثفة حققت نتائج عظيمة. كان هناك الكثير من الكتب في انتظار القراء الجدد. وكان من هذه الكتب الأساسية رواية الحكيم الغريب "دون كيشوت دي لا مانشا"، التي طبعت في مطبعة الثورة التي كانت قد افتتحت أخيرا، في طبعة شعبية شاملة مكوّنة من مئة الف نسخة، كانت تكلفتها رمزية مقدارها 25 سنتا، أي ما كان يعادل دولارا واحدا آنذاك.
وكان اكتشاف مغامرة دون كيشوت بمثابة اكتشاف هؤلاء القراء الجدد لأنفسهم. ففي تلك الأعوام الصعبة التي كان يرتدي فيها الفلاحون والعمال والمفكرون من الجنسين زيا موحدا لمواجهة القوة الأكثر نفوذا في العالم، والمالكة أسلحة كثيرة حديثة الصنع، أخذت صورة دون كيشوت وهو يصارع طواحين الهواء، أو وهو يلقي بنفسه في مغامرة قائمة على حلم غير مفهوم بالنسبة الى من ليس لديه القدرة على الحلم، أخذت هذه الصورة تدخل شيئا فشيئا في شكل أكبر وتحتل حيزا أوسع في الحياة اليومية للكوبيين. فلقد استطاعت هذه الرواية بطريقة غير عادية، ليست أدبية فقط بل اجتماعية أيضا، أن تتضامن مع الروح الشعبية الكوبية.
لقد عبّرت شخصيتا دون كيشوت وثرفانتس عن شخصيات كأنها من بيئة الكتّاب الكوبيين، وبدا لنا كأن الرواية طالعة من أدبنا. وفي مناسبة مرور 400 عام على طباعتها ونشرها للمرة الأولى، عرضت "مكتبة خوسيه مارتي الوطنية" في موقعها الإلكتروني الخاص، قائمة طويلة بأسماء الأعمال الكوبية الأكثر أهمية والتي ينعكس فيها التأثر بثرفانتس والطريق الشاسع الذي شقه أمام الآداب الإسبانية بنشره الرواية العظيمة تلك. ولعل أكثر كتّاب كوبا تأثرا بثرفانتس هو أليخو كاربنتيي، واحد من المؤلفين الأكثر أهمية في الرواية الكوبية، وأحد أهمّ روائيي اللغة الإسبانية في القرن العشرين. ولم يكن أليخو كاربنتيي عارفا مميزا فقط بالأعمال الثرفانتسية، وإنما تلقى كذلك عام 1977 جائزة آداب اللغة الإسبانية ميغال دي ثرفانتس من يد العاهل الإسباني الملك خوان كارلوس الأول.
في الخطبة التي ألقاها في حفل قبوله الجائزة، الذي انعقد في جامعة ال"كومبوتينسه" في مدينة ألكالا دي إناريس، مسقط رأس ثرفانتس، قام كاربنتيي بتحديد أهمية ثرفانتس بشكل قاطع إذ قال: "إن دون ميغال دي ثرفانتس هو الذي ولدت على يديه الرواية الإسبانية الحديثة، ولا أزعم أني بهذا قد جئت بشيء جديد".
