(عن موقع المنبر الديمقراطي التقدمي)

مجيد مرهون يروي سيرته لـ " الوقت .. ويرحل "

التقيته في سبتمبر 2009..لأدون سيرته.. فكان هذا آخر لقاء له في حياته..
مجيد مرهون قبـل وفاتـه: هــذه سـيرتي الفنية " 2-2"

تدوين: يوسف محمد

مجيد مرهوناتصلتُ به في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول من العام ,2009 وطلبتُ منه أن يمنحني بعض الوقت؛ لأدون سيرته الفنية، كنت أعلم أنه مشغول في تحضير أعماله الفنية، وسأجد صعوبة في لقائه أو أنه سيصعب عليَّ تدوين سيرته، ولكنني لم أكن أتوقع أن يكون بهذا التواضع والبساطة، فقال لي: أنت تختار الوقت وأنا في انتظارك .. فاتفقنا على موعد فذهبت إليه، فاستقبلني بترحاب كبير من أمام بيته بمدينة حمد .. ومعه ابنه رضا، وكانت زوجته أم رضا تسبقني بسيارتها لأهتدي إلى البيت .. وفتح قلبه قبل بيته وتحدث في أمور كثيرة، وقدم لي صورا وهو يقول هذه أول مرة أقدم هذه الصور للنشر .. لم أستطع أن أخفي سعادتي وفرحتي بأني التقيته ومنحني هذه الثقة وأطلعني على صور العائلة وأسرار حياته الخاصة .. وكتبتُ السيرة ودونتها .. ولا أعرف ما الذي استوقفني، فأجَّلتها إلى حين وقت آخر .. يمر أسبوع وأسبوع آخر وآخر .. والسيرة جاهزة، ولكني أؤجلها للعدد القادم .. حتى التقيته في إحدى الأمسيات الموسيقية وسألني ممازحاً: (متى راح تنشرها لين مت)! دعوت له بطول العمر ووعدته خيرا وإن شاء الله ستنشر قريباً، وانشغلت بتدوين السير الباقية للفنانين، وكنت أقول لنفسي هذا الأسبوع ستكون سيرة مجيد، ولا أعرف لماذا أؤجلها في كل مرة .. حتى التقيت بالفنان سلمان زيمان وأخبرني أن مجيد مرهون في المستشفى وحالته غير مستقرة .. تألمت كثيراً له .. وبدأت أرتب سيرته التي دونتها؛ تمهيداً لنشرها لأفي بوعدي معه، وأخبرت (بوسلام) أن هذا الأسبوع ستكون سيرة مجيد مرهون فانتظرها، وأتمنى أن أحصل على رأيك بشأنها، واتفقنا على ذلك، وفي صباح يوم الثلثاء تلقيت اتصالا من الفنان سلمان زيمان وهو يحدثني بصوت خافت وبنبرة لم أعهدها منه من قبل، ألو .. يوسف ترى مجيد مرهون عطاك عمره!! أغلقت السماعة بعد ترحمي عليه وعاد بي شريط لقائي به وأول ما استحضرته كلمته .. (متى راح تنزل السيرة لين مت!) لا أعرف ماذا أقول له وكيف أبرر له ما حدث .. لقد رحل وظلت السيرة. رحل بهدوء دون ضجيج ولم يمهلني لأفي بوعدي له .. رحل، وكم كنت أتمنى أن يقرأ سيرته ويشاهد ويسمع انطباعات الناس ليعرف حجم محبته وتقديره لديهم. رحل ولم يمنحني رأيه وملاحظاته عما دونته عنه .. رحل بن مرهون وظل ‘’ساكسفونه’’ يعزف أنغام الأمل والتفاؤل التي كانت هي أحلامه، فهذه سيرته كما رواها لي أنقلها لكم؛ لأفي بوعدي لروحه بعدما غاب جسده عنا.

البداية ..

هو عبدالمجيد عبدالحميد حسن مرهون، واسم الشهرة (مجيد مرهون). ولد في 17 أغسطس/ آب 1945 في منطقة القضيبية في (حي العدامة)، وسمي بهذا الاسم لما يعاني ساكنوه من فقر وعوز وعدم في أبسط أمور حياتهم المعيشية، حيث ولد على يد القابلة (ما كوي) وسط أسرة فقيرة وبسيطة يتكون عددها من 8 أشخاص.
في بداية حياته التحق بالمدرسة الشرقية بالمنامة، ثم واصل الدراسة بمدرسة القضيبية، حتى انتظم بعد ذلك العام 1959 لشركة (بابكو)، وخضع للتدريب والدراسة النظرية والعملية لمدة 4 سنوات في الشركة، بعدها عمل بقسم التحكم بالشركة، حتى تم اعتقاله ومحاكمته وسجنه لمدة 22 عاماً (1968-1990)، خرج بعدها وكأنه مولود جديد لهذه الحياة، فظل لمدة 4 سنوات عاطلاً عن العمل، بعدها عمل لدى شركة مقاولات، ثم مدرساً بالمعهد الكلاسيكي، ثم انتقل للعمل بالمكتبة العامة بوزارة التربية والتعليم حتى أحيل على التقاعد العام ,2004 وفي هذه الفترة ظل يمارس هوايته الفنية وانهمك في إنجاز مشروعه الأكبر ‘’قاموس الموسيقى الحديث’’ ومواصلة البحث والاطلاع في بحور الموسيقى، حتى أصيب بوعكة صحية دخل على إثرها المستشفى في ديسمبر/ كانون الأول ,2007 وبعدها في مارس/ آذار 2008 وكانت آخرها في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2009 حتى فاضت روحه إلى خالقها في يوم الثلثاء الموافق 23 فبراير/ شباط .2010

علاقته بالفن ..

تميزت طفولة مجيد بالنشاط والأمل والتفاؤل رغم كل الحرمان الذي ذاقه في طفولته، وكان محبوباً من أصدقائه، لا تفارقه الابتسامة ولا الدعابة والمواقف المضحكة، وكان باراً بوالدته ومحباً لها، حيث إنه يعتبر من أكثر الأبناء تعلقاً بها منذ صغره، ولم يكن الفن غريبا عليه، فوالدته هي زعفرانة إسماعيل من الحفظة لفنون النوبان ومحبة للفنون الشعبية، وجده لأمه هو إسماعيل مبارك السعدي، محب كذلك للفنون الشعبية، وكان يعزف على آلة نفخ تسمى (سازنغاره)، وقد تولع مجيد منذ صغره بهذه الآلة التي كانت تستهويه الألحان الجميلة التي يعزفها (جده) كل يوم، وفي المقابل كان هناك حي (التلغراف)، وهو حي معروف يقع بالقرب من قصر القضيبية، تجتمع فيه الفرق الموسيقية الشعبية المختلفة، من هنود وباكستانيين وعمانيين ويمنيين وعدد من الفرق الشعبية البحرينية، وكان يعد هذا الحي بمثابة مقر وتجمع للفنون الشعبية المختلفة التي تصدح في كل ليلة، وهي تحيي المناسبات بفنونها المختلفة، فكان يذهب لهذا الحي ويتابع هذه الفرق وهي تقدم فنونها المختلفة، إضافة إلى ذلك وجود المذياع في منزلهم، والذي كان يستمع منه إلى الأغاني المختلفة والسيمفونيات العالمية، ويحاول بشتى الطرق أن يستوقف نفسه أمام كل عمل؛ ليستوعب كيفية اندماج هذه الآلات مع بعضها البعض وخروج هذه الألحان المختلفة، فأثر هذا الجو الفني المحيط به كثيراً وانعكس على تكوينه الموسيقي، وساهم في فتح مدارك الحب والارتباط بالموسيقى، وبدأ ذلك جلياً عندما بدأ في صياغة أول لحن له وهو لم يتعدَّ العاشرة من عمره، عندما طلب منه مدرس التربية الرياضية بمدرسة القضيبية في ذلك الوقت الأستاذ سلمان الدلال بعمل (منولوج) بسيط بعدما وجد في هذا الطفل الموهوبة بوادر الإبداع.

رحلته في عالم الموسيقى ..

أثناء عمله في ( شركة بابكو) العام 1959 بدأ يقتطع من راتبه جزءاً بسيطاً؛ ليحقق حلمه باقتناء آلة موسيقية يسمر معها في كل ليلة ليعبر من خلالها على ما يشعر به من حالات فرح أو حزن، وكان له ما أراد عندما اشترى أول آلة موسيقية وهي آلة (الهارمونيكا) من أول راتب حصل عليه، وكان وقتها لا يتعدى الرابعة عشرة من عمره، وبدأ يتدرب بنفسه على هذه الآلة، مستذكراً الألحان والنغمات التي كان يصدرها جده من آلة (سازنغاره)، وتطور وكبر معه هذا العشق، فقام بشراء آلة (الأكورديون)، وكانت في تلك الفترة هذه الآلة معروفة لدى أبناء الحي من خلال الفرق الهندية والسينما، وبدأ يعزف عليها بين أصدقائه الذين كانوا منبهرين من تميز مجيد ومقدرته على العزف على أكثر من آلة، وهو يبدع فيها دون أن يوجهه أو يعلمه أحد على أسس وطريقة العزف، ولم يتوقف مجيد عند هذه الآلة، فقام بعد ذلك باقتناء آلة أخرى وهي (الترومبيت) حتى ذاعت سيرته بين الحي بأن هذا الفتى مسكون بحب الموسيقى والفن، حيث كان يعزف كل يوم بعد عودته من العمل ويملأ الدنيا فرحاً وطرباً وهو يتنقل بين الحي مستعرضاً قدراته الفنية مع كل آلة يحتضنها بحب، حتى أوكل إليه المرحوم (باقر كلبهرام) العام 1961 تكوين فرقة موسيقية خاصة بمأتم (كلبهرام) لتصاحبهم في موكب العزاء، وهنا بدأت مرحلة جديدة من التمعن في الموسيقى التي سيقدمها مجيد، وكيف يمكن أن يوظف مشاعره وإحساسه ويعبر عنهما بالموسيقى لتمتزج مع رهبة المشاعر في مواكب العزاء، وفي هذه الفترة اقتنى مجيد آلة (لساكسفون) من (محلات أحمد جمال للتجارة) قبل أن تتحول المؤسسة إلى نشاط الإنتاج الفني، حيث كان المرحوم أحمد جمال في ذلك الوقت يمارس نشاط تجارة عامة، ويجلب أدوات موسيقية لمواكب العزاء وفرقة الشرطة وبعض الفرق الغربية)، وبدأ يتعلق مجيد بالساكسفون التي أبكاها مع كل نغمة تحمله مشاعره، وهو يتقدم مواكب العزاء، ليسجل اسمه كأول عازف (للساكسفون) في البحرين، وأول من يؤسس فرقة نحاسية مصاحبة لمواكب العزاء، بعدها انضم إلى مأتم (خدا رسون)، وغيرها من المآتم وكان (مأتم السجاد) هو آخر مأتم نظم فيه مجيد مرهون فرقة واستطاع أن يدرب أعضاءها ويشرف عليها.

انضمامه لفرقة الأنوار ..

في نهاية العام 1960 انضم مجيد مرهون إلى فرقة أسرة هواة الفن كعازف لآلة الكمان، ولكن لم يستمر فيها، كما كانت الفرقة في هذه الفترة تلفظ أنفاسها الأخيرة، حيث بدأت المشاكل تدب بين الأعضاء، وبدأت الانسحابات تهدد استمرار الفرقة. بعدها خرج من الفرقة وظل يمارس هوايته المحببة بالعزف على آلة الساكسفون، ويحاول أن يقدم شيئا جديدا ومميزا، في الوقت ذاته بدأ يحاول العزف على آلة الجيتار، إلا أن حبه للساكسفون جعله يركن الجيتار في زاوية ويواصل العشق المتبادل بينه وبين هذه الآلة التي ترصد مشاعره مع كل نفخة عليها، حتى انضم العام 1964 بفرقة الأنوار، وبدأ بتكوين فرقة غربية مشتقة من هذه الفرقة وتم تسميتها (فرسان العرب)، وكان من بين أعضائها عزيز عباسي، عبدالله حسين (عبدالله جيتار)، عيسى طماطة، إسماعيل بلال وغيرهم، واستمرت هذه الفرقة في إحياء الحفلات والمناسبات، وقدمت الكثير من الألوان الغنائية الغربية وساهمت في نشر ثقافة موسيقية جديدة لم يتعود عليها الجمهور في ذلك الوقت، وتم الاتفاق معهم لإحياء حفلات بشكل أسبوعي في قاعة مطار البحرين، حتى توقفت هذه الفرقة وذهب كل منهم في طريق.

رحلة الاعتقال والسجن ..

قد يكون هذا الموضوع هو الفصل الأهم والأكثر بروزا في حياة هذا المبدع الراحل عنا، وأتذكر عندما بدأنا نتحدث عن هذه المرحلة، كان يضحك ويقول (اشتبي أقولك .. 22 سنة في الحج كنت)، ويرتفع صوت ضحكته حتى أخذ موقع الجد، وقال: الظروف والأوضاع والفقر وأشياء كثيرة كانت عاملا أساسيا في تبنيّ لهذا الموقف الذي ما ندمت عليه قط، بل فعلته من إيماني الراسخ ودفاعي عن قضية وطن. باختصار انضممت إلى جبهة التحرير الوطني البحرانية، وفي العام 1966 نفذت مهمة تفجير سيارة ضابط المخابرات البريطاني (بوب لانغديل ومساعده الأردني أحمد محسن)، وبعد سنتين تم اعتقالي وحوكمت في 8 فبراير/ شباط 1969 بتهمة حيازة سلاح وتفجير ضابط مخابرات أجنبي .. وصدر الحكم عليَّ بالمؤبد، حيث بقيت في السجن مدة 22 عاماً حتى ذقت الحرية في 26 أبريل/ نيسان ,1990 هذا ما حصل.
‘’ولكن دعني أتكلم عن الجانب الموسيقي والفني في تلك الفترة’’. هكذا رد علي المرحوم مجيد قائلاً: في السجن ألفت وكتبت وعبرت واستطعت أن أهزم اليأس بالموسيقى، كانت النوتات هي الأمل وهي التي أتلمسها مع كل نغمة تخرج مني دون آلة موسيقية ويخرج عبقها بطعم الحرية. في البداية كان الوحدة قاتلة، مدمرة لكل شيء فيَّ .. كنت وحيدا، كل شيء ممنوع .. حتى الحصول على الكتب ممنوع، حتى سمح لي بعد ذلك، وبدأت أقرأ بنهم وأحاول أن أعبر عن مشاعري، وأرسم نوتات وأستمع بخيالي إلى نغمات، وأكتبها وأرسم خط لكل آلة ومعزوفة .. وكل هذا من دون آلة! كنت أعيش النغم بخيالي وأنقله إلى نوتات موسيقية، حتى وصلت إلى السويد عن طريق زوجة الدكتور عبدالهادي خلف الذي كان معي في السجن، فزوجته - والكلام للمرحوم مجيد - كانت تعمل في معهد للموسيقى في السويد واستطاعت أن توصل هذه النوتات إلى مدير المعهد ويدعي (يوهن)، وكان مبهوراً لما بين يديه، حيث كان يبعث هذه الأعمال إلى الموسيقي السويدي بقسم التأليف (سفن يفافيد ساندستروم) الذي اهتم كثيراً بها، ويؤكد هذه المعلومة الدكتور عبدالهادي خلف، حيث يقول كانوا مبهورين ولم يصدقوا أن هذه النوتات قد كتبت في السجن ومن دون وجود آلة موسيقية لولا معرفتهم وثقتهم بزوجتي (أم رسول). كانت هذه سيرة مختصرة لبدايات المرحوم مجيد مرهون، وسأدون في الحلقة القادمة ما قدمه مجيد من أعمال في السجن، وكيف استطاع أن يطوع الصعاب، ويجعل من الموسيقى بلسما تلهمه وتخفف عنه رحلة العذاب التي قضاها بين القضبان، وكيف واجه الحياة بعد خروجه وماذا عمل .. هذا ما سأواصل تقديمه في الحلقة القادمة.

في الحلقة القادمة ..

  • تلحينه لنشيد طريقنا أنت تدري.
  • تأسيسه لفرقة موسيقية في السجن.
  • بعد خروجه .. علاقته بفرقة الأجراس.. والسيمفونيات التي ألفها.
  • إصداراته الفنية وبحوثه في مجال الموسيقى.
  • تكريمه ومشاركاته الموسيقية.
  • زواجه ورحلة المرض.
  • تمنياته للبحرين وأهلها.
  • الفصل الأخير: وفاته.

مجيد مرهون يروي سيرته لـ " الوقت .. ويرحل"2" "

التقيته في سبتمبر 2009..لأدون سيرته.. فكان هذا آخر لقاء له في حياته..
مجيد مرهون قبـل وفاتـه: هــذه سـيرتي الفنية " 2-2"

يدونها يوسف محمد:

بالأمس، وعبر صفحات الوقت، دوّنت الجزء الأول من سيرته.. ولقائي به والذي يعد آخر لقاء أجري معه قبل أن يودعنا ويرحل بصمت.. وعلى كثرة الاتصالات والرسائل التي تلقيتها بالأمس وملاحظات ومتابعة محبيه وزملائه، على قدر حزني بأن هذه السيرة نشرت كان مجيد يتطلع إليها.. فهي الآن يقرأها الجميع .. إلا هو! بعد أن تركنا وتوسد قبره، فعذراً (بورضا) كان إحساسك أقوى مني، لقد رحلت وتبعتك سيرتك.. التي هي حاضرة وستظل خالدة بيننا.. ففي الجزء الأول تناولت سنوات حياته الأولى ورحلته الفنية وانضمامه لفرقة الأنوار وتأسيس فرقة موسيقية للمواكب الحسينية، كذلك تطرقنا إلى قصة اعتقاله ودخول السجن بعدما حكم عليه بالمؤبد.. وهنا نكمل السيرة كما سجلتها منه ''رحمة الله عليه''.
متطلعاً ان تكون هذه السيرة نبراساً للأجيال القادمة وسيرة نضعها بإطار من الحب نستذكرها في كل مرة عندما نقرأ صفحات تاريخ هذا الوطن ونستعرض سيرة مبدعينا ودورهم الفني وأعمالهم الخالدة، متمنياً أن تفي هذه السيرة بما وعدته به..وأن أكون وفياً له حتى بعد رحيله.
نغمات في الزنزانة ..
ظل يواصل إبداعه الفني متخذاً من الليل وقضبان الحديد وجدران الزنزانة إلهاماً لأعماله الفنية، ولم يسمح للحزن أن يتملكه، ولم يفقد الأمل بل كان سجين الجسد طليق الروح والفكر.. لم تقيد مشاعره سلاسل الحديد التي قُيدت بها يده ورجله، ولا في يوم قد ضاق به الفكر كما هي زنزانته.. بل كان يرى الأمل ويحسه ويدركه، وهناك في ذلك المكان- والكلام لمجيد- بدأت أحلق في عالم آخر، ألحن وأقوم بتأليف السيمفونيات بخيالي وأسمعها بمشاعري، أعزفها بيدي وأنا أوهم نفسي بأني أعزف آلة ثم انتقل لآلة أخرى.. وأنا اسمع أصواتهم بداخلي، وكنت في كل مرة انتهي من عمل فني، تُهرّب هذه الأعمال إلى الخارج وأعلم بعد ذلك بأنها تُعزف وتدرّس وإنهم مبهورون بما أقدمه، وكان هذا دافعا كبيرا لي لمواصلة ما أحسه وأشعر به وكنت أقول لنفسي (جسدي في السجن وبين القضبان ولكن مشاعري وأحاسيسي تتنقل بين بلد وآخر، تعبر عني وتحس بي.. إنها لغة العالم لغة الموسيقى).

ولكن متى وأين تعلم مجيد كتابة النوتة وقراءتها؟

يقول ''في الفترة الأولى التي بقيت فيها في السجن الانفرادي زنزانة رقم 26- كنت أتأمل فقط وألحن بإحساسي، وفي العام 1973 طلبت من مدير السجون وأقنعته بالسماح لي في الحصول على عدد من الكتب الموسيقية لأثقف نفسي موسيقياً وقت الفراغ!(أوكلت لي بعض مهام الصيانة الكهربائية في ''جزيرة جِدا'' حينها)، وسمح لي بذلك وبدأت أنكب على قراءة كل شيء عن الموسيقى وسير الفنانين والموسيقيين، وكأني في معهد أو جامعة. أنهيت 4 سنوات وأنا أدرس النظرية الموسيقية وأغوص في بحورها، واستطعت أن أتقن كل فنون الكتابة والقراءة الموسيقية. تعلمت ذلك دون موجه أو معلِّم، سهل علي، وساعدتني نشأتي الفنية وخبرتي السابقة في الموسيقى، وكذلك ما توافر لي من الكتب والمصادر''. قدّم مجيد خلال هذه الفترة عددا من المؤلفات الجميلة، ويعتبر عمل (الذكريات) هو البداية والانطلاقة له في عالم التأليف، بعدها قدم مقطوعة حنين وجزيرة الأحلام التي كانت معبِّرة بصدق عن مشاعر المساجين وأحلامهم وآلامهم.

" طريقنا ".. بدأ خارج السجن واكتمل بداخله

في العام 1965 نشرت في أحد أعداد (نشرة الجماهير) أبيات تدعو للسير نحو تحقيق الهدف والغاية التي يسعى إليها الشعب، فوقعت في يد مجيد وتفاعل معها، وقام بتلحينها، وكان ذلك قبل دخوله المعتقل وهي:

طريقنا انت تدري
شوكٌ، وعرٌ، عسيرُ
موتٌ على جانبيه،
لكننا سنسيرُ
إلى الأمام، إلى الأمام، إلى الأمام سنسيرُ ...

وظل هذا النشيد يردد بين أصدقائه وزملائه، وبعد محاكمته ودخوله السجن سنة 1968 أضاف إليه عددا من الأبيات ليكون جزءاً مكملاً للنص الأول بعد أن أضاف إليه لحناً جديداً:

فهُبوا جميعا أسود النضال
وضحَوا وثوروا لأجل أوال
وزكوا دماءً وحققوا المحال
لتحرير شعبٍ من الاستغلال

وقد أكد ذلك الفنان سلمان زيمان من خلال الورقة التي قدمها في 20 مارس 2005 في محاضرته والتي هي بعنوان (الأغنية الوطنية) حيث ذكر بأنه في العام 1985 التقى أحمد الشملان برفيقه مجيد مرهون بين جدران المعتقل، وتناغما سوياً فنون الموسيقى والشعر المقاوم، فكتب الشملان الشطر الثاني من هذا النشيد صاغه أهزوجة ثورية جامحة، ولحنها مجيد احتفاءً بمرور ثلاثين عاما على نضال وتأسيس جبهة التحرير الوطني البحراني، وجاءت كالتالي:

يا جبهة التحرير سيري
نجماً يضيء الدروبا
وعلًمي الكادحينا، كيف انتصار الشعوب
وشعبنا، عمالنا، معلمٌ في الخطوب
ثلاثون عاماً سقاها النضال
صمودٌ وعزمٌ شديد المحال
سقاها انتصارٌ وعزمٌ جديد
لوطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد
وقد أضيف لهذا النشيد أبيات مكملة صاغها الفنان سلمان زيمان، ولازال هذا النشيد يردد في الكثير من المناسبات.

وفاة والدته..

