هاشم صالح

لوتريامونأرجو من القارئ الا يأخذ كلمة التدمير هنا بالمعنى السلبي. فقد يكون للتدمير معنى ايجابيا إذا ما جاء في وقته: أي في وقت التكلُّس والتحجر، أو التراكم والاختناق. وهذا هو وضع العرب حاليا.
عندئذ يتخذ التدمير الشكل الإجباري وأكاد أقول الفيزيائي للانفجار والحرية. ولا يمكن ان نفهم جوهر الحداثة الشعرية الأوروبية ـ والعربية أيضا في أعلى رموزها تمردا ورفضا ـ ان لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار. فالحداثة الشعرية لا تخص الشعر فقط، وإنما لها بعدٌ فكري واجتماعي واضح، وان كان مطموسا جدا لكيلا يسيء للعملية الشعرية، أو لكيلا يحولها إلى دعاية ديماغوجية فجة ومزعجة. فالشعراء الكبار من أمثال بودلير ولوتريامون ورامبو لا يستمدون أهميتهم من فتوحاتهم الشعرية فقط. اقصد من المجازات الإبداعية الخارقة التي اخترعوها أو قدروا عليها من خلال عملية اقتحامية تشبه اقتحام الجيوش أو الفاتحين التاريخيين. وإنما يستمدونها أيضا من المضمون الفكري، أو من شحنة التمرد الهائلة التي تنطوي عليها هذه المجازات بالذات، وهو تمرد ينفجر على الوضع القائم في كتلته اللاهوتية والإيديولوجية القمعية كما تنفجر القنابل، أو الحمم، أو البراكين. هنا تكمن الجاذبية التي لا تقاوم للحداثة الشعرية: اقصد لدواوين من أمثال «أزهار الشر» أو أناشيد مالدورور»، أو «فصل في الجحيم» أو «أغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس.
لكن لنعد إلى رامبو ولوتريامون يعجبني الفصل الذي خصصته الباحثة الفرنسية سوزان بيرنار لهما في كتاب أصبح كلاسيكيا الآن: قصيدة النثر منذ بودلير وحتى اليوم.
الفصل المخصص للوتريامون يتخذ العنوان التالي: لوتريامون والشعر الهيجاني أو المسعور. تقول الباحثة بما معناه: ان المقاربة بين لوتريامون ورامبو تفرض نفسها بكل مشروعية وقد فرضت نفسها في الواقع منذ البداية. فكلاهما كتب شعره في مرحلة مبكرة جداً من العمر (حوالي العشرين) أو ما قبلها فيما يخص رامبو.
وكلاهما جاء إلى باريس لكي يضع مولوده أو ينضج رائعته الشعرية. وكلاهما كان عنيفاً، ساخراً، ذا طبع فوضوي. وكلاهما فجَّر جميع التقاليد الأدبية، واستخدما قصيدة النثر تحت أشكالها الأكثر حرية (ما عدا رامبو الذي كتب شعراً موزوناً سابقاً قبل ان ينتهي إلى قصيدة النثر) وكلاهما شهد فترة الزوابع والحروب التي هزت فرنسا، ولذلك جاء شعرهما متمرداً كالإعصار وكلاهما تخلى عن مهنة الكتابة والأدب بعد ان مارسها لفترة قصيرة جداً (ثلاث أو أربع سنوات) وكلاهما مات شاباً. وكلاهما حاول الانقلاب على نفسه أو تدمير نفسه وإنتاجه. والشيء الذي يدهشنا عندما نقرأ أعمالهما الشعرية هو التالي. إنهما ينتفضان بكل قوة، وبشكل يائس، ضد كل ما يشكل الحياة الاجتماعية: أي ضد البشر، والحب، والأخلاق البورجوازية التي كانت سائدة في عصرهما، وضد العقيدة اللاهوتية المسيحية. إنهما ضد كل شيء.
صحيح ان لوتريامون في ديوانه الثاني «أشعار» انقلب على مواقفه الرافضة والمرعبة التي كان قد عبّر عنها في ديوانه الأول: أناشيد مالدورور. وصحيح انه راح يدعو إلى عدم إنكار الحب العائلي، والزواج، والمؤسسات الاجتماعية، وكلها أشياء تمثل القيم الأساسية للمجتمع البورجوازي. ولكن هذا الانقلاب لا ينبغي ان يخدعنا كثيرا. فهو سطحي او ظاهري أكثر مما يجب إنه يشبه موقف التقيّه او التستر الذي يتخده البعض خوفاً من المجتمع. وما كان بإمكانه ان يغسل كل لطخات العار التي ارتكبها في ديوانه الأول عن طريق إطلاق بعض التصريحات الإيمانية أو الأخلاقية التي لم تقنع أحدا. أليس هو القائل: كل مياه البحر لا تكفي لغسل لطخة دم ثقافية واحدة؟
هل كان يفكر بالفظائع التي ارتكبها في أناشيده الشيطانية ـ أناشيد مالدورور ـ عندما كتب هذا الكلام؟ ربما على أي حال فإن موريس بالنشو يحذّرنا من تصديق توبة لوتريامون:
هذه التوبة غير النصوح التي يعلنها في ديوانه الأخير، والتي ينقلب فيها على ديوانه الأول. لماذا؟ لأنه إذا كان عدد كبير من «الأفكار» أو الفقرات الواردة في الديوان الثاني تمجد الفضيلة،
فإنها تفعل ذلك بشكل احتقاري متعال أو على العكس بشكل مبالغ فيه ومتطرف إلى درجة ان المدح يتحول إلى هجاء!.