وركّز كاربنتيي على كون ثرفانتس مؤسساً فقال: "كان أول عاشق حقيقي للأدب الحديث، لذا كان دون كيشوت يظهر أشباحه نفسها في صورة حبيبته دولثينيا لعبة ظهور الأشباح القديمة - رافعا بذلك حقيقة شعبية إلى مستوى تخيله الشخصي. ومنذ تلك اللحظة أصبح كل شيء مسموحا به أمام عقل الخلاّق. فلقد رسم ثرفانتس عالما تتخلى فيه التفاحة عن كونها ثمرة عادية، لتتحول إلى تفاحة نيوتن، وينتهي الأمر بكلافيلينيو في هذا العالم وهو يطير بسرعة فائقة، ويولد دون كيشوت الإسباني العالمي عبر كتب الفروسية، جيدة كانت أم لا".
أما خوسيه مارتي، وهو أحد أكبر الأدباء والمفكرين السياسيين الكوبيين، فلم يرد أن يظهر شعوره بالحب الشديد لشخص ميغال دي ثرفانتس، لكنه قال مادحا ظهور كاتب كوبي كبير: "في الدراسة الحقيقية للكاتب في كوبا، يعتبر ثرفانتس ذلك الصديق الصدوق للمرء الذي عاش زمن الحرية والزينة والجمال، لكنه فضل أن يعيش الحياة بين البسطاء على أن يعيشها في البلاط الملكي، وهو أيضا متعة الآداب وأحد الشخصيات التاريخية الأكثر جمالا".
إن اثر رواية "دون كيشوت" كبير في كوبا بلا شك، الى درجة أنه عندما كان تشي غيفارا، رمز الشعب الكوبي ورمز أحلامه، في طريقه لبدء حملته الثورية الجديدة في إفريقيا وأميركا اللاتينية، أعلن لأبويه بداية رحلة الخلود معترفا لهم بإيحاء من تحفة ثرفانتس: "مرة أخرى أشعر بصدر روثينانتي تحت كعبي، حيث أعود إلى الطريق ومعي رماحي تحت ذراعي"
وهكذا قضى دون كيشوت وسانشو الليل والنهار التالي في مثل هذه الأحاديث. ولمّا ولّى النهار، وبدأت فراشاته الأخيرة تهرب أمام شبكة الظلال التي اخذ الليل ينصبها لها، بدت مدينة توبوسو وهي تغرق في تلك الأمواج السود، فأحسّ دون كيشوت بأن الصباح قد اقبل، وانتعشت نفسه. وأما سانشو فقد كان هذا مدعاة عنده للعبوس والكآبة، إذ بدأ يفكر في ما يقوله لسيّده اذا ما طلب اليه ان يقوده الى حيث دولثينيا التي لم يرها، ولا يعرف مكانها، فبدا كلاهما قلقاً مضطرباً، الأول منهما شوقاً والآخر خوفاً. بيد ان دون كيشوت لم يرغب في دخول المدينة الا عندما يغرقها الظلام، فتريّث وتابعه تحت شجرة سنديان حتى اذا كان الظلام كما رغب له ان يكون دخل وصاحبه مدينة توبوسو.

***

من الحبّ ما قتل

دييغو فالفيردي

دييغو فالفيرديهل تتخيّلون أن تعثروا على "دون كيشوت" لأول مرة؟ أن تتناولوا الكتاب من دون معرفة الكاتب أو السماع عنه؟ أن تغوصوا على هوى المصادفات في كل صفحة من صفحاته؟ وأن تظلوا منوّمين مغنطيسيا مع كل مغامرة من مغامراته أو كل حوار من حواراته؟ هذا بات الآن مستحيلا. لقد خسرنا جزءا كبيرا من متعة هذا الاكتشاف، وسوف أقول لكم لماذا.
نحن نعرف أن "دون كيشوت" رواية كلاسيكية، نعرف أنها رواية كبرى وأن منها تشتقّ كل الأعمال الروائية الحديثة، وكتّاب العالم أجمع يعتبرون شخصيتي دون كيشوت وسانشو بانثا أسطورة أساسية من أساطير حياتنا. لكن هذا النجاح وهذا الإسهاب الطويل صارا ضد "دون كيشوت". سمعة الكتاب تزن مثل الحجارة، وتشدّ به تاليا الى أسفل. إن التبجيل الذي يرفعه معظم الناس لهذا الكتاب، يجعلنا نشعر كما لو أنه من المفروض حفظه داخل واجهة زجاجية والتفرّج عليه فحسب. الطلاب المجبرون على قراءته يفعلون ذلك بصورة ناقصة ومشوهة وإجبارية، ويدرسونه لكي ينجحوا في الامتحان بدل ان ينهلوا منه لمتعة القراءة. ليس صعبا الوقوع في غرام "دون كيشوت"، ولكن لم يعد أحد يفعل ذلك لفرط ما صار حبّه "واجباً"، لفرط ما صار في كل مكان الى حد إثارة التخمة بدل الاهتمام. هل تعرفون قصة "الرسالة المسروقة"؟ في هذه القصة، الكل يبحث باجتهاد عن رسالة ما، لكن لا أحد يعثر عليها رغم أنها كانت موضوعة في شكل واضح على المكتب: لأنها كانت أمام الجميع لم يرها أحد. وهذا ما يحدث مع "دون كيشوت". بات الكل يستطيع الحصول عليه، في المنازل، في المكتبات، في الانترنت، في الشوارع، على التلفزيونات، في المتاحف... الخ. ولكن لا أحد تقريبا ينتبه اليه، ينتبه اليه حقا ويميز روعته وغناه وجماله.
مع هذا، ورغم كل ما قيل، فإن كتاب "دون كيشوت" يحظى بمجموعة من المخلصين الذين يعبدونه، وهم أناس معتادون على قراءته وعلى العودة اليه بين حين وآخر. يعودون لا لأن الكتاب يتغير، ولكن لأن القارئ لا مفر أن يكتشف في كل مرة أشياء جديدة تمنحها إياه خصوبة "دون كيشوت". وهي رواية أساسية لعدد لا يحصى من الكتّاب: من بورخيس الى ماركيز، من موتيس الى يوسا، من روخاس الى فوينتس، وسواهم كثر من خارج العالم الاسبانوفوني ايضا. ولكن، لنتأبط شجاعتنا ونسأل: أين يعيش اليوم دون كيشوت هذا؟ بالنسبة إليّ هو لا يعيش حتى في الخيال، فالخيال البشري نفسه خضع لمنطق الواقع وبات لا يجرؤ على الحلم بأكثر مما يعرف أنه سينال. أين دون كيشوت واين سانشو بانشا واين دولثينيا واين أمثالهم من الحالمين الكبار؟ أنظروا حولكم، أتحداكم أن تجدوا نماذج كهذه في عصرنا. لقد مات دون كيشوت ودفن منذ زمن، ولم يبق منه ومن رموزه سوى طواحين الهواء التي سنظل نحاربها بلا هوادة وسنظل نخسر بلا هوادة جيلا وراء جيل وراء جيل، حتى الفناء. تصوروا ان ثمة في اسبانيا مربيات "دون كيشوت" ومناديل "سانشو بانثا" وأجبان "دولثينيا"! هل ثمة مثال أوضح على الاستهلاكية المذلّة والمادية الدنيئة اللتين وقعنا في افخاخهما؟ إعلان، العالم كله إعلان كبير: حتى دون كيشوت صار أداة دعائية لبيع المنتجات، فهل أفظع من مصير كهذا؟
عود على بدء: نأمل أن يتراجع مدّ "دون كيشوت" في عالمنا الاسباني، نأمل أن يعطى لنا أن نكتشفه من جديد، أدبا وقيما وأفكارا، من دون ان يمرّغوا اسمه باستمرار تحت أنوفنا في مستويات ما تحت أرضية.
حقا قد صحّ في هذا الفارس المثل القائل: ومن الحب ما قتل!
أمر الكاهن الخادمة بأن تلقي بالكتب جميعها الى النار في الخارج. وبينما كانت الخادمة تحمل حزما منها سقط كتاب، فصاح القسيس قائلا: "انه تيران الأبيض، يا له من كتاب يحمل البهجة والمسرة الى كل قلب!". ثم شرع يعدّد ما فيه من مزايا لن يراها قارئ في كتاب آخر، على الرغم مما فيه من سخف وترّهات لم يكن المؤلِّف مضطراً اليها. ثم أرسل كتباً أخرى الى النار، ومنها بعض كتب الشعر، ومن خشيته وأصحابه ان يتعلق النبيل كيخانا بالشعر، وداء الشعر ليس بأسهل من داء الفروسية، ولكنه وقع على كتابين بعنوان "ديانا" فأرسل الأول الى النار، وأما الثاني فقد احتفظ به، وقال: "ان مؤلفه خيل بولو" ولعمري كأن أبولّو نفسه قد وضعه، فأبعدوه عن الإعدام". فأبعدوه.