وبينما هو يتعايش في عالمه الخاص، جاء خبر وفاة والدته، وكان ذلك في 13 يونيو ,1981 حيث يصف مشاعره في ذاك اليوم.. '' لم أصدق الخبر في بادئ الأمر، كنت أعتقد بأنه محاولة جديدة لبث اليأس فيّ أو لإضعافي.. وعندما تأكدت من ذلك حزنت كثيراً فأصبحت الدنيا عندي سواداً، ولم أضق طعم الحسرة والألم مثلما أدركته في وفاتها''.. كان مجيد متعلقاً بوالدته كثيراً، وكانت هي ملهمته في محنته وخير معين ومؤازر له. ولكن ماذا يفعل فهو قدر الله، وقدره أن يكون بعيداً عنها. فعبر مجيد عن مشاعره تجاه ولادته وقدم لروحها موسيقى بعنوان (حرقة القلب) لتعبر عن حسرته وألمه لفراقها، ولم تمض إلا أيام قليلة حتى باحت قريحته كلمة ولحنا وتوزيعا بتأليفه لأغنية (الراحلين).

تأسيسه لفرقة موسيقية في السجن

في 8 يناير 1986 تم نقله من ''جزيرة جدا'' إلى سجن جو، وهناك أبدى معه القائمون على إدارة السجن شيئا من التعاون، بعد أن أدركوا بأن هذا الفنان لديه طاقة كبيرة ويجب أن تستغل في صالح المساجين، فتم الإيعاز له بتكوين فرقة موسيقية للمساجين يقوم بتدريبهم وتعليمهم الموسيقى لمن يحب ويرغب في ذلك. وتم جلب عدد من الآلات الموسيقية له، وكان ذلك في شهر سبتمبر من العام 1986 وظل مجيد يدرس ويقدم المحاضرات الموسيقية والدروس النظرية والعملية لمحبي الموسيقى في السجن وخرجت هذه الفرقة الكثير من المساجين وهم يعزفون على عدد من الآلات الموسيقية، منها آلة الفلوت، والكلارنيت، والجيتار والاوكورديون، وكانت تشارك هذه الفرقة في احتفالات العيد الوطني وتخريج المساجين في كل عام، وظل مجيد يرأس هذه الفرقة حتى خروجه من السجن.

بعد 22 عاماً خرج وكأنه مولود من جديد

في 26 ابريل 1990 خرج المرحوم مجيد مرهون بعد أن قضى 22 عاماً (1969-1990) خلف القضبان، ليكون بذلك أشهر معتقل سياسي في البحرين قضى حكمه في السجن. كان من الصعوبة عليه الاندماج في المجتمع وكانت تزعجه أحيانا نظرة الناس وملاحقتهم وسؤالهم المستمر عن الماضي، ولكنه استطاع أن يتجاوز الماضي وينظر للمستقبل وينصهر في المجتمع، فظل بعد خروجه عاطلا عن العمل لمدة 4 سنوات بعدها عمل مع شركة مقاولات ثم حصل على فرصة تدريس بالمعهد الكلاسيكي في الجفير، وهنا بدأ من جديد يدب فيه النشاط ويتخاطب مع الموسيقى بلغة الحب ووجد نفسه أكثر، حيث تتلمذ على يده الكثير من محبي الموسيقى وكان يدرس في المعهد آلة الساكسفون والهارمونيكا والجيتار والاوكورديون، بعد ذلك عين بالمكتبة العامة لوزارة التربية والتعليم بالمنامة، وكانت له نشاطات بارزة من خلال تواصله مع المدرسين والموسيقيين وسنحت له هذه الفرصة ليكون بين الكتب والأشرطة الموسيقية، كما انه كان ينظم بعض المحاضرات للطلبة.

عضوية في فرقة أجراس ومشاركاته الفنية

وفي هذه الفترة انضم المرحوم ) لفرقة أجراس- تأسست في العام 1982) لكون اغلب أعضائها أصدقاءه والأسلوب الفني الذي تقدمه الفرقة قريباً من ذائقته الفنية، وقد شارك معهم كأول حضور وظهور له من خلال المهرجان الغنائي الثالث الذي أقيم في 17-18 سبتمبر ,1991 حيث قدم في هذا الحفل أغنية (حبيبتي) وهي من ألحانه وتوزيعه ومن كلمات عبدالحميد القائد وأداء فوزي الشاعر، وشارك مع الفرقة في مهرجان القرين الأول الذي أقيم في الكويت، وفي العام 1994 قدم بعضا من أعماله في الحفل الموسيقي الذي أقيم بنادي العروبة و نظمته اللجنة الفنية بنادي باربار وذلك على هامش الاحتفال باليوم الموسيقي الثالث. وشارك كذلك في أمسية موسيقية كلاسيكية أقيمت في 1 ابريل 2001 بمشاركة الفنان عصام الجودر وذلك ضمن الأيام الثقافية البحرينية التي أقيمت في دولة الكويت، كما قدم أمسية موسيقية لمؤلفاته على الساكسفون بمصاحبة الفنان خليفة زيمان بدعوة من المجمع الثقافي بأبوظبي في العام نفسه، وكانت له مساهمات بارزة في مهرجانات اليوم العالمي للموسيقى للأعوام ,96,94,93 وفي 5 نوفمبر 2005 ومن خلال مهرجان البحرين الدولي للموسيقى 14 قدمت فرقة البحرين للموسيقى بقيادة المايسترو خليفة زيمان أمسية موسيقية خاصة لأعمال الفنان مجيد مرهون، وقد قدمت 7 أعمال اغلبها تعزف لأول مرة منها (إلى جارية مغلولة،انطلاقة أفراحي، رقصة سربند، طفلي الحبيب، أخيلة الحبيبة، دعوة حنان، ذكريات الجزيرة)، وكانت آخر مشاركاته الفنية تعاونه مع اوركسترا عمان السيمفوني، وذلك في مهرجان البحرين الدولي للموسيقى 17 والذي قدمت فيه موسيقى (دعوة حنان).

تكريمه

حظي المرحوم مجيد مرهون بالتكريم والتقدير من العديد من الجهات الرسمية والأهلية والجمعيات السياسية والاجتماعية وذلك تقديراً لإسهاماته الفنية، ولعل أهمها تكريمه من قبل جلالة الملك المفدى ومنحه وسام البحرين من الدرجة الثانية في العام ,2002 كما كرّمه المجمع العربي للموسيقى في العام ,2002 ونال التكريم كذلك في كل المهرجانات الدولية للموسيقى التي يشارك فيها.

إصداراته الفنية

قدم المرحوم مجيد مرهون للمكتبة الموسيقية عددا من الإصدارات الفنية منها كتاب (الموسيقى الشعبية في الخليج العربي،1993)، (الأسس المنهجية لدراسة نظرية الموسيقى الجزء الأول، الطبعة الأولى، مايو 1994) وهو مكون من ثلاثة أجزاء، وآخر عمل له كان (القاموس الموسيقي الحديث) وهو قاموس يحتوي على 9 مجلدات صدر منه مجلدان وقد تبنى طباعة هذا القاموس مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث وأقيم له حفل تدشين في مارس ,2009 كما لمجيد عدد من المقالات والدراسات التي تتحدث عن الشأن الفني والموسيقي بشكل عام.

مؤلفاته الموسيقية

خلال رحلته الفنية قدم المرحوم مجيد مرهون العديد من الأعمال الفنية المتميزة التي احتضنتها وقدمتها العديد من الفرق الموسيقية والاوركسترا العالمية، منها (الحنين، الذكريات، ازميرالدا) ويقول مجيد إن أعماله التي يحتفظ بها تجاوزت 370 عملا، بعضها تم عزفه وتقديمه إلا أن هناك أعمالا كثيرة حبيسة الإدراج، ومن ابرز مؤلفاته:
؟ السيمفونية الأولى في مقام ري الصغير. السيمفونية الثانية في مقام مي بيمول الكبير وكنتيها (دعوة إلى الفرح) ، كونشير الساكسوفون مع الأوركسترا، جزيرة الأحلام (عمل أوركسترالي)، الذكريات (عمل أوركسترالي )، الحنين (نوستالجيا) عمل أوركسترالي، نشيد طريقنا،أغنية حبيبتي،أغنية الراحلين، إلى جارية مغلولة للأوركسترا الوترية، طفلي الحبيب للأوركسترا الوترية، ) ذكريات الجزيرة) للأوركسترا الوترية/ للرباعية الوترية، انطلاقة أفراحي للأوركسترا الوترية (مهداة لملك القلوب)، أخيلة الحبيبة للأوركسترا الوترية، دعوة حنان للأوركسترا الوترية، فيوج في مقام ري الكبير للرباعية الوترية / للأوركسترا الوترية، فيوج من مقام ري الصغير للرباعية الوترية / للاوركسترا الوترية، إلى فلسطين الثائرة صولو الفلوت مع البيانو، خيالات دلمونية صولو فلوت، مقطوعات صولو فلوت (1-2-3-4-5-6-7-8-9-10 )، إلى لبنان الشجاع صولو فلوت -مهداة إلى الفنان وسام البستاني وغيرها من الروائع الفنية.

الفصل الأخيـر

في 28 مارس 1991 تزوج الفنان المرحوم مجيد مرهون من امرأة فاضلة وقفت معه وساندته في أشد الظروف والمحن، وكانت له خير معين في حياته ورحلة مرضه وشقائه، وقد أنعم الله عليه بابن اسماه )رضا)، ويدين المرحوم مرهون بالكثير لزوجته لوقفتها الكبيرة والمشرفة معه. أما رحلة تدهور صحته فقد بدأت في ديسمبر ,2007 وبعدها في مارس 2008 دخل المستشفى نتيجة انتفاخ في القلب وضيق في التنفس، وكانت آخرها في 29 ديسمبر2009 عندما أصيب بكسر في الحوض، وجراء خضوعه لعملية جراحية لترميم الكسر أصبح يعاني من صعوبة شديدة في التنفس مصحوباً بسعال شديد وازدادت الحالة في التردي ودخل في غيبوبة حتى ارتفعت روحه لخالقها في يوم الثلثاء الموافق 23 فبراير ,2010 ليرحل جسده عنا وتبقى سيرته وروحه خالدة، وأعماله الفنية شاهدة على هذا الفنان الذي سيسجل له التاريخ دوره وفنه وأخلاقه.

ألف رحمة عليه ودعواتنا أن يلهم الله أهله وزوجته وابنه وجميع محبيه الصبر والسلوان.

الوطن 27 فبراير 2010

****

الموسيقى تحلق وراء القضبان

بقلم: بـدر عبدالملك

23 فبراير 2010

يجهل هذا الجيل المتعطش للحرية والفن والثقافة والموسيقى الكثير عن حي صغير بائس يضم رتلا من البشر الفقراء والمدقعين .. وكان آنذاك نقطة تجّمع فنية هائلة لم تسلط عليها الضوء الكافي في التاريخ الفني لبلادنا. هذا الحي المسمى ’’ العدامة ’’ والواقع جنوب منطقة التلغراف وجنوب غربي حي الحورة . العدامة الآن أصبح في الخارطة السكانية في عداد المجهول بعد أن انقرضت تلك البيوت المبنية من سعف النخيل بفعل الحرائق المتعمدة والعفوية حتى أصبحت هذه المنطقة أرضا سوداء لمدة من الوقت ’ وفي بداية الستينات بدأت تستنهض هذه المنطقة ويعاد تعميرها بشكل جديد ’ حيث توافد إليها مواطنون من مناطق مختلفة من البحرين ’ وظهرت للوجود البيوت الجديدة والعمارات ودمجت في التسمية كجزء من منطقة القضيبية ’ بالرغم من أن منطقة العدامة معروفة ألان شعبيا لدى سكان المنطقة المجاورة تحت اسم ’’ ارض مصطفى ! ’’

هذا المدخل فقط لتعريف القارئ بالمنطقة المسماة ’’ العدامة ’’ والتي هي مسقط رأس الفنان / الموسيقي مجيد مرهون والذي يطلق عليه في البحرين نلسون منديلا البحرين ’ حيث عاش وترعرع فيها حتى اعتقاله في عام 1968’ وتم اطلاق سراحه عام 1991*** . وظلت عائلة هذا الإنسان من العائلات القليلة المعدودة على أصابع اليد التي مكثت أو انزرعت في موقعها السكني منذ مرحلة بيوت السعف حتى التغيرات العمرانية في المنطقة ’ والتي دشنت مع بداية الستينات ’ ومن عرق عائلة هذا الفنان الكادح والعامل بشركة النفط (بابكو) استطاعت تجميع مبلغ صغير لبناء بيت متواضع ما عاد ألان مناسبا لفترة الثمانينات’ حيث الحجرات الصغيرة والرطوبة وانعدام الضوء الكافي والاكتظاظ السكاني ’ هذا المنزل المتواضع ضمن العائلات الصغير المحدودة والتي تنتمي إلى طابور الكادحين في هذه المنطقة مازالت تتنفس بأمل أن يخرج فنانها المسجون ’ وابنها البار المثقل بكآبة سجن طويل الأمد .

الولادة في يوم قائظ .

الشمس تطل كل صباح من الجهة الشرقية من حي العدامة والواقع جنوب غرب منطقة الحورة القديمة ’حيث المجموعات الواسعة من بيوت الفقراء البسيطة المبنية من سعف النخيل والخشب والصفائح . هذه البيوت التي كانت رمزا صارخا للبؤس والحرمان للعائلات البحرانية التي كانت تقطن هناك ’ هذه البيوت استمعت ذات يوم إلى صراخ طفل يولد محتجا على هذا العالم الجاحد ’ لقد جاء إلى الوجود الطفل مجيد الأبنوسي البشرة وفي عينيه تتقد اضاءات الموهبة المبكرة ’حيث عاش منذ سنوات حياته الأولى ينام ويستيقظ على ضربات أنغام الموسيقى من البيوت المتناثرة من حوله والتي لا تقف عن ممارسة هواية الرقص والغناء والطرب . هذه النشأة المبكرة في هذه البيئة علمت مجيد مرهون مذاقا خاصا لسحر الإيقاع في حياته ’فهناك تشربت شرايينه نغمات الإيقاع الأفريقي والطرب الشعبي المحلي ’ وقد تخرج وعاش ابرز وأشهر عازفي الآلات والموسيقى في الليوة ’ والفجري ’ والطنبورة . في هذه البيئة المضاءة بعالم زاخر بالغناء والرقص والموسيقى’ هذا المناخ أيقظ الحس الفني في أعماقه ونبش الموهبة المدفونة بين جوانح الصبي الأسمر الصغير ’حيث كان يهرب نحو الشاطئ الشرقي للحي في ساعات الغروب التي كان يعشقها ويتأملها ويبدأ في الرحيل بمخيلته الطرية الحالمة ’غارقا مع آلته الصغيرة ’’ الهارمونيكا’’ . لقد صارا يتداخلان معا : ’’ الهارمونيكا ’’ والصبي مجيد ويراقصان بعضهما بعضا مثل راقصي التانغو ويغزل بأحلامه للشمس التي كان يعشقها عند الغروب أحلاما من المجهول . ومع الوقت نما عوده ودخل المدرسة وهناك تعلم الحرف والكتابة وتجلت مواهبه المتعددة وكان هاو في سنواته المبكرة للتمثيل بجانب حبه الكبير للنحت والرسم والقراءة ’ولكن كل تلك الاهتمامات والمواهب لم تجذب هذا الصبي وتحرفه عن معشوقته الموسيقى .. تلك القوة الغامضة في أعماق روحه وقد برهن طوال فترات حياته الدراسية عن جدارته وتفوقه ’ فكان دائما في الصفوف المتقدمة ’ وقد تخرج ضمن الدفعة الأولى للمرحلة الابتدائية من مدرسة القضيبية ’ كان ذلك في عام 1958 وكان أمام الصبي المرهق العينين والجسد الضامر خياران : إما الالتحاق بالمدرسة الثانوية الوحيدة في المنامة آنذاك أو يختار مركز التدريب المهني ( برنتس ) في شركة نفط البحرين (بابكو) التي كان مندوبوها يترددون على المدارس بحثا عن أيدي عاملة فنية على قدر من التعليم لتأهيلها لمهن فنية مختلفة ’ والفقراء اغلبهم كانوا يختارون مركز التدريب لأن هناك سيجدون وقتا للعمل والدراسة وأجور مدفوعة يحسّنون بها أوضاعهم المعيشية .
سنوات بين الدراسة والعلم في مركز التدريب عاصر فيها الفنان مجيد مرهون في ريعان شبابه ’ تربة عمالية مبكرة وتعلم بين تروس آلة الاستغلال الرأسمالية كيف يضطهد العمال وكيف تسلب أجمل سني حياتهم بين العرق والتعب ’ هناك تفتحت عيناه على رفاق دربه وتلقى دروسه الكفاحية بين صفوف الطبقة العاملة ’ أما رفاقه في مركز التدريب فإنهم كانوا يشهدون له بالنشاط والحيوية والمرح مرددين قائلين بأنه كان مثابرا في دروسه ومحبوبا بين زملائه في الدراسة وكسب أصدقاء كثيرين إلى جانبه . وفي فترة التحركات الطلابية في الشركة قام بنشاط فعال بين جموع الطلبة في بث الأفكار الثورية والتحريضية في صفوفهم . وبعد تخرجه والتحاقه بالعمل في مصنع التكرير أيضا لم يهمل واجباته الثورية حيث كسب صداقة العمال بأخلاقه وبتواضعه وثقّف العديد من العمال الشباب وجذبهم إلى جانبه . وأثناء الانتفاضة العمالية في عام 1965 قام بدور تحريضي بين صفوف العمال في مصنع التكرير وكان نشطا يؤدي واجباته بكل أمانة وإخلاص .

صورتان مضيئتان للفنان مجيد.

لقد تعرفت الحركة العمالية وأصدقائه العمال الشباب على صورة مجيد الثورية .. تلك النجمة اللامعة في مركز التدريب ومصنع التكرير ’ صورتان للإنسان الكادح القادم من أعماق الفقر والبؤس والحرمان والتي تحولت إلى طاقة ثورية تنشر أفكارها النبيلة بين صفوف العمال ’ تلك الأفكار والمعاني السامية للعدالة والمساواة ’ هذه الصورة ما زالت عالقة في ذهن الذين عاش بينهم الفنان الموسيقي فترة من الزمن ’ أما الصورة الأخرى فأنها تجلت أكثر في الحياة الاجتماعية والثقافية منذ بداية الستينيات لميلاد فرقة ’’ الزولوس ’’ الشهيرة حيث تعرف الناس على موسيقى الجاز والحان الإيقاعات الكاريبي والإفريقية ’ فقد بدءوا يشاهدون في الحفلات آلة الساكسفون والكونغا درام ويتذوقون لونا موسيقيا جديدا من الألحان واستطاع الفنان مجيد أن يصبح العازف المرموق بلا منافس على آلته ’’ الساكسفون ’’ وان يدخل بعض الألحان من تأليفه والتي كانت تعزف جزءا منها في مواكب عاشوراء ’ وبفضل هذا التجديد والمنافسة إدخلت في بعض المآتم الآلات النحاسية كالترموبيت والساكسفون .

أما فرقة ’’ الزولوس ’’ فأخذت تنشط منذ نشوئها في إحياء الحفلات المقامة في الأندية ومناسبات الزواج وغيرها وتنفرد الفرقة في تلك الفترة بأنها كانت بجانب طبع موسيقاها المتميز فان أغلبية أفرادها كانوا يقرؤون النوتة الموسيقية . هذه الظاهرة دفعت بالعديد من الشباب المتحمس للموسيقى بالتوجه بتشكيل فرقهم الموسيقية التي كانت علامات تأثرها بنمط الموسيقى الغربية آنذاك هو السمة البارزة مع غياب أية دراسة عميقة في علم الموسيقى وعلى وجه الخصوص الهارموني والكونتربوينت . إن شخصية الفنان مجيد توازن بين طبيعته النضالية التي هي بحاجة ماسة لأن تكون عنيدة ومتمرسة وصلبة وبين طبيعته الفنية المرهفة والشفافة المفرطة وإحساسه الجمالي بعذوبة الإلحان وحسن اختيارها ’ بحيث تتلاءم والذوق الاجتماعي السائد في تلك الفترة . واستمرت روحية مجيد المتداخلة والمتباينة مع استمرار الوقت ‘ تلك الطبيعة التي انعكست علي حياته وسلوكه وكانت التناقض الدائم في حركته النفسية والفكرية والفنية. والتزامه السياسي قاده لأن يكون فنانا ثوريا وتبقى الصلة بالجماهير في سكنه وعمله ’ وفي ذات الوقت التجديد والتطوير وكسر السائد سمة دائمة لديه طوال فترة تعاطيه مع العزف الموسيقي أو الولوج في مرحلة التأليف ’ حيث كان دائما ضد الجمود والتخلف في الموسيقى ’ ضد أن يظل وطنه على هامش الحضارة العالمية في هذا المجال .

عازف السكسفون الحزين .

هناك مقولة علمية تقول إن الإنسان ابن البيئة . فهل اختار الفنان مجيد آلة السكسفون صدفة عندما نضج عوده ؟ أن هنالك عاملين أساسيين في الاختيار. أولا موهبته الطبيعية في القدرة على العزف على هذه الآلة وتوافقها مع نفسيته فهو في طفولته جرب عشقه للهارمونيكا وبينهما علاقة مشتركة كالنفخ في الفم ’ فالسكسفون آلة نفخ أيضا مع تباين كبير في الطبيعة والإمكانية التقنية للآلتين ’ كما انه عزف على الطبلة والاوركاديون والبيانو والكمان ’ وبالرغم من كل التجارب مع الآلات وإجادته لها ’ ظل القطب الجاذب في قلبه ومشاعره هو آلة السكسفون التي أصيب بسببها بالآم حادة في الإذنين ’ وهذه الآلام تصيب غالبية عازفي السكسفون ’ ولكن طفولة الفنان البائسة كانت عاملا جوهريا في التعجيل بمضاعفة هذه الآلام .. أما العامل الثاني فهو توافق بيئة عازفي ’’ الليوة ’’ و’’ الفجري ’’ و’’ الطنبورة ’’المنتمين لجذور زنجية وفارسية تلتقي مع طبيعة الموسيقى الزنجية لعازفي الجاز وعلى وجه الخصوص الحان البلوز الحزينة والروحية ’ والتي تلتقي كقاسم مشترك مع طبيعة زنوج أمريكا وهم يعملون على نهر المسيسبي حينما يغنون أغاني العمل ’ وفي المساء يعودون إلى أكواخهم ليبدءوا بالأغاني التي تعبر عن الطبيعة الحزينة لحياتهم . مثلما يفعل مغنو وعازفو الإلحان في ’’ الليوة ’’ الذين حملوا صلبان عبوديتهم ردحا من الزمن عند سادة القبائل ’ وظلوا يسكبون أحزانهم في الألحان المثقلة بالكآبة والعذاب والمعاناة . إن الألحان ذات الطبيعة الدرامية في كلا الجانبين تشكل المصادر والمؤثرات النفسية والفنية التي استقى من ينبوعها الفنان مجيد مرهون وتراكمت مصائب الدهر في حياته ابتدءا بإحزان الطفولة الميتمة والتي تلاحقت بموت شقيقته بين يديه ’ وكانت شريكا موسيقيا معه منذ نعومة أظفاره ’ وتواصلت مأساوية الحزن في عمقها عندما وجد نفسه بين قضبان الحديد محكوما بالمؤبد على أيدي السلطات البريطانية في البحرين عام 1968 . هذا الثالوث الرهيب في تعميق ظلال الحزن وتحويلها إلى مخزون هائل من المعاناة ستعطينا لاحقا أعمالا موسيقية متطورة من جوانبها الفنية والفكرية ’ ومرهفة بدرجة عالية من المعاناة الممتزجة بالحنين لكل ما هو جميل وحزين. هذا التداخل المعقد يبقى نقطة الضوء في ذاكرة الفنان الذي يحلم أن يجد نفسه خارج القضبان حرا وطليقا مع أسراب الحمام المسافرة نحو عالم السلام والسكينة ’ أما الآن فهو يواسي عالمه الباطني الحالم بذلك الأمل الذي سيطرق باب زنزانته ذات يوم ’ من هذا الواقع المرير المثقل بالهموم عبر لغة الموسيقى تمنحه ذاكرته إجازة الهروب من سجنه السوداوي مرددا في مذكراته الموسيقية : ’’ الدخول للواقع بالخيال ’’ انه الحلم في ساعات اليقظة والتحليق في الفضاء الرحب . وليس مستغربا أن تصبح حياة الفنان مجيد مرهون علامة مميزة في حياتنا السياسية والموسيقية والثقافية مما عكس نفسه في نتاجات الحركة الأدبية البحرانية ويتحول بطلها الحقيقي إلى نموذج شخصية مجسدة كقصة ( عازف السكسفون ) للقاص البحراني محمد عبد الملك في مجموعته القصصية (نحن نحب الشمس ) والقاص عبد الله خليفة في مجموعته القصصية ( لحن الشتاء ) .