في الديوان الاول يعلن لوتريامون على لسان مالدورور كفره والحادة، وفي الديوان الثاني «اشعار» يعلن إيمانه. في الديوان الاول يشن حملة شعراء على الجنس البشري وعلى جميع الفضائل، وفي الديوان الثاني يعلن التزامه بها. يقول في افتتاحية هذا الأخير: قررت ان استبدل بالحزن السوداوي الشجاعة وبالشك اليقيني، وباليأس الأمل، وبالشر الخير، وبالتشكيات الواجب، وبالكفر الإيمان، وبالسفسطة برودة الهدوء، وبالغرور التواضع». باختصار لقد تخلى عن كل مواقعه السابقة دفعة واحدة وأصبح عاقلا متزنا لا يتفوه بكلمة نابية وبدلاً من ان كان سلبيا تماما وعلى كافة الأصعدة والمستويات، أصبح الآن ايجابيا على كافة الأصعدة والمستويات وهكذا بقدرة قادر تحول من اسود إلى ابيض.. فمن سيصدقه؟ وكيف «قلب سترته» كما يقال عندنا بمثل هذه السرعة؟ كيف انقلب من النقيض إلى النقيض؟ هل يسخر منا لوتريامون أم يسخر من نفسه ام يسخر من البشرية بأسرها؟ في الواقع انه عدمي راديكالي يستطيع ان يؤمن بالشيء وعكسه في نفس اللحظة او قل يستطيع ان يدمر في لحظة لاحقة كل ما بناه في لحظة سابقة.. ألم يحذرنا نيتشه من العدمية؟ ألم يقل لنا بأنها المرض الأكبر الذي يهدد الحداثة الأوروبية؟ من لم يسمع صرخة نيتشه التي ملأت جبال سويسرا وشعابها؟!
يقول في ديوانه الثاني والأخير «أشعار»: المبادئ الأولى ينبغي ان تكون خارج المناقشة (او فوق المناقشة)، لا تظهروا أي نقص في اللياقة الفاسدة الذوق تجاه الخالق، ارفضوا الجمود والكفر: إنكم تسعدونني، لا يوجد نوعان من الشعر، يوجد نوع واحد فقط. يوجد اتفاق غير مضمر كثيرا بين الكاتب والقارئ. وبموجبه يسمي الاول نفسه مريضا، ويقبل بالثاني كممرض. فالشاعر هو الذي يعزي البشرية! الأدوار معكوسة بشكل اعتباطي. لن اترك ورائي مذكرات. الشعر ليس الإعصار ولا الزوبعة انه نهر عظيم وخصب.
ثم يقول أيضا: أريد ان يصبح شعري مقروءا من قبل فتاة لا تتجاوز الرابعة عشرة من العمر..
ولكنه في ديوانه الاول يقول العكس تماما. فمنذ بداية النشيد الاول يكتب ما يلي: ليس من المستحسن ان يقرأ الجميع هذه الصفحات
التي ستجيء... انها مليئة بالسموم... ومليئة بالكفر والإلحاد.
فكيف غيّر موقفه بين عشية وضحاها؟ ذلك انه لم يعش اكثر من أربعة وعشرين عاما، وبين الديوان الاول والديوان الثاني لا تفصل الا فترة زمنية قصيرة..
لا أحد يعرف سر هذا الانقلاب المفاجئ للوتريامون. وكما قلنا فإن الكثيرين يشكون في صحته او صدقه. فالإنسان لا يتغير بمثل هذه السرعة. فالسادية المطلقة والغاضبة التي سيطرت على «أناشيد مالدورور» أفسحت المجال في «أشعار» للهجة هادئة، بل ورزينة جدا أحيانا. البعض فسر ذلك بنضوب النسغ الشعري لديه. فمن الواضح ان شاعريته في «أناشيد مالدورور» اقوي بكثير من شاعريته في الديوان الأخير. وعندما تذكر اسم لوتريامون أمام أي فرنسي مهتم بالأدب فإنه يقول لك فورا: أناشيد مالدورور. ولكن البعض الآخر يرى ان سبب تغييره لموقفه يعود إلى تنامي مرضه العقلي الذي تغلب عليه في نهاية المطاف، ولكن لا شيء يثبت صحة هذا الكلام. فالرجل كان يمتلك كل قواه العقلية، ولولا ذلك لما استطاع إنتاج مثل هذا الشعر العبقري. وربما الأصح ان نقول بأنه انتقل من صيغة معنية من صيغ الشعر إلى صيغة أخرى مضادة تماما. لقد انتقل من شعر التمرد إلى شعر الهدوء، ومن شعر الرفض إلى شعر القبول. فالإنسان ذو طبيعتين: طبيعة غاضبة، وطبيعة هادئة، ولكل منهما نوع يناسبه من أنواع الشعر، ولكن المشكلة هي ان الشعر الغاضب يظل هو الأقوى. فالشعر ـ والفن عموما ـ يقع في جهة السلب، والعذاب، والآلام. وجاذبية الشعر المتمرد اقوي بكثير من جاذبية الشعر المستكين او المتصالح مع الواقع. كل الشعراء الذين صفقوا للواقع او تصالحوا معه زالوا، وبقيت على صفحة التاريخ فقط أسماء أولئك المشاغبين الذين شكل ظهورهم فضيحة حقيقية في عصرهم.