***

الإله المجنون يمتطي حصانه من جديد

فرناندو لويس بيريث بوثا

الإله المجنون يمتطي حصانه من جديدإن طواحين الهواء موجودة، ليس فقط في الحقيقة أو في مؤلَّف "دون كيشوت" لثرفانتس فحسب، وإنّما كذلك في مخيلة كتّاب اليوم: وعلى غرار ما يجري في الرواية الشهيرة، تتنكّر الطواحين في شكل عمالقة وتدير بألواحها السحر الداخلي فينا، ذاك السحر نفسه الذي يدفعنا الى أخذ القلم أو إلى الجلوس ساعات أمام الكومبيوتر مشتبكين في معركة يومية خلاّقة. القارىء بدوره يخوض كل يوم معركة طاحنة مع ألواح طواحين الهواء الخاصة به، بصمت، كلمة كلمة، فقرة فقرة، صفحة صفحة.
عيون دون كيشوت لم تزل مفتوحة، لم تزل ترى ما يحدث بالنظرة نفسها. لقد مر بعض الوقت فحسب، بضع مئات من السنين، لكن الحاضر يبقى حاضرا، ولن يتغير أبداً. دون كيشوت يعود إلى الكل، يعود الى فولكنر، غوته، ستاندال، فلوبير، دوستويوفسكي وكافكا. كلّهم شربوا من منبع كلماته. لكن هذا كله لا يهمه، كما لم تهمه من قبل الإخفاقات والضربات الموجعة والتحقيرات والمصائب، أو الطريق الذي مشاه بشجاعة رغم أنه كان طريقاً مفعماً بالقضايا التي لا حل لها: لم يهمه هذا كله لأن هدفه الأسمى، أي إحلال العدل، كان يسيطر عليه تماما.
بالنسبة الى هذا الفارس الاستثنائي، لم يزل هناك عالم آخر، عالم يعيش فيه الجائعون والمحتاجون، الأيتام والأرامل، بسعادة تامة ومن دون حاجة الى فرسان ينقذونهم. إن القصة الخيالية موجودة دائماً في الواقع. ودون كيشوت لم يزل يجول في المانشا وفي كل العالم على صهوة روثينانتي، ويجول في صفحات آلاف الكتب التي كُتبت عنه بأيدي المؤلفين الذين قرأوه ودرسوه، ويعمل على فتح آفاق أدبية جديدة أمام الكتّاب اليافعين.
لواء البطل هو محبة الآخرين، والعدل والحرية. لواء جعل الكثير من كتبه المطبوعة تتحول كتبا عالمية. لواء بلون التسامح الذي من المفروض أن يكون لواء البشر أجمعين.
دون كيشوت هو مجنون إلهي، بل إله مجنون يحطم روتين الوجود والالتزام السلبي، السطحي، بالأعراف والقوانين، ويترامى إلى الطرق بعد كل مغامرة جبّارة: هو يهدف الى تغيير العالم واستئصال الشر منه، ومغامراته هذه تؤثر في كل ما يحيط بنا من أدب، ومن أفكار، ومن ثقافات، ومن عادات، وبصورة غير مباشرة، هي تؤثر حتى في السياسات.
هذا الكتاب التحفة كان عبارة عن محاكاة ساخرة ل"الحماقات" التي يمكن كل إنسان حالم ارتكابها، هذا الحالم الذي يصفه الكاتب الاسباني ارتورو بيريث ريفيرتي ب "الجبان البطل"، وفي الوقت نفسه كان كتاب جيب ينظّر لرؤية أدبية جديدة وتجديدية. إنه يلوّح بسيف المثالية أمام ضحالة التمسك بالملكية والمادة. دون كيشوت وسانشو بانثا يسيران معا في الطريق نفسه: من جهة هناك الشعر، ومن ثانية البترول الأسود، من جهة النبالة والعطاء وحب الغير، ومن ثانية الجشع والأنانية والدناءة. بعد اربعمئة سنة، لم يزل الطريق هو هو، نجد فيه الحد الأقصى لوجه الإنسان وظهره. الشيء الوحيد الذي تغير اليوم هو ان القصور أصبحت شققا عصرية. لدينا الآن سانشو بانثا جديد، وإن لم يزل يعاني الهلوسة وشرود الفكر كسلفه، وقد تحولت مصيدة العصافير القديمة أسلحة دمار شامل بين أيدي أطفال العراق. لكن الأنانية والتجاهل ازدادا استفحالا، وأصبحت دموع الجائعين تعتبر كما لو انها ضحكات، وألم الأطفال ضحايا القصف وعذابهم باتا يعتبران كما لو أنهما فرحة أو غنيمة حرب.
لذا، فإن دون كيشوت لن يجد اليوم سبيلا سوى العودة إلى التجول هائما، والدخول برماحه الصادقة وقيمه المثالية في حروب جديدة، رغم ان عليه الآن أن يواجه عمالقة حقيقيين، اتخذوا شكل الأنظمة الديكتاتورية والشركات العالمية كان الفلاح الشاب الذي غرّر بابنة الوصيفة رودريغث قد هرب الى إقليم "الفلاندر" خوفاً من أن يُلزم فتصير الوصيفة رودريغث حماته، وهو لا يرغب في ذلك، والأيام السبعة تسير الى نهايتها، والدوق... ماذا يفعل الدوق وقد وعد بإحضار الشاب الفلاح للمبارزة؟ وهو لا يريد أن يخيس بوعده، فقرّر أن يقوم بدوره أحد خدمه، ووقع اختياره على توسيلوس، وتمّ له ذلك، فلقّن هذا ما يجب عليه أن يفعل. وأما دون كيشوت فقد كان بانتظار أن تنتهي مهلة السبعة الأيام بصبر نافذ ورغبة ملحّة. إنه يريد أن يُثبت للدوق ومن حوله أنه فارس مغوار، وأن ساعده لا يُلوى. وبقي من المهلة أربعة أيام نترك دون كيشوت في انتظارها يتقلّب على نار الشوق حتى ساعة المبارزة.

***

بورخيس ودون كيشوت

دانيال تشيروم

في عيد الميلاد عام 1937، تعرض خورخي لويس بورخيس إلى حادث تسبب له بمضاعفات في الدم، الأمر الذي جعله يمضي عشرة أيام في المستشفى. وقد روى الكاتب الكبير بعض هذه التجربة في قصته "الجنوب"، حيث نجد ان البطل الرئيسي، وهو داهلمان، بالكاد يستطيع أن يخفي آثار بورخيس، فيقول مثلا: "تحمّل بصبر العلاج الذي كان مؤلما للغاية، ولكن عندما قال له الجرّاح إنه على وشك الموت من أثر المضاعفات قي الدم، أخذ في البكاء من فرط تأثره".
هذا الحادث، عدا أنه جعل بورخيس يكتب أكثر قصصه روعة، كان الدافع الأساسي وراء ولوج بورخيس باب القصّ، لأن أعماله إلى ذلك الحين كانت تقتصر على الشعر والمقالة. وهو يروي ذلك في سيرته الذاتية: "بعد وقت قليل سألت نفسي إذا كنت أستطيع الكتابة إثر عارضي الصحي. قبل الحادث كنت قد كتبت بعض القصائد وعشرات المقالات القصيرة، وفكرت أني لو حاولت كتابة قصيدة جديدة وفشلت، سيكون معنى ذلك نهايتي كأديب، أما إذا حاولت أن أكتب شيئا جديدا وفشلت، فالأمر لن يكون مؤلما جدا. لذا قررت محاولة كتابة قصة. النتيجة كانت "بيار مينار، مؤلف دون كيشوت". نعم، القصة الأولى لبورخيس (الموجودة في كتاب "خيالات" 1944 )، وهو الكتاب المخصص لدون كيشوت دي لا مانشا، تظهر إعجاب الكاتب الأرجنتيني الكبير بعمل ثرفانتس الخالد.
قد يبدو من السهل للوهلة الاولى الحديث عن أول قصة كتبها بورخيس في حياته وإختصارها، إلا أنها في الحقيقة قصة لم تكن تخلو من العقد والتشعبات، الأمر الذي جعلها مركز اهتمام ودراسات مختلفة كثيرة. النقطة الأساسية التي تنطلق منها هي أن بيار مينار، كاتب من القرن العشرين، أراد أن يعيد كتابة دون كيشوت. "هو لا يريد أن يكتب رواية "دون كيشوت" أخرى، بل الرواية نفسها"، يكتب بورخيس، لأنه من غير المفيد الإضافة. لم يكن يريد ان يقوم بكتابة أخرى للأصل، ولم يكن واردا لديه نقلها، بل انحصر كل أمله في احتمال إنتاج بعض الصفحات التي تتطابق كلمةً كلمة وسطراً سطرا مع صفحات ميغال ثرفانتس. أن يكون بيار مينار بطريقة ما ثرفانتس، وأن يتمكن من "القبض" على دون كيشوت، هو أمر سهل نسبيا، ولكنه أقل إغراء من أن يبقى بيار مينار هو بيار مينار، وان "يقبض" على دون كيشوت عبر تجارب بيار مينار.
بالطبع كانت المغامرة فاشلة، لأن المشروع كان مستحيلا. "لا بد أن يكون المرء خالدا ليتمكن من تحقيقه". ولهذا عمل مينار فقط على الفصلين الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، من "دون كيشوت"، وعلى جزء من الفصل الثاني والعشرين.