الموسيقى تحلق وراء قضبان السجن .

’’ أنا سجين في جزيرة جدا ’وليس لدي أية إمكانيات ’ وبمعنى أخر ليست لدي أية آلة موسيقية ’ وظروفي صعبة وقاسية ولكني أحاول التغلب على هذه الظروف بكتابة الموسيقى ’’
مجيد مرهون
5 نوفمبر 1974

’’ في أكتوبر 1975 أرسلت نصا لبعض الألحان إلى الأكاديمية الملكية السويدية وكان الرد الذي أرسله الموسيقار الشاب Mr.Sevn David sandsten ’ مشرفا إذ ذكر في رسالته حسن قدرتي في التلوينات الصوتية والاركسة واعتبر مستواي في الكونتربوينت في درجة الوضوح ومدح وضوح تعبيراتي في التدوين الموسيقي سواء من ناحية الجمال أو التحكم في تحديد نماذج الألوان الصوتية وقواها المتناسبة عبر تلك الألحان ’ ولكنه طلب مني أن اهتم بناحية الإثراء الهارموني ’ واستحسن لي لو أقوم باستخدام طرق في البناء الهيكلي غير تقليدية في صياغة أعمالي الموسيقية ’’ .

مجيد مرهون
5 نوفمبر 1976

هاتين الفقرتين اقتطفناهما من البومات الموسيقي مجيد مرهون عام 1985’ حيث نلاحظ في الفقرة الأولى كيف أن غياب الآلة الموسيقية عن يديه يجعل من أمر إبداعه صعبا ’ ولكن صموده وإرادته الصلبة تجعله ينهل ما يمكنه من دراسة الموسيقى نظريا مع اعتماده على شحذ مخيلته في تطبيق الأفكار الموسيقية الواردة على خاطره .
غير إن هذا لا يكفي ’ فهو لم يعد ’ كما في السابق ’ عازفا في فرقة صغيرة تحتاج لمعرفة موسيقية أولية وإجادة في العزف على آلة السكسفون ’ فالمسالة اختلفت في السجن جملة وتفصيلا ’ بعد أن نفذ قراره بالتوجه الجاد لدراسة الموسيقى كعلم واسع المدى ’ والذين أتيح لهم أن يعيشوا مع مجيد مرهون فترة من الزمن في سجن جزيرة جدا يعرفون إلى أي مدى هو مأخوذا بالموسيقى : كيف يعيشها ويتنفسها مقاوما تحديات السجن وقساوته والصعوبات النفسية بإرادة حديدية ’ ويعرفون كيف أن ينبوع الإبداع عنده يشكل مخزونا هائلا . انه في النهار مسئول عن التصليحات الميكانيكية والكهربائية في السجن لكونه عاملا فنيا ’ وعندما يزحف الظلام على الجزيرة وتطفئ الأنوار الخافتة التي لا تصلح للقراءة أو الدراسة ’ فان شمعة الفنان مجيد الخافتة تلازمه وهو يعمل على تنفيذ مشاريعه حتى وقت متأخر من الليل ’ يقرأ في المؤلفات الموسيقية ويكتب كل ما يجول بخاطره من الحان ويشطب ويعيد الكتابة على أوراق مختلفة تصلح لأي شيء ماعدا التدوين الموسيقي ’ وفي ظل صعوبة حصوله على أوراق التدوين الموسيقي يحاول جاهدا تصغير خطه إلى أقصى حد ’ مع أن هذا كان يسبب له آلاما في عينيه ويؤثر على قدرته البصرية ’ ومنذ السنوات الأولى لسجنه ظل يطالب إدارة السجن بالسماح له بإحضار آلة موسيقية ’ ولكن دون جدوى .

مرحلتان في تطور الموسيقي

المرحلة الأولى: منذ اعتقاله عام 1968 حتى 1973

وفي هذه الفترة اخذ في التركيز على الدراسة المكثفة والاطلاع بشغف وعمق على كل ما يقع في يده من المؤلفات الموسيقية ’ وكتابة القطع الموسيقية والألحان والأناشيد ’ وتجميع وتدوين النوت والإيقاعات للاغاني الشعبية القديمة في البحرين كأغاني الغوص والليوة والطنبورة وأغاني الفنان محمد فارس والفنان ضاحي بن وليد ’ بالإضافة إلى وضع الأسس الأولية لفكرة ( القاموس الموسيقي ) هادفا بذلك حفظ وشرح والتعريف بالمصطلحات الموسيقية المحلية والخليجية والعالمية للقارئ والمبتدأ في الميدان الموسيقي . وبين 1970-1974 استطاع أن يستوعب الأسس النظرية في تأليف وتوزيع المبادئ الأولية في علم الموسيقى وبالذات في جوانبها الكلاسيكية .
وهكذا بدأ في تجربة كتابة أعمال معدة للعزف المنفرد للفلوت والقيثارة ’ وبعض الرباعيات للاغاني الوترية وأشكال السوناتا والسوناتينا . وشابت هذه الأعمال بعض الثغرات الموسيقية رغم جودتها العالية حسبما ذكر الموسيقي السويدي الشاب . كان بذاته الموسيقار مجيد بحاجة إلى إزالة غمامة الشك لتبيان جوانب الأخطاء في علمه بالخصوص في الكونتربوينت وحجر الزاوية في التأليف الموسيقي والإمساك بزمام السيطرة على علم الهارموني بحد ذاته ’ وكانت تلك الرسالة نقلة جديدة ودفعة قوية في تطوير أعماله اللاحقة والتي قام بإعادة تدوينها من جديد ’حيث اطّلع أيضا على كتب جديدة في مجال التأليف والتوزيع الموسيقي . وما بين رسالة مجيد المؤرخة في 15/11/74 إلى أكتوبر 75 تاريخ استلامه الرد من السويد ’ نستطيع أن نلاحظ غزارة الإنتاج ومستوى التأليف ما بعد هذه ’ وان ما بين أيدينا من مؤلفات للموسيقي مجيد مرهون غيض من فيض قياسا لنوتاته الموسيقية التي تتراكم في زاوية زنزانته . وبين الحين والأخر يشرع بتشذيبها وتعديلها متوخيا نتاجا موسيقيا أرفع من السابق بعد أن قطع شوطا من الاطلاع والدراسة والتأليف والتلحين .

المرحلة الثانية 1974-1984

تتميز هذه المرحلة بغزارة الإنتاج وتطورها التقني والسيطرة على مفاتيح فن التأليف والتلحين والتوزيع ’ وبالتدريج يوما إثر يوم يحلق مجيد في السماء الرحبة برغم قضبان سجنه الرهيب بأعمال تعبر عن أن هذا الإنسان طاقة إبداعية هائلة أثارت دهشة مجموعة من الشباب البحرانيين الذين درسوا في معهد الكونسرفتوار لمدة سبع سنوات قائلين : نحن لا نستطيع أن نضع ألحانا بهذا المستوى . وحقيقة القول هو أن تدرس الموسيقى أو تكون عازفا على آلة ما في فرقة اوركسترا السيمفوني شيء ’ وان تكون موسيقيا موهوبا قادرا على إبداع أعمال موسيقية والحان متطورة سواء من حيث موضوعاتها أو تقنيتها في البناء الموسيقي شيء آخر .
كما شهد عدد من المدرسين في بلدان مختلفة بقدرات وموهبة الفنان مجيد مرهون. واليكم بعض من مؤلفاته الموسيقية مع تسليط الضوء بتحليل بسيط على موضوعاته وطبيعتها التي تنحو اغلبها إلى جانب الحزن والحنين والذكريات لتعكس حقيقة الواقع المرير الذي يعيشه إلا إننا نجد في داخل هذه الأعمال دائما يبرز خيط من النور والأمل ’ فتأتي ضربات ’’ الليغرو ’’ الحيوية ورقصات التانغو الباعثة على الفرح . ولنتابع أعماله حسب تسلسل التواريخ ضمن المجموعة الموجودة لدينا .
في كراسة كونشرتو لثلاثة أجزاء ’ وهذه الألحان كل له موضوعه الخاص وآلاته وتوزيعاته ولكنها تتشابك من حيث فترتها الزمنية الواحدة . اللحن الأول بعنوان ’’ ازميرالدا /Azmiralda رقم العمل 82 والمؤرخ في 14-6-74 . تبدأ المقدمة بحركة بطيئة متماهلة Adagio ’ أما التوزيع الآلي لمجموعتي آلة الفلوت والكلارنيت والاوبوا والسكسفون والترومبيت وآلات نافخة ومجموعتين للفيولين ومجموعة الفيولا والشيلو والكوانترباص وآلات وترية .
أما اللحن الثاني المسمى ’’ بالحنين / Nostalgia ’’ كتبها للسلم فا الصغير ’ العمل رقم 74’ المقدمة تبدأ بالآلات الوترية بحركة Lento( بتريث وببطء ). ولكي لا نتوه في مضمون عبارات الحنين يضعها الفنان تحت تعبير مفسر موسيقيا بجملة Pathetique( محزن) لتحديد طبيعة الحنين المثقل بالحزن. كتبه بتاريخ 28-6-74.
اللحن الثالث مؤلف بتاريخ 15-6-74 على نفس السلم فا الصغير ’ عمل رقم 39 وسماه راقصات التانغو بمقدمة عزف للبيانو المنفرد بحركة سريعة مرحة ومفعمة بالحيوية Allegro viva ’ والتوزيع موضوع لآلات الابوا ’ الباصون ’ الفيولين والفيولا والشيلو والبيانو .
كونشرتو جزيرة الأحلام ( سجن جزيرة جدا) العمل رقم 26 كتبه بتاريخ 15-11-74 على السلم - G MINOR ( صول الصغير ) بمقدمة البيانو كعزف منفرد بالطريقة الارتجالية ’ وبحركة معتدلة / moderato . التوزيع الآلي ’ مجموعتين للآلات الابوا ’ الكلارنيت ’ الفيولين ومجموعة الفيولا والشيلو والبيانو المنفرد .
كونشرتو ’’ وداعا يا حبي ’’ كتبه عام 1970 وأعاد كتابته في 18-12-75 رقم العمل 14 على السلم صول الصغير بمقدمة مسرعة مرتجلة . أما الحركة الأولى فإنها تبدأ متماهلة Larghetto . وبتاريخ 21-4- 76 أعاد من جديد صياغة وكتابة الكونشرتو ( الذكريات ) الذي كتبه في الأصل في عام 1974 تحت عمل رقم 14 للسلم الصغير بحركة معتدلة (moderato ) موزع للات التالية : الفلوت ’ السكسفون ’ القيثارة ’ ومجموعتين للفيولين ’ والفيولا ’ الشيلو والكونترباص .
عزف منفرد على الناي كتبه في 15-4-76 العمل رقم 2 للسلم الصغير ’ وهذا اللحن بالأساس كتبه سنة 1966 دون اعتبار لشكل النموذج الهيكلي في بنائه ودون معرفة بالهارمونية ولكن أعاد صياغته من جديد بعد عشر سنوات على أسس نموذج السوناتا ولكن بشكل مصغر ’ ألا انه بالإمكان تحويل اللحن الميلودي الموضوع أصلا لآلة منفردة إلى لحن مصاغ لفرقة موسيقية لعدد من الآلات من مختلف أنواع التجمعات الآلية (Ensembles) .
- مقطوعة سوناتا (sonata) للفيولين المنفرد من نموذج الحركة الأولى لنموذج السوناتا ’ عمل رقم 62 للسلم دو الصغير . تبدأ بحركة اداجيو (Adagio) . بطيئة وكتب هذا المؤلف في 27-5-1976.
وفي 29-9-78 ينتهي الموسيقي الفنان والمناضل مجيد مرهون من لحن موضوع للسلم الكبير لاوركسترا الآلات الوترية رقم العمل 19 من البومه رقم 4 وتبدأ بحركة معتدلة (moderato) .
أما مقطوعته المسماة أنغام للميلوديكا العمل رقم 13 من الألبوم 16 فتبدأ بحركة سريعة معتدلة أو بالأحرى سريعة الاعتدال (allegro moderato ) فقد كتبها في 6 -11-1978 .
ويحتوي الألبوم رقم 15 على ثلاث مقطوعات للعزف المنفرد لآلة القيثارة كتبها ما بين 12-2-79 -13-3-79 باسم العمل رقم 18و19’ وعمل ثالث من نموذج الفالس البطيء slow vales بتاريخ 13-3-79 موزعا للآلات التالية : الأرغن ’ القيثارة ة الكمان ’ الفيولا ’ الشيلو والكونترباص . هذه المجموعة الفريدة الطابع قدمها كباقة من الألحان هدية بمناسبة زواج أحباء له تعبيرا عن مشاعر حبه تجاههم .
- في بداية السنة اللاحقة (1980) اخذ على عاتقه تنفيذ عمل جديد من نوعه ’ وهو عبارة تلحين قصيدة شعرية باسم ( حبيبتي ) وهي عبارة عن مقتطفات اختارها من قصيدة بعنوان ( رسالة مسجونة ) من ديوان الشاعر عبد الحميد القائد ( عاشق في زمن العطش )’ والتوزيع الغنائي المنفرد معد لمغني من طبقة التينور وهي أعلى طبقات الأصوات الرجالية ’ والتوزيع الآلي بالفلوت ’ الاوبوا ’ السكسفون ’ قيثار كهربائي ’ البونكوز ’ الكونغا ’ الكمان ’ ومجموعتي الفيولا والشيلو والكونتر باص . وانتهى من هذا العمل في 6 -10-1980 .
وقد واجه عزف هذا العمل صعوبة في البحرين لسببين : الأول ’ هو عدم وجود عازفين يستطيعون تغطية عدد الفرقة المطلوبة لأداء ذلك ’ والثاني هو غياب المغني صاحب حنجرة من طبقة التينور . ولا زلنا بحاجة لفترات طويلة لاكتشاف طراز هذا النوع من الحناجر أو الأصوات .
ومن خلال هذا العرض السريع والموجز لمؤلفات مجيد مرهون المناضل والفنان التي وضعها في سجني جدا والقلعة ’ نجد إن هناك البومات وقطع موسيقية والحان لا تزال تنتظر تذليل الصعوبات الجمة التي تواجه عزفها وإيصالها للناس . كما أن الفنان في الفترة الواقعة ما بين 1975-1980 انكب على وضع أسس العمل السيمفوني الكامل بكل حركاته وأجزائه.
تبقى ضرورة تسليط بعض الضوء على الموضوعات التي يختارها المناضل الفنان مجيد لإعماله وهو الرازح في سجون السلطات الرجعية ’ والتي ما زالت تديرها أجهزة المخابرات الانجليزية الحاقدة المعادية ليس للإنسان وحسب بل لجميع القيم الإنسانية الرفيعة كالموسيقى والشعر والأدب .
إن نظرة متأملة وعميقة وتحليلية للمضامين والأفكار الواردة في جميع أعماله ترينا ميلا ملحوظا لاختيار مواضيع يكون أبطالها يعانون في الحياة ويواجهون الصعوبات بدرامية ’ أبطالها بشر محّملون بالآلام ’ وكل شخصية أو موضوعة ’ تتداخل مع عذابات الموسيقي الفنان مجيد ذاته ’ فالبطلة المعذبة في رواية ( احدب نوتردام ) في لحنه ( ازميرالدا) ما هي إلا مقارنة بين مأساته ومأساتها ’ ففي هذا العمل يصور حقيقة جوهرية هي التجاذب بين اليأس والأمل . المسقط من شخصية ازميرلدا ذاته المتنازعة بين أحاسيس ومشاعر متداخلة التاريخ والمسافات والأزمنة مختلفة ’ ولكن المأساة متشابهة . وحين يتم اختياره لموضوع شعري بعنوان رسالة مسجونة ’ فلا داعي للبحث عن السر ’ فواقعه المعاش له جاذبيته غير المرئية ’ عليه أن يتحسسها كمبدع ويراها في وعيه الباطن تتحرك كحلم بعيد يمتد عبر الأفق. في تلك الجزيرة – السجن كتبت أيضا القصيدة التي اختارها ’ والملحن والشاعر يلتقيان في معاناة واحدة هي معاناة البحث عن الحبيبة بالتذكار المجنون للحب البعيد في صراعه مع الرياح والقراصنة ’ مذكرا حبيبته بأن لا تنسى ذلك المسافر الذي غاب عن الوطن رغما عن إرادته ’ بسبب ذلك الكابوس المظلم الجاثم على فرسان المدينة ’ العاشقين للحرية والحب والربيع . أما اللحن الذي أطلق عليه الحنين (Nostalgia )الممتزج ببكائية حزن عميق وحنين للماضي بكل آلامه ’ فان أي إنصات بسيط لأي منا لهذا العمل يشعره بمدى الحزن المنهمر من الآلات الوترية أو آلة النفخ الاوبوا والفلوت التي تخترق أنياط القلب مباشرة ’ وتخال نفسك أمام جنازة ممدة لإنسان عزيز على قلبك يفارقك فجأة والى الأبد ’ فما بالنا بمشاعر الموسيقي الفنان مجيد حينما تتراكم عليه المحن متوالية بلا شفقة أو رحمة .
لقد كتب بقلمه حول هذا اللحن قائلا: " لحن موسيقي اعبر فيه عن خيالات الماضي الجميل الذي فات ، وأنا من موقعي لكوني في السجن ، فالذكريات هي ما تبقى لي في الوجود ، التمس منها قبس الأمل والمجد. وكذلك اجتر أحزاني من خلال هذه النظرة الخيالية برومانسية وشفافية وقد وضعتها مبينا دور (الاوبوا) معبرا عن دخولي في أجواء الخيال متشبثا به هاربا من واقع مرير ارسف في قيوده المقيتة ، منطلقا من خلال قضبان زنزانتي إلى ماض يبدو أمامي وكأنه بعيد وله طعم خاص ، اشعر فيه براحة نفسية عميقة ’ متلذذا باجترار أحزاني القديمة أحزان طفولتي اليتيمة ، أحزان فشل حبي الأول ، أحزان موت أختي الحبيبة بين يدي وأنا انظر إليها فانفجع بها عارفا حقيقة الموت لأول مرة في حياتي ، أحزان القلق النفسي الذي يلازمني أثناء الانحسار الثوري الذي يفرض عليّ العمل السري سنوات تحت نظام الطوارئ، وأعود إلى أحزان الواقع الذي أعايشه ليل نهار مع صلصله القيود ورتابة الحياة والكبت المستمر ليل نهار مع الصمت ’’ .
فالمعاناة والإبداع متوحدان والمخزون الحقيقي لأروع الأعمال الإنسانية هو عمق المأساة المستمدة من تجربة صادقة وطاحنة وتبدو نتاجات مجيد عملا بحاجة للمعالجة الواسعة ’ فالقليل من الموسيقيين في العالم عاشوا تجربة غنية بتنوعها وثرائها المأساوي والحياتي .
وصورة الحزن والأسى ليست هي الوجه الوحيد لأعمال الفنان والمناضل مجيد مرهون ، فهو برغم شفافيته ورهافته يظل دائما إنسانا عاشقا للرقص والغناء والمرح ’ فتلك خاصية تشربت فيها الدماء الجارية في شرايينه وعروقه منذ الطفولة ’ ويحلق مع طيور الأمل العابرة فوق سماء سجن الجزيرة ويتلذذ بنكهة الأخبار السعيدة كلما أطلت عليه من النافذة الرسائل القادمة مع بريد السجناء ، ويمرح يومها فرحا كصبية صغار يستقبلون العيد . فنجده يكتب لونا آخر من الألحان الراقصة والسعيدة التي تبعث في القلب الابتهاج والراحة والرضا كرقصات التانغو والفالس البطيء ومعزوفات منفردة على القيثارة تميل للون المتفائل والمرح ، فالحب ينتصر على الحزن ، والأمل أقوى من اليأس دائما ومن المرور الرتيب للزمن في سنوات سجنه الطويل .
إن صموده في السجن وتحديه لواقعه الصعب هو ملحمة نضالية كبرى ، وقد عكس اللحن الذي وضعه للنشيد الكفاحي ( طريقنا أنت تدري ) هذه الروح الصلبة والإرادة التي لا تلين ’ فقد أطلق هذا اللحن الحماسي المتحدي كل ما في كلمات النشيد من عزم وإصرار عنيد على المقاومة وعلى مواصلة الدرب الصعب حتى يتحقق لشعبنا هدفه الذي عنه لا يحيد : " وطن حر وشعب سعيد " .

*** دخل مجيد مرهون السجن عام 1968 وخرج ابريل عام 1990
*** منح وسام الكفاءة من الدرجة الثانية من قبل الملك بسنة 2002
*** صدر له المجلد الأول عام 2008 من مشروع الموسوعة الموسيقية ( تسعة مجلدات ) وطبعت المجلدات رقم 2’3’4’5 وفي طريقها للبحرين والذي تكفلت مسؤوليته وزارة الثقافة الإعلام .
*** متقاعد ويستلم 165 دينار بحريني بعد خصم قسط بيت الإسكان.

بالإضافة إلى 400 دينار كمساعدة من وزارة الثقافة والإعلام ضمن مشروع المساعدة المقدم لبعض الفنانين.

***

تحية لمجيد مرهون ولـ " لحبّات البذار "

عبدالهادي خلف

الوقت 11 ديسمبر 2007

نشرت صحيفة ‘’الوقت’’ أن الفنان والمناضل البحريني مجيد مرهون يرقد مريضاً في المستشفى، حيث يتلقى العناية الطبية المركزة [1]. وأضاف الخبر أن مجيد ينتمي إلى أسرة فقيرة عاشت في المنامة وإن موهبته الموسيقية التي تفتحت منذ طفولته لم تجد من يرعاها. ورغم ذلك فلقد تمكن بالاعتماد على نفسه، من تطوير تلك الموهبة. ويضيف التعريف إن ‘’حب مجيد الكبير للموسيقى دفعه إلى حد أن يقوم بتهريب آلة ‘’الهارمونيكا’’ إلى داخل السجن عندما كان معتقلا سياسيا بل تجاوز ذلك إلى تهريب مؤلفاته الموسيقية إلى خارج المعتقل’’.

من دون أن يقصد، ظلمَ محررُ الخبر مجيدَ مرهون وظلمنا معه. فمجيد جزءٌ بارزٌ من تاريخ البحرين. بطبيعة الحال لا يختزل فردٌ تاريخ وطن لكنك تجد الوطن في سيرة حياة أفراد متميزين مثل مجيد مرهون. فلقد كان مجيد معتقلا سياسيا متميزاً عن المعتقلين العاديين من مثلي ومثل آلاف المعتقلين والمعتقلات. رغم أن كثيراً أيضاً قدموا بعض أفضل سنوات أعمارهم في سبيل بناء مستقبل وطني وديمقراطي للبحرين. لقد دخل مجيد السجن وهو في الثانية والعشرين من عمره المديد. وغادر مجيد السجن وقد قارب عمره الخمسين. أربع وعشرون عاما، قضى السنوات الأولى منها في زنزانة انفرادية مكبلاً بالسلاسل التي تربط يديه وقدميه.

يشير الخبر المنشور إلى أن التدخين هو السبب الرئيس فيما يعاني منه مجيد الآن. لستُ طبيباً ولكن أين هي آثار سنوات التعذيب والعذاب في سجن جدة؟ ويتكرر في ذهني السؤال نفسه حين أتذكر علي دويغر ومحمد نصرالله وأحمد الشملان وعبدالله مطيويع: كيف ساهم التعذيب وظروف الاعتقال المزرية في تدهور صحة هؤلاء وصحة عشرات غيرهم من الأحبة ممن أعرف ولا أعرف.

على هامش سيرة مجيد مرهون أضع فيما يأتي تلخيصاً لما كتبه المعتمد البريطاني أنتوني ديريك بارسونز بتاريخ 14 مارس/ آذار ,1966 في تقرير سري لم يفرج عنه إلا في بداية .2007 ويتناول التقرير بعض تفاصيل محاولة اغتيال تعرض لها المسؤول البريطاني عن جهاز الأمن السياسي (والتعذيب) في البحرين ومساعده الأردني [2].

في مساء الخامس من مارس/ آذار 1966 وبينما كان بوب لانجديل عائداً إلى بيته مع زوجته وطفلته تعرضت سيارته إلى إطلاق رصاص. ولقد شاهدت زوجته المهاجمين يعبرون الشارع ليستقلوا سيارة نقلتهم بعيداً. وعثر المحققون فيما بعد على خرطوش الرصاص المستخدم. وبتاريخ 12 مارس/ آذار فيما بين الساعة السابعة والثامنة صباحاً وبينما كان بوب لانغديل ومساعده الأردني أحمد محسن يهمان، كلٌ على حدة، بركوب سيارتيهما للذهاب إلى مقر عملهما في القلعة انفجرت السيارتان. وأصيب الضابطان إصابات خطيرة. فلقد فقد بوب ساقه كما أصيب بجروح مركبة في ساقه الأخرى وذراعه ويده. أما محسن فلقد أصيب في عموده الفقري علاوة على إصابات أخرى.

بعد تقديم تفاصيل تقنية، يشير تقرير المعتمد البريطاني إلى تأكيد الخبراء على أن الهجوميْن كانا على درجة عالية من المهارة والدقة الفنية علاوة على الجرأة. فلقد تمّ تفخيخ سيارة بوب في الظلام ودون استخدام أي نوع من الإضاءة بسبب وجود حراسة أمنية على مقربة من مرآب السيارة. ولا ينسى المعتمد أن يُؤكد في تقريره على أن العملية ‘’من تدبير عصبة منظمة تنظيماً جيداً وتدربت في خارج البحرين’’. وإنها قد تكون الخطوة الأولى على طريق شن ما سمّاه بحملة إرهابية على نمط ما يحدث في مستعمرة عدن وقتها.

يشير تقرير المعتمد البريطاني إلى بعض تداعيات تلك العملية. وأولها هو الشلل الذي أصاب جهاز الأمن السياسي برمته. فلقد أقعدت الإصابات الخطيرة بوب لانجديل وأحمد محسن. ولهذا لم يكن ممكناً حتى إجراء التحقيق في العملية نفسها. ومما فاقم الأمور هو الانهيار النفسي الذي تعرض له شقيق بوب مما أدى إلى عدم مزاولته لعمله كمحقق في جهاز الأمن السياسي. علاوة على ذلك، حسب رواية المعتمد، فلم يكن أحدٌ من ضباط أجهزة الشرطة الأخرى ليجرؤ في مثل تلك الظروف على اعتقال أيٍ من الناشطين السياسيين أو المشتبهين الأمنيين ناهيك عن التحقيق معه. وبهذا النجاح في شلّ الجهاز الأمني، يقول التقرير، فلقد حققت العملية أحد أهم أهدافها. أما ثاني تلك التداعيات فيتعلق بما أحدثته العملية من إرباكات في السلطة. ويشير التقرير هنا إلى تفاصيل لن أدخل فيها بشأن هذه الإرباكات وما ولّدته من رعب لدى بعض المسؤولين وتبادل للاتهامات فيما بينهم. أما التداعي الثالث فهو قيام المعتمد البريطاني بإعادة ترشيح إيان هندرسون لتولي قيادة جهاز الأمن السياسي.

وحسب وثائق بريطانية أخرى فمن المعلوم أن البريطانيين كانوا يضغطون باتجاه استجلاب هندرسون إلى البحرين للاستفادة من خبرته الطويلة في قمع حركة التحرر الوطني في كينيا تقتيلاً وتعذيباً وتنكيلاً. ومعلومٌ أيضاً أن طرد هندرسون من كينيا المستقلة كان أحد أول قرارات الحكومة الكينية بعد أندحار الإستعمار البريطاني في العام .1964 بعد ذلك الطرد المهين سعت الحكومة البريطانية إلى الاستفادة منه في مناطق أخرى حتى أتت به إلى بلادنا. ومنذ وصوله حاول تطبيق الأساليب نفسها التي تعوّد عليها في كينيا. فنجح أحياناً لكنه فشل كثيراً فلم تندثر أغلب حبات البذار التي زرعتها أجيالٌ متعاقبة في حركتنا الوطنية [3].

في انتظار أن يكتب مجيد قصته لا يعرف الناس إلا بعض شذرات منها. وبعض ما هو معروف لا يفي بحق مجيد ومئات من أمثاله ممن غيروا مسار تاريخنا دون أن يمنّوا علينا أو يطالبوننا بما في رقابنا من ديونٍ لهم. بل هم ولم يشتكوا حين لم يُحسَب حسابهم عندما وُزعت ‘’التعويضات’’. أقولُ، لن تكتمل رواية تاريخ البحرين في النصف الثاني من القرن العشرين دون تضمينها قصة مجيد وكل حبات البذار الأخرى. فما لم تُكتب القصص المجهولة أو المخفية ستبقى الساحة مفتوحة لمن اعتبروا النضال الوطني حفلة يحضرونها في أوقات فراغهم، وسيبقى ذلك الجزء من تاريخنا مرتعاً لمن دخله كما دخل التاريخ بطلا فيلم ‘’إحنا بتوع الأتوبيس’’.

[1] راجع: ‘’زوجته تؤكد أن التدخين هو السبب وراء تدهور صحته: مجيد مرهون يتعرض لضيق تنفس وسعال شديد’’، صحيفة ‘’الوقت’’ 6/12/.2007
[2] ضمن رسالة موجهة إلى م.س. وير، الدائرة العربية، وزارة الخارجية البريطانية. وثيقة رقم 1641/.66
[3] إشارة لأبيات الشاعر الراحل نجيب سرور:

‘’نحن حبات البذار
نحن لا ننمو جميعا عندما يأتي الربيع
بعضنا يهلك من هول الصقيع
وتدوس البعض منا الأحذية
ويموت البعض منا في ظلام الأقبية
غير أنا كلنا لسنا نموت
نحن حبات البذار..’’.

****

إنهم يهزون الأرض

عبدالله خليفة

5 يوليو 2009

في تلك العشش التي نبتتْ في السبخة، في حوار البحر مع اليابسة، في ذلك الخوصِ المشتعلِ في القيظ، وجدَ نفسَهُ يخرجُ من بطنِ أمهِ الأرض وهو يرقص! عارياً في المياه يستعيدُ رحلة العبيد المسلسلين في السفن، يمسكُ أداته الموسيقية ويعزف، في كلِ الدروبِ، في يقظةِ الخلايا، بجسمهِ القصير، وبوجهه الأسمر وعينيه النفاذتين كأنه فهدٌ يطالعُ الأشياءَ والبشر، يغرز حربتـَهُ في الترابِ والورق وخرائط الأرواح.
في زنزانتهِ في وسطِ الـ jailكما يرددُ السجناء يشعلُ النورَ في ظلمةِ الجزيرة، ويكتبُ في دفاترهِ التي لا تنتهي، ويحدقُ في الكتبِ الأجنبية، يستلُ حروفاً وكلمات، يترجمُها، يعربُها، يُحضرُ عالماً من الفرح والأنين والغناء والهمس وانفجارات الموسيقى، بين بحرٍ من القتلة واللصوص.
حين وُلد هناك في العششِ على موج الطبول والطارات، حيث النعل تجثمُ فيما وراء الأقدام العارية والرقص الجماعي الذي يدورُ حول صارية، حول ثلة تضربُ الجلودَ بقوة، لتهز الأرض، تدورُ حول صارية السفينة التي تاهتْ في البحار، وترنحتْ على جرفِ جزرٍ يابسةٍ جرداء، يرقصون، نساءً ورجالاً، يفرحون، يتجمعون، يأتون من كلِ مخزنٍ غارقٍ تحت الأرض، ومن الحفر، ومن الموانئِ التي سلختْ ظهورَهم ببضائعِها وشمسِها، ويطلقون الأرواحَ المحبوسة فتصيرُ وردة أو تصيرُ سكيناً تغوصُ في صدرٍ ما، أو تصيرُ نشوة في كوخٍ يضجُ بعدها طفلٌ بصراخ الولادة، أو تصيرُ لحناً يبتكرُ المشاعر.
كان عليهِ أن يرى هذا العالمَ يغرق، الأكواخ تحترقُ، والطبول تـُدفنُ في بيوتٍ حجريةٍ تائهة، والمغنين والراقصين يتوارون وراء الذاكرة، ومجيدٌ يفقدُ أباه، يرحلُ ذلك الكائن الغامض الذي لم يره كثيراً، تبخر وترك شبحاً يحوم على أيامه، ونزلتْ المرأة للعيش، أمهُ المصنوعة من الحجر والرهافة والضنى، مشتْ للمكاتب والمدارس تنتزعُ اللقمة، وهو يغادرُ المدرسة ليلتحق بالمعمل، من الورقِ للزيت والدخان، ومن الحلمِ للهوان، ومن مستنقعاتِ النفط تصعدُ نجمة.

وفي سيارةِ الشركةِ الطويلة، وامتدادها الثعباني السائر نحو البرية، هذا الثعبانُ الذي يبلعُهُم كلَ يوم، ليقذفهم في الصحراء، يُخرجون ذلك الساحرَ من بطنِ الأرضِ ليضعوهُ في البراميل والأنابيب، كان يعزفُ، العمالُ الذين تهدهدُهم سيارة (سالم الخطر) وتتقلبُ بهم، وينعسون، يوقظـُهم مجيد بصراخهِ وعزفهِ وضحكاته. كانوا ينتزعون الساحرَ الأسودَ الذي لعبَ في الأعماق ويحيلونه إلى أسماك صغيرة في أيديهم.
أمهُ الصامتة، الهادئة، تترنمُ بالفارسية والعربية، صنعتْ أولاداً انغمروا في العيش الصعب، لا أحد يسمع ما تهمسُ به، لا تغضبُ من رفاقهِ الذين يتدفقون على بيته، يجثمون ليتكلموا كثيراً، هو ينتزعُ منها تلك الأغاني التي ضاعتْ في البراري والجبال والسفن الغارقة، وحملها المهاجرون إلى أصقاع البحر النائية، يدونها، يحركُ موسيقاها الداخلية، ويجلبُ المعاجم، هذا الفارسي العربي العالمي، هذا الأسودُ القحمي المضيء، يدسُ رأسَهُ الصغير في جبال الكلمات، وسيجارته لا تفارقه، حLucky strike الأمريكية الحمراء، عدوة الإضرابات والصدر، يصنعُ الشاي الأحمرَ المميز، ويرى نفسَهُ يصعد، يصيرُ بتهوفن آخر في الشرق، العازفون حوله، وهو يصعدُ المسرح، الخشبة عالية، وهو يمسكُ عصا المايسترو ويحركُ العالمَ والبشرَ بموسيقاه.

في باحةِ السجنِ يجلسُ قربَ الزنزانة لم يبق معه سوى قطه، المدلل، يعطيه من الأكل أكثر مما يأكل، قط كسول، ينام أغلب الوقت، لا يصيد حتى صرصاراً، وموتهُ كان فجيعة، ومجيد طوال الوقت يعزف، سبورتهُ في عمقِ الزنزانة، شهدتْ أجيالاً من المتعلمين للنوتة، رؤوسٌ من الصخور، ماعزٌ بري يهجمُ على الحشائش الغضة، وحين يخرجون ينسون، ينغمرون في حقول الجرجير والحفاظات، وهو يُعلم، يدقُ الأرضَ بقدميه، يُصدّعُ رؤوسَ السجناء، وخاصة جار الزنزانة أبوسعيد اليماني القاتل، ملك الفجل والليمون والطماطم في السجن، الذي يعود متعباً ويريد أن ينام، لينهض باكراً يقطعُ بمنجلهِ رؤوسَ البصل والقطط، فينهضُ كلَ لحظةٍ صارخاً على مجيد: (دعنا ننام!)، الليلُ في أولهِ وهو يحفرُ في الكتبِ الأجنبية القادمة من وراء الأسلاك والمياه، اشترتها أمهُ من المكتبةِ القريبة من الحي، وجاءتْ لمكتب السجن، وتغلغلتْ بين غابةٍ وحشية من السواعد والأنصال والعيون، خيوط قلبها تتوجه للفتى الذي حلمتْ أن يتزوج، وأن ترى عياله، وها هو في السجن المؤبد، أو اشتراها أخوه، ثمة خيوط ملتهبة تشده لما وراء البحر، وكل سنة نسخة من السنة الأخرى، كربونٌ بشعٌ مشع، نفس الوجبات الحامضة، نفس السجناء المعتوهين، النفوس الطيبة التي كان يتخيلها مع غوركي في تشرده، ليست هي، ليس كما كتبَ هو، إنها مخيفة، متعبة، مُدمرة ومُدمرة، كل سنة تحومُ عليهِ وتحاككهُ وتسخرُ منه وتتعلمُ وتراه في صمتهِ الكثيف، في سيرهِ نحو محطة الطاقة الصغيرة، في إشعاله للنور، حين يمرض تـُصابُ الجزيرة بالعتمة التامة، ويأتي إليه العريف، لينهض قبل أن تلتهمَ الحوتة الجزيرة العمياء في البحر.
مراتٍ قليلة ينفجر، تلك الأرض المتفحمة، ذلك الجبل الصغير، يطلقُ صرخاتهِ ومعزوفاته الهادرة، يحركُ يديه ويَخرجُ المايسترو من بدلةِ السجن المهترئة، التي فقدتْ لونها فيما قبل تاريخ الألم، ويتراءى حوله حشدٌ من العازفين، واللحنُ يهدرُ ويرتخي وينامُ وينقضُ على بقعِ الظلام ويصرخُ في الأنام، فيرى السجناءُ موجَ البحر يتحرك وتمشي الجبالُ الصغيرة نحو الحرية، وتهرولُ ضفافُ الحلم القريبة من مصائدهِم وجراحِهم إلى النساء والشوارع والبيوت.
قليلٌ من الكوابيس تطارده، الكابوسُ المستمر، جثومه في جوفِ السمكةِ الكبيرة العفنة، التي تبدو أنها لا تمضي، متكلسة في المياه العميقة، وتفرز عليه أحماضها، وصديدها وماء نارها، وهو يزحف في الظلام نحو سيارة الضابط الأجنبي، يضعُ قنبلتـَه، لتصعد السيارة في اليوم التالي إلى الطابق الثاني من العمارة تنزلُ الملابسَ المعلقة والحديد، الشابُ الغامضُ المجنون والغريب العازف، العامل الساحر، لم يظنْ أحدٌ أنه يفعل شيئاً، لكن العيون تسللت إلى مخدعه، ينهضُ في عمق الليل وهو مغسولٌ بالعرق والقيود تطبقُ على رقبته. ويرى الأمهات اللواتي تعذبن يمسحن ماءه.

السنواتُ تمرُ وهو الذي كان يجرجرُ سلاسلـَهُ في الجزيرة تعبَ منهُ الحديدُ وغادرهُ، ولم ير أمَهُ وهي تموتُ في المستشفى نازفة آخر أمعائها، تلك المرأة الكستناء، بائعة الحلوى للأطفال في الحي، بعباءتها الجاثمة على البساط، في الشارع، المشعة، التي تواصلتْ معه طوال خمسة وعشرين عاماً تركتهُ أخيراً، رحلتْ، وهو يصرخ عند الأسلاك الصدئة، والعالم نائم، العالم كله تركه، لكن السجناء جاءوا إليه في عمق الظلام والصمت.
يهزُ الأرضَ بقدمه، تعبَ الزمانُ منه والوحوشُ التي أكلتْ من جسمهِ يئست، وغادرتْ قوقعته الضاجة بالأنين والحنين والأصداء المخيفة، والأوراقُ تعبرُ الحدود، تسكنُ في مدينة السين والتماثيل، يظهر مايسترو هناك، يتطلع إلى ورقٍ أصفر ممزقٍ قادم من جزيرة صغيرة بحجم نملة في الخليج، يحدقُ فيه بإعجاب ويحركُ عصاه ليحرك الأرض ويهزُ طبقات الصمت.
لا شيء يبقى، لا شيء يزول، ومجيد راقدٌ ينزفُ رئته من التبغ والموسيقى، حوله صبية، وزوجة، وأصدقاء كثيرون، يحملُ جزيرته الشبحية الدامية معه كما يحمل النوتات والدفاتر الكثيرة التي كتبها، وما تزال قدماه الشيطانيتان تدقان الأرض بتوتر.

****

مجيـد.. المثـقـل بالمـوسـيقى والحـديـد

عبدالجليل النعيمي

«24-مارس-2008»

يناديني أهلي وأصدقائي « أبومجيد »، ولقد ولد مجيد في 17 سبتمبر/ أيلول 1975 ، وكان ذلك بعد أقل من شهر على حل المجلس الوطني (البرلمان) في البحرين ودخول البلاد نفق قانون أمن الدولة المظلم الذي لم تخرج منه البحرين إلا مع نهاية القرن الماضي وبداية المشروع الإصلاحي.
كنت على اعتقاد بأن القادم بنت، وجهزت « لها » اسم « أمل »، أمل الخروج من ذلك النفق. أما وقد جاء ولداً فقد استنفرت على الفور كل جوارحي لأهبه اسماً ذا مغزى. وقد يبدو الاسم عادياً تماماً ما لم يفكك. فهو، كما تقول الإعلانات الدعائية، ثلاثة في واحد.
لقد نسبته إلى ثلاثة من أعز أصدقائي، اسم كل منهم مجيد: رجل الأعمال والشخصية الاجتماعية الوجيه مجيد الزيرة، صديق مقاعد الدراسة الثانوية والعمر كله. مجيد ملا حسن البلوشي، زميل الدراسة الجامعية، دكتور في العلوم الزراعية، وهو اليوم عاشق للعلوم الفلسفية وضالع فيها، يدعوك ويغريك أو حتى يستفزك للدخول معه في جدل عميق يغتني منه الاثنان. أما الثالث فهو بطل موضوعنا اليوم، وبطل البحرين أبداً، الموسيقار الكبير مجيد مرهون.
مساء الأحد الماضي، 16 مارس/ آذار، وفي مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث تم تدشين القاموس الموسيقي الذي بدأ مجيد العمل عليه في السجن منذ العام 1975 وعكف على إنجازه نهائياً بعد خروجه وحتى العام 2002. وبعد محاولات لم تنجح مع مؤسسات عدة إما بسبب كُلفه أو لعدم إدراك قيمته، أعربت الشيخة مي الخليفة عن استعدادها لتبني المشروع الذي خرج في تسعة مجلدات تعتبر إضافة نوعية مهمة للمكتبة الموسيقية العربية.
أعرف أن كثيرين في بلادنا العربية لا يعرفون مجيد مرهون. برلين، ستوكهولم، موسكو، لندن وغيرها من العواصم الأوروبية، وكذلك القاهرة عرفته قبل أن تعرفه العرب. ذلك أن بلاده ذاتها لم تعترف به إنساناً موهوباً إلا في وقت متأخر جداً. وأنى لحكم الاستعمار البريطاني أن يرى في قول الكاتب الروسي ليونيد أندرييف (1871- 1919) وكأنه يتحدث عن مجيد مرهون «في الحياة كثير من العتمة، وكم هي بحاجة إلى أناس موهوبين ينيرون طريقها. إنه ليجب الحفاظ على كل واحد من هؤلاء كأفضل قطعة ألماس».
وقد حافظ حكم الاستعمار البريطاني على «ألماستنا» الثمينة 23 عاماً، لكن في السجن الذي دخله منذ العام 1969 ، وهي أطول فترة قضاها سجين بحريني، ليخرج حاملاً لقب «مانديلا البحرين».
قصة مجيد مرهون بدأت منذ نشأته وقد عكستها كتابات كثيرة. لكن قصته الأسطورية بدأت قبيل انتفاضة مارس/ آذار 1965. عرفته في صيف العام 1964 في بلد عربي وكلانا في قرابة السادسة عشرة من العمر. لم نكن نعرف أننا أبناء حزب واحد جئنا لأداء مهمة واحدة مع مجموعة من الشباب. كان مجيد دائم المرح خلال شهرين من أداء المهمة الصعبة. ولعله كان يرى فيها نزهة قبالة ما ينتظره في البحرين.
مارس/ آذار 1965 كان عام الانتفاضة الكبرى التي استخدم فيها الشعب كل أشكال النضال بما فيها المسلح ضد الاستعمار البريطاني، والذي يعتبره العالم نضالاً مشروعاً في مواجهة الاحتلال الأجنبي. أدرك المستعمرون أن هذه الانتفاضة وضعت بكل جدية مسألة استقلال البحرين على جدول الأعمال. لذلك تعاملوا معها بكل وحشية. وبعد أن أخمدت واصل الحكم الاستعماري تنكيلاً بمن شاركوا فيها، وحتى بكثيرين ممن لم يشاركوا. لم يكن أمام شعبنا إلا التخلص من رأسي جهاز التنكيل الأجنبيين وإزاحتهما. وكان مجيد لإحدى المهمتين اللتين نفذتا في الذكرى الأولى للانتفاضة. وبعدها دخل السجن. وهناك تفرغت الأنامل التي فعلت ما فعلت لأعمال غاية في الحس الرهيف - الموسيقى. ولعل مجيد لا يتفق فكرياً مع الكاتب الروسي ألكسندر بلوك (1880 - 1921)، لكنه ربما رأى فيما قاله من أن «الموسيقى وحدها القادرة على وقف حالات سفك الدماء التي تصبح عملاً مبتذلاً وكئيباً» تعبيراً عن اعتكافه في محراب الموسيقى وإبداعاته. غير أن مجيد ظل فخوراً بكل ما قام به وصار مدرسة لأجيال مرت به في السجن وتعلمت منه الموسيقى والنضال الوطني معاً. ومن السجن تسربت موسيقاه التي حملها رفاقه إلى العالم لتلعبها فرقة الإذاعة في ألمانيا الديمقراطية وليدرسها مختصون في الأكاديمية الملكية في السويد. ومن على أسطوانات بلاستيكية رقيقة طبعت في ألمانيا صدحت مقطوعات من موسيقى مجيد مرهون في مهرجانات الشبيبة والطلبة العالمية، ومنها إلى بلدان العالم المختلفة.
ذات صيف في الثمانينات قصصت على الأستاذة فريدة النقاش ونحن في بلغاريا حكاية مجيد التي أبكتها. ولما عادت إلى مصر سعت لدى رفاقها في حزب التجمع ليقام مهرجان حاشد عزفت فيه «أزميرالدا» و«نستالجيا» وغيرها من مؤلفات مجيد مرهون القابع في السجن.
لقد آمن مجيد بأن أعماله الموسيقية ونضاله الوطني وجهان لرسالته الإنسانية. وفي الأولى قرع الأجراس ليوقظ فينا الثانية. ألم تقل الكاتبة الفرنسية أفرورا لوسي ديوبين (1804-1876) التي أخفت كل نتاجها الأدبي خلف الاسم الذكوري جورج ساند، إن «هدف الموسيقى هو إيقاظ القلق الروحي. وليس ثمة فن آخر قادر على تحريك مشاعر نبيلة في قلب الإنسان، وعلى تصوير جمال الطبيعة أمام عيون الروح، وروعة التأمل والتنوع الذاتي لدى الشعوب وعنفوان طموحاتها وثقل همومها بقدر ما تفعله الموسيقى».
مساء 16 ديسمبر/ كانون الأول وفي يوم تدشين قاموسه الموسيقي لم ينفخ عازف السكسفون في آلته. لم تسمح بذلك صحته المتردية التي أهملها سجانوه والدولة وحتى رفاق الدرب. لكن الحاضرين استمعوا إلى موسيقى مجيد التي عزفها فنانون من الغرب والشرق في ذلك المساء. لقد فعلت فينا موسيقى مجيد ذلك السحر الذي تحدثت عنه جورج ساند.
أحد النقاد الموسيقيين الذي درس مؤلفات مجيد قال إنه يسمع في ثنايا موسيقاه رنين سلاسل حديدية لعلها القيود المضروبة حول رجليه وتصدر أصواتها عندما يمشي مثقلاً بها.
فسلام عليك مجيد.. مثقلاً بالموسيقى والحديد .

****

قاموس مجيد مرهون

الدكتور حسن مدن

«19-مارس-2008»

في مسعاه الدؤوب لتطوير معارفه الموسيقية وثقافته الفنية لاحظ الفنان مجيد مرهون خلو المكتبة العربية من قاموس موسيقي شامل، يمكن أن يُعد مرجعاً للدارسين والباحثين، ويستعين به طلبة الموسيقى في المعاهد والكليات المتخصصة في البلدان العربية. لم يكتف مجيد بلعن الظلام، وإنما عكف، كدأبه عادة، على إشعال الشموع لتبديد العتمة. لم يضع الوقت فانكب على وضع قاموسه الموسيقي الذي استغرق منه نحو أربعين عاماً.
بدأ بالمشروع وهو يقضي فترة سجنه الطويلة في جزيرة جدا، وواصل العمل وهو في سجن جو، وحين أطلق سراحه في عام ٠٩٩١خصص وقتاً لإتمام المشروع الذي سار جنبا إلى جنب مع إبداعه الموسيقي تأليفاً وعزفاً. في حصيلة هذا الجهد الدؤوب أنجز مجيد مرهون قاموسه الموسيقي، وعكف مرارا على تدقيق ما فيه من معلومات وتطويرها، مستفيدا في ذلك من عددٍ كبير من المراجع الأجنبية وما هو متوفر من مصادر عربية، وحرص على تقديم المصطلحات بلغةٍ تجمع بين الدقة العلمية وسهولة الشرح، إضافة إلى استخدام النوتات الموسيقية للمزيد من الشرح حيث يلزم الأمر. كتب مجيد في مقدمة القاموس يقول إن وضع معلومات وافية عن الموسيقى، خاصة عن الموسيقيين العرب منذ بدء الدولة الإسلامية أمر قد يتعذر عمله من قبل فردٍ واحد يعمل لوحده، وفي ظروفٍ قاسية وغيرمؤاتية، لا بل إنها ظروف معاكسة ومحبطة جداً، لأن تقديم معلومات وافية عن الفنانين العرب المعاصرين، تتطلب جهوداً مكثفة من لجانٍ ومؤسسات فنية متخصصة عديدة عبر طول وعرض الوطن العربي. رغم ذلك فان مجيد مرهون قام بما يعجز عنه فريق كامل متخصص، وأنجز قاموسه الذي جالت مخطوطاته أكثر من جهة بحثاً عن فرصة نشرها، إلى أن قُدر لها أخيرا أن تصدر عن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة للثقافة والبحوث، حيث دشن في احتفالٍ أقيم مساء أمس الأول القاموس بصدور المجلد الأول من أصل المجلدات التسعة التي يقع فيها هذا القاموس، والتي ستصدر تباعا خلال الأشهر القليلة القادمة.
صدور هذا القاموس يسد فراغاً كبيرا في المكتبة الفنية والموسيقية العربية، ويقدم لنا مجيد مرهون بصفته باحثاً موسيقياً محترفاً، بعد أن عرفناه مؤلفا موسيقياً محترفاً. يحق لوطننا أن يفخر بأنه قدم فنانا بمكانة وإبداع وطاقة مجيد مرهون، الذي جمع بين الروح الوطنية الكفاحية المتوثبة، وبين الموهبة الموسيقية التي عبرت عن نفسها في أعمال كثيرة عزف بعضها، وما زال الكثير منها ينتظر دوره. في أمسية تدشين القاموس عزف رباعي وتري قادم من مصر عملاً جميلا لمجيد، فيما قدمت عازفة بلغارية عملا آخر له على البيانو، في أمسية حميمة كان مجيد مرهون هو نجمها بلا منازع، الذي أظهر شحنات فياضة من فرحه الطفولي وهو يرى ثمار سنوات معاناته ودأبه وشقائه الطويلة، تنال الاعتراف والتكريم داخل وطنه، ووسط جمهور حاشد من محبيه ورفاقه ومن متذوقي الموسيقى في البحرين الذين أدهشهم المستوى الفني العالي لأعماله، التي كان العالم قد عرفها وقدّرها قبل ذلك بسنوات طوال.

****

هذا المناضل الأسمر

جنان العود

الأربعاء, 19 مارس, 2008

مجيد مرهون، رأيته للمرة الأولى عندما كان عمري ست سنوات فقط، التقط والدي لي صورة مع مرهون عشية أمسية غنائية لحفلة أجراس البحرينية أقيمت بأوائل التسعينات بفندق الخليج حسب ما أتذكر.
ما زلت أحتفظ بتلك الصورة الجميلة ،بدوت فيها بريئة جدا بفستاني الأخضر القصير، خدودي المحمرة و شعري المنكوش. يومها لم أكن أدرك حقيقة هذا الرجل الأسمر .و يومها أيضا لم أفهم شيئا سوى أنني يجب أن أبتسم لعدسة الكاميرا كما أمرني والدي مع حرصي أن أظهر أحمر الشفاه الوردي الفاقع الذي زينتني به أمي.

لمن لا يعرف هذا الرجل، أعرفه أنا به، هو الذي تتجسد به المعاني السامية للرجولة الحقة، مجيد مرهون : إنه المولود من رحم الشقاء و الفقر و الحرمان، ولد يوم 17 أغسطس 1945م بحي العدامة أحد الأحياء البحرينية الفقيرة ، ظهيرة يوم شديد الحراة كان كما يعطي لمحة عن قساوة الحياة التي تنتظر مجيد مرهون، ولادته بيوم مماثل لم تأت عبثا أو مصادفة كان صقيع الحر يومها يوحي بحرارة النضال التي تتدفق داخل جسمه الأسمر النحيل. عاش مجيد فقيرا ، تفتقر حياته لأبسط الأحلام التي يحلم بها أي طفل عادي، و رغم مرارة العيش ارتاد المدرسة و تفوق فيها حيث تخرج بإمتياز-الأول مكرر- من مدرسة القضيبية. راودته الموسيقى و هو صغيرا، عشقها و تولع بها حتى صارت العشق الموازي لعشقه النضالي القومي لبلاده البحرين. شبابه لم يك عاديا ، كانت السياسة و الدفاع عن حقوق الوطن -البحرين و المواطن شغله الشاغل.
مجيد رفض التواجد الإنكليزي ، و كرس نفسه مناضلا فذا في سبيل دعم و تأييد الطبقة العاملة بالبحرين، انضم حينها إلى جبهة التحرير الوطني البحرانية عام 1961- جبهة معنية بالنضال العمالي الحقوقي الديموقراطي ساعية بذلك لتحقيق تكافؤ إجتماعي بين كل الفئات البحرانية. اعتقل مرهون عام 1968 على أيدي الحانقين عندما شنت حملة إعتقالات بقيادة المجرم الإنكليزي (هندرسون) على عناصر جبهة التحرير الوطنية آنذاك ، اعتقل بعيد تنفيذ عملية عسكرية ، حيث زرع قنبلة بسيارة أحد الضباط المخابراتيين العرب الذيين كانوا يتعاونون حينها مع الإنكليز. صدر الحكم الذي أعده المجرم سلفا على مجيد مرهون، والذي تضمن عقوبتين إحداهما السجن المؤبد والثانية السجن لمدة 10 سنوات بجزيرة (جدا) إحدى الجزر التابعة للبحرين نفسها و لكنها تستخدم بالدرجة الأولى كمعتقل. لكن خلف تلك القضبان ظل مرهون وفيا للموسيقى ، فخلال سنوات تأبيدته برع في تأليفاته الموسيقية الإبداعية التي لم تلق اهتماما يذكر من قبل الجهات الرسمية البحرينية التي لم توف هذا الرجل حقه،إلا من آمن به من أبناء البلد و هم قليلون . و بعد عمر طويل جدا و في التفاتة لم تك بالحسبان دشن أخيرا قاموس الموسيقى للقدير مجيد مرهون و أقيمت إحتفالية بسيطة ببيت الشيخ إبراهيم الخليفة - مركز الثقافة و البحوث بمدينة المحرق، إحتفالية أعتبرتها قليلة بحق شخصه العظيم. عزفت من خلالها مقطوعات من تأليفه، والجدير بالذكر هنا أن قاموس مرهون يتكون من تسع مجلدات بالتمام و الكمال. و هو أول قاموس عربي موسيقي يحمل هذا الكيف و الكم من الإبداع الموسيقي غير المسبوق. أنجز عمل هذا القاموس بكلفة تراوحت ال30000 دينار تقريبا.

أنا حضرت الاحتفالية تقديرا و افتخارا بهذا الرمز الوطني البحريني ، وقفت إجلالا و صفقت كما السكران لحظة أنهى العازفون عزفهم لمقطوعات هي من تأليفه، عمل عليها بظروف مظلمة و من خلف قضبان قيدت روحه الوطنية الشفافة، ليلتها رأيت مجيد واقفا بعد مرور قرابة ثمانية عشر عاما على آخر مرة رأيته بها، رغم إنني وصلت للأمسية متأخرة بعض الشيئ و لم أحظى ب(view) جيد ، كل ما كنت أستطع رؤيته كان حذاء الموسيقار مرهون- الجالس و أحذية العازفين المصريين الأربعة، و حبتي الخال برقبة أحد العازفيين! و البيانو الذي تربعت أعلاه ورقة بيضاء طويلة احتوت (نوتات) لمقطوعات تعود لمرهون ، كنت أتابع حركة أقدامهم و قدمه التي لم تستقر على الأرض طربا و نشوة بالإنجاز الكبير. و لكنني بتلك الأثناء رحت غارقة أتذكر تاريخ هذا الأسمر العجوز، ذو البنية الضعيفة ، أعتقد إني بدوت مختلة بعض الشيئ حيث إن موسيقاه كانت تحملني للفرح و تلقي بي في يد الحزن مرة أخرى، عشت حالات و فصول متناقضة بانت على وجهي حينها كنت أبتسم و أكتئب بنفس الثواني، موسيقى مجيد عبق نضالي و تاريخ في قلوب محبيه.


تحية إكبار و شرف لرجل العزة، للمثال النضالي الإبداعي ،لهذا الموسيقي الجبار، ( لمانديلا) البحرين كما ألفوا أن يسموه أحبائه.

و هل تكفي تحية حب لهذا الرجل العظيم

****

مجيد مرهون: فلذة من تاريخنا

بقلم: د. حسن مدن

24 ديسمبر 2007

(1)

في مساء الثالث والعشرين من أغسطس ٣٠٠٢ نظم المنبر التقدمي ندوة حاشدة قدم فيها المناضل والفنان مجيد مرهون صفحات من سيرته الذاتية التي هي نسيج من النضال والإبداع، وأدار هذه الندوة الفنان الوطني الملتزم سلمان زيمان مؤسس فرقة »أجراس«. حضر هذه الندوة رفاق مجيد ومحبوه، وحشد من الشبيبة التي تجد في سيرة هذا المناضل المقدام قدوة لها في الممارسة النضالية وفي العطاء الإبداعي. روى مجيد في تلك الأمسية حكاية طفولته في حي العدامة بالحورة الذي ولد فيه، حي البسطاء المعدمين والكادحين المهمشين الذين كانوا يعيشون أسوأ أنواع شظف العيش، ويركضون لاهثين وراء لقمة العيش وكسـرة الخبز، وخوفا من الأمراض التي تحصد فيهم حصدا، وكانت فيضانات البحر تجعلهم يعايشون المستنقع الذي تعشش فيه مجاميع البعوض، ظاهرة آثارها على أجسادهم السقيمة، والتي تعاني من الجدري والتيفوئيد والسل، وغيرها من الأمراض. في هذا الحي المبني من بيوت السعف والأزقة الضيقة، ولد مجيد مرهون في عز ظهيرة يوم قائض شديد الحرارة، كان ذلك بتاريخ ٧١ أغسطس عام ٥٤٩١. يقول مجيد إن ذلك حدث بعد أسبوع واحد فقط من قيام القوات الأمريكية بإلقاء القنبلة الذرية الثانية على اليابان. وكانت الحرارة في ذلك اليوم على أشد ما يمكن تصوره، بسبب انتشار الغبار الذري في الغلاف الجوي حول العالم. عاش مجيد طفولة مريرة ترد تفاصيلها في سيرته التي سننشرها قريبا، ولكنه واجه مرارة الحياة والفقر بالتفوق في دراسته سواء لدى المطوعة التي حفظ على يديها القرآن الكريم، أو بعد إدخاله إلى مدرسة الروضة الحكومية في المنامة والواقعة قبالة مديرية المعارف. يقول مجيد : »كنت من أفضل التلاميذ في الدراسة بالرغم من شظف العيش، حيث كنا ننام أحيانا ببطون خاوية يعتصرنا الجوع، وما كان لنا سوى الصبر والحرمان، وكانت النتيجة أنني كنت من الأوائل، وتم نقلي إلى مدرسة القضيبية الابتدائية قبل أن يكتمل بناؤها عام ٣٥٩١، وفي تلك المدرسة لاحظت الفارق الاجتماعي بين الطبقات، فأبناء الأسر الميسرة تعيش النعيم والدلال، بينما أبناء الأسر الفقيرة تعيش الحرمان والعوز، وكنت أنزوي محاولا تفسير السبب، ولكن دون طائل، لأن الموضوع وهمومه أكبر مما يحتمله عقلي. وكان حلمي هو: متى أكمل دراستي لكي أعمل وأعيش مع أهلي العيش الكريم، وبالرغم من أنني أعرف بأنه حق طبيعي، إلا أنه حلم بعيد المنال«. في العام الدراسي 1956 - 1957 طلب منه مدرس التربية الفنية والرياضية، الأستاذ سلمان ماجد الدلال أن يقوم بتلحين كلمات أغنية مونولوج للأطفال في مسرحية ضمن النشاطات السنوية للمدرسة. كان ذلك أول لحن يقوم بتأليفه في حياته، ويتكون من تسلسل سلم نغمي صاعد ونازل مع بعض التغييرات النغمية والإيقاعية. لم يكن عمر مجيد يتجاوز العاشرة حين ألف المنولوج الذي كان بعنوان: (وياكم يا ناس تحيرنا)، وتم تسجيله يومها في إذاعة البحرين.

(2)

كان مجيد مرهون لما يزل تلميذا في المدرسة الابتدائية، حين كان قبل أن يخلد إلى النوم في كل ليلة يستمع إلى راديو الظهران من مذياع قديم في بيتهم يعمل على البطارية الناشفة، وكانت تلك الإذاعة تقدم الموسيقى طوال الليل والنهار. سيصبح الفتى الذي ولد موهوباً، مدمناً على الاستماع إلى الموسيقى السيمفونية، والتي كانت ثرية في هارمونياتها المتنوعة، رغم انه في تلك السن المبكرة لم يكن قادرًا على استيعاب كل شيء فيها. أثار ذلك فضوله كثيرًا وشكل له تحدياً حقيقياً للمعرفة، وكان ذلك دافعاً له للمثابرة والاجتهاد في دخول العالم السحري للموسيقى. من المدرسة الابتدائية سينتقل مجيد إلى مدرسة بابكو للتدريب، التي كان الانتساب إليها يؤمن مدخولاً، ساعده في البداية على الانتقال مع عائلته من البيت الذي كانوا يسكنونه بالإيجار، حيث انتقلت العائلة إلى منطقة السلمانية لتعيش في بيت أفضل من السابق. هذا المدخول ساعده أيضا في تحقيق رغبته القديمة في اقتناء آلة موسيقية، حيث اشترى آلة الهارمونيكا عام 1959، ومعها اشترى كتابا لكي يرشده في تعلم كيفية العزف عليها. الاستيعاب النظري للدروس لم يكن صعباً بالنسبة له، لكن كيفية تطبيق تلك الدروس كانت المشكلة، خاصة وأن معرفته باللغة الإنجليزية آنذاك كانت محدودة، مما أوشك أن يصيبه باليأس، لأن محاولاته الأولى في تعلم النوتة كانت فاشلة. قرر أن يتغلب على ذلك بتعلم العزف وفقاً لسمعه، فكان يخرج ليلاً إلى ساحل البحر خلف قصر القضيبية، لكي يعزف ما يعتمل في صدره وعقله، وكان منظر القمر وهو يتلألأ في أمواج البحر الراقصة يثير أشجانه. الفتى المنذور للإبداع، سيصبح منذورًا للنضال أيضا، في ذلك الزمن الجميل الذي كان المبدعون لا يجدون أنفسهم إلا في الانحياز لقضية شعبهم، وللنهج الثوري التقدمي المعبر عن التوق للحرية. ففي ليلة من تلك الليالي سيلتقي مجيد بواحد من الشباب الذين كانوا يدرسون معه في مركز التدريب المهني في بابكو لكنه يسبقه بفصل واحد، وهو حسن علي محمد المحرقي، وكان آنذاك يسكن في بيت والده في الحورة، فأحس بألفة وقرابة تجاهه، وبسرعة تطورت علاقة الشابين، فأخذ مجيد يزوره في بيت والده بصورة منتظمة، حيث يقضيان الوقت في نقاشات ودراسات عديدة، كانت فائدته منها، كما يروي، كبيرة جدا. سيقوده ذلك إلى قراءة روايات ومؤلفات جورج حنا وسلامة موسى ومحمد مندور ومكسيم جوركي، وكان لروايات وقصص هذا الأخير أثرها العميق جدا في نفسه، لأنه وجد في شخوص هذه القصص تجسيدات حية في مجتمعنا الحقيقي. وبعد حين لم يطل بات مجيد على يقين من أن الميول والتوجهات الاشتراكية أقرب إلى قلبه وعقله. حينها سئل إن كان يرغب في الانضمام لجبهة التحرير الوطني المناضلة من أجل حقوق الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة ولأجل الديموقراطية. يقول مجيد: »بدون تردد أعلنت رغبتي ولهفتي للانخراط فيها«.

(3)

في العام 1961، إذا، انضم مجيد إلى جبهة التحرير، وفي نفس هذا العام طلب منه المرحوم باقر كلبهرام، أن يؤسس فرقة موسيقية للعزف في موكب عزاء مأتم كلبهرام، لأنه كان من أشهر الموسيقيين بين فقراء تلك المنطقة. وبما عهد عنه من حماس شديد وافق مجيد على انجاز هذه المهمة لأنه كان قد بدأ نشاطه الثوري بين الشباب الفقراء من هم في مثل سنه، أو أكبر أو أصغر قليلا، وكلهم من أبناء الطبقة العاملة والعاطلين عن العمل، ومن الرعاع أيضا. في هذه المرحلة بدا يتبلور عنده الإحساس والوعي بالتقاء الفن الموسيقي مع الثورة، وهذا ما عزز موقفه من الموسيقى في منظورها التقدمي وكوسيلة في الارتقاء بذائقة الإنسان وتهذيب روحه. كانت مهاراته الموسيقية قد أخذت في التطور، وبدأت آلات موسيقية أخرى تشده إلى عالمها، فاشترى آلة السكسفون بعد تعرفه على بعض آلات النفخ مثل الترومبت والكلارنيت عام 1961. وحسب المرحوم الفنان أحمد جمال الذي كان يملك متجرا لبيع الآلات الموسيقية والكتب الموسيقية، فان مجيدا كان أول بحريني يشتري هذه الآلة من المحل، كما اشترى أول كتاب لتعلم العزف على السكسفون، وفعل ذلك بدون معلم أو مدرب. وفي العام نفسه قام بتأليف لحن لوحة المأتم، وبشكل عام فقد سجلت هذه الفترة انطلاقة له في التأليف الموسيقي، وكذلك في العزف على السكسفون بموسيقى الجاز والأغاني من مختلف الأنواع. إضافة إلى ذلك انضم إلى أسرة هواة الفن في أواخر عام 1963 ولمدة ستة أشهر، وشارك معها في عدة حفلات أقامتها في عدد من النوادي والمناسبات، ولكن عضويته فيها لم تطل بسبب بعض الخلافات، ليصبح بعد ذلك واحدا من مؤسسي فرقة الأنوار، والتي كان لها في ذلك الحين نشاطات بارزة. تشكلت الفرقة عمليا من فرقتين واحدة للموسيقى الشرقية بقيادة أحمد فردان وتدريب عيسى جاسم، والثانية للموسيقى الغربية، وهي أول فرقة موسيقية في البحرين وربما في الخليج بأسره أعضاؤها بحرينيون، وكانت الفرقتان تعملان بصورة مستقلة في الاحتفالات العادية، ولكنهما تعملان معا في المهرجانات. سيحل العام 1965، عام الانتفاضة العمالية ضد الاستعمار وتعسف شركة النفط. ويرى مجيد أن هذه الانتفاضة شكلت وحدة بين النضال العمالي والحركة الطلابية في المدارس، خاصة في الثانويات. كان مجيد العامل يومذاك بين من ساهموا في هذه الانتفاضة العمالية، في المظاهرات وكذلك في إلقاء الحجارة، ووضع الكمائن ضد الشرطة، وفي احد الأيام التي كان فيها مجيد عائدا من مظاهرة عمالية وطلابية مشتركة، اختلى به احد رفاقه ليبلغه توجيها بعدم الخروج بعد اليوم في المظاهرات. وعندما سأله مجيد عن السبب، قال له بالحرف الواحد: لا نريدك أن تنكشف الآن.. تنتظرك مهام خاصة.

(4)

المناضل الذي طلبوا منه أن يستعد لمهام خاصة، سيغدو بطلا من أبطال النضال ضد الاستعمار وفي سبيل الاستقلال والحرية.
في العام 1966، وفي الذكرى الأولى لانتفاضة مارس 1965 سيشترك في عملية جريئة بموجبها سيشل جهاز القمع الاستعماري بقيادة بوب ومساعده أحمد محسن، حينما انفجرت بهما سيارتاهما.
بعد انتفاضة 1965 وبعد سقوط الطاقم الأمني الاستعماري السابق وهروب بنيامين بنز بمرتبات الشرطة إلى خارج البحرين، سيجلب الانجليز طاقما جديدا بقيادة إيان هندرسون ونائبه شور وغيرهما من صغار الضباط المتبقين من الطاقم القديم.
بشكل عام كانت المهام والأعباء التنظيمية قد ازدادت على عاتق مجيد في تلك الفترة، وبرغم الظروف القاسية والمسؤوليات الحزبية الكبيرة فإن هذا لم يوقف نشاطاته الموسيقية، بل جعله أكثر حماسا لها.
أخذت ثقافته الموسيقية والفنية في التطور والتوسع، وتحسنت مهاراته في العزف على السكسفون، حيث راح يعزف الألحان الفرنسية العديدة والتي وسعت ذخيرته الفنية، وكذلك الألحان الأفريقية، واللاتينية الأمريكية، والإنجليزية، وعلى وجه الخصوص ألحان أغاني الخنافس - البيتلز والرولينجستونز، والأسبانية، والروسية بالرغم من أنه لم يتمكن من مواصلة دراسة نظريات الموسيقى حينها بصورة منهجية، كما استمر كذلك تأليفه للألحان التي يعزفها في موكب عاشوراء.
وفي عام 1967 جرى تداول، وللمرة الأولى، كلمات نشيد: طريقنا أنت تدري، شوك ووعر عسير.
ورغم أن مجيدا لم يحصل على النص الكامل للنشيد، لكن مطلعه وأبياته الأولى لفتت نظره فقام بتلحينها وتحفيظ أعضاء خليته الحزبية لحن تلك الكلمات دون أمل في تحقيق تلحين نشيد كامل.
هذا النشيد سيجري إثراء كلماته، بعد ذلك بعدة سنوات بإضافات ثرية جدا من قبل المناضل والشاعر أحمد الشملان، كما أن الفنان سلمان زيمان أضاف إليه، في مرحلة لاحقة، أبياتاً أخرى.
والنشيد متوفر الآن في توزيع موسيقي جميل وضعه المايسترو خليفة زيمان، وأدته مجموعة من الأصوات الجميلة الرجالية والنسائية من عناصر فرقة »أجراس«، مطعمة بأصوات شابة جديدة، وقدم لأول مرة بتوزيعه الجديد، في الحفل المهيب الذي أقامه المنبر التقدمي في عام 2005 في فندق هوليداي إن، »كراون بلازا« حاليا، في الذكرى الخمسين لتأسيس جبهة التحرير.
في عام 1967 أيضا وضع مجيد لحن »الذكريات« الذي حقق نجاحا كبيرا عند الناس آنذاك، مما شد من همته وشد عزيمته، ومن جهة أخرى، أخذت شهرة فرقة »فرسان العرب« التي كان مجيد يعزف ضمنها يومذاك تزداد بين الناس، وبدأت بعض الفرق الشبابية التي صارت تقلدها تظهر إلى الوجود، ولم تبخل الفرقة بتقديم يد العون والمساعدة لها.

(5)

في العام 1968 شن جهاز الأمن البريطاني بقيادة يان هندرسن حملة اعتقالات انتقامية في صفوف مناضلي جبهة التحرير، كان هدفها الإجهاز عليها نهائياً، وشملت الحملة العشرات من المناضلين، واستمرت حتى عام 1969، وفي ٨ فبراير حضر إلى بوابة مصنع التكرير حيث كان يعمل مجيد مرهون ضابط المخابرات البريطاني شور بمعية المحقق يوسف إسحاق، وتسلماه من أيدي رجال الأمن الإنجليز في بابكو، حيث نقل إلى قسم التحقيقات في القلعة. ظل أمر التخطيط والتنفيذ للعمليتين التي اشترك فيهما مجيد سراً منذ عام 1966، عام تننفيذها حتى العام 1969، حيث استطاع جهاز الأمن الإمساك ببعض الخيوط التي قادت إلى التعرف على دور مجيد في تنفيذ إحداهما. وفي 23 مارس 1969 اقتيد إلى محاكمة صورية لم تدم أكثر من نصف ساعة، حيث صدر الحكم الذي أعده هندرسون سلفاً، والذي تضمن عقوبتين إحداهما السجن المؤبد والثانية السجن لمدة 10 سنوات. بعدها بيومين ربطوا جسم مجيد ويديه بسلاسل كبيرة وثقيلة من الحديد بالإضافة إلى رباط الكفين، وربطوا السلاسل بالشاحنة التي أركبوه فيها وكانت مكشوفة، حيث تحركت من القلعة إلى ميناء البديع، ومن الشاحنة تم نقله إلى زورق خفر السواحل الخاص بجزيرة جدا في يوم عاصف صادف، كما يتذكر مجيد، السابع من محرم. لأول وهلة بدت له جزيرة جدا مخيفة لأنها تختلف تماماً عن جزر البحرين، ففيها الهضاب الجبلية والكهوف ما يثير الرعب في قلب الوافد الجديد، وفور وصوله الجزيرة تم إدخاله على مدير السجن، فرنك سميث، في مكتبه، الذي حدثه بخشونة وعنف، ثم أمر بتركيب القيود الحديدية (الصنقل) على قدميه ويتكون من حلقتين بوزن ثقيل مع سلسلة يحملها بيديه أو يربطها بخاصرته. وبعد ذلك تم إدخاله في الزنزانة الانفرادية رقم 26 وتم إقفال بابها عليه، وهناك اكتشف أن رفيقه المناضل حسن علي المحرقي كان في الزنزانة المجاورة حيث كان يقضي عقوبة السجن لمدة ٦ سنوات لأن المطبعة السرية لجبهة التحرير صودرت من منزله. قضى الرفيقان ما يقارب ٤ سنوات في السجن الانفرادي وفي عزلة عن العالم، حيث لم يكن يسمح لهما بالاختلاط بأي من المساجين. يقول مجيد إنه من تلك الزنزانة صمَّم على ألا يدع مجالاً لليأس أو الخوف من الموت في السجن أن يتسلل إلى نفسه. ويتذكر أن تلك الفترة كانت رحلة من المعاناة حيث ان رجال الأمن كانوا يتعمدون استفزازه يومياً ليل نهار، لكنه صمد بوجه ذلك بمساعدة حسن المحرقي الذي كان يعضده ويرفع معنوياته، خاصة وأن الأخبار كانت تتوارد إلى السجن من أن الحملة على جبهة التحرير أخفقت في القضاء عليها كما كان هندرسن يقول، وان الخلايا تعيد تنظيم صفوفها، وأن نشرة »الجماهير« السرية قد عاودت الصدور رغم مصادرة المطبعة. مما قوى من عزيمة مناضلي الجبهة السجناء في جدا.

(6)

في السجن سيخوض مجيد معارك فك العزلة المفروض عليه، وسيسعى جاهدا للحصول على الكتب التي كانت ممنوعة عنه. بعد حين تعرفت إدارة السجن على مهارات مجيد العملية، كونه خريج معهد التدريب في »بابكو«، وستدفع به إلى العمل منذ عام 1972 بمعية سجين أجنبي، وهو سيلاني يحمل الجنسية البريطانية، اسمه جوني بيد تشمان، كان يعمل في السجن كهربائيا ومصلح مواسير المياه ومشغل مكائن الكهرباء. كان هدف مدير السجن تسليم هذه المهام لمجيد بعد انقضاء فترة سجن السجين السيلاني، ويروي مجيد انه تعلم تلك المهن بشكل جيد، حيث كان يقضي النهار في ممارستها بعيدا عن بقية السجناء، وفي المساء تتم إعادته إلى الزنزانة الانفرادية. ترافق ذلك مع نجاحه في الحصول على نسخة من القرآن الكريم مع تفسير الجلالة والكتاب المقدس وكتاب آخر باسم »ثورة الحسين«، الذي اعتبره مجيد يومها كتابا أثيرا لأنه يفسر قضية الإمام الحسين تفسيرا سياسيا، وأدت دراسة الكتاب إلى رفع معنوياته لما تضمنه من دروس عظيمة في النخوة والشجاعة واستخدام العقل. وفي عام 1973 نجحت محاولات مجيد في إقناع مدير السجون بالسماح له في الحصول على الكتب الموسيقية لدراسة الموسيقى في وقت الفراغ، الذي وافق بعد تردد، وما إن أصبحت هذه الكتب في حوزته حتى بدأ الدراسة الجادة والمكثفة في تعلم الموسيقى مستفيدا من مناخ العزلة الذي كان فيه، مستوحيا من خبراته الموسيقية منذ طفولته ومستعيدا كل تجاربه السابقة ومدققا فيها بعناية. حيث قام بإعادة تأليف وصياغة »الذكريات« بالنوتة الموسيقية، وهي على الرغم من كونها ليست تجربته الأولى في التأليف إلا انها كانت نقطة للانطلاق في المعركة الموسيقية، كما قام بتأليف مقطوعة »الحنين« وبعد قراءته المتأنية لرواية أحدب نوتردام جاءت مقطوعة »أزميرالدا« معبرة عن تأثره العميق بأعمال فيكتور هيوجو، خاصة وأن توجهاته الموسيقية الرومانتيكية كانت تسير في اتجاه نفس توجهاته في القصة. كما كان لقراءته لأعمال مكسيم غوركي عميق الأثر في توجهاته السياسة والفنية بصورة كبيرة كما تأثر بموسيقى كل من هايدن وموتسارت وبيتهوفن على وجه الخصوص، والذي وجد فيه ضالته كمؤلف موسيقي، فهو كما يقول مجيد كان مثله موسيقيا أصما علم نفسه بنفسه، وصادفت هوى في نفس مجيد التوجهات الثورية لبيتهوفن الذي كان يرفض سلطة الأباطرة الأرستقراطية المتمرغة في النعيم على حساب بقية البشر، ويمقت الزينة والحذلقة والتزلف، وهذه صفات وجد انعكاساتها في ذاته وصداها في حياته. من أعمال بيتهوفن درس مجيد جيدا سيمفونياته، لكن عدم معرفته الكافية بأصول الهارمونية، جعله يواجه صعوبات جمة في فهمه من زوايا عديدة. كما تعرف على المدرسة الرحبانية جيدا، وأدى العديد من ألحانهم، واستفاد منهم في العديد من أعماله الموسيقية التالية ومن ضمنها عمله الكبير الأول: »جزيرة الأحلام« التي تمثل تصويرا لأحلام العديد من السجناء وطموحاتهم وآمالهم وآلامهم، وكذلك تصوراتهم ومن ضمنهم هو شخصيا.

(7)

في العام 1974 سيلتقي مجيد مرهون بالدكتور عبد الهادي خلف الذي كان قد اعتقل في يونيو من ذلك العام ، مع مناضلين آخرين ، وأحضر إلى جدا ، الذي اقترح عليه أن ترسل بعض النماذج من أعماله الموسيقية إلى السويد لتقييمها من الناحية الفنية . وبالفعل أعد مجيد بعض أعماله من مختلف المستويات، حيث تم تهريبها من السجن، ومن ثم أرسلت إلى السويد. وجاء التقييم مدهشا ليس بالنسبة إلى مجيد وحده ، وإنما بالنسبة إلى سجانيه والى هندرسون شخصيا . الأكاديمية الملكية السويدية التي اطلع مختصوها الموسيقيون على الأعمال أشادت بتمرس مجيد في الكونتريوينت التي تجعله في مستوى المحترفين. كانت دراسته المتعمقة لعدد من أعمال يوهان سباستيان باخ في مجال الالبوليفونية قد جعلته متمرسا ، حيث قام بتأليف عدة أعمال من نوع الكانون والفيوجات وهما من أعقد أنواع التأليف الموسيقي اليوليفوني في العالم . سيتوالى اعتراف العالم بمجيد مرهون ، مناضلا وفنانا . في الثمانينات وفي نطاق واحد من اكبر الحملات التي نظمتها جبهة التحرير واتحاد الشباب الديمقراطي للمطالبة بإطلاق سراحه ، ستعزف فرقة الإذاعة السيمفونية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية مقطوعتين موسيقيتين له هما :»ذكريات «و »نوستالجيا« ، وستطوف المقطوعتان العالم التقدمي كله ، وتلفت الانظار إلى موهبته ومعاناته . وفي مهرجان الشبيبة العالمي في موسكو عام 1985 ستوقع آلاف البطاقات الاحتجاجية التي تطالب بإطلاق سراحه من قبل ممثلي حركة الشباب الديمقراطية المعادية للاستعمار في العالم كله. سيكتب مجيد عن تلك اللحظة : »لأول مرة في حياتي عرفت حلاوة النصر الكبير حيث كنت اعتبرت نفسي ممثلا لجبهة التحرير الوطني بكل ما في الكلمة من معنى« . كانت ردة الفعل لدى هندرسن تجاه ذلك عنيفة ، وأحضره إلى القلعة مهددا إياه بمحاكمة عسكرية ، لكن معنويات مجيد كانت قد بلغت الذرى في تلك المرحلة ، بعد أن تيقن أن العالم التقدمي كله ، بفضل جهود رفاقه ، يقف معه ، لذلك قابل تلك التهديدات بتحد ، لا بل وبسخرية . في٣١ يونيو 1981 توفيت والدته التي كانت سنده القوي في محنته ، وقدر رجال الأمن أن حالته النفسية بعد وفاتها مناسبة لابتزازه وترهيبه ، فأحضر إلى مكتب التحقيقات ، ومن جديد بدأوا يطلبون مني التوقيع على ورقة مضمونها أنه لا يحتاج إلى مساعدة الأحزاب اليسارية والتقدمية في العالم ، التي كانت ترسل رسائل الاحتجاجات والمطالبة بالإفراج عنه ، وهددوه انه سيعاقب في حال وردت أية احتجاجات أخرى في المستقبل ، وكان جوابه أن احتجاجات الأحزاب والمنظمات في العالم هي مشكلة السجانين وليست مشكلته ، وعليهم أن يتحملوها بأنفسهم ، فهو معزول في سجنه عن العالم ولا يد له في ما يدور خارج السجن.

(8)

سيكون لرحيل والدة مجيد أثره الكبير في نفسه، فقد تدفقت مشاعره بالحزن على شكل أعمال موسيقية لافتة، ومن بينها: »أغنية الراحلين«، التي ألفها، بعد عشرة أيام فقط من رحيل أمه، كعمل موسيقي مميز من نوع الكنتاتا شبه الدينية لصوت الصولو سوبرانو، على أن يكون الكورس مشتركا من الرجال والنساء وكذلك الأطفال من الجنسين، ومع أوركسترا السيمفونية. كما وضع عملا موسيقيا آخر مستوحى من هذا الفقد: »حرقة القلب« بعد وفاة أمه بخمسة أو أربعة أيام، حيث كتبه كاملا في جلسة واحدة للفيولين المنفردة، وهو اللحن الذي عزفته لاحقاً الدكتورة ويري دين بروفيسورة النشاطات الموسيقية في جامعة أوتاه الأمريكية، وعلم مجيد من الملحق الثقافي الأسبق للسفارة الأمريكية أن هذه المقطوعة الموسيقية حققت نجاحا كبيرا عندما قدمت في الولايات المتحدة الأمريكية. يقول مجيد إن حصيلته من الأعمال الموسيقية حتى عام 1985، كانت قائمة على أساس وجهة نظر نقدية قوية وصارمة في نقد ذاته ومحاسبتها حسابا عسيرا، حيث أكمل السيمفونية الثانية: »دعوة إلى الفرح« في يوم عيد ميلاده الأربعين بتاريخ 17أغسطس1985. كما قام بتأليف الكثير من المقطوعات المنوعة والتي استخدم فيها المقامات الشرقية. كان قراره قد أصبح حازما بأن مستقبله في الموسيقى وحدها، وليس في أي مجال آخر، لذلك عكف على المزيد من دراسة الهارمونية والتوزيع الموسيقي، بالإضافة إلى مادة التأليف الموسيقي على أسس علمية صارمة. وتمكن في تلك الفترة من الحصول على مسجل صغير وأشرطة كاسيت مسجل عليها بعضا من أعمال تشايكوفسكي وبيتهوفن وغيرهما، مما أروى شيئا من شغفه الموسيقي وساعده على المضي في مشروعه. حيث قام بتأليف أعمال موسيقية قيّمة، منها صوناتة البيانو، والرباعية الوترية الأولى، وعمل على انجاز سيمفونيته الثانية التي تفادى فيها عيوب سيمفونيته الأولى. وفي نفس تلك المرحلة قام بتأليف الرباعية الوترية الثانية والتي عزفت لاحقاً على يد فرقة رباعية أدنبرة الوترية في يوم الموسيقى العالمية عام 1999 محققةً نجاحا كبيرا. ستتحول جزيرة جدا الى مصهر للتجارب الابداعية والفنية، وسيقوم مجيد ومنذ السبعينات بتدريس الموسيقى لبعض المساجين، حيث قام بتكوين فرقة موسيقية متواضعة بعد توفر بعض الآلات الموسيقية مثل الهارمونيكا والميلوديكا والكلارنيت، وقامت مجموعة الدارسين بصنع جيتارات من »التنك« تولى مجيد نفسه شدها باللحام موظفا مهاراته اليدوية التي اكتسبها من عمله في »بابكو«. كما قامت المجموعة بإصلاح عود مكسور تم انتشاله من بين أنقاض السجن في المنامة، حيث تولى هذه المهمة خليفة الوردي، ومن ثم تعلم على هذا العود العزف وقراءة النوتة، ومثله فعل إبراهيم سند سلطان وغيرهما من طلبة الموسيقى بإشراف أستاذهم مجيد. وبعد حين ستقوم الفرقة بإحياء عدة حفلات ناجحة في السجن، حضر مدير السجون إحداها بعد أن وجد نفسه أمام الأمر الواقع.

(9)

ضم سجن جدا في تلك الفترة مجموعة كبيرة من الكتاب والشعراء والفنانين، ومن أبرزهم قاسم حداد وعلي الشرقاوي وعبدالله علي خليفة وخليفة اللحدان وعلي الستراوي وإبراهيم بشمي، ومن الموسيقيين: إبراهيم سند وخليفة الوردي، ومن الرسامين: عبدالله يوسف وخليفة اللحدان، ومن الخطاطين: أحمد سرحان، ومن الفنانين الذين يعملون في النجارة الناعمة والتحف: عباس الإسكاني ومهدي فتيل وحسن بوعلاي وعبدالله حسين - وغيرهم، وبعضهم حقق شهرة واسعة. المصهر الفني والإبداعي الذي تشكل في جدا تعزز أكثر بتوطد العلاقة بين مجيد مرهون وبين كل من أحمد عبدالله سرحان وخليفة محمد اللحدان بعد عام 1987، حيث صهرت الثلاثة صداقة عميقة. كان خليفة شاعرا ورساما، أما أحمد فقد بدأ يتعلم الخط العربي، وأخذ مجيد في تشجيعهما من خلال المناقشات والحوار في القضايا الفنية. حفزهم ذلك المناخ على تكوين مدرسة، أطلقوا عليها اسم: مدرسة جدا الفنية، وقام خليفة اللحدان، متأثرا بالعمل الموسيقي لمجيد: »جزيرة الأحلام« بوضع سلسلة قيمة من الرسومات عن جزيرة جدا تحت عنوان: »جولة في جزيرة الأحلام«، وهي لوحات تسجيلية لمناظر من جزيرة جدا. وقام أحمد سرحان بخط عناوين بعض أعمال مجيد الموسيقية ومن ضمنها »جزيرة جدا« وكذلك »دعوة إلى الفرح« عنوان السيمفونية الثانية. السنوات الطوال لمدير سجن جدا سميث غيرت فيه بعض الأمور. وبدأ يتلمس أكثر فأكثر معاناة مسجونيه، لا بل وسيظهر شيئا من التعاطف معهم، وستخف قسوته في التعامل معهم، وقام بإرسال ثلاث رسائل على الأقل لمسؤوليه يطالبهم فيها بإطلاق سراح مجيد مرهون وغيره من سجناء المدد الطويلة، لكنها قوبلت بالتجاهل التام. وسرعان ما ضاقت الإدارة العليا منه لما رأته تراخيا في التعامل مع السجناء، خاصة بعد أن شاركهم أحد الإضرابات عن الطعام احتجاجا على سوء معاملتهم، فقاموا بإنهاء خدماته عام 1983. وفي الثامن من يناير 1986 تم نقل مجيد من سجن جزيرة جدا إلى سجن جو عن طريق مكتب إدارة السجون الذي كان يأمل بخروجه من السجن في ديسمبر عام 1985، ولكن أمل المسؤولين في إدارة السجن خاب بسبب رفض هندرسون القاطع للإفراج عن مجيد. رغم الحقد الشخصي الذي كان هندرسون يكنه له، فان مجيد يرى أن نقله إلى سجن جو حمل له بعض الفوائد، بطريقة مكنته من مواصلة العمل على مشروعه الموسيقي، حيث تم وضعه في زنزانة خاصة يستخدمها كمدرسة للموسيقى، وكمكتبة موسيقية مع طاولة خاصة مما سهل عليه الجلوس لتأليف الموسيقى وقتما يشاء، خاصة أن باب زنزانته كان مفتوحاً ليل ونهار. باتفاق مع إدارة السجن قام مجيد بتكوين فرقة موسيقية صغيرة، فاختار مجموعة من السجناء الذين يصفهم بالذكاء عكف على تدريسهم الموسيقى بكل جدية وصرامة، خاصة وان مدير السجون سمح بإدخال بعض الآلات الموسيقية للسجن.

(10)

من خلال المدرسة الموسيقية التي أنشأها في سجن جو، تمكن مجيد مرهون في ما تبقى لديه من سنوات سجنه الطويل من إعداد قائد فرقة بحريني، وعازف فلوت ماهر، وعازف أورجان، بالإضافة لإعداد مدرس موسيقى سعودي. طلبة مجيد هؤلاء تحولوا من مروجي أو متعاطي مخدرات إلى فنانين مهرة، وأصبح لدى السجن فرقة موسيقية ذات كفاءة عالية بشهادة ضباط شعبة الموسيقى وكذلك بشهادة من مدير المعهد الكلاسيكي، ووضع مجيد بعض المؤلفات الموسيقية لهذه الفرقة كما قام بتوزيع العديد من الأعمال الموسيقية لها. وصارت الفرقة تقدم حفلا سنويا في السجن، بمناسبة الإفراج عن السجناء الذين يصدر عنهم عفو في العيد الوطني في ديسمبر من كل عام. في الآن ذاته استمر مجيد في تأليف الموسيقى، حتى تاريخ خروجه من السجن في 26 أبريل 1990، ومن ضمن ما ألف مقطوعات للفلوت مع الجيتار، ومقطوعات أخرى للفلوت المنفرد وهي التي قام الفنان أحمد الغانم بأدائها فيما بعد. ومنذ اليوم الأول لخروجه من السجن أصبح عضوا في فرقة أجراس الموسيقية، وساهم فيها عزفا وتأليفا، ومن ضمن أعماله معها كانت أغنية (حبيبتي) التي قدمت في المهرجان الثالث للفرقة، ومقطوعة (دعوة حنان). وواصل مجيد العمل على انجاز القاموس الموسيقي الحديث الذي كان قد بدأ في جمع مادته منذ عام 1975، وواصل العمل فيه في السجن، حيث أعاد النظر في المجلد الأول والذي يحتوي على إضافات في المداخل والشروح، وعلى وجه الخصوص في علاقة الكمبيوتر بالموسيقى، وأنجزه بعد خروجه، حيث انهمك عليه في الفترة بين1990 - ٢٠٠٢، وسيصدر القاموس قريبا في تسعة مجلدات ضخمة عن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة. وتوالت مشاركات مجيد في الحفلات الموسيقية داخل وخارج البحرين، وقدمت العديد من مؤلفاته الموسيقية من قبل فرق موسيقية أجنبية مثل الحركة الأخيرة من الرباعيات الوترية الأولى، والتي أدتها فرقة بيلكن التركية، وهي فرقة رباعية نسائية، وكذلك الرباعية الوترية الثانية والتي أدتها فرقة رباعية أدنبرة البريطانية، وكلتا الرباعيتين حققتا نجاحا، حيث امتدحتهما الصحف في البحرين وفي بريطانيا وتركيا ومجلة الجمعية الدولية للموسيقى المعاصرة عام 1999. وفي يوم الاحتجاج على شن القوات الأمريكية الحرب على العراق، شارك مجيد في الاعتصام الذي نظمه المثقفون والفنانون والأدباء البحرينيون أمام مبنى الأمم المتحدة في البحرين بتقديم بعض معزوفاته. منذ نحو أسبوعين عندما كان مجيد مرهون في وحدة العناية بالقلب بمستشفى السلمانية، نائما لأيام متواصلة تحت التخدير للتغلب على آثار احتباس السوائل في الرئة، كنا نطل عليه في نومه المؤقت، لكن الطويل، ونسترجع مسيرته الفذة التي كتبت منها بعض الشذرات في هذه المقالات. حين رآني بعد أن رفعوا عنه التخدير هتف بصوته الجهوري الذي كان يسمعه كل من في الممر: »نحن سقينا الفولاذ«! ذلك هو عنوان رواية شهيرة من الأدب الثوري العالمي، ما زال صداها يتردد في ذاكرته، هو الذي سقى الفولاذ حقيقة لا مجازا. تنتهي هذه الحلقات، لكن الحديث عن مجيد لم ولن ينتهي.

****

الموسيقار مجيد مرهون... رئتنا التي نستنشق بها حبا وانسجاما

خالد المطوع

الوسط الخميس 27 ديسمبر 2007م

لم يكن لقب «مانديلا البحرين» الذي أطلق على الموسيقار مجيد مرهون (شفاه الله) هو ضمن إطارالمجاملات والتلميعات الشائعة في مجتمعنا المحلي وحتى في منظومته الإقليمية، ولم يكن تشبيها طريفا يشير إلى ما يحظى به المناضلان من سمرة وتشابه في لون البشرة، فهذا اللقب النضالي المشرق بالتضحية والمحبة ناله واستحقه المناضل والموسيقار مجيد مرهون بجدارة واستحقاق لكونه أتى متطابقا نوعا ما مع التجربة والخبرة الإنسانية النضالية التي مرّ بها المناضل العالمي والزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، وإن اختلفت السياقات والمحاور الزمكانية وأبعاد الصراع المتعددة!

ولعلّ المطلع على منطلقات ومخارج كلتا التجربتين النضاليتين بجذرهما الإنساني الواحد سيجد أنهما تندغمان في ما تنبجسان به من حب وألفة أسطورية سطرت صفحات ناصعة من تضحيات خالدة، فعلى رغم قسوة الأوضاع وسوداويتها المتحجرة كأنما هي عصية على التفتيت فإنْ طاقة الانبجاس الأسطورية تلك أعطت لمفردات النضال السياسي مرجعيتها العليا بما تتضمنه من حراك اجتماعي وحقوقي مشروعي، كما هي أنجزتا بتفانٍ أوشك أن يكون معجزا الحقيقة النضالية السرمدية بما طرحتاه من بديل متسامي في معاركه عن ما هو مفروض عليه قهرا وقسرا من قوالب اجتماعية وسياسية واقتصادية متخلفة.

ما نعرفه ويعرفه الكثير من أنّ تجربة مرهون النضالية بمحصولها التراكمي لم تؤسس أعرافا وشعائر للحقد الطائفي والإثني، ولم تستثمر في المزايدة والابتزاز، ولم تتدنَ إلى مستوى تصفية حسابات انتهازية تندلع بين الحلفاء أكثر مما هي مندلعة بين الخصوم وذلك كما شاهدنا في العديد مع التجارب وفي الحفلات والأماسي «النضالية»!

فما هو الانطباع الذي ستخرج به عزيزي القارئ أمام ما يخلب ويعجز الإدراك عندما تقلب الصفحات النضالية لمجيد مرهون ابن الفقراء الكادحين؟!

فمرهون لم يخرج من ما قضاه في زنزانته من عقدين ونيف ودفع ثمنه غاليا من سنين عمره بعدما اتهم بتنفيذ عملية بطولية شلت جهاز القمع والتنكيل والاستعباد حينها وأفقدته رشده، لم يخرج مرهون من ظلمات الزنزانة تلك مشبعا بالأحقاد والكراهات لجلاديه وطاعنيه وقامعيه، لم يفخخ دماغه وجسده ويفجره في جموع الأبرياء على رغم فيوض الألم والمعاناة، لم يبن مجده النضالي من تسخير واستغلال الغير، وضرب الجموع والحشود ببعضها بعضا كي ينل قطافا مريئا، لم ينشأ حاقدا على الأثرياء والإقطاعيين على رغم كونه فقيرا ابن فقراء، وأحد الضحايا الشرعيين للتزاحم البربري على جميع القصعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية!

لم يحشُ مرهون غطاء تقدميا ومعاصرا بخثارة الرجعية ومخلفات الوعي واللاوعي الجمعي، فمرهون كان تقدميا وسباقا ورائدا في مجتمعه وعصره ليس بما يتبناه من أطر أيديولوجية وما يتعلق به من أفكار ومشاريع اكتملت ولم تكتمل وإنما ابتدأت وسارت على سليقة الحب والوئام والتعلق بالجميع فكان بذلك الأكثر تقدمية وسلفية في الوفاء لعقيدة وفطرة الحب والتسامي، وهو قد حقق بذلك نبوغ الروح في الوقت الذي كان النفوق نصيب أرواح الساسة والمثقفين ورجال الدنيا والدين وتجار ومضاربي الشك واليقين!

الموسيقار مجيد مرهون، والذي ما انقطع عن التأليف الموسيقي في زنزانته على أكياس الإسمنت في الوقت الذي كانت تدرس فيه مؤلفاته بالاتحاد السوفياتي ويشاد بها في الكثير من الحواضر العالمية المتقدمة بحسب شهادة معاصريه في تلك الفترة، جسد في نضاله وفي سكونه روح الموسيقى وأبدع فلسفاتها ليس في براعة مجردة تحترف استخدام الأدوات الموسيقية والتأليف الموسيقي وإنما في تبدعه في إضفاء روحية الانسجام والنظم والترابط للأجزاء في مكون بديع ومتناسق، وحتى في ما تضفيه الخبرة الإنسانية المعاشة والمبدعة في شتّى صنوفها من مضامين وقيم راقية على هذا التكوين الموسيقي البديع!

المبدع مجيد مرهون لم يكن هاجرا ومهجورا في أعالي الأبراج العاجية كالكثير من النخب، ولم يكن يعاني مما زعم المبدعون معاناته من اغتراب مفرط في الوعي الجمالي وفي حجم الوعي النخبوي الذاتي بالمثل الفكرية والثقافية والقيمية، بل إن مرهون كان حاضرا ومشاركا في جميع الفعاليات المجتمعية الراسخة ومنها مشاركته بما يجود به وعيه الجمالي والفكري والثقافي من إبداع، وذلك بمحض إرادته في المواكب والشعائر الحسينية بالبلاد، وكأنما هو بذلك ينمذج استحالة أنْ ينفصل المبدع عن مجتمعه ووسطه البيئي والثقافي مهما تكن مقوماته وأوساطه، فالنهوض إنّما يكون بالنهوض بهذا المجتمع لا نفضه لكأنما هو غبار!

مجيد مرهون للأسف كان وما زال ضحية من الضحايا الكثر الذين لم يتم تأهيلهم من آلام وجروح وملمات المرحلة السوداء السابقة، وهو مازال مع كل ذلك ينزف وينز في الساحات والمنصات محبة وعرفانا ووئاما!

إنْ كان المبدع والموسيقاروابن البحرين البار مجيد مرهون ثروة إنسانية لا تعوض بثمن ومورد قومي لا يمكن أن يدرج في الموازين والحسابات والمؤشرات، فإننا وإن كنا ندعو إلى أن تتشرف الدولة بإيفاء هذا الإنسان العظيم أبسط حقوقه وإن كان ذلك بوسائل وأساليب كلاسيكية معتادة مثل تسمية «مهرجان البحرين الدولي للموسيقى» بـ «مهرجان الموسيقار مجيد مرهون الدولي للموسيقى»، فإننا نخشى أن يشكل ذلك إساءة لهذا الرمز الكبير وخصوصا مع ما شهده المهرجان الأخير من قصور تنظيمي فادح وتغليب فاضح لبذخ الشكل وزخرفه على حساب المضمون والقيمة التواصلية الاجتماعية لمهرجان دولي كهذا، فمجيد مرهون ليس بتمثال مبهر قشرة ولكنه فارغ ومجوف محتوى، ويمكن أن يشكل تكريم مرهون رسميا بحسب الأعراف المتبعة إساءة بالغة له خصوصا مع عدم الحسم في المعركة الوجودية بين القطاع المؤسساتي والإقطاع القروسطي في مذابح الفن والثقافة!

لذلك فإننا ندعو منظمات المجتمع المدني ذات النفس الحرة والمستقلة والأبية أن تتفرد بإيجاد جائزة تكريمية وتطلق مشروعا رائدا باسم الموسيقار مجيد مرهون لتكريم الإبداعات الموسيقية المحلية في مختلف صنوفها ومدارسها وتياراتها المتنوعة.

وإن كان من عتب حار نوجهه لمجيد مرهون على سرير المرض فهو ربما بسبب تعذيب رئته البيضاء بسواد الدخان والنيكوتين، بحسب ما جاء على لسان زوجته في إحدى الصحف المحلية، فرئته ليست له وحدَه، وإنما رئته هي رئتنا الموسيقية جميعا التي نستنشق بها حبا وانسجاما أبيض!
فيا والدي الغالي شفاك الله وعافاك ألا تكفينا أدخنة وملوثات الطائفية والأحقاد الجاهلية المغرقة فضائنا الأكثرعمومية حتى تدخل النيكوتين العابث إلى رئتك/ رئتنا التي لم تبق لنا إلا هي مأوى دافئا لفلذات أرواحنا لنستنشق بها ليمون المحبة الغراء والانسجام التليد؟

****

الحرية مادية أم ذهنية

الدكتور وليد الرجيب

9 يوليو 2007

صديقي موسيقي ساخط ومتبرم من القيود والحواجز, من المنع والرقابة ومن الأغنية الهابطة, من كل شئ, كلما سألته لماذا أنت متوقف عن التأليف؟ يجب بسخط وضيق: "أشعر بقيود التخلف تقيد إبداعي, ولم يعد أحد يهتم بالفن الرفيع والموسيقى الراقية", فقلت له سأقص عليك قصة فنانين موسيقيين, وكيف استطاعا تحدي القيود والاستمرار بالحلم.
القصة الأولى هي قصة الموسيقار الصديق البحريني مجيد مرهون, كان مجيد عازف سكسفون في الستينيات من القرن الماضي, يعزف بالحواري والأفراح والمناسبات العامة, ثم أعتقل بتهمة مقاومة الاستعمار البريطاني هو ومجموعة من المثقفين البحرينيين, وسجنوا بجزيرة "جدا" مقابل البديع, وتعرض مجيد للتعذيب حتى فقد سمعه, وبعد فترة زمنية أطلق سراح بقية السجناء السياسيين وبقى مجيد أربعة وعشرين عاماً لوحده في الجزيرة, أي أقل من فترة اعتقال نيلسون مانديلا بثلاث سنوات وهي تعتبر أطول فترة لسجين سياسي, والحمد لله أن الأوضاع قد تغيرت الآن في البحرين, وأصبحت الأجواء فيها أكثر ديمقراطية.
كان مجيد يلحن في وحدته, ويسجل النوت الموسيقية على القراطيس المتوفرة لديه, وعلى علب السجائر, ومن ضمنها مقطوعة أسماها "جزيرة الأحلام", كان يجلس على الشاطئ الصخري المرتفع كل ليلة ويتأمل منطقة "البديع" بأضوائها ونخيلها, ويتخيل أنه يطير إلى هناك ويعيش بعقله بين أهله وأصدقائه وأحبابه, وفي فترة من الفترات استطاع تهريب هذه الأوراق المتناثرة, وأوصلها أصدقاءه إلى الأوركسترا الألمانية أو الهولندية, وتعرف العالم أجمع على الموسيقار مجيد مرهون, ورغم أنه كان أصماً ومحجوزاً في جزيرة صخرية, إلا أن ذلك لم يمنعه من الحلم والإبداع والشعور بالحرية.
وعندما قابلته في الثمانينات بعد إطلاق سراحه, سألته كيف استطعت التأليف وأنت كنت بظروف كهذه؟! أجابني بأنه لم يشعر قط بأنه كان مقيداً بل كان يستمتع بشعور أن السجانين لا يستطيعون تقييد أفكاره وأحلامه, تحداهم وتحدى نفسه وخرج بمفهوم يختلف عن مفاهيمنا للحرية, فالحرية الحقيقية هي ذهنية داخلية, ولا يستطيع أياً كان حجرها.
والقصة الثانية هي لشاب كويتي عرفته طفلاً وعرفت أسرته جيداً, هو حمد الراشد, ولد هذا الطفل بمشكلة في شبكية العين, وهي عائق كبير للبشر, كبر حمد وهو لا يستطيع تمييز الأشياء, أو رؤية طريقه جيداً.
ورغم أن الجميع كان يظن أن حمد سيكون عبئاً على نفسه والآخرين, واكتفى الأهل بأن يكون ولدهم حياً يرزق, ويعيش بينهم, لكن حمد لم يكتف بذلك بل ثابر بالدراسة وتفوق, وحول إعاقته إلى حافز للتميز, فعزف على الاكسيلفون وأجاده, ثم جرب معظم الآلات الموسيقية وتمرن عليها وأجادها, واندفع برغبته لدراسة الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى, وأصبحت لديه مقطوعات بدأ العالم يتعرف عليها, ولتقدير العالم لموهبته وفنه, اختير ليكون في لجنة الحكم في معهد شوبان للموسيقى عندما فاز بمسابقة التأليف العربي عام 2004, وهو من المعاهد العالمية التي يصعب الوصول إليها إلا بموهبة خاصة وعبقرية موسيقية متميزة, أعرف ذلك لأنني زرت هذا المعهد في التسعينيات وتعرفت على أساتذته وإمكانياته, ودون نفسه كأول مؤلف أبرالي كويتي عزفت له فرقة رباعي باند كاس للسكسيفون الألمانية, وشارك بالعزف مع فرق عالمية مثل "ساسا" السويسرية والرباعي الوتري البريطاني, وقريباً سيعزف حمد مع أوركسترا مصاحبة لمغنية سبرانو مقطوعة عنوانها "المحبة والسلام".
للأسف لم تقدر إدارة الموسيقى في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب هذه الموهبة, وعينته حسب ما فهمت محققاً بالتراث الشعبي, لكن هل وقفت هذه الحواجز والقيود أمام تقدير العالم له؟ بالتأكيد لا, فلا يوجد أحد أو ظرف يستطيع منع الإنسان من الحلم والتفكير والإبداع.
يمكن لسجين خلف القضبان أن يكون حراً أكثر منا, والعكس فيمكن أن نكون في المدينة الفاضلة ونشعر بالقيد, لا شئ يستطيع تقييدنا إلا نحن أنفسنا, وسواء ظهر الإبداع الآن أم لم يظهر, أو تمت مصادرته, لا يوجد شئ بالدنيا يستطيع إيقافه إطلاقاً, فالقيد المادي أهون بكثير من القيد المعنوي والذهني.
وهذا ينطبق على التربية الأسرية والمجتمعات والدول, الكل يمارس فنون الوصاية الفكرية, الكل يتعامل مع الإنسان كملكية خاصة, دون اعتبار لإنسانيته وحقه في العيش حسب اختياراته الخاصة به, هم يرون مصلحتك وأنت..لا خيار لك, ماذا تلبس, ماذا تأكل, ماذا تقرأ, أو بماذا تفكر, هم يتكفلون بك.
علمياً, العقل الباطن الذي تتكون فيه القناعات والعادات الذهنية, وبالطبع الخيال والإبداع وأرشيف الذكريات, هذا العقل لا يقبل التلقين والقسر الذهني, هو يقبل فقط ما يناسبه ويناسب مصلحة الإنسان وقيمه الخاصة, فالتربية المعتمدة على الوعظ والتوجيه المباشر لا تفيد بالتربية, مثل "أدرس, أدرس, أدرس", هذه يرفضها العقل, لكنه يقبل الخيارات أكثر من الأمر المباشر, ويختار ما يراه مناسباً له, ولذا فالتربية الإيجابية تبقى كجوهر مغروس في أذهان أبنائنا, أي محاولات لتغيير هذا الجوهر لن تفيد, إلا بقناعة الشخص.
وهذا ينطبق على المجتمعات والثقافات السائدة في مكان وزمان معينين, وكذلك على القوانين التي تخالف جوهر الإنسان وقيمه في الحرية والعدالة والسلام, وهي قيم بشرية مشتركة بين كل الشعوب والثقافات, وتشترك بها كل الديانات والتعاليم.
فيا صديقي الموسيقي الأمر منوط بك, أنت تختار أن تكون حراً أم مقيداً, قال غاندي لأتباعه بما معناه: "الاستعمار في داخلكم فقط".
أهداني النحات الكويتي العالمي سامي محمد تمثالاً رائعاً في تصميمه ومعناه, وهو عبارة عن رجل مكمم الفم, وهو أحد أشهر أعماله, ونحت على قاعدته إهداء يقول فيه: "إن لم تكن حراً في داخلك, فأنت عبد للآخرين".

ملحوظة:المعلومات حول الفنان حمد الراشد, مقتبسة من لقاء معه في جريدة الجريدة, العدد 33 الأثنين 9 يوليو 2007.

****

حكاية اسمها مجيد مرهون

خليل زينل

23 أكتوبر 2003م

من شقاء الفقر والحرمان ولد بكرا... كلحن شارد في ليل الشجن ولد في حي العدامة بين أطلال تظللها بالكاد سعف النخيل... في يوم قائظ جدا وحيث تفتقد سبل الحياة وكسرة الخبز عسيرة المنال ولد.
في طفولته كان يغفو في الليالي المقمرات بجلد بطنه الخاوي، يؤرقه هذا الليل الطويل... ليل الاستعمار والاستغلال حيث لا يغفو... ختم القرآن الكريم وأجاد التجويد، درس في مدرسة القضيبية وتخرج بامتياز الأول مكرر... ألف أول منولوج غنائي وهو في سنين الصبا الأولى، ليبدأ برعم الموسيقى ينمو ويحفر في روحه الوثابة... من مدرسة بابكو للتدريب المهني «الإبرنتيس» اذ تحتضن الموهوبين دراسيا إلى قوانين الصراع الاجتماعي وصراع الطبقات حيث الصورة ضبابية ومشوهة، لكن ألم الواقع والاستغلال ملموس بحدة تشجعه سياسات الشركة الاستعمارية والحكم الاستعماري.
الهرمونيكيا... الساكسفون... النوتة الموسيقية وسلمها... الفرق الفنية تختلط و تتزاوج لديه مع أدوات الصراع الطبقي قبل أن يكتشف قوانينه «وأهفو وأماني القلب كدخان ذرته الريح في وأحمل ثقل أيامي...» بدأ يقرأ لجورج حنا وسلامة موسى وبدأ يقارع الاستغلال والاستعمار في الوقت ذاته، إلى أن اكتشفه المناضل علي المحرقي وضمه العام 1961م بلا تردد ولا ندم إلى أول وأقدم تنظيم سياسي يمثل فكر الطبقة العاملة الثوري والأممي وحبا كان... كل الزاد في صحوي وأحلامي و كان الطل يوقظني، ورؤيا الفجر أنسامي ولكنني رأيتها...»

النضال السياسي والموسيقي كأداة نضالية و فنية، أيهما يسبق الآخر؟ الإجابة غير مهمة، بل المهم أنهما توأمان يجتمعان بين أضلاع المناضل مجيد مرهون...
حمل الساكسفون كأول مدني بحريني لينشد لحن انتفاضة مارس/ آذار 65م المجيدة
«لم تمت ذكراك آذارنا ولكن أينعت في الصبح وردة» الجماهير المنظمة.

حينما رفعت «الجماهير» في وجه المستعمر وأدواته القمعية «لا يفل الحديد إلا الحديد» كان فجر مجيد مرهون يفجر الجهاز الأمني للمستعمر و يحوله إلى قطع خردة في شتاء 66م بين مثلث القضيبية و الحورة والعوضية لينشد أول نشيد ولحن وطني العام 67م ( طريقنا أنت تدري شوك ووعر عسير... موت على جانبيه لكننا سنسير) نحو الحرية والسلم والتطور الاجتماعي .
فبراير/شباط 68م كان على موعد مع تأبيد الأغلال والإحكام اذ ظلت السلاسل الحديد تصفد يديه ورجليه وتربطهما بالخاصرة كجرح نازف طوال ليالي جزيرة جدة بسنواتها الطوال و طقوسها الحادة... برودة وحرارة مضاعفة، وإذ يكون السجين في لحظة نوم عزيزة تلسعه السلاسل ببرودتها الشديدة شتاء لتقلع قلبه من عز النوم مفزوعا مكملة - السلاسل - مشوار التعذيب النهاري الآدمي.
طوال سنوات سجنه الـ22 لم يتسرب له اليأس أبدا ولم تهتز قناعته بصحة وصواب طريقه... طوال سنوات تأبيده ظل السجين رقم 8 السياسي الخطر والذي ضرب الجهاز الاستعماري في صميم مقتله... طوال سنواته الـ 22 ظلت الموسيقى تخرج من بين القضبان ومن خلفها والنضال السياسي و عراك الاستعمار وأعوانه يخرج من بين أضلاعه... بدأ حلم حياته في الموسيقى يتحقق في المرة الرابعة بعد إخفاقات ثلاث، بدأت المقطوعات الموسيقية تتوالى على رغم أنه قبر نحو مئة نوتة موسيقية في حال ندم... فبعد لحن الذكريات توالت مقطوعاته و مؤلفاته الموسيقية كالسبحة وكرقصة الليوة ذات الجذور الإفريقية اذ فاقت شهرته الحدود المحلية لتصل العالمية بشهادة ألأكاديمية الملكية السويدية للموسيقى لتبدأ موسكو بطباعة مقطوعاته الموسيقية على شكل أسطوانات ولتذاع من الإذاعات التي تتذوق الموسيقى الراقية.
«الليل يغمرني، تلفت... تساموت ، تجاسرت بأن أخطو»...
بعد حملة حملات دولية كثيرة و لمساهماته الوطنية العديدة من سجنه في دراسة مشروع الجسر الذي يربط البحرين و السعودية بمشاركة الفريق الدنماركي و لدوره- الكبير في صيانة مرافق السجن من كهرباء و ماء أطلق سراح مانديلا البحرين بعد أن قضى خلف القضبان 22 عاما و22 زهرة من عمر شبابه.
كالفراشة الندية أو كفيلم الفراشة كان البحر بألوانه وأمواجه يحاصره عدا الأغلال و قوانين السجن حتى بعد خروجه المشرف... من سجن جزيرة جدة أسس و أشرف على مدرسة جدة الفنية، كل في اختصاصه... اللحدان شاعرا والسرحان خطاطا وعبدالله حسين نحاتا وكثيرون غيرهم تخرجوا من هذه المدرسة الرائعة ومن جزيرة الأحلام بأسلوب الحقيقة والمصارحة المنتمية إلى مدرسة نيلسون مانديلا...

«ترى للتداعي الحب...
تداعيت! ولكن في ائتلاف الضوء يا حبي
تجد أنفاس أنغامي...»

تحية عطرة في ذكرى حب مجيد مرهون والذي شارك كغيره في استقلال التراب الوطني من الحلم إلى الواقع بفضل تضحياته الجسام

****

عازف السكسفون يقول لكل الأوجاع وداعا ....

بدر عبد الملك

الثلاثاء 23 فبراير 2010

توفى اليوم الموسيقار البحريني مجيد حميد مرهون بنوبة قلبية لازمته طويلا ’ والمعروف بمانديلا البحرين ’ والذي أمضى من عمره في السجن السياسي لمدة عشرين عاما ’ بعد مكابدة ومعاناة طويلة مع أمراضه ’ كانت النوبة القلبية بمثابة ضربة الليغرو الموسيقية القوية والحزينة الأخيرة ’ التي أودت بحياته وهي تودع بصمت جنائزي احد اكبر الموسيقيين المعاصرين الذين عرفتهم البحرين . يتوقف قلب مجيد إلى الأبد ولكن موسيقاه ستبقى سرمدية تحلق في عالمها الخالد .
قبل ثلاثة أيام من الخبر المفجع كنت انظم مكتبتي الموسيقية ’ وكانت ابنتي تساعدني لمعرفة ما في هذه المكتبة من اسطوانات قديمة صارت اليوم في حالة الانتيك فعمرها تجاوز الثلاثين عاما ’ خاصة وإنها تذكرني بحقبة الاتحاد السوفيتي وهنغاريا وبلغاريا وبراغ ’ التي كانت تبيعنا أحسن القطع الكلاسيكية بسعر زهيد ’ فكنت احمل في كل سفرة من تلك الدول مجموعة كبيرة لأشهر المؤلفين العالميين . كان من بين المكتبة اسطوانة مجيد البلاستيكية الصغيرة التي أنتجتها ألمانيا الديمقراطية ’ تضامنا مع الموسيقار السجين ’ أو بتعبيرنا السياسي اسطوانة لمانديلا البحرين ’ سألتني ابنتي من هذا يا أبي فقلت لها ’’ انه مجيد مرهون ’كان مع عمك في أول دفعة تتخرج من الصف السادس ابتدائي في مدرسة القضيبية ’ غير انه أيضا رفيقنا الذي كابد السجن ومعاناة الحياة ’ فليس بسيطا يا ابنتي أن تموت أختك بين يديك ’ وتعيشين طفولة البؤس والفقر المعدم وحرمان عاطفة نبيلة لولا عاطفة أم كادحة كرست حياتها من اجل أطفالها .
لم يكن مسار حياة مجيد فرحا ورغدا ’ ولكنه كان يصنع الحياة بطريقته ويركض نحو مدن الفرح البعيدة ’ ويفتش عن الجزر الجميلة والأحلام الكبرى ’ كان رومانسيا وثوريا في ذات الوقت ’ كان عاملا وموسيقيا رهفا أيضا ’ ولكنه كان الأكثر من كل ذلك إنسانا مشحونا بطاقة الموسيقى الخفية في داخله . عرفته موسيقيا مجنونا بآلته قبل أن اعرفه مناضلا وألتقيه ’ فقد كان مشاغبا وكوميديا مرحا ’ حتى في فناء المدرسة ’ وعندما يعتلى خشبة المسرح كمونولوجست فانه رائع فقد أضحكنا كثيرا على منولوج مدرس الحساب عندما كان يردد ’’ أما مدرس الحساب يا ليته ما دش من الباب كل يوم يجينا بحاله ... ’’ فنضحك من القلب فقد كانت كل المدرسة تعرف ذلك المدرس وحالته ’ وكان الأستاذ عتيق معنيا بتوريط المدرس مع طالبه المشاغب. في اليوم الأخر سيلتقي المدرس بطالبه حانقا ’ وغاضبا وسيقول له لا اعرف لماذا أرسلوك اهلك للمدرسة فأنت جدير بهناك – وكانت هناك هو حي العدامة – مع فرق المدندون ’ وهي الفرق الزنجية التي عزفت أجمل أغاني الغوص والفجري والليوة ’ عزفت معاناة تاريخية طويلة لكل أولئك القادمين من زمن العبودية .
كنت هناك بينهم تنشد أجمل أغانيك وموسيقاك ’ فقد كان إنسان هاتيك الأزمنة هو إنسانك الداخلي ’ وكان عليك أن تكافح من اجله ’ فوجدت إن الانتصار لكل الكادحين وزمن المعاناة هو الانتماء لفكر يدافع عن الكادحين ’ فاخترت أن تكون ماركسيا يحمل قلبه بين أصابعه ’ مثلما حمل فكره بين الشبيبة العاملة في بابكو ’ مثلك لا ينساه الوقت ’ ومثلك يبقى في الذاكرة الوطنية والشعبية والموسيقية ’ فقد تركت لنا أعمالك كمجدك ’ وتركت لنا سلمك الموسيقي كسلم أحلامك نحو الأفاق ’ فما قيمة الأشياء إن لم تكن تمجد الإنسان والحياة . كنا نراك في المدرسة تعزف ’ وفي طرقات الحي تعزف ’ وعند سكون الموج ورحيله تغازل البحر وتحلم وأنت تعزف ’ دون أن تغادر أحلامك بيتكم الصغير المعدم .
عشت بفرح وغادرتنا بفرح ’ ومن التقاك لم ير فيك إلا ذلك المهووس بالموسيقى وبروح النكتة والمرح ’ فتثير فينا أسئلة الفضول ’ كيف يقاوم هذا الإنسان معاناته ؟ كيف يحمله بين ضلوعه دون كلام ’ وكأنه يقول لنا’ كانت الحياة جميلة رغم آلامها ’ فتحلق روحك كما تحلق موسيقاك ’ فقد جعلت للوطن معنى وحملت له موسيقاك ’ وفتحت لنا ’’ الطريق ’’ منارا بنغماتك فأنت راحل مثل كل الذين رحلوا ’ وأنت مسافر في زمن لا يتوقف ’ ولكنك وحدك هناك في موسيقاك التي تحلق مثل روحك . هناك أناس كثيرون سيسألون عنك ’ فمثلك لم يمض من الحياة عبثا .
عشت مناضلا وكنت إنسانا .
ها أنت ترحل لتقول لنا الحياة تستحق أن نعيشها مرة واحدة
’ أخيرا ’ عازف السكسفون يقول لكل الأوجاع وداعا .

****

ترجل الموسيقار

علي مجيـد –

«25-فبراير-2010»

حان الوقت ليترجل بطل الموسيقى البحرينية وعازف السكسفون مجيد مرهون، بعد مرارة المعاناة وألمها.
لن تنسى ذاكرتي حين وقف مجيد في حفل الذكرى الخمسين لجبهة التحرير حيث صعد المسرح ليتسلم درعه تكريما لعطائه الوطني، فوجه وجهه نحو الجمهور ورفع يده ولا انسى انها اليسرى وقبض كفه، وكأنه يريد ان يهتف ويقول ما زال قلبي ينبض بكم وبتاريخكم، ولو عاد بي الزمن لاخترت ذات المنهج والطريق، الوعر والعسير، الذي يكون الموت والسجن على جانبيه، فأكد انه سيسير، مهما كانت الوعورة والعسرة.
لم يثنه القيد عن الألحان ليرسم البسمة على شفاه المحزونين، تحدى وأبى إلا ان يكون نجماً وضاءً في سماء هذا الوطن الكبير، حتى عرف بالأسطورة، كيف لا تكون كذلك، وقد ضمك بيت الحزن طيلة 22 عاما، بعيدا عن الأقرباء والأصدقاء.

لم يعرف المال والجاه له من طريق، ومن لم يصدق ذلك فليذهب الى منزله ويعرف كيف كان يعيش، فهل كلف أحد نفسه ممن يدعون انهم يرعون الثقافة ان يسأل عنه وعن أحواله، كيف كان يومه وكيف كانت عائلته.
كان يصف ان طفولته كانت تعيسه، وفي اسرة فقيرة، بل في حي كان قد اسماه حي (العدامة) الواقع بين منطقتي الحورة والقضيبية.
الصورة الجميلة لمجيد، انه حين يقف أمام الناس يقف شامخاً عزيزا، لا يستطيع اي فم القول ان هذا الرجل ورث من غير مشروعية (درهم أو دينار)، بل ورث للمكتبة قاموسا كانت تخلو منه، و 350 عملا وراء القضبان.
هناك مناضلون كثر، دخلوا السجن والمعتقل، ولكن لم تكن لهم نتاج عقلي وفني، كمجيد مرهون، بل هناك من خرجوا منه وهم يائسون قانطون، إلا هو مبتسم وهاج معطاء.
حين أجرى معه احد الزملاء مقابلة صحفية، قال فيها ان حياته ملكا للمنبر التقدمي، ومن قبل لجبهة التحرير.
هل تتخيلون ان هذه الكلمات تخرج من رجل عاش جل حياته في السجن.
لن تنساك ذاكرة الوطن، مهما حاولوا ان ينسوك يا مجيد.

صحيفة الايام
25 فبراير 2010

***

دموع على مقلتي مجيد مرهون

الدكتور حسن مدن - الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي (عام)

«25-فبراير-2010»

رحل أمس عازف السكسفون الحزين، ومانديلا البحرين، وأشهر سجين سياسي في تاريخ هذا الوطن، لكن صفحته في الحياة لم تطو ولن تُطوى أبداً. سيظل مجيد مرهون كما كان فلذة من قلب هذا الوطن، إن أجيال الغد، كما أجيال اليوم، ستظل تستمع بفخر وإعجاب إلى أعماله السيمفونية الرائعة، التي طافت باسم البحرين في فضاءات العالم.
رجل نادر جمع بين الإبداع والنضال، فيه سيذكر البحرينيون وجهاً مضيئاً من وجوه نضالهم ضد الاستعمار البريطاني وآلته القمعية التي نكلت بالمناضلين من أجل الاستقلال الوطني والحرية والتقدم الاجتماعي، وبإقدام المناضل وجسارته حمل على عاتقيه اثنين وعشرين عاماًً من السجن، الذي لم يفلح في ثني إرادته، مع أن السجان جعله مكبلاً بالأصفاد في رجليه لعدة سنوات، ومن هذه المعاناة استوحى بعض مقطوعاته الموسيقية التي كنا نسمع فيها صليل الحديد وهو يجره في رجليه.
روى مجيد حكاية طفولته في حي العدامة بالحورة الذي ولد فيه، حي البسطاء المعدمين والكادحين المهمشين الذين كانوا يعيشون أسوأ أنواع شظف العيش، ويركضون لاهثين وراء لقمة العيش وكسـرة الخبز، وخوفاً من الأمراض التي تحصد فيهم حصدا، وكانت فيضانات البحر تجعلهم يعايشون المستنقع الذي تعشش فيه مجاميع البعوض، ظاهرة آثارها على أجسادهم السقيمة، والتي تعاني من الجدري والتيفوئيد والسل، وغيرها من الأمراض.
في هذا الحي المبني من بيوت السعف والأزقة الضيقة، ولد مجيد مرهون في عز ظهيرة يوم قائض شديد الحرارة، كان ذلك بتاريخ 17 أغسطس عام 1945. يقول مجيد إن ذلك حدث بعد أسبوع واحد فقط من قيام القوات الأمريكية بإلقاء القنبلة الذرية الثانية على اليابان. وكانت الحرارة في ذلك اليوم على أشد ما يمكن تصوره، بسبب انتشار الغبار الذري في الغلاف الجوي حول العالم.
يقول مجيد : «كنت من أفضل التلاميذ في الدراسة بالرغم من شظف العيش، حيث كنا ننام أحيانا ببطون خاوية يعتصرنا الجوع، وما كان لنا سوى الصبر والحرمان، وكانت النتيجة أنني كنت من الأوائل، وتم نقلي إلى مدرسة القضيبية الابتدائية قبل أن يكتمل بناؤها عام 1953.
الفتى المنذور للإبداع، سيصبح منذورًا للنضال أيضا، في ذلك الزمن الجميل الذي كان المبدعون لا يجدون أنفسهم إلا في الانحياز لقضية شعبهم، وللنهج الثوري التقدمي المعبر عن التوق للحرية. أحد الشباب الذين كانوا يدرسون معه في مركز التدريب المهني في بابكو لكنه يسبقه بفصل واحد، وهو حسن علي محمد المحرقي، سيأخذ بيديه الى الفكر التقدمي، وبعد حين لم يطل بات مجيد على يقين من أن الميول والتوجهات الاشتراكية أقرب إلى قلبه وعقله.
حينها سئل إن كان يرغب في الانضمام لجبهة التحرير الوطني المناضلة من أجل حقوق الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة ولأجل الديموقراطية. يقول مجيد: «بدون تردد أعلنت رغبتي ولهفتي للانخراط فيها».
في أحد أيامه الأخيرة التي سبقت رحيله في مجمع السلمانية الطبي، وهو في غيبوبته العميقة المُعذبة، أدار رفيقه سلمان زيمان إحدى المقطوعات الموسيقية التي ألفها مجيد وعزفتها الاروكسترا، دهش من كان في الغرفة أن مجيداً النائم في غيبوبته العميقة المُعذبة، استجاب لما يسمع، وأن دموعاً من المعاناة سالت على مقلتيه.

صحيفة الايام
25 فبراير 2010

***

رحيل عازف السكسفون الحزين

جميل المحاري - كاتب وصحفي بحريني (عام)

«24-فبراير-2010»

أذكر عندما كنا طلبة في جامعة الصداقة بموسكو والتي كانت تحتضن الطلبة من جميع أنحاء العالم النامي كنا نقوم بتوزيع اسطوانات الفنان المناضل مجيد مرهون عند لقاءاتنا مع الاتحادات الطلابية الأخرى.

كانت المقطوعات الموسيقية التي ألفها الفنان مجيد مرهون في السجن وتم تهريبها إلى الخارج لتقوم بعزفها فرقة الإذاعة السيمفونية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية «كذكريات « و «نوستالجيا» تمثل أفضل ما كنا نملكه كطلبة بحرينيين ونستطيع أن نقدمه للعالم.

كنا نفخر بأن يكون لدينا موسيقار بهذا الحجم تعزف موسيقاه من قبل فرق موسيقية عالمية كما كنا نفتخر بان يكون من بين مناضلينا سجين أمضى أكثر من 20 عاما بين قضبان السجن دون أن يفقد روعته وحبه للحياة والجمال والوطن.

لم يكن من الصدفة أن يعشق السكسفون حتى قبل دخوله إلى السجن فإن حياة الفقر التي عاشها في طفولته في حي العدامة في الحورة طبعت أحاسيسه بمسحة من الحزن، وأي آلة موسيقية يمكن أن تبكي بجمال بقدر هذه الآلة، ولذلك كان مجيد مرهون أول من اشترى هذه الآلة في البحرين.

ورغم أنه لم يكمل دراسته ولم يدرس الموسيقى في أي معهد أو كلية متخصصة إلا أنه ومن داخل السجن استطاع أن يدرس النوتة والتوزيع والتأليف الموسيقي ليتفوق حتى على من تخرج من الجامعات بعلمه وحسه الرقيق.

كان الجميع يطلق عليه « مانديلا البحرين» ومع أن مانديلا أصبح رئيسا لبلاده بعد أن سقط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلا أن مجيد مرهون بقي في الظل بعد أن أطلق سراحه دون أن تهتم به الدولة فلم يقدر له أحدا إسهامه في النضال ضد الاستعمار البريطاني وحتى أعماله الفنية لم تقدر بأي شكل من الأشكال من قبل هيئة الإذاعة والتلفزيون.

بالأمس رحل عنا مجيد مرهون بعد أن قدم مثالا لحياة قد لا يفهمها الكثيرون، فرغم فقره في صغره ورغم قضائه أجمل سنين حياته في السجن، ورغم مرضه إلا أنه ظل يحارب الظلم بالنضال والفقر بالفن والسجن بالعلم والقراءة و التأليف.

بالأمس رحل عنا عازف السكسفون الحزين بعد أن جعل البحرين أكثر جمالا... فقبلة من القلب لهذا الرجل العظيم.

صحيفة الوسط
24 فبراير 2010

***

يرحلون بشموخ

رضي الموسوي - كاتب بحريني (سياسي)

«25-فبراير-2010»

دون ضجيج يذكر، رحل بهدوء المنصت إلى تراتيل الصباح، أو إلى لحن جديد يمتحن خفاياه المدفونة في عمق الذاكرة. ذاكرة وطن تمتد على الخارطة المرصعة بالجزر المتناثرة، منها جزيرة جدا التي كانت أجمل سجن في البلاد، حيث كان الراحل مجيد يسمع خبطات سلاسل القيد فيحولها إلى لحن يطوف الأرجاء، تعزفه أعرق الفرق، بلا جواز سفر ولا تأشيرة دخول للمطارات المترامية التي كانت تقذف بالرفاق والأصدقاء من ضفة إلى أخرى.
أطلقوا عليه الكثير من التسميات أبرزها ''مانديلا البحرين''، نظرا للسنوات الاثنتين والعشرين التي قضاها مجيد متنقلا في سجون البلاد من سجن إلى آخر أسوأ منه.

لعلها مصادفة أن يخرج مجيد مرهون من السجن في شهر أبريل من العام ,1990 بينما يخرج نيلسون مانديلا من سجون الأبارتهيد في نفس العام ولكن قبله بشهرين ونصف الشهر، وكأنَّ نجمي مانديلا ومجيد مترافقان حتى في لحظات الفرح القليلة التي ينتزعانها من أحشاء الألم.

في ديسمبر ,2007 وبينما كان مجيد يرقد في المستشفى، كتب الصديق القديم الدكتور عبدالهادي خلف مقالا في ''الوقت'' عن مجيد مرهون، واستند إلى ما وقعت عليه عيناه في الوثائق البريطانية المفرج عنها عن قضية محاولة اغتيال ضابطي المخابرات بوب وأحمد محسن منتصف ستينات القرن الماضي، والتي دفع مجيد ثمنها 22 سنة سجنا. يقول المعتمد البريطاني في رسالته عن عملية التفجير، حسب ما نقلها خلف في مقاله ''إنها (عملية التفجير) قد تكون الخطوة الأولى على طريق شنّ ما سماه بحملة إرهابية على نمط ما يحدث في مستعمرة عدن''. يعني مصطلح الإرهاب قديم لديهم، وهذا المصطلح كان مكتوبا في سجلّ الولايات المتحدة الأميركية ضد نيلسون مانديلا، حتى قرر الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في يوليو من العام 2008 ''شطب اسم مانديلا من لائحة الإرهاب''.. يعني مانديلا الذي ناضل ضد التمييز العنصري كان إرهابيا في المفهوم الأميركي!!

التقيت مجيد لأول مرة في منتصف التسعينات، وكانت سنوات السجن وتضاريسها محفورة في جسده، وأبرزها سماعة الإذن التي لا تفارقه.. دخل مكتبة ''كنوز المعرفة'' بمنطقة رأس الرمان وفي يده كنز، هو عبارة عن مخطوطة المجلد الأول لقاموس الموسيقى الذي عكف على تأليفه في السجن. كانت المخطوطة مكتوبة بخط اليد بإتقان الفنان، مرصعة في دفتر أشبه بدفتر الغوص.. تحدثنا عن ضرورة طباعة المجلد وعن كلفة الطباعة التي لم يكن مجيد يملكها ولا المكتبة، فلم نجد من يدعم المشروع في ذلك الوقت العصيب. وحسب كلام مجيد حينها، فإن الذي بين يديه ليس إلا مجلد واحد من أصل ستة مجلدات هي مشروع حياته.

كان يمكن للدولة أن تتبنى مشروعا عملاقا كهذا، وكان يمكن أن ترتفع راية البحرين عاليا في المحافل الموسيقية الدولية لو أن هذا الإبداع وجد طرقه للنور، فقد قيل الكثير فيه من قبل أساتذة عظام في الموسيقى على المستوى العربي والدولي.

كان يمكن أن يصدر قرار بتفرغ مجيد مرهون للإبداع في تخصصه وكتابة عصارة تجربته التي لا شك أنها عظيمة. لكن مجيد شأنه شأن الكبار، لا تعرف قيمتهم الإبداعية وتقدر إلا بعد رحيلهم.. وكأننا درجنا على كتابة المراثي بعد غياب الأحبة الذين يرحلون عادة بشموخ.

الوقت 25 فبراير 2010

****

مانديلا قبل الرحيل

قاسم حسين - كاتب بحريني (سياسي)

«25-فبراير-2010»

قبل أسبوعين، احتفلت جنوب إفريقيا بالذكرى السنوية العشرين لإطلاق سراح الزعيم الأسود نيلسون مانديلا من المعتقل، بإقامة الاحتفالات في مختلف مناطق البلاد... وأمس تم تشييع مجيد مرهون، الذي اشتهر بـ «مانديلا البحرين»، لطول مكثه في السجن.

إطلاق سراح مانديلا كان خطوة مهمة على طريق إنهاء نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب إفريقيا، وقد أصبح أحد أيقونات النضال ضد العنصرية والظلم الذي يمارسه الإنسان ضد أخيه الإنسان. فالرجل الأبيض الذي فرّ بدينه من مذابح أوروبا العنصرية قبل ثلاثة قرون، أقام دولة تميّزه عن الأفارقة السود، ولاحقا ضد الملونين الذين جاء بهم من شبه القارة الهندية. واستمر النضال المدني طوال قرن كامل، حتى سادت القناعة لدى البيض بضرورة تغيّر هذا النظام العنصري الشاذ، باتجاهٍ أكثر إنسانية وعدلا.

كان النظام العنصري دولة نووية، تسندها كل القوى الكبرى التي تساند «إسرائيل» اليوم، ولم يثنِ ذلك الأفارقة عن استمرار المسيرة الطويلة المطالِبة بالتغيير. ولعلنا نتذكّر أن المهاتما غاندي إنما تلقى أول دروس مقاومة الظلم في جنوب أفريقيا، بعدما تعرّض إلى مواقف مهينة، غيّرت مجرى حياته، ليتحوّل ذلك المحامي الفاشل، إلى زعيم الحركة المناهضة للاحتلال البريطاني، حتى نالت بلاده الاستقلال.
مانديلا كان أحد النشطاء الذين قاوموا التفرقة العنصرية، وكانت تراودهم أحلام العدل والإنصاف والمساواة، وحُكم عليه بالسجن المؤبّد العام 1964، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم. وقضى أغلب سنوات سجنه في جزيرة «روبن»، التي أصبحت محجّا للزوار، وأصبحت زنزانته الصغيرة رمزا ترفرف عليه نسمات الكرامة والشموخ.

في 11 فبراير/ شباط 1990 أطلق سراحه تحت ضغوط محلية ودولية، بعدما تخلى عن دعم النظام حلفاؤه حتى الإنجليز والأميركان. وفي العام 1994 انتخب رئيسا لجنوب إفريقيا، وقاد بلاده على طريق المصالحة مع الذات. لم يظلم ظالميه، ولم يفكّر بمنطق الثأر، شأن النفوس الكبيرة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولقي ذلك صدى عالميا، وكُرّم بمنحه جائزة نوبل للسلام.
في الذكرى العشرين لإطلاقه، وقد بلغ سن الحادية والتسعين، احتفل مع عددٍ من أصدقائه القدامى الذين قضوا زهرة شبابهم في السجون ضد الظلم والعنصرية والاضطهاد. ودعا إلى حفل العشاء زوجته السابقة ويني، وابنته زيندي، وحارسه الأبيض الذي أقام معه علاقة سوية عزّزت من رؤيته الإنسانية الناضجة.

في الاحتفال الأخير، قال مانديلا إنه يشعر بأنه يكبر، ولكنه ليس خائفا... ومن حقّه ألا يخاف بعد أن ترك بلدا متحرّرا من العقد، يسير على نهج سياسي آمنٍ وسليم. وفي السنوات السابقة قبل رحيله، كلما شاهد والدي (ره) مانديلا على التلفزيون، قال بعفوية: «مسكين مانديلا، سجنوه 27 سنة»، فقد كان يحبّه كثيرا. ولم يكن مسكينا، فقد عاش حرا، وأنجز الحرية لشعبه ببيضه وسوده وملونيه، والمساكين من يؤمنون أنهم عبيد، ويجب أن يبقوا عبيدا.
أمس رحل مانديلا البحرين، السجين اليساري مجيد حميد مرهون، الذي حُكم بالمؤبد أيام الاستعمار البريطاني، بعد إدانته بمحاولة اغتيال أحد رجال الحامية البريطانية. وظل يتقلب بين السجون من جزيرة جدا حتى انتهى إلى سجن «جو» جنوب البحرين، حيث ألف الكثير من المعزوفات الموسيقية، التي نالت تقديرا دوليا في الخارج، بينما ظل يحمل لقب «سجين سابق» في بلادٍ لا تسقي أو تكرّم غير الغريب.

الوسط 24 فبراير 2010