بقلم: سميح القاسم

كثيرون هم الذين سكنتهم القناعة بأن أوروبا تعلمت الدرس من تجربتها مع النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وأن ما شهده النصف الأول من القرن العشرين لن يتكرر أبداً، ويوم طفت على سطح السياسة النمساوية ظاهرة "هايدر"، ظن كثيرون أيضاً أنها مجرد ظاهرة عابرة.

والآن، تحتقن الصحف الفرنسية بعد جولة الانتخابات الرئاسية الأولى بمانشيتات الرعب: "لا".. "الصدمة".. "هزة أرضية".. "زلزال".. وتنتشر في شوارع المدن من جديد لافتات من طراز: "أخجل بكوني فرنسيا".. "العار".. "الفاشية لن تمر".. "أوقفوا الفاشية".. "لا للعنصرية".. فماذا حدث في فرنسا؟ وماذا يحدث في أوروبا؟ الذي حدث هناك أن حوالي 10 بالمئة من سكان فرنسا هم من الأجانب، من المستعمرات السابقة بشكل خاص، ومعظم هؤلاء الأجانب عرب مسلمون من شمال أفريقيا تحديداً، وفي أوروبا اليوم ما يزيد على عشرين مليون مسلم، وإذا كان العرب الأفارقة هم المجموعة العرقية الأجنبية الأكبر في فرنسا فإن الأتراك يشكلون المجموعة الأجنبية الأكبر في ألمانيا، والأجانب موزعون بغزارة في هولندا وبلجيكا وبريطانيا واسكندينافيا، ويشكلون طرازاً حضارياً وإثنيّاً مختلفاً في مجتمعات يبدو أن تسامحها وليبراليتها وديمقراطيتها واعترافها بالتعددية لم تكن سوى حبر على ورق، وما زلنا نذكر عبارات برلسكوني الإيطالي عن "التفوق الحضاري" الأوروبي، وما زلنا نذكر هجمات حليقي الرؤوس والعصابات النيونازية والنيوفاشية على منازل وأحياء ومراكز الجاليات الأجنبية والتي تشكلت أصلاً من العمال الذين استقدمتهم أوروبا للعمل الأسود والشاق في مصانعها وفي ورشات عمرانها وخدماتها العامة ولكأنّ لسان حال أوروبا يقول الآن تلك العبارة الأمريكية الشهيرة: "الزنجي قام بعمله، الزنجي يستطيع الذهاب إلى بيته"، لكن هؤلاء "الزنوج" الأوروبيين لا يريدون في الواقع العودة إلى بيوتهم البعيدة في أقطار يحكمها الفقر والتخلف والظلم، ويرون، وبحق، أن من حقهم الحصول على جنسية البلد الذي ساهموا في إعماره بعد أن دمّره أهله في الحرب العالمية الثانية، ويطمحون إلى أن يصبحوا مواطنين عاديين لهم ما للمواطن العادي وعليهم ما عليه وهذا ما يفقد العناصر العنصرية الفاشية اليمينية المتشنجة هدوءَها، فهذه العناصر ما زالت تحلم "بالنقاء العرقي".. وما زالت متشبثة بأوهام "التفوق العنصري والتفوق الحضاري".. فراحت تنشط في الأوساط الشعبية مشيعة الوهم بأن البطالة سببها الأجانب وأن الفقر سببه الأجانب وأن انتشار المخدرات والدعارة والجريمة كان بسبب الأجانب، ولذلك فلا بد، استطراداً من هذا المنطق الفاسد والمتستّر على طبيعة الرأسمالية الجشعة الأنانية التدميرية، لا بد إذن من التحريض على الأجانب والدعوة إلى طردهم أو إلى حرمانهم من حقوقهم المدنية المكتسبة بالجهد والعرق والمشاركة الفعالة في الحياة العامة وعلى هذه الموجة العكرة من التحريض العنصري على الأجانب وعلى العرب والمسلمين في الفكر العنصري الأوروبي، على هذه الموجة الوسخة الدموية قدم المظلّي الفرنسي السابق جان ماري لوبان وصعد درجات السلّم السياسي درجة درجة إلى أن تحقق له أخيراً هذا الموقع السامي، موقع تهديد الاشتراكيين والديجوليين سواء بسواء وفرض النزال على جاك شيراك بعد إقصاء ليونيل جوسبان بصورة مهينة ومذلّة إلى أبعد الحدود وللحقيقة فإن قوى اليمين المتشدد والأوساط الفاشية تتصاعد وتتعزّز، لا في أوروبا وحدها، بل في جميع أنحاء العالم الرأسمالي، وليس صدفة أن يتزامن صعود الأمريكي جورج دبليو بوش والاسرائيلي ارييل شارون، إنها ظاهرة ملازمة لنظرية "العولمة" وهي نقيض "الأممية"، فلفظة "العولمة" (جلوبالايزيشن) ليست سوى لفظة مهذبّة لتغليف إجراء غير مهذب على الإطلاق. والمقصود من هذه النظرية لا يتعدى الرغبة في تحويل العالم كله إلى إمبراطورية رأسمالية تقودها الولايات المتحدة وتقرر واشنطن أسلوب توزيع كعكة الاقتصاد العالمي والنسب التي يستحقها هذا النظام أو ذاك، بمدى الخدمات والولاء والطاعة التي يبسطها بين يدي الإمبراطور القاعد على عرشه في البيت الأبيض الأمريكي.

وهكذا، فبقدر ما يحققه مشروع العولمة من انتصارات ميدانية، يتزايد خطر ارتفاع المدّ اليميني والفاشي، وما على قوى الديمقراطية والسلام والتقدم والتعددية الحضارية سوى تجميع الصفوف وإعادة تنظيم الاصطفاف في مواجهة هذا الكابوس الذي يهدد الحلم الانساني المتواضع والبسيط والمشروع بالهدوء والاستقرار والإبداع الحرّ والتطور السلمي المعافى، ذلك أنه لا أوروبا، ولا أمريكا، ولا أحد في هذا العالم، استوعب حقاً، الدرس والعبرة من مآسي صعود النازية والفاشية والعسكرية (المليتريزم) وويلات الحرب العالمية الثانية التي نخشى ألا تكون الحرب العالمية الأخيرة.



لا تقربوا الكمبيوتر!،

بقلم: سميح القاسم


لفت نظري احد ابنائي إلى إعلان تلفزيوني تبثه احدى فضائيات الاعراب، الإعلان دعوة إلى الصلاة بكلمات "اقم صلاتك قبل مماتك".. ويدلّ الاعلان على ان اصحابه لا يثقون بالمؤذنين،
وبالمرات الخمس التي تنطلق فيها الدعوة إلى الصلاة عبر الاجهزة البشرية والاجهزة الالكترونية آخر موديل. وليس هذا هو الأمر المهم في هذا الاعلان، الأمر المهم فيه هو الايحاء بأن الكمبيوتر قاتل ومميت ولذلك فلابد من تجنبه، أو انه رجس من عمل الشيطان وما على المؤمنين سوى التعوذ بالله منه ومن شروره.

اشك في ان تكون المخابرات الامريكية او الإسرائيلية أو البريطانية وراء هذا الإعلان، فليس من مصلحة الاجانب ان نظل في قاع التخلف والجهل والانحطاط، ان اصحاب المصلحة في تخلفنا وجهلنا وانحطاطنا هم أشخاص يبدون "منا وفينا" ولعلهم من عبيد الطغاة الذين يريدون لهذه الأمة ان تظل امة من العبيد، ولعلهم الذين يعملون كل ما في طاقتهم لضرب العرب ولابقائهم برسيماً لثيران الشعوبية ودوابها.

ويتساءل المرء بحرقة ما بعدها حرقة: أإلى هذا الحد بلغ الموات بالعقل العربي؟ الم يعد هناك مثقف عربي انسان حر وشجاع يوقف هؤلاء عند حدهم، أو يحاول فضحهم على الاقل بين ضحاياهم من المواطنين العرب المغلوبين على أمرهم تحت نير الطغاة وعملاء الاستعمار وجواسيسه من جهة ونير الشعوبيين الدجالين الجدد من الجهة الأخرى؟ القوى الظلامية التي تقف وراء هذا الطراز من الاعلانات ، التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من انهيار وضياع وترد، وآن الأوان للتصدي المبرمج والمنهجي لقوى الشر هذه التي تتمتع بعذاب العرب وتتسلى بويلاتهم وتكدس الأرباح من خسائرهم ومصائبهم.

وليعلم الناس ان الجهل هو مرضنا القاتل، ولاشفاء بغير الكمبيوتر، وما الذين يحاربون الكمبيوتر، مباشرة أو باللف والدوران، سوى فيروسات بشرية ستتضاعف خطورتها ما لم تتضاعف جهودنا في مواجهتها!