عبر الزمن تدوي صرخة لوتريامون، كم من دماء سالت، وكم من محيط لونته جثث الضحايا نحن في 1976 شاعر يهرب من أحذية العسكر وسجونهم باحثا عن ظل شجرة يكمل فيها قصيدته الأخيرة. ففي ذات العام اقتيد ابن الشاعر الشاب وزوجته الحامل إلى معسكر الموت " اوتو مونيروس اورلتي ".
(طفولة الشاعر) وفي برميل اسمنت في بلد غريب ـ الاورغواي ـ وجدت جثته، ثقب غائر في الرقبة. الزوجة الحامل اختفت. مرت سنوات قبل ان يعلم الشاعر باغتيالها. إما مولودها الذي خرج من ظلام إلى آخر فسيصبح وعلى امتداد سنوات قضية الشاعر الأولى، وسينظم إليه مئات الكتاب عبر العالم، كما سينظم هو إلى أهالي عشرات اللآلاف من ( المفقودين ) حيث تجاوز عدد الأطفال فقط الأربعمائة خلال السنوات السوداء ( 1976 ـ 1983 ) التي شهدتها الأرجنتين بعدالتها المجروحة والتي يقول عنها الكاتب ادواردو غاليانو بان نسبها إلى العسكر كنسب الموسيقى العسكرية للموسيقى. كرس الشاعر أربعا وعشرين سنة من حياته في البحث وبين أروقة المحاكم. وانكشف الجزء الخفي من الحقيقة، وتم لقاء الشاعر بحفيدته البالغة الرابعة والعشرين عاما. عن هذا الشاعر الذي يعد من الأصوات المعاصرة الأكثر حضورا بين شعراء أمريكا اللاتينية أردنا هذا الملف لأنه كما يقول ادواردو غاليانو: صوت يغني، يدفع الآخرين إلى الغناء، يروي النضالات والكرامة، يمنح إيمانا بان الربيع يأتي من الشك. إحساس بالحرية عضدته جدران السجن، يحتفي بالحياة وهو واقف في فوضاها. ولد الشاعر في بونيس آيرس سنة 1930. وهرب على اثر تهديدات الديكتاتورية العسكرية باغتياله في 1976. بقي في المنفى حتى 1989. يقيم حاليا في المكسيك. ترجمت قصائده إلى العديد من اللغات. ولحن بعضها خوان سدرون. | القصائد: كتب جلمان جل قصائده في المنفى بين 1970 و 1980، ويطغى عليها موضوع الرفقة ومنهم ابنه وزوجة ابنه اللذان اغتالتهما السلطة العسكرية الحاكمة. شعرَ حيث يعود الضحايا لتقاسم البكاء مع من نادبيهم. شعر زمنه خارج الزمن، في فضاء حيث تلتقي الآلام وترقص، وحيث يتواعد المحزونون ومفقوديهم. ليس من حيز هنا للمستقبل والماضي، فذلك محال. ليس سوى الحاضر بتواضعه الهائل الذي يطالب دوما بكل شيء ما عدى الكذب. (جون بيرجيه ـ لوموند دبلوماتيك ـ أغسطس 1998 ) | أوامر، أحذية، قضبان في الخارج الصباح في ديمومته في الداخل الحب الكبير ما يزال يتحرك، يفز واقفا الأمل طفل غير شرعي، بريء يوزع المنشورات، يدوس على الظل. .... في الليلة الهادئة المعتمة منفلتا من كل حضور، حضور بشري أو حيواني مجتنبا الضجيج، سارقا بخفة نار الكلام و كلام النار له، للجميع، للحب الذي لن يعرفه بتاتا والرماد البارد يعاقب يديه. .... مليئة بالإشارات وبالشجر تعبر الليل كالنار أو كالنهر تتسلق الصمت والذاكرة لا تنتهي كالحدث خلقها، سيرتها، أنا يقينها. ..... قصائد من " الغامض المتفتح " كل الانهيارات، الآلام، النسيان الظل، الجسد، الذاكرة السياسة، النار، شمس العصافير الأقلام الأشد عنفا، الكواكب التوبة قرب البحر الوجوه، الهيجان، الحنان أحيانا بالكاد ما يطل بصيصها تنسى، تحرق، تهزأ، تلتمع تسيس، تشمس، تبكي، تتوب وتلوذ بذاكرتها الأمواج تنظر إلى وجوهها، تتموج، تفيض حنانا تبحث عن ذاتها، تقوم حين تسقط تموت كسائل و تولد كسائل تتصادم، هي سبب للغموض تتململ، يسيل لعابها، تأكل ذاتها، تتشرب تمطر في داخلها وعلى النوافذ ترى ذلها آتيا يجري بين أذرعهم تنتهي بالارتماء في الكلام كالأموات أو كالأحياء وهم يتحولون، تطرف أعينهم إصرار في الصوت، مأخوذون بالصوت يجولون العالم، إنسانيا لا ينتمون إلى أي كوكب، إلى البحار كما التائبون، كالنسيان جحيم آلام أو سياسات ظل عتمة الجسد، عصافير هذا الوجه الانهيار والذاكرة المتموجة. .........
غالبا ما يحدث ويعبث نسر كاسر بأحشائي، دون ان يلتهما، غالبا ما يحبها أو يمزقها، يمنح النهار لوجوهي النهائية. أنظُر إليها... يقول لي: أنظُر ما تأكل أيها الحيوان.. يقول لي النسر الجميل. ...... أتقاسم وحيوان غامض المنزل ما أفعله نهارا يأكله ليلا ما أفعله ليلا يأكله نهارا شيء وحيد ينأى عن أكله: ذاكرتي بإصرار يجس أدنى هفواتي ومخاوفي لا أدعه ينام، أنا حيوانه الغامض. ................ أيبدأ ؟ يا له من خبر. أما تزال الشيخوخة في انتظاره ؟ يا لها من بارقة، حب ـ ذاكرة ذاته ـ ينحني طوعا على ذاته ناهشا منها آه. لعجوز سيمتص عنقه ؟ آه.. الطاعون زار بلادي هاجم أعضاءها غريب كالريح
...... هل غادر عبر الريح أم هو من حيل الحنجور الأخضر ؟ أغادر ايزيدور دوكاس دو لوتريامون * عبر الريح أم كان: من حيل الحنجور الأخضر ايزيدور الحب الآخر آكل الوجوه العفنة الكآبات واليأس الآلام البيضاء والغضب الحزين مستنفرا شجاعته مستبدلا البؤس بوميض أو آخر *** الأمريكي الجنوبي الرائع بطحالب في فمه من أين يجيء بهذا الألق ؟ وجدها في الوجوه العفنة حزن، كآبات آلام بيضاء وغضب حزين تمس قلبه تعفنه ـ كما يقال ـ تسلمه لليأس والحزن رأيناه كطائر صغير في زاوية " كانيلون و بول ميش " يسرح الحزن كخطيبة نقية تخبىء الاغتصابات التي داهمت الحي *** " آه.. أيتها الخطيبة الرقيقة " يخاطبها مستندة على ذراعيه المفتوحتين، وكبحر يخرج من نظراته، فمه قبضتيه وعنقه " لنر.. كيف تموتين يا جميلتي " يخاطبها حين يحبها ـ في باريس ـ يجردها من سلاحها كعيد ونار بالأمس ما تني تدوي في غرفة بحي " بواسونيير " تنضح بالعرق الأمريكي *** أيا.. دوكاس لوتريامون أيها المونتي فيدي ايا... ايا أو فيد اوو مونت... لموتك كما لكرة ذهبية سعيرا مستلا الحزن ضُرب عنقه الغضب خبى ذهب عبر الريح ـ هذه المرة فقط ـ حيث مات ايزيدور دوكاس أو كمطر حب آخر بلل "نوتر دام " الكومونة المسلحة والحبيبة بالجمال الطالع من حنجوره الأخضر العفن
*** في السابع والستين وتسعمائة بعد الألف في وادي الببغاوات الصغير سمعنا طيرانه الوشيك أو كما بدى يدوي مواجها الغابة المثقوبة، كآبات البلاد، الأحزان المهولة، وكان من سقط الآخر لهذه المرة فقط حيث كان دوكاس مستريحا في مخيم الظلال. لقد كانت أوروبا مهدا للرأسمالية. وغذي الطفل في المهد بالذهب والفضة من البيرو، المكسيك وبوليفيا. كان على الملايين من الأمريكان ان يموتوا ليسمن الطفل، الذي شب قويا، طوّر اللغات، الفنون، العلوم، أساليب الحب والحياة، وأبعادا أخرى لكينونة الإنسان. من قال بان لا رائحة للثقافة ؟ تجولت في باريس و روما.. ما أبدعها من مدن. في شارع كورسو على البولمش فجأة اصطدت سمكة لقبيلة التينوس تمزقها كلاب اندلسية.... انك لا تشم أوروبا القديمة. تشم الإنسانية ونظيرها، تلك القاتلة والأخرى القتيلة. مضت قرون، وجمال ضحية الغزو ما يزال يتفسخ عفونة تحت عينيك. من كتاب " رقة لا تَصدق " مختارات شعرية. **************** | الرسائل: تؤرخ الرسائل التي كتبها الشاعر وتلك التي بعث بها الآخرون حقبة من عذاباته. وهي أيضا جزء من تاريخ البحث عن حقيقة تكالبت على إخفائها قوى كثيرة: | كتبها الشاعر في 1995، جاهلا ان حفيده أو حفيدته قد ولد/ ولدت في الاورغواي. خلال ستة اشهر ستبلغ التاسعة عشر من العمر. قد تكون ولدت ذات يوم من أكتوبر 1976 في احد مراكز الاعتقال. بعد أو قبل مولدك وفي ذات الشهر اغتيل أباك برصاصة في رقبته وبمسافة تقل عن نصف متر. لقد كان اعزلا. وكان قتلته كوماندو من الجيش. وربما يكون ذات الكوماندو الذي اختطفه وامك في 24 أغسطس في بيونس آيرس واقتادوهما إلى مركز الاعتقال. محاصر أنا بأفكار متضاربة، فمن جهة أجد انه من المقزز ان تنادي بابيك عسكريا أو شرطيا قام باختطافك، أو صديقا لقتلة أبيك، ومن جهة أخرى ارغب في ان يكون في البيت الذي توجد فيه ـ ومهما يكن ـ قوم يحسنون تربيتك وتعليمك ويحيطونك بالحب. ولكنني رغم ذلك لم اكف عن التفكير بان هناك ثغرة أو خلل في هذا الحب. ليس لكون والديك اليوم بوالدين بايولوجيين ـ كما يقال ـ ولكن لان لديهم وعي محدد عن تاريخك وكيف سلبوا هذا التاريخ وزوروه. أتخيل أنهم كذبوا عليك كثيرا. كنت منشغلا بحقيقة احتمالك لمعاناة جرحين، ما يشبه ضربة الفأس في نسيج ذاتك وهي في طور التكوين. ولكنك الآن ناضج وتستطيع إدراك من أنت، وتقرر تاليا ماذا ستصنع بما كنت. الجدات هناك، بفصائل دمهن التي تستطيع علميا وبدقة تحديد اصل الأطفال المفقودين. انك تبلغ الآن تقريبا عمر والديك عندما اغتيلا. وستكبرهما قريبا. ستكون أعمارهم في العشرين والى الأبد. لقد حلموا دائما بك وبعالم قابل لمعيشتك. أحببت محادثتك عنهم، وبان تحدثني عن نفسك. لأتعرف على ابني فيك. ولتتعرف على ما في من أبيك. فنحن الاثنان يتامى أبيك. لإصلاح ـ وبطريقة ما ـ الانقطاع العنيف أو هذا الصمت الذي ارتكبته الديكتاتورية العسكرية ضد جسد عائلتي.. لأعطيك تاريخك، وليس لإبعادك عما لا تريد الابتعاد عنه، فأنت ناضج الآن كما قلت. ( خوان جلمان 12 ابريل 1995 ) *** مقطع من رسالة خوسيه ساراماغو إلى رئيس الاورغواي صحيفة " الجمهورية " مونتفيديو 22/10/ 1999 انتمي إلى هذا العالم مثلما انتمي إلى القرية التي ولدت فيها. حائز على جائزة نوبل للآداب، ولكنني لا اكتب إليك بصفتي هذه. ولست متأكدا بان سبب مخاطبتي لرئيس جمهورية الاورغواي هو كوني كاتبا. أتمنى ان تقرأ رسالتي لأنها تحوي كلمات من رجل إلى رجل. من المؤكد أنني كاتب وحائز على جائزة نوبل. ولكن هذا يأتي في الدرجة الثانية. ولا أقول ذلك بتواضع، أقوله لأن مشاعر الإنسانية لا تستطيع المقاومة والبقاء إلا لدى بني البشر ( وللأسف ليس لديهم جميعا ) ان هذه المشاعر هو ما يقود هذه الكلمات. هذا ما اطلبه، أنا الكاتب البرتغالي من الدكتور خوليو ماري سانغنيتي ( ساعد خوان جلمان، ساعد العدالة، ساعد الأموات، المعذبين والمحتجزين بمساعدة الأحياء الذين يبكونهم ويبحثون عنهم، ساعد نفسك بنفسك، ساعد ضميرك، ساعد الحفيد المفقود الذي ليس حفيدك، ولكنه قد يصبح ) ليس لدي شيء آخر أطلبك إياه، يا سيادة الرئيس، لأنني اطلب كل شيء. قرأت رسالتك الموجهة لحكومة الاورغواي وردك على جوابهم في ( لاجورنادا). قرأتها وفهمت لماذا سقط هذا الجنرال الأرجنتيني. إنني متأكد بأنه لم يتخيل أبدا بان يواجه يوما ما شاعرا. وما هو أسوأ شاعر مغفل. لأنك شاعر ( حتى لو تنكرت في شخصية صحفي ) وأنت مغفل الآن لأنهم هكذا يدعون أولئك الذين يرفضون الاستسلام والخنوع. * ايزيدور دوكاس كونت دو لوتريامون ( 1846 ـ 1870 ) شاعر فرنسي. ـ ولد في مونتي فيدو ـ الاورغواي. ـ 1859 ابتعث للدراسة في فرنسا. ـ اختفي لمدة عامين منذ 1865 ـ من مؤلفاته: عطر الروح. أغاني مالدرور. شعر 1. شعر 2. | للإطلاع على المزيد من رسائل وعرائض المساندة التي تلقاها الشاعر نقترح الموقع التالي على شبكة الانترنت: http://prairial.free.fr/index.html حوار ونبذة من قصائد الشاعر الأرجنتيني الكبير خوان خيلمان الذي رحل في 14/1/2014 عن 83 عاما. نشر في حياته ما يقارب العشرين كتابا في الشعر. حصل خيلمان على جائزة ثربانتس عام 2007. من أعماله المترجمة إلى العربية “مختارات” ترجمة المهدي اخريف، “الغامض المتفتح” ترجمة يعقوب المحرقي و”كان سوف يكون” ترجمة عصام الخشن ولاوتارو أورتيز علاقة الشاعر الأرجنتينى الأهم خوان خيلمان «بوينوس آيريس، 1930» بدأت مع قصائد لم يكن يفهمها، لكنه كان يستجيب إلى موسيقاها. كانت هذه القصائد للشاعر الروسى بوشكين، وكان خوان يسمعها بصوت أخيه الأكبر الذى كان يهوى الشعر بجنون. وفى سن التاسعة كتب الطفل قصائده الأولى ليجذب آنا، فتاة الحى، وحبه المستحيل، لأنها كانت أكبر منه بعامين. فشل خوان فى الفوز بمشاعرها، غير أنه واصل كتابة الشعر، وبعد 15سنة انتبه إلى أنه يريد أن يكون شاعرًا. تلقّت أمه الإعلان بقلق مَن تتمنى لأولادها حياة مزدهرة، وقالت الأوكرانية المهاجرة: «لن تربح مالًا من هذا». مع ذلك ابتسمت لأن ابنها، بجانب الخبر، أحضر لها نسخة من أول ديوان منشور. نبوءة أمه تحقق نصفها.. «حقوق المؤلف لا تكفى للمعيشة، لكن منحى بعض الجوائز يساعدنى بالطبع»، يقول الشاعر الأرجنتينى من صالونه المريح ببيته فى العاصمة المكسيكية. فاز خيلمان، من بين جوائز أخرى، بجائزة خوان رولفو، وبابلو نيرودا، والملكة صوفيا للشعر المكتوب بالإسبانية، وتوّج مؤخرًا بجائزة ثربانتس، نوبل الأدب الإسبانى. كتب خيلمان عمودًا أسبوعيًّا فى «دياريو أرخينتين ". العلامتان البارزتان فى حياة الشاعر كانتا اختفاء ابنه وزوجة ابنه الحامل خلال فترة الديكتاتورية العسكرية بحثًا عن الحفيدة التى خُطفت عند ولادتها، والثانية لقاء نفس الحفيدة بعد 23 عامًا. قال خيلمان فى مرات كثيرة إن ألم فقد الابن لا ينفذ أبدًا. لكنه لا يكتب من منطقة الضغينة، «التى تؤذينا، بل من منطقة الفقد»، وهذا الفقد ملمح فى كتابه الأخير «اليوم» الذى سيصدر قريبًا بعد مراجعات استمرت شهورًا. هل من الممكن كتابة الشعر دون التمتع بالفكاهة؟ يجيب بأنه لا يعرف، لكن كل الشعراء الذين يعرفهم يتمتعون بالفكاهة. ولماذا عنونت كتابك الجديد بـ«اليوم»؟ فكرت أنك ستخبرنى بالجواب.. (يبتسم). لا، بدا لى بكل بساطة أن هذا هو الموضوع. الديوان يضم 290 أو 300 نص قصير، مكثف جدًّا، حتى لا أضايق القارئ. كما أنه نثر شعرى أو قصيدة نثر، كما تفضّل. الكتاب فترة نقاهة.. يفيد فى التحرر من سخونة لحظة الكتابة. لكن من المستحيل أن أعدل فيها. عندما تُكتب القصيدة، تموت. مع التعديلات، وهنا أتحدث عن نفسى، أشعر بخيانة أفضل لحظات الإبداع، وهى الكتابة. حتى ولو كان الواحد يكتب هراءات. ومن أى شعور كتبته؟ انظر، سأحكى لك شيئًا فى متن الكتاب. كان من بين المتهمين باغتيال ابنى جنرال أُدين بالسجن المؤبد. وعندما نُطق بالحكم انتفضت من الفرح مجموعة من الشباب لا أعرفها. بينما أنا لم أشعر بشىء. لا كره ولا فرح ولا شىء. وتساءلت لماذا؟ وهذا قادنى إلى الكتابة لأفهم ماذا حدث، رغم أنه ككل الكتب بدأ فى طريق وسار فى آخر. مسحت النصوص الأولى، لأنها كانت تقريرية وهذا صحافة. بعدها ظهرت النبرة الشعرية الضرورية لكتابة ملخص لما أعرفه أو ما أعتقد معرفته، ملخص 35 سنة مرّت منذ وفاة ابنى. لا يروق لك عادة «الشعر الملتزم»، رغم أن حياتك متورطة فى السياسة. هل من الممكن فصل المؤلف عن أيديولوجيته السياسية؟ المكان الذى تشغله الأيديولوجيا فى قلب كاتب ما تبدو لى صغيرة، ولكل كاتب حالته بالطبع. وبين الكتابة والفكر السياسى قنوات ضبابية جدًّا. إزرا باوند عمل دعاية لموسولينى لكنه أيضًا نظَّم قصيدة عن الفساد لم يكتب مثلها أبدًا أى ماركسى لينينى ماوائى فيديلى. وبلزاك كان ملكيًّا، لكن شخوص رواياته الأكثر ظرفًا جمهوريون. هل من أحد يعرف أيديولوجية شكسبير؟ هل يعرف أحد إن كان شيوعيًّا أو فاشيًّا؟ هل من الممكن أن يفسر ذلك إعجابك مثلا بأعمال بورخس التى كتبها عندما كان أقل تسامحًا مع الديكتاتورية العسكرية التى آذته كثيرًا؟ أعمال بورخس فى رأيى لا مثيل لها، رغم أن شعره لا يعجبنى قدر إعجابى بنثره. وأنا بالفعل كنت أدافع عنه ضد زملائى الشيوعيين الذين كانوا يتهمونه بـ«صديق الإقطاعيين» وأشياء من هذا القبيل. بورخس لم يكن يهتم بالسياسة، لم يكن لها. سمح بتكريم بينوشيه له، وقال إن إسبانيا مع فرانكو كانت أفضل.. لكن هناك شيئًا لا يُعرف إلا قليلًا: فى بداية الثمانينيات وقّع طلبًا لـ«أمهات ميدان مايو» طلب فيه ظهور المختفين أحياء. وفى نهاية حياته سألوه فى «BBC» عن دعمه للديكتاتورية، فدمعت عيناه العمياءان وأوضح أنه لم يكن مطلعًا بشكل جيد وأنه عاش محاطًا ببيئة ما. «الجهل، كما يقول صمويل جونسون» أجاب بورخس. لا شىء يُهضم من أفكار بورخس، علينا استيعابه فحسب. كان بورخس يقول بالتحديد عن أحد شخوصه: «أصابته، مثل كل الرجال، فترات حياة بائسة»، وأنت عانيت من الحروب والديكتاتوريات والنفى والتراجيديات الكبيرة فى حياتك العائلية.. مع ذلك تعتبر الأيام الحالية أكثر فظاعة على وجه التحديد.. بالفعل، هذه اللحظات تخيفنى جدًّا، ليس للأزمة الاقتصادية فحسب، بل للأزمة الروحية، ولا أشير إلى الدين. يبدو لى أنهم أقاموا نظامًا يهدف إلى نزع الروح ليحولونا إلى أرض خصبة للسلطوية. وثمة نوع من التعود، أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان: اعتياد الإرهاب، القتل من الجوع، نقص التعليم من العالم كافة. الحوار : احمد عبد اللطيف / التحرير المصرية مايو 2013 مختارات من شعره حالة حصار أوامر، أحذية، قضبان في الخارج الصباح في ديمومته في الداخل الحب الكبير ما يزال يتحرك، يفز واقفا الأمل طفل غير شرعي، بريء يوزع المنشورات، يدوس على الظل. ترجمة: عصام الخشن ولاوتارو أورتيز من جانب لآخر الفكرة التي تفلت لا تبحث عن شحم الكلمات ولا عن مرآة عبثية.. إنها تشبه قامتك بين أشجار شارع “أتليكسكو” من جانب لآخر في الريح التي تكنّس أحاسيس الصامت ومرساتك الكبرى تضيع في ما لم يضع.. والتي تلمع توجد هناك بأنفاس خائرة لا مؤاسي لها هكذا ينطوي اليوم على نفسه في زاوية من ذاته.
بالكلام ستعرفني كل الانهيارات، الآلام، النسيان الظل، الجسد، الذاكرة السياسة، النار، شمس العصافير الأقلام الأشد عنفا، الكواكب التوبة قرب البحر الوجوه، الهيجان، الحنان أحيانا بالكاد ما يطل بصيصها تنسى، تحرق، تهزأ، تلتمع تسيس، تشمس، تبكي، تتوب وتلوذ بذاكرتها الأمواج تنظر إلى وجوهها، تتموج، تفيض حنانا تبحث عن ذاتها، تقوم حين تسقط تموت كسائل و تولد كسائل تتصادم، هي سبب للغموض تتململ، يسيل لعابها، تأكل ذاتها، تتشرب تمطر في داخلها وعلى النوافذ ترى ذلها آتيا يجري بين أذرعهم تنتهي بالارتماء في الكلام كالأموات أو كالأحياء وهم يتحولون، تطرف أعينهم إصرار في الصوت، مأخوذون بالصوت يجولون العالم، إنسانيا لا ينتمون إلى أي كوكب، إلى البحار كما التائبون، كالنسيان جحيم آلام أو سياسات ظل عتمة الجسد، عصافير هذا الوجه الانهيار والذاكرة المتموجة. ترجمة: يعقوب المحرقي ******** طوت تربة المكسيك أمس آخر صفحات قصة الشاعر خوان خيلمان، الأرجنتيني المنفي إليها منذ أكثر من عشرين عاما. إنتهت القصة الشخصيّة التي اجتازها كثير من الشعر وفيض من الإلتزام والوجع واختبار مرير لنير الإستبداد. ليس ثمة مبالغة في الإعلان ان خيلمان الحائز جائزة "ثرفانتس" 2007 من ضمن جوائز أدبية عدة، كان أحد آخر الشعراء الحقيقيين، في وسط زحمة محترفي الرياء. لم تعلن صحيفة "ميلينيو" المكسيكية التي أوردت خبر رحيله أسباب الوفاة، بل اكتفت بالإشارة الى ان الشاعر أغمض عينيه عن الثالثة والثمانين، في منزله. لم تخبر الحكاية الكاملة التي تقول أن خيلمان كتب مبكرا، في التاسعة وبتحريض عاطفي. وقتذاك أرسل الى فتاة هام بها أبياتا منتقاة لأحد شعراء القرن التاسع عشر، لكنها لم تكترث للأبيات أو له. فقرّر غاضبا ان يختبر نفسه ناظماً للشعر، لكن الفتاة مرة أخرى، لم تكترث له أو لقصيدته. وفي حين مضت هي في طريقها، فقد بقيت له رفقة الشعر. استراح خوان خيلمان في بورتريه الرجل الصموت الذي، اذا تمهّلنا ونظرنا إليه، صادفتنا عيناه المنتحبتان على إجهاد قديم العهد. تزامن شغفه بالشعر مع وعيه للسياسة التي ستمتزج بعدذاك بشغف الكلمات والحنق من إجحافات الحياة. خيلمان طيف من أطياف بوينس ايريس الهجينة، عشّبت هويته في قعر شعرِه في حقبة الشباب، بدءا من "الكمان ومسائل أخرى" (1956) التي تلاها ما يزيد على عشرين مؤلفا، من بينها "مواعيد وتعليقات" (1982) و"علاقات" (1973). لفتت قدرة الشاعر على الهيام بالكلمات، وفي القدر نفسه بالتاريخ والمدن. تحالفت خُطى الأعوام وأرقه الشخصي لتشيّد لغته الفريدة التي فضحت ركامه الداخلي الذي كبر رويدا. أليس هو القائل ان الأوجاع "منطقة شاسعة وانها على الأرجح أرجنتينية؟". في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ناهض خيلمان التوتاليتارية في بلاده. لكن نشاطه السياسي وخصوصا خلال "الحرب القذرة" في الأرجنتين بين عامي 1976 و1983 والتي لوحق خلالها المعارضون اليساريون، سيجعل حياته مجازا عن نزاع مديد. سيصير جراء سطوة الجزمة العسكرية يتيم ابنه. وبعد اغتيال الإبن، تُخطَف كنّته وتُحتجز حفيدته وتنزل به عقوبتان بالموت ثم النفي في 1976، بلا بصيص عودة. بعد ثلاثة وعشرين عاما من تقفي أثر الحفيدة التي ولدت في الأسر، وجدها خيلمان في كنف عائلة تبنّتها في الأوروغواي. ستكون ثمرة لقائهما الذي تأخر، كمشة أبيات سترنّ خنجرا في رقاب المجرمين ودعوة الى صلاة مضادة للإستبداد حيث يلعب خيلمان دور الأب واليتيم الكوني وممثل "المفقودين" الأرجنتينيين. كتب خيلمان كرمى حفيدته "العودة" ليعلن انها رجعت وكأن معتقلات التعذيب لم تكن، وكأن تلك الأعوام الثلاثة والعشرين التي حجَبَت عنه صوتها ورؤياها، لم تكن. خلال ثلاثة وثمانين عاما هو عمره، تدحرج عبء التاريخ على خوان خيلمان الإنسان وسباه اسمه وشهرته ليصير صدى الحزن. وفي 2014، يضيّع العالم الأدبي خوان خيلمان، الشاعر الجلي. "النهار" 15 كانون الثاني 2014 الساعة 18:14 غيب الموت الشاعر الأرجنتيني خوان خيلمان أمس الثلاثاء في العاصمة المكسيكية عن عمر ناهز 83 عاما، وفق ما أفادت مصادر مقربة من العائلة التي أكدت أنه سيدفن في العاصمة الأرجنينية بوينس أيرس، التي عاش فيها لمدة عشرين عاما. وشارك الكاتب والصحفي الراحل، في إنشاء مجموعة 'الخبز القاسي' حيث كان يجتمع مع شباب شيوعيين يوصفون بالتشدد. وقد أثمرت تلك اللقاءات كتابه 'الكمنجة وقضايا أخرى' الصادر في عام 1956. وفي عام 1967، وخلال الثورة الأرجنتينية (1966-1973) التي عرفت بنظامها العسكري، انضم خيلمان إلى منظمة حربية كانت قد تشكلت حديثا تحت اسم 'القوى الثورية المسلحة'، التي قامت بأعمال عسكرية وسياسية ضد الحكومة. وفي نهاية عام 1973، انضم لمنظمة مونتونيروس الحربية ذات التوجه البيروني (والبيرونية هي حركة تنادي بالعدالة أسسها خوان دومينغو بيرون)، والتي كلفته عام 1975، بالسفر للخارج من أجل إقامة علاقات سياسية والتنديد دوليا بأعمال انتهاك حقوق الإنسان في الأرجنتين خلال حكومة إيسابل بيرون (1974-1976). وخلال أدائه مهمته حدث انقلاب عام 1976. تمكن خيلمان من الدخول بطريقة سرية للأرجنتين في ذلك العام ثم خرج منها منفيا فعاش في روما ومدريد وباريس ومناغوا ونيويورك حتى استقر في المكسيك وعمل بها مترجما لليونسكو. ثمن النضال دفع خيلمان ثمن نضاله ضد الدكتاتورية غاليا، فقد اختطفت ابنته نورا إيفا وابنه مارسيلو آريل وزوجة ابنه الإسبانية كلاوديا غارسيا وقد كانت حاملا في شهرها السابع. وبالرغم من أنهم جميعا ظلوا في قائمة المفقودين فإن الشاعر تمكن من اللقاء بحفيدته ماكارينا خيلمان التي ولدت في الأسر في أورغواي خلال ما عرف بعملية 'كوندور'. ومع عودة الديمقراطية للبلاد، أقيمت دعاوى قضائية ضد المنظمة التي كان ينتمي إليها خيلمان في السابق وصدر حكم باعتقاله، الأمر الذي أبقاه في المنفى. لاحقا، أصدر الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم عفوا عنه وعن ستة وأربعين عضوا سابقا في منظمات حربية، جعلت خيلمان يحتج في عموده الأسبوعي في جريدة 'إل دياريو' بقوله 'إنهم يستبدلونني بخاطفي أبنائي وخاطفي آلاف الشباب الذين أصبحوا أبنائي'. انتقادات خيلمان طالت الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي استنكر دوره بالتغاضي عن النووي الإسرائيلي كما عُرف بقصيدته 'العراق يا أندريا' التي تمثل أحد مواقفه الثابتة تجاه القضايا الإنسانية. حياته الأدبية ألهمت مواضيع كالحب والموت والطفولة والعدالة الاجتماعية القريحة الشعرية لخيلمان الذي روى أنه وخلال الثلاثينيات من القرن الماضي قرأ له أخوه الأكبر المولود في أوكرانيا قصائد الشاعر الروسي بوشكين، وبالرغم من عدم فهمه اللغة الروسية فقد كانت موسيقى القصائد وإيقاعها سببا في بداية اهتمامه بالشعر وتكوينه الأدبي. حاز خيلمان عام 1997 الجائزة الوطنية للشعر في الأرجنتين، كما فاز عام 2000 بجائزة خوان رولفو، وجائزتي بابلو نيرودا والملكة صوفيا للشعر عام 2005، وفي 2007 حاز جائزة ثربانتس التي قال عند استلامها 'هناك ذكريات لا تحتاج أن تستدعيها، فهي موجودة على الدوام وتكشف لنا وجهها دون تعب. إنها وجوه الكائنات المحبوبة التي أخفتها الدكتاتوريات العسكرية'. ترك الراحل ما يربو على الثلاثين عملا، من بينها 'قصائد سيدني ويست'، 'رسائل مفتوحة'، 'تحت مطر غريب'، 'باتجاه الجنوب' وغيرها. الجزيرة الشاعر الأرجنتيني خوان جيلمان، مواليد العام 1930 في بوينس أيرس. أحد أبرز الوجوه الأدبية في أميركا الجنوبية، وما يشهد على ذلك أيضا نصوصه التي نقلت إلى عشرات اللغات في العالم. أضف إلى ذلك، الشعبية التي يتمتع بها، والتي ساهم فيها أيضا الموسيقي خوان سيدرون، الذي وضع الألحان للعديد من نصوصه. هناك أيضا حياة المنفى، إذ في العام 1976، وبينما كانت الأرجنتين تدخل في نفق الحكم الدكتاتوري العسكري، وجد الشاعر نفسه مجبرا على مغادرة بلاده نظرا لارتباطاته النضالية ليعيش فترة في باريس ومن ثم في روما قبل أن يستقر نهائيا في المكسيك حيث لا يزال يقيم حتى اليوم. هناك أيضا حياة البحث عن حفيده، وهي الفترة الشاقة التي قضى فيها قرابة الربع قرن من البحث العسير عن (وهم) قبل ان يتحول إلى حقيقة، لتعيد طرح السؤال الكبير في أميركا الجنوبية حول تلك الفترة السوداء التي عرفتها إبان الحكم العسكري. القضية؟ في العام 1976 وبعد مجيء الجنرالات إلى سدة السلطة، نفذ الجنود عملية اغتيال بحق ابن الشاعر وزوجته الحامل في شهرها الثامن انتقاما من جيلمان نظرا لدفاعه المستمر عن الثوار ومساعدته لهم. بيد انه بعد فترة وجيزة، عرف ان زوجة ابنه لم تقتل في الحال، بل أخذت إلى مستشفى عسكري، مجهول المكان، خارج الأرجنتين، حيث وضعت طفلها قبل أن تقتل في ما بعد. كان ذلك في نهاية السبعينيات، ليدخل الشاعر، من منفاه، في عملية بحث مضن. في العام 1988، وبعد سقوط الحكم العسكري وكان ذلك عقب (حرب المالوين) في العام 1982 استطاع أن يعود إلى الأرجنتين في زيارة أولى، ليكتشف فعلا ان زوجة ابنه وضعت في مستشفى عسكري في الأوروغواي. شيئا فشيئا بدأت تتكون خيوط وتفاصيل الحادثة، ولتبدأ معها حملة عالمية اشترك فيها العديد من كتاب العالم، طالبوا فيها، ليس فقط الكشف عن حقيقة قصة غيلمان، بل أيضا عن مصير الآلاف من (مجهولي المصير) الذين اختفوا في حروب أميركا اللاتينية. هذه القصة لم يكتب لها الخاتمة إلا في العام 2001، حين وجد الشاعر حفيدته، التي تبناها شرطي من الأوروغواي، الذي كان توفي لتوه، ولتعترف زوجة الشرطي، لابنتها بالتبني، بالحقيقة أي أنها كانت ابنة امرأة من الأرجنتين قتلت بعد أن أنجبتها. تتطابق القصتان وينجح الشاعر في الوصول إلى (الحقيقة) التي بحث عنها مطولا. سيرة تراجيدية بلا شك. ومن هذه المآسي المتكررة، ينبع قسم من شعر جيلمان الذي جمعه في كتاب هي قصائد المنفى وقدم له الروائي الأرجنتيني خوليو كورتاثار قبل موته، ليصدر العام 1994 عن منشورات( فيزور) في مدريد. يعد خوان جيلمان اليوم، أحد الأصوات الشعرية المتفردة في أميركا الجنوبية، حاز العديد من الجوائز الأدبية، كان آخرها جائزة (خوان رولفو) العام 2000. مؤخرا أصدرت له منشورات (في) في اللكسمبورغ، ضمن سلسلتها الشعرية (غرافيتي)، ترجمة لبعض أشعاره حملت عنوان (رواتب الكافر)، وهي مجموعة تقع عمليا في ثلاثة (فصول). الأول بعنوان (رواتب الكافر) ويتضمن قصائد كتبت في باريس وجنيف ومكسيكو ونيويورك ما بين عامي 1984 و1992. أما القسم الثاني فبعنوان (ديباكسو)، في حين يحمل القسم الأخير عنوان (بطريقة ناقصة) ويتضمن قصائد كتبت في المكسيك بين عامي 1993و1995. الموسوعة العالمية للشعر العربي يقول الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو الراحل قبل فترة وجيزة، إن الكارثة تحوطنا لكن الخلاص في اليوتوبيا. لم تسعف اليوتوبيا ساباتو ازاء الموت فخطفه قبل أن يكمل عامه المئة. كان خلال ما نيف على القرن، المؤمن بأن الفن وجد لأننا ناقصون، وكان أيضًا المتحدث في شأن ما ظن من المتعذر الاستغناء عنه. تلك حال مواطنه خوان خيلمان أيضًا، الذي صار برحيل ساباتو، الصدى البارز الباقي في الآداب الأرجنتينية. يصدر خيلمان هذا الشهر في اسبانيا مجموعة القلب العنيد يحبُّ (دار توسكيس) الشعرية على أن تتلقفها أميركا اللاتينية بعدذاك. إنها كمشة قصائد مرتقبة على أهمية، يخرجها خيلمان من ذاكرة تجربته لتفضح ركامًا داخليًا تعاظم رويدًا بسبب محن شخصية موجعة. غير أن خيلمان يكاد في هذه الأثناء، يمشي فوق الغيوم من شدة الغبطة، ذلك أن "المحكمة الدولية لحقوق الإنسان"، أدانت الأوروغواي في قضية اخفاء كنَّته القسري وهي حبلى، وتبديل هوية حفيدته. في الموازاة، يصدر مؤلفه بالقشتالية حيث يروي نثار سيرة "بطولية" على ما يعاينها الشاعر الإسباني وشريكه في فردوس جوائز ثرفانتس، انطونيو غامونيدا. خوان خيلمان طيف من أطياف بوينس ايريس الهجينة، عشَّبت هويته المركبة، هو المولود في المدينة لأسرة يهودية اوكرانية، في قعر قصيدته. وجد الروس والإيطاليون والأتراك والعرب واليهود والإسبان وغيرهم في العاصمة حيزًا نهائيًا يقيهم اتساع العالم. غير أن الأماكن النهائية لم تستهو يومًا "فوضوية" الكون أو الشعر أو خيلمان. جعل الشاعر انكاره لماهيته الوراثية، يرتدي صيغًا مختلفة شحذت نصوصه، فكانت لغة الناثر الجيد والصحافي الفطن الفريدة والشاعر اللافت، لغة تمطُّ إلى حد الإيهام بالتفسخ من الداخل.
في ركاب جيل الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تشكَّل عالم خيلمان على مذهب الشعراء الحقيقيين. صارع "توعُّك" اللغة ليصل من باب تشرُّب التقليد إلى فحوى المضمون الشعري ويحتوي تجاويفه وأطياف المعيش. والحال أنه متمرد على الكلمات، يفرُّ من كل تصنيف ومن كل إعلان ملموس، ليحاول إيجاد مفاهيم على حدة. ليست جميع الصور التي تجتاز القلب العنيد يحبُّ هي الأخرى، القمر أو الحجارة أو الروح أو الضوء أو الحقيقة أو الفرسان، سوى ألاعيب بالنسبة إلى المتلقي، كما يقدِّر صاحبها. ذلك أن القصيدة في عرف هذا الأرجنتيني كزجاجة ألقيت في البحر، وثمة احتمال أن تبلغ روح أحدهم أو لا تفعل. يشتغل خوان خيلمان وفق مسلَّمة مفادها أن الكاتب بالمطلق لا يؤلف ما يريده وإنما ما يستطيعه. المجموعة كناية عن أكثر من مئة وأربعين قصيدة تبين جنبات عدة من مسار غني زرع بالتقديرات الأدبية بدءًا من "الجائزة الوطنية للشعر الأرجنتيني" وجائزة "خوان رولفو لأدب أميركا اللاتينية والكاريبي" من دون الانتهاء عند جائزة "الملكة صوفيا للشعر". يجرب الشاعر في المؤلف الأحدث شكل اللغة الأقصى، يختلق المصطلحات وينفث من خلالها هواء في رئتي الأفكار والمشاعر. الحب والموت والوضع الإنساني والفشل والوجع والضياع والبحث عن الضوء، تيمات من ضمن أخرى عدة، تمدُّ المجموعة بأدوات الحياة. في حين يصعب على أي شاعر بلا ريب، أن يستشرف كيف يتعامل مع فعل عصي على التعديل، خيلمان الوحيد ربما الذي يعرف كيف يتصرف تجاه أفعال غير موجودة في الأساس. ها أنه وبدءًا من عنوان مجموعته الأخيرة، يجرؤ على تحديثات لغوية جذرية. يجرِّب اختراع أحد الأفعال يعطيه معنى "يحبُّ"، في حين يقترب من حيث الإيقاع، في لغته الأم، من معنى التخلي عن الحب. والحال أن في قاموس خيلمان تعابير عدة من هذا القبيل يروقه أن يخيطها ويتلذذ في رصد تردداتها عند المتلقي. في المجموعة وهي الكتاب الثاني لخيلمان منذ نيل "جائزة ثرفانتس" في 2007، يهدي القصيدة الاستهلالية الى زوجته مارا حيث يرد: في دواخل جسدين ندرك السبيل إلى امتلاك ما يتعذر امتلاكه فلينسج الوقت والذاكرة فتنة مختلفة. في هذا المناخ حيث يتم التخلي عن الأقنعة، ومن خلال تجريب الشكل والمضمون وتجنب الاستلقاء في "الجسد المهزوم" كما يسمِّيه في إحدى القصائد، يبني خيلمان الكتاب "الأكثر بؤسًا وتجاسرًا وراديكالية" في منجزه، وهذا ترف يوظفه في مسار استثمار اللغة والانتباه إلى تفادي التكرار. تظهر في هذه المجموعة، رغبته في مناهضة جماد الروح ويسأل في وسط كمشة من الأبيات: متى يدفع ثمن مشقات الترحال ثمن الحب الذي يخطئ ولا ينهَك، الحب المطروح للبيع في السوق هل تمطر أو يستمر الصحو؟ يصير في قصيدة "حبات البرتقال" متأملاً، فنقرأه يعلن: "الصمت هو صحراء/ قتلَت جميع الآفاق". ثمة صور في الكتاب يتعذر محوها، تشير إحداها إلى أن الحياة من دون رغبات ليست سوى يوميات رمادية، أما الخوف من الرمادي فيجعل الاستسلام مستحيلاً خصوصًا في مرحلة الشيخوخة حيث "تقاوم الرغبة فكرة التخلي عن العظام". كتبت قصائد المجموعة قبل عام وهي موجزة للغاية، ذلك أن التقدم في السن يجعل المرء في عرف خيلمان، يتخلص من عديم الجدوى، فتصير النصوص في أبهى عريها، بعدما تخلَّت عن الفضلات. استهاب البعض من خوان خيلمان الذي نظر إلى الشعر باعتباره أكثر من دعوة وإنما رذيلة. أقلقهم أيضًا الباحث الذي يتأنى أمام تفاصيل نمر بها ولا تستوقفنا، ننظر إليها ولا نراها. ترددوا كذلك تجاه الناشط السياسي خلال "الحرب القذرة" في الأرجنتين بين عامي 1976 و1983 والتي لوحق خلالها المعارضون اليساريون، لتصير حياته نزاعًا مديدًا. سيمسي الشاعر جراء سطوة الجزمة العسكرية يتيم ابنه. بعد اغتيال الابن، تُخطَف كنَّته وتُحتجَز حفيدته وتنزل به عقوبتان بالموت ثم النفي بلا بصيص عودة. ليصير الوجع جرحه النازف الأنجع في مساحة الشعر الذي حمله أنَّى ذهب، علَّه يخرج من عنق الزجاجة. بعد ثلاثة وعشرين عامًا من تقفي أثر الحفيدة التي ولدت في الأسر، وجدها في كنف عائلة تبنَّتها في الأوروغواي. في وسع الفقد كما اللغة أن يخلِّفا ألمًا. غير أن خيلمان يتحسر خصوصًا على فكرة أن يضطر إلى عزف الكمان في الحي الثاني كما يصف مسار الانتقال الجسدي، ذلك أنه لن يستطيع عندذاك أن يمضي في حبِّ أولئك الذين يحبُّهم. إحدى أبرز سمات شعر الأرجنتيني خيلمان أنه يجمع بين الاهتمام باليومي (في مضمار المفردات والتيمات)، والتنقيب في جذور اللغة المنفية. يصير هذا الحفر هجسًا ماديًا مع بداية منفى خيلمان في 1976 ويتعزز في مؤلفات منها مواعيد وتعليقات (1982) ليستتب تمامًا في علاقات (1973). هشَّم التاريخ المجحف معيش خيلمان واستولى على هويته ليصير من مفردات الحزن الصرف. وعندما سئل "من أنت؟" أجاب "من يدري. أنا لا". غير أن من الإجحاف القفل على الشاعر الأرجنتيني في علبة الالتزام السياسي، ففي رصيده قصائد معدودة ذات مرامٍ سياسية واضحة، وحتى هذه لا تتوسل بالمنحى التبسيطي. يمضي الشعراء يبحثون عن سيدة مراوغة اسمها القصيدة. وفق خيلمان نكتب بحثًا عن الكمال، عن مطلق ليس في حوزتنا. والحال أن ثورات العالم العربي الأخيرة عززت اقتناعه بوجود إمكانات لتغيير العالم، على ما يؤكد لصحيفة "بوبليكو" الإسبانية. تترك الأحداث خروقًا في التاريخ في حين ينهمك الإنسان في وضع المخططات. تلد اليوتوبيات لتموت وإنما تمهد لأخرى أفضل دومًا. من دون يوتوبيا لن يكون العالم منصفًا. في وسعنا أن نجزم أن اليوتوبيا بلاد يزورها خيلمان كل ليلة معابر ساعدته على زيارة بلدان كثيرة.وجاءت تصريحات خيلمان خلال ندوة عقدت بمعهد ثربانتس بكين (المركز الثقافي الإسباني) من أجل التقارب الثقافي بين عالم الشعر اللاتيني والشعر الصيني، والذي شهد حضور طلبة اللغة الإسبانية، والمهتمين بالثقافة الإسبانية واللاتينية، فضلا عن سفراء إسبانيا، والأرجنتين، وأوروجواي وتشيلي. وقال خيلمان: "ولدت في الأرجنتين، بلد لغتي الأم. وجبت بلدان كثيرة إلى أن استقر بي الحال في المكسيك برغبتي. نحن جميعنا ننتمي لهذا العالم، لكن وطني الوحيد هو اللغة فاللغة أوطان كثيرة: كالطفولة، والعائلة.. وغيرها من الأمور التي تشكل كيان لإنسان". وأضاف:"الشاعر والكاتب لا يشعران بدفء الوطن سوى في اللغة. ولهذا، إذا نفى إلى أي مكان حتى لو كان الجحيم ذاته، فليس بالأمر العظيم". وعن أهمية اللغة في حياة الانسان قال: "لقد كانت إيطاليا أول بلد أذهب إليه بعد النفي، أمضيت بعدها عدة أشهر في إسبانيا ثم فرنسا. وعلى الرغم من حالة الغضب الشديدة التي انتابتني، واحساسي بالعجز والألم بسبب المآسي التي كانت تجري في الأرجنتين، لم أستطع الكتابة. فالمحيط اللغوي كان يعزلني". ووفقا لجيلمان الذي مارس العمل الصحفي والترجمة "يعثر كل شاعر على الصوت الخاص به واللغة التي يحتاجها. وأنا لم أخلق واحدة. لقد كانت اللغة الإسبانية موجودة بداخلي عندما ولدت". في سياق متصل، ينتظر صدور الترجمة الصينية لبعض قصائد الشاعر الأرجنتيني عما قريب مثل: "تفاحة"، و"رفاق"، و"البطة البرية" و"الصداقات". يذكر أن خيلمان (79 عاما)، كان قد عمل أثناء الحكم العسكري في الأرجنتين صحفيا بوكالة (شينخوا) الصينية، وعمل على التنويه بما كان يجري في بلاده على الرغم من قيام الحزب الشيوعي بطرده بعد موالاته للنظام السوفيتي. البينة نجزم أن اليوتوبيا بلاد يزورها الشاعر كل ليلة يقول الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو الراحل قبل فترة وجيزة، ان الكارثة تحوطنا لكن الخلاص في اليوتوبيا. لم تسعف اليوتوبيا ساباتو ازاء الموت فخطفه قبل أن يكمل عامه المئة. كان خلال ما نيف على القرن، المؤمن بأن الفن وجد لأننا ناقصون، وكان ايضا المتحدث في شأن ما ظن من المتعذر الاستغناء عنه. تلك حال مواطنه خوان خيلمان ايضا، الذي صار برحيل ساباتو، الصدى البارز الباقي في الآداب الأرجنتينية. يصدر خيلمان هذا الشهر في اسبانيا مجموعة "القلب العنيد يحبّ" (دار توسكيس) الشعرية على ان تتلقفها أميركا اللاتينية بعدذاك. انها كمشة قصائد مرتقبة على أهمية، يخرجها خيلمان من ذاكرة تجربته لتفضح ركاما داخليا تعاظم رويدا بسبب محن شخصية موجعة. غير ان خيلمان يكاد في هذه الأثناء، يمشي فوق الغيوم من شدة الغبطة، ذلك ان "المحكمة الدولية لحقوق الإنسان"، أدانت الأوروغواي في قضية اخفاء كنّته القسري وهي حبلى، وتبديل هوية حفيدته. في الموازاة، يصدر مؤلفه بالقشتالية حيث يروي نثار سيرة "بطولية" على ما يعاينها الشاعر الاسباني وشريكه في فردوس جوائز ثرفانتس، انطونيو غامونيدا. خوان خيلمان طيف من أطياف بوينس ايريس الهجينة، عشّبت هويته المركبة، هو المولود في المدينة لأسرة يهودية اوكرانية، في قعر قصيدته. وجد الروس والإيطاليون والأتراك والعرب واليهود والإسبان وغيرهم في العاصمة حيزا نهائيا يقيهم اتساع العالم. غير ان الأماكن النهائية لم تستهو يوما "فوضوية" الكون أو الشعر أو خيلمان. جعل الشاعر انكاره لماهيته الوراثية، يرتدي صيغا مختلفة شحذت نصوصه، فكانت لغة الناثر الجيد والصحافي الفطن الفريدة والشاعر اللافت، لغة تمطّ الى حد الإيهام بالتفسخ من الداخل. في ركاب جيل الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تشكّل عالم خيلمان على مذهب الشعراء الحقيقيين. صارع "توعّك" اللغة ليصل من باب تشرّب التقليد الى فحوى المضمون الشعري ويحتوي تجاويفه وأطياف المعيش. والحال انه متمرد على الكلمات، يفرّ من كل تصنيف ومن كل اعلان ملموس، ليحاول ايجاد مفاهيم على حدة. ليست جميع الصور التي تجتاز "القلب العنيد يحبّ" هي الأخرى، القمر او الحجارة او الروح او الضوء او الحقيقة او الفرسان، سوى ألاعيب بالنسبة الى المتلقي، كما يقدّر صاحبها. ذلك ان القصيدة في عرف هذا الارجنتيني كزجاجة ألقيت في البحر، وثمة احتمال ان تبلغ روح احدهم أو لا تفعل. يشتغل خوان خيلمان وفق مسلّمة مفادها أن الكاتب بالمطلق لا يؤلف ما يريده وانما ما يستطيعه. المجموعة كناية عن أكثر من مئة واربعين قصيدة تبين جنبات عدة من مسار غني زرع بالتقديرات الأدبية بدءا من "الجائزة الوطنية للشعر الأرجنتيني" وجائزة "خوان رولفو لأدب أميركا اللاتينية والكاريبي" من دون الإنتهاء عند جائزة "الملكة صوفيا للشعر". يجرب الشاعر في المؤلف الأحدث شكل اللغة الأقصى، يختلق المصطلحات وينفث من خلالها هواء في رئتي الأفكار والمشاعر. الحب والموت والوضع الإنساني والفشل والوجع والضياع والبحث عن الضوء، تيمات من ضمن أخرى عدة، تمدّ المجموعة بأدوات الحياة. في حين يصعب على أي شاعر بلا ريب، ان يستشرف كيف يتعامل مع فعل عصي على التعديل، خيلمان الوحيد ربما الذي يعرف كيف يتصرف تجاه أفعال غير موجودة في الاساس. ها انه وبدءا من عنوان مجموعته الأخيرة، يجرؤ على تحديثات لغوية جذرية. يجرّب اختراع أحد الافعال يعطيه معنى "يحبّ"، في حين يقترب من حيث الايقاع، في لغته الأم، من معنى التخلي عن الحب. والحال ان في قاموس خيلمان تعابير عدة من هذا القبيل يروقه أن يخيطها ويتلذذ في رصد تردداتها عند المتلقي. في المجموعة وهي الكتاب الثاني لخيلمان منذ نيل "جائزة ثرفانتس" في 2007، يهدي القصيدة الاستهلالية الى زوجته مارا حيث يرد: "في دواخل جسدين/ ندرك السبيل الى امتلاك ما يتعذر امتلاكه/ فلينسج الوقت والذاكرة فتنة مختلفة". في هذا المناخ حيث يتم التخلي عن الأقنعة، ومن خلال تجريب الشكل والمضمون وتجنب الاستلقاء في "الجسد المهزوم" كما يسمّيه في احدى القصائد، يبني خيلمان الكتاب "الأكثر بؤسا وتجاسرا وراديكالية" في منجزه، وهذا ترف يوظفه في مسار استثمار اللغة والانتباه الى تفادي التكرار. تظهر في هذه المجموعة، رغبته في مناهضة جماد الروح ويسأل في وسط كمشة من الابيات: "متى يدفع ثمن مشقات الترحال/ ثمن الحب الذي يخطئ/ ولا ينهَك، الحب المطروح للبيع في السوق /هل تمطر أو يستمر الصحو؟". يصير في قصيدة "حبات البرتقال" متأملاً، فنقرأه يعلن: "الصمت هو صحراء/ قتلَت جميع الآفاق". ثمة صور في الكتاب يتعذر محوها، تشير احداها الى ان الحياة من دون رغبات ليست سوى يوميات رمادية، اما الخوف من الرمادي فيجعل الاستسلام مستحيلا خصوصا في مرحلة الشيخوخة حيث "تقاوم الرغبة فكرة التخلي عن العظام". كتبت قصائد المجموعة قبل عام وهي موجزة للغاية، ذلك ان التقدم في السن يجعل المرء في عرف خيلمان، يتخلص من عديم الجدوى، فتصير النصوص في ابهى عريها، بعدما تخلّت عن الفضلات. استهاب البعض من خوان خيلمان الذي نظر الى الشعر باعتباره أكثر من دعوة وإنما رذيلة. اقلقهم ايضا الباحث الذي يتأنى أمام تفاصيل نمر بها ولا تستوقفنا، ننظر اليها ولا نراها. ترددوا كذلك تجاه الناشط السياسي خلال "الحرب القذرة" في الأرجنتين بين عامي 1976 و1983 والتي لوحق خلالها المعارضون اليساريون، لتصير حياته نزاعا مديدا. سيمسي الشاعر جراء سطوة الجزمة العسكرية يتيم ابنه. بعد اغتيال الابن، تُخطَف كنّته وتُحتجَز حفيدته وتنزل به عقوبتان بالموت ثم النفي بلا بصيص عودة. ليصير الوجع جرحه النازف الأنجع في مساحة الشعر الذي حمله أنّى ذهب، علّه يخرج من عنق الزجاجة. بعد ثلاثة وعشرين عاما من تقفي أثر الحفيدة التي ولدت في الاسر، وجدها في كنف عائلة تبنّتها في الأوروغواي. في وسع الفقد كما اللغة ان يخلّفا ألما. غير ان خيلمان يتحسر خصوصا على فكرة ان يضطر الى عزف الكمان في الحي الثاني كما يصف مسار الانتقال الجسدي، ذلك انه لن يستطيع عندذاك ان يمضي في حبّ اولئك الذين يحبّهم. إحدى أبرز سمات شعر الارجنتيني خيلمان أنه يجمع بين الاهتمام باليومي (في مضمار المفردات والتيمات)، والتنقيب في جذور اللغة المنفية. يصير هذا الحفر هجسا ماديا مع بداية منفى خيلمان في 1976 ويتعزز في مؤلفات منها "مواعيد وتعليقات" (1982) ليستتب تماما في "علاقات" (1973). هشّم التاريخ المجحف معيش خيلمان واستولى على هويته ليصير من مفردات الحزن الصرف. وعندما سئل "من أنت؟" أجاب "من يدري. أنا لا". غير ان من الاجحاف القفل على الشاعر الارجنتيني في علبة الالتزام السياسي، ففي رصيده قصائد معدودة ذات مرامٍ سياسية واضحة، وحتى هذه لا تتوسل بالمنحى التبسيطي. يمضي الشعراء يبحثون عن سيدة مراوغة اسمها القصيدة. وفق خيلمان نكتب بحثا عن الكمال، عن مطلق ليس في حوزتنا. والحال ان ثورات العالم العربي الأخيرة عززت اقتناعه بوجود امكانات لتغيير العالم، على ما يؤكد لصحيفة "بوبليكو" الاسبانية. تترك الأحداث خروقا في التاريخ في حين ينهمك الإنسان في وضع المخططات. تلد اليوتوبيات لتموت وانما تمهد لأخرى أفضل دوما. من دون يوتوبيا لن يكون العالم منصفا. في وسعنا ان نجزم ان اليوتوبيا بلاد يزورها خيلمان كل ليلة. شبكة الرحاب الجمعة 13 أيار 2011 10:46 ص 279 0
|