في إحدى رسائله القليلة والنادرة يقول لوتريامون: «لقد أنكرت ماضيّ. ولم اعد اغنيّ الا للأمل..»، ولكن ما نفع هذا الكلام؟ فالشيء الذي بقي منه هو بالضبط الشيء الذي أنكره او تخلى عنه. هذا لا يعني بالطبع ان أشعاره الأخيرة لا قيمة لها، فالواقع ان المرء يقرؤها بالكثير من الاستمتاع، وأحيانا لا يملك الا ان ينفجر بالضحك، وهو يراه يصفي حساباته مع جميع كتّاب فرنسا بطريقة استهتارية عجيبة. هكذا نجد ان ساديته لم تتخلَّ عنه ولم يتنكر لماضيه إلى الحد الذي يزعمه في الواقع انه لم يتغير عمقيا وإنما غير أسلوبه فقط فهو مشحون بقوة تدميرية داخلية قل مثيلها في تاريخ الشعر والأدب ولوتريامون الذي اشتهى تدمير نفسه، يستطيع ان يدمر غيره وكل ما انوجد على سطح الأرض. ذلك ان ساديته لا حدود لها. لنستمع إلى بعض المقاطع من أناشيد مالدورور: ليس من المستحسن ان يقرأ الجميع هذه الصفحات التي ستجي فقط بعضهم يستطيع ان يتذوق ثمرتها المرة دون خطر وبالتالي أيها الإنسان الخجول أنصحك قبل ان تتغلغل اكثر في مثل هذه المناطق المجهولة ان تنكص بأعقابك إلى الوراء لا ان تتقدم إلى الأمام أصغ إلى ما سأقوله لك جيدا. انكص بإعقابك إلى الوراء ولا تتقدم خطوة واحدة إلى الإمام.. سوف أبرهن في بضعة اسطر كيف ان «مالدورور» كان طيبا في سنواته الأولى حيث عاش سعيدا. تمت البرهنة. ثم أدرك بعدئذ انه ولد شريرا يا لها من حتمية عجيبة ثم خبأ طبعه ما استطاع طيلة سنوات عديدة، ولكن في النهاية وبسبب هذا التركيز الذي كان مضادا لطبيعته فان الدم راح يصعد إلى رأسه كل يوم اكثر وتفاقم الأمر حتى لم يعد قادرا على تحمل مثل هذه الحياة فرمى بنفسه كليا في مهنة الشر.. يا له من مناخ ناعم! من كان سيعتقد ذلك فمثلا عندما كان يقبل طفلا صغيرا، ذا وجه وردي فانه كان يتمنى لو يكشط وجنتيه بشفرة حلاقة. وكان سيفعل ذلك مرات عديدة، او غالبا لولا ان العدالة الفوقية التي تجرجر وراءها قافلة طويلة من العقوبات كانت تمنعه في كل مرة. لم يكن كذابا مالدورور كان يعترف بالحقيقة، ويقول انه وحش عديم القلب. أيها البشر هل سمعتم؟ انه يتجرأ على تكرار ذلك عن طريق القلم الذي يرتجف في يدي! وهكذا إذن توجد قوة عظمى اقوي من إرادته.. يا لها من لعنة! الجمرة تريد ان تتخلص من قانون الجاذبية؟ مستحيل. مستحيل، إذا كان الشر يريد ان يتحالف مع الخير. وهذا ما قلته آنفا.
يقول الروائي المعروف «لوكليزيد» عن لوتريامون: هذا العمل البدائي فريد من نوعه، لا يوجد شبيه له في تاريخ الأدب. أشباهه ينبغي ان نبحث عنها في أماكن أخرى. وبعيدا جدا ينبغي ان نبحث عنها في فوضى الأدب الشفهي مثلا، في ذلك التدفق الحيواني للاغاني حيث الصور لم تثبت بعد من قبل اللغة المكتوبة. وينبغي ان نبحث عنها في المزامير، والشتيمة، والصلاة. نعم يصعب ان نتخيل مغامرة في مثل هذا القرب والبعد في آن معا.

الشرق الأوسط
8 نوفمبر 2006