هارولد بلوم، وهو من المعجبين ببورخيس، وصف القصة بأنها مضحكة. أما الناقدة الأرجنتينية بياتريث سلولو فقالت إن التناقض الظاهري الهزلي لمينار تبيّن من طريق الفضيحة المنطقية، فكل النصوص هي إعادة كتابة لنصوص أخرى. وكل هذه التنقلات وألعاب المرايا قائمة على ثلاثة مؤلفين: بيار مينار الذي يتكلم عبر مخطوطاته بضمير الأنا في بعض أجزاء الرواية المعاد كتابتها، وبورخيس، وهو الراوي الجريء لمحاولة مينار الشجاعة، وميغال دي ثرفانتس مؤلف "دون كيشوت" الأصلي الذي بدونه يبقى عمل مينار بلا فائدة. وفي الوقت نفسه يوجد ثلاثة قراء: مينار، قارئ دون كيشوت. بورخيس، قارئ مينار. و نحن، قراء بورخيس ومينار.
بالطبع تستهوي القصة اللغويين الى حد كبير. ولهذا ترى مارتا رودريغس ان النص النقدي في بيار مينار بورخيس يعيدنا إلى نص مينار. بين الإثنين تستقر علاقة تشابه. أما خوليان كريسوبا فيسمّي العملية احتمالا مدلوليا. الإحتمال يظهر في خطاب، هو خطاب الناقد الذي يعكس خطابا آخر من طريق البساطة والمحاكاة الساخرة (تحويل الجد إلى هزل).
يكتب بورخيس في القصة أن مينار، وبدون قصد، أغنى تقنية المفارقات التاريخية المتداولة، والنسب الخاطئة، بواسطة تقنية جديدة للفن الثابت والبدائي. يحاول بيار مينار أن يبرر نظريته قائلا: "ذكرياتي عن دون كيشوت عامة، وهي سهلة بسبب النسيان واللاإهتمام، ولهذا فهي ليست أكثر من تصور غير دقيق لصورة قديمة عن كتاب غير مكتوب. من المؤكد أن مشكلتي أصعب من مشكلة ثرفانتس بكثير. فسلفي لم يعترض على مساعدة الأزهار له، لأنه كان يكتب العمل مشدودا بفعل الكلمات وإبداعاته، أما أنا فلديّ واجب خفي غامض، وهو إعادة بناء عمله، أدبيا وبطريقة عفوية". يصفق بورخيس في النهاية لأداء مينار ويقول إن عمل ثرفانتس ومينار هما فعليا متطابقان، لكنّ عمل مينار أغنى بشكل غير محدود.
تؤكد الروائية سيلفيا مولوي أن النسيج المعقد الذي يقدمه بيار مينار متطابق بشكل واضح مع شخصية دون كيشوت. الشخصية تبدو، أدبيا، جانبية في النصوص. أما أليثيا بورونيسكي، فتتوصل إلى أن ال 400 سنة التي مرّت جعلتنا نقترب أكثر فأكثر من "دون كيشوت" ثرفانتس من طريق القراءات والدراسات التي فتحت الطريق اليها. فيها نجد الزمن، التاريخ، الخرافة واللغة، تتقاطع كلها وبشكل دائم، واضعة كل يقين لدينا في موضع الشك. هكذا اخترع ثرفانتس دون كيشوت من قراءاته لروايات الفروسية وكتكريم لها، ثم أتى بورخيس ليترك لنا واحدا من أفضل أعماله الخيالية لتكريم الخالد ثرفانتس، خالق الرواية المعاصرة.
ختاما، سؤال "بورخيسي" لا انفكّ أنا الأرجنتيني اطرحه على نفسي: ترى ما هو عدد القراء الذين قرأوا الى اليوم هذه الرواية التي بطلها قارئ نهم؟

قال الدليل يخاطب دون كيشوت: "إن مضيّي معك في هذه الرحلة الممتعة الى كهف مونتسينوس قد أكسبني أربعة مكاسب: الأول معرفتي سيادتك ومصاحبتك لأن هذين كسب كبير لي. والثاني اطّلاعي على ما يحتويه كهف مونتسينوس، فهذا كشف للمجهول، وسينفعني كثيراً في إغناء كتابي "التحوّلات". والثالث هو اكتشافي قدم عهد ورق اللعب الذي جاء ذكره على لسان الفارس دورندار قبل خمسمئة عام، وهذا ما سأغني به كتابي "الملحق". والرابع هو معرفتي منابع نهر غواديانا التي ما زالت مجهولة حتى يومنا هذا".

***

الشك المستمر على طول الخط

ريناتو ساندوفال

ريناتو ساندوفالتقاس قيمة كاتب كلاسيكي، أديباً أكان أم لا، بقدرته التي لا تفنى على مجاراة الواقع وتصويره، وعلى التوصل إلى اقتراحات وتحليلات له. ولكن تقاس قيمته أيضا بقدرته الدائمة على إبقاء جوهرته الثمينة في الظلال، وأعني بجوهرته هذا العطر الأصيل الذي يجعلها دائما هي نفسها، ويجعلها مرئية ومسموعة وملموسة ومحسوسة من جانب الملايين من المتحدثين بكل اللغات والثقافات والأزمنة والأماكن. وللعمل الكلاسيكي نظرة الى الجميع، تحيط بهم وتنعكس في عيون من يقرأونه فيتركهم وأعينهم مندهشة بكلماته البراقة. لذا فإن كتّابا مثل هوميروس وسوفوكليس وشكسبير وثرفانتس، هم كتّاب لا تصيبهم الشيخوخة أبدا، مثلهم مثل الكتب المقدسة، التي لا يزال الناس يقرأونها، ويحللونها ويعيدون تفسيرها منذ قرون كثيرة، من دون أن ينتقص هذا، وإن مقدار أنملة، من نضارتها أو من الحقيقة الكامنة فيها.
في حال حكيمنا العبقري "دون كيشوت دي لا مانشا"، تنفلت هذه الحقيقة بشكل خاص وصاعق، فلا يبقى منها شيء حقيقي أو ممسوك مئة في المئة، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن المجتمع واقتناعاته تضع القواعد والنماذج الصارمة التي تعتبر دافعها الأول الدفاع عن "العقد" الاجتماعي، وهو عقد اتصف، منذ القدم وفي كل المجتمعات، بسيطرة مجموعة من الأقليات المحظوظة على غالبية كبيرة من الفقراء غير المصنّفين طبقيا، وذلك باسم قيمة من المفترض أنها عالمية، على غرار الدين أو الدولة أو الإمبراطورية أو الديموقراطية... إلخ.
في رواية "دون كيشوت"، يستمر الشك على طول الخط، مثله مثل المغامرة والتجوال والحماقة والتردد. ومحرّك الشك هذا هو البحث الشاق عن قيمة عليا ذات أثر إيجابي عملي في عالم الحواس. يسمّي دون كيشوت هذه القيمة، أحيانا، "العدل"، مما يجعله يفضل طريق الفرسان الوعرة على الحياة السهلة التي يعيشها النفعيون ويتمتعون بها.
لذا يقول ألونسو كيخانو عن نفسه في الفصل الثاني والثلاثين من الجزء الثاني: "أنا فرجتُ مكروبين، وساعدت معوزين، وعاقبت ظالمين، وهزمت عمالقة، وسحقت جبابرة. نياتي أوجهها دائما صوب أهداف نبيلة، لفعل الخير للجميع، ولتجنب الشر مع الجميع. فكيف يستحق من يفعل ذلك أن يطلق عليه لقب سفيه؟".
إن الظهور أمام الآخرين، وخصوصاً أمام أشخاص "مستنيرين" كسفيه، هو تماما أحد عواقب الجنون الدون كيشوتي، الذي لا معنى له سوى أن يعيش الشخص بناء على معايير مثاليته مهما تكن الظروف، حتى وإن قوبل بعدم الفهم أو بالتهكم أو بالسخرية أو بإعادة تقويمه على أيدي أشخاص لا يشاركونه الرأي، بل يزدرونه ولا يفهمون تصرفاته.
لماذا إذاً، بعد مرور أربعة قرون، لا تزال رواية ثرفانتس العظيمة "دون كيشوت" قادرة على إغراء الناس وإقناعهم؟ لأن كل شيء موجود فيها بالفعل: الموسوعية، الحس التاريخي، السخرية الاجتماعية، الكاريكاتور، الشعر، وحتى النقد الأدبي، مع القس المشهور الذي يبدو كأنه قد قرأ كل شيء، وخينيس دي باسامونتي السارق الذي شرع يكتب مذكراته، والراوي الذي لا يطيق صبرا على أن يتحدث بضمير المتكلم داخلا بنفسه في قصته في الفصل الثامن، ثم مع تقدم الأحداث في الرواية ينتقل من جديد إلى استخدام ضمير الغائب بعملية تشويق أو suspense سينمائية مفاجئة أقل ما يقال فيها إنها تثير الذهول.
لكنّ هذا التطرف في مواجهة الواقع الذي لا يمكن اتخاذه مقياسا ولا يمكن مقارنته بأي رواية أخرى، يصل إلى ما هو أبعد بكثير من الموقف الأخلاقي الذي - رغم نبله وصدقه - لا يستطيع أن يتحرر من خطر الأشباح التي كان يطاردها الفارس البطل. ففراش موت ألونسو كيخانو حوّل كل التجارب التي عاشها، أحداثا مشكوكا في واقعيتها، فأصبح كل ما جاهد من أجله وكل ما هو على وشك الموت من أجله، مجرد شكوك. عند تلك اللحظة لم يعد يعبأ بأن يموّه عنه خادمه المخلص سانشو بانثا، أو أن يحاول إخراجه من حال الإحباط واليأس التي انغمس فيها. كل شيء بات لا نفع له مذ ترسخت الريبة العميقة في قلبه وعقله.
آنذاك ينقضّ ألونسو على من يحيطون به ويخنقونه بحضورهم. لقد حوّله شكه إنسانا أكثر إنسانية، وفي آخر المطاف، إنسانا أكثر عظمة وتفهما وكرما. وكل تضحية قام بها بنية حسنة، وقعت إلى الأبد ضحية عتمة الممر الأخير. لن يعود هناك أشباح أخرى في داخله، حتى لو عاش أكثر من ذلك ولم يمت في تلك اللحظة.
هكذا، لا ينفك يبيّن لنا عالم اليوم الذي تدميه الحروب الشيطانية السياسية - الدينية، أن ألونسو كيخانو كان على حق، وأنه كان صاحب حق
كلٌّ الى زوال، وما غير وجه الله باقٍ. لم يستيقظ دون كيشوت من نومه الذي تركناه فيه في الفصل السابق الاّ على حُمّى تنهب جسمه وترعده. وعلم أصحابه بمرضه فلازموه، وحزنوا، وحاولوا الترويح عنه ولكن من غير جدوى. وجاء الطبيب، وجسّ نبضه، فلم يرَ فيه ما يطمئن الى حياة الجسد، فدعا الى نجاة الروح، فسمع دون كيشوت كلامه، وتلقّى النبأ بهدوء على خلاف ما تلقّته ابنة أخيه وخادمته إذ أخذهما نواح متواصل. فطلب الفارس المهزوم أن يُترك وحيداً، ثم راح في نوم طويل.

النهار الثقافي- الثلاثاء 27 كانون الأول 2005