التقديم والترجمة: كوليت مرشليان
عام 1995، حين تلقى "معهد مذكرات الطبعة الحديثة"، (Imec) في باريس ما تبقى من مخطوطات للكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، لم يكن أحد يعلم أن من بين هذه الأوراق مذكرات مميزة. وفي ملف كتبت عليه عنوان "دفاتر الحرب" وجد المسؤولون بعد رحيل الكاتبة أربعة دفاتر لسيرة الأديبة كتبتها ما بين 1943 و1949، تنشر اليوم عن دار (P.O.L) بعنوان "دفاتر الحرب ونصوص أخرى" تحكي فيها دوراس مراهقتها في الهند الصينية، بين والدة تضربها بعنف وعشيق يكبرها بسنوات وكان يدعى "ليو". إنه ليس "العشيق" الذي حكت قصة في كتابها الشهير الذي حمل أيضاً عنوان "العشيق" بل هو الحب الأول، أو المغامرة العاطفية الأولى، وأيضاً "القبلة الأولى" التي أشعرتها بالغثيان... "هذا الكتاب الصادر اليوم في باريس يحمل مفاجآت كبيرة لمحبّي و"عشّاق" أدب مارغريت دوراس الذين يتتبعون نشر مخطوطتها بعد رحيلها في كل عام، وهي تعتبر من أكثر الكتّاب الذين "يصدمون" قراءهم بحقائق جديدة حول حياتهم مع صدور كل مؤلف. دوراس الطفلة والمراهقة والشابة الجريئة التي استمدت قوة من ضعفها واستمدت حباً من كراهية هائلة تصاعدت من أجواء منزلها العائلي، ترسم هذه المرة في "دفاتر الحرب" مشهد حب صارخ، هو ككل مشاهد الحب في رواياتها، هائل في قدراته على تحويل البؤس واليأس نحو رائحة حياة جديدة ترتسم مع اندلاع كل شرارة تصدر عنه. نقتطف من الكتاب الجديد مقطعاً ننقله إلى العربية:
كنت أشعر حقاً أن بيتنا مرحاض قذر
كانت والدتي قد حصلت على امتياز سكن في منطقة كامبودج العالية من الحكومة العامة بصفتها أرملة موظف حكومي وبصفتها موظفة هي أيضاً (كانت تعمل في التدريس منذ العام 1903 في الهند الصينية) (...). كنا نتقاسم حياتنا في كل شيء مع الخدم، وكنا في هذا الواقع المعيشي، نستخدم فراشاً واحداً أنا وأمي ونتقاسمه كل ليلة. كنتُ آنذاك في الحادية عشرة من العمر، وأخي كان قد بلغ الثالثة عشرة. وكنا سنكون في غاية السعادة لو لم تسؤ حالة أمي الصحية. حالة التعصيب التي عاشتها مقرونة بإحساس الفرح بعد أن شعرت أننا خرجنا من محنتنا تزامناً مع سنها الذي كان يخبئ لها مفاجآت. وتعرّضت آنذاك إلى عارضين صحيين جعلاها تفقد وعيها وتبقى في حال غيبوبة لفترة يوم كامل. كانت تعاني داء النقطة وكان ذلك يتطلّب إشرافاً طبياً لكن الأمر كان مستحيلاً لأنه إلى جانب عدم وجود طبيب في المنطقة، لم تكن كامبوديا بعد في مرحلة التعاطي بالاتصالات التلفونية، فالتلفون لم يكن قد دخل المنطقة في تلك الحقبة، لذا قويت الحالات العصبية التي كانت تنتاب والدتي إلى درجة أنها كانت تخيف الخدم إلى درجة أنهم كانوا يهددوننا بالرحيل.
وفي الواقع، كانوا يخافون من عدم تمكننا من دفع أجورهم. كانوا يجلسون على المصطبة أمام الباب بسكوت وينتظرون إلى أن تمر النوبة العصبية. كانت أمي تنام في العلية المصنوعة من القش وهي في حال مزرية، تفقد وعيها من وقت إلى وقت ويتسرّب اللعاب من فمها. من وقت إلى آخر، كنا نخرج أنا وأخي لنطمئن الخدم أنها ما زالت على قيد الحياة. لم يكونوا على استعداد تام لتصديقنا. كان أخي يؤكد لهم في كل مرة أنه حتى لو ماتت أمي، كان سيقودهم بنفسه إلى كوشتنشين مهما كلّف الأمر وأنه سيدفع لهم أجورهم. وكان أخي، كما ذكرت من قبل، يبلغ ثلاثة عشر عاماً فقط، لكنه كان على الأرجح الإنسان الأكثر جرأة على الإطلاق، من بين معارفي. كان يجد الأساليب الضرورية لإقناعي لكي أرتاح وكان يطلب مني عدم البكاء أمام الخدم لأن هذا غير ضروري ولأن أمي ستعيش. وبالفعل، في كل مرة، كانت أمي تعود إلى وعيها كل يوم عند مغيب الشمس فوق الوادي وخلف المرتفعات المعروفة بـ"مرتفعات الفيل".
(...) كان عليّ أن أعود إلى سابق عهدي. وكنت قد تلقيت عروضاً كثيرة. وحين بلغت 14 عاماً، وقبل أن أتعرّف إلى ليو بوقت قصير، عاد أخي البكر من فرنسا حيث كان يتابع دراسته. وربما لأنه يقتنع بأهمية المنافسة مع باقي أفراد العائلة، راح هو أيضاً يضربني. كلهم كانوا يضربونني. وحين كانت أمي تعجز عن ضربي كما يجب، كان هو يقول لها: إنتظري. وكان يتولى المهمة عنها. لكنها كانت تندم على الفور، لأنها في كل مرة كانت تعتقد أنني سأبقى أنتظر قدومه إليّ، لكنني كنت أهرب وكان يلحق بي. وكانت هي تصرخ بقوة وبرعب لكن أخي لم يكن يتوقف. ذات يوم، غيّر في أسلوبه ورمى بي على الأرض فتدحرجت إلى جانب البيانو وضربت صدغي بأحد المقاعد، فوقفت بصعوبة. وبلغ الخوف لدى أمي حده الأقصى إلى درجة أنها منذ تلك الفترة صارت تعيش هاجس المعارك تلك. كانت أمي تخضع إلى قوة أخي الهركولية (والتي لسوء حظي كانت تكمن خاصة في عضلات ذراعيه) وهذا الوضع كان يشجعه على ضربي باستمرار. كنت قصيرة القامة وهزيلة بالنسبة إلى سني ولم أكن امتلك الهيئة الرياضية التي كان يتحلى بها كلٌ من أخوتي. وفي أوقاتها الطيبة، كانت أمي تقول لي: "أنت مأساتي الصغيرة". (...) كانوا يرونني دائماً بصحبة ليو وأصدقائه، لذا كان يُقال عني "إنني أقيم علاقات مع أبناء بلدتي". كان عمري 15 عاماً. ولم يكن ليو بعد قد لمسني ومع ذلك صار اسمي في "سايغون" "حثالة المدينة". وكان الجميع يشك في الأمر، لكن كل ما كان يُقال كنا نفهمه بأسلوب مطمئن.
وبعد أن أصبح الجميع يتحاشى مصاحبتنا، قالت أمي: "أنهم يغارون، هذا كل ما في الأمر". اعتقد أن أمي كانت تشعر براحة كبيرة في تلك الليالي التي كانت تمضيها في "الكاباريه". لم تكن تلمس الشمبانيا. كانت تضع يديها الضخمتين فوق حقيبتها، وكانت تجلس وكأنها حاضرة لتترك، لكنها لم تكن تتكلم عن العودة إلى البيت، ومن وقت إلى آخر، كانت تقول كلمة لطيفة موجهة إلى ليو لأنها كانت تعتقد أن اخويّ غير مهذبين معه وشديدا البرودة في علاقتهما معه.
(تعود صورة أمي وهي ممسكة بحقيبتها فوق رجليها بقوة وكأنها ممسكة بقدرها. لا اعتقد ان يدي الله كانت لتكون أجمل منهما). حين كنت صغيرة وكنت أرى شيئاً يجعلني أعيش هواجس معينة أو حين كانت فكرة رهيبة تسيطر علي، مثل فكرة موت أمي مثلاً، حين كنت في الخامسة وحلمت بها ميتة، كانت تقول لي وأنا مهرولة اليها خائفة: "انسي الأمر". وهي تجعل يدها تلمس وجهي بنعومة. كنت انسي وأعاود اللعب مطمئنة. هاتان اليدان عينهما ضربتاني فيما بعد. وكانت تكسب لقمة عيشي وهي تصحح مسابقات مدرسية أو تقوم بعمليات حسابية لجهة ما طوال الليل.
وفي كل شي، كانت شديدة السخاء. كانت تضرب بقوة. وكانت تعمل بقوة، وطيبة القلب بقوة. كانت من النصف الجاهز للأقدار العنيفة وللمشاعر القوية، كانت شديدة التعاسة أيضاً، لكنها كانت تجد حصتها من السعادة في خضم تلك التعاسة لأنها كانت تحب العمل والتضحية، وما كانت تحب فوق كل شيء ذاك الشعور، بأن العمل يجعلها تنسى نفسها وتضيع في أوهام لانهائية.
كانت أمي تحلم كما لم اعرف أحدا في حياتي لديه هذه القدرة على الحلم. وتحلم بتعاستها أيضا وتقوم لتخبرنا ذلك بفخر ومن دون أن تعرف الحزن الحقيقي، لكن فقط الألم لأنها كانت تمتلك روحاً ملكية بعنف، تلك الروح التي لا ترضى التنازل عن أي نوع من أنواع الأحزان.
(...) كيف توصلت إلى تخطي هذا النوع من القرف الجسدي الذي كان يوحي لي به ليو؟ في المرة الأولى التي قبلني فيها على فمي، وكان ذاك في المساء عند ليون بوليه، كان قد قدم ليصحبني لدى خروجي من الصف ويرافقني إلى "ساديك" حيث سأمضي فرصة نهاية الأسبوع، لم أكن أراه كثيراً في ذلك الوقت من النهار، أو ربما كانت المرة الأولى التي أراه فيها عند المساء. في طريقنا، غمرني ليو بذراعيه وشعرت انا أيضا برغبة تجاهه. اعتقد انها كانت الرغبة. كان شعوراً هائلاً بالسلام الداخلي يملأني بقوة.
وكنت حقاً بين ذراعيه. ولكن أظن ان الأمر كان سيكون مشابهاً لتواجدي هكذا مع أي كان. كان ليو في تلك اللحظة أياً كان، واي كان كان يمكن ان يقول لي ما قاله ليو، واي كان ليمتلك ذراعين تغمرني ولطافة مثل لطافته في ظلمة العربة، وفي الظلمة السوداء التي كانت تشكل شبابي (...) كانت تلك الليلة التي قبلني بها ليو للمرة الأولى على فمي. قام بالأمر وكأنه أصيب بمفاجأة جعلته يرتعد. وفجأة شعرت انا باحتكاك رطب وبارد فوق شفتي وشعرت بتراجع بل برفض لا يوصف. أبعدت ليو عني بقوة، وبصقت وأردت الخروج بقفزة من العربة. لم يعد ليو يعرف ما يتوجب عليه ان يفعله. وفي لحظة رهيبة، شعرت بجسدي يتصلب ويتقوس مثل قوس حربية وكان إحساسي بأنني ضعت وتهت للأبد. ورحت اردد: "انتهى الموضوع، انتهى الموضوع!"، وكان ليو يقول لي: "ماذا تريدين القول بذلك؟" لم يكن يفهم ولكن بعد لحظة ضحك وراح يشرح لي إنني لن افقد عذريتي بمجرد إنني قبلته على شفتيه. فأجبته: "اعرف ذلك، ولكن اعتقد ان كل شيء انتهى. حاول ان يهدئ من روعي وان يأخذني من جديد بين ذراعيه لكني رحت اصرخ وارجوه ان يوقف السيارة ويجعلني ارحل بسلام.
كان الوقت ليلاً وكنا في منطقة جبيلية نائية، لكنني لم أكن أفكر في ذلك. أنا أعيد رسم المشهد كما هو ولا أقوى على شرحه أكثر. كنت القرف بحد ذاته في تلك اللحظة. ولكن إذا حاولت ان اشرح ماذا قصدت بكلمة "انتهى"، لا استطيع ان افعل، لا اعرف. أتذكر فقط إنني قررت فجأة ان ابتعد قدر المستطاع عن ليوني في عقلي، ورحت ابصق في محرمتي، ورحت ابصق وابصق من دون توقف، وبصقت طوال الليل وطوال اليوم التالي، وكلما كنت أفكر في الأمر، كنت ابصق من جديد.
(...) "منزلك مرحاض" كان أخي يقول لأمي، "مرحاض حقيقي ورائحته كريهة". هذه الكلمات كانت تجد داخلنا مكاناً مجوفاً لها. ذاك المكان ربما الذي تحدث عنه مار يوحنا على الصليب، ذاك المكان الذي كان يمتلئ بالوضوح والتجلي. عند هذا الحد، كنت حقاً اشعر ان بيتنا مثل مرحاض وسخ، وبأننا نسبح في هذا المرحاض وبأننا لن نتمكن من الخروج منه. كانت هناك الكلمات، وكانت هناك النظرة، والنبرة المختصرة التي قال بها هذا الوصف بدقة وصدق إلى درجة ان الشك لم يكن موجوداً. لم اسمع كلاماً جليا وبهذا الوضوح والصدق في كل حياتي بعد كلمات أخي. لم اسمع كلاما مقنعا إلى هذه الدرجة أيضا سوى لدى قراءتي للشاعر رامبو، كذلك لدستيوفسكي،.ربما كان أخي بحق أول من أعطاني هذا الإحساس بأن أفضل الأعمال الأدبية ذات الإيحاءات العديدة الخارجية وان ارفض كل عمل يقوم على الذكاء الإنساني. وبالنسبة للذكاء، ربما لم أكن حساسة على هذه المسألة الا بالذكاء الحيواني، وبالتحديد الحيوانات التي توحي بأنها لا تستخدم ذكاءها بقوة. مثلا، كنت أفضل الهررة المتوحشة على الهررة الذكية. وما بيدي حيلة. أفضل الهررة التي لا تتعرف إلى بعد وقت على الهررة التي تتعرف إلى. وحين التقط أخي مرض السفلس، قال: "حثالة الحياة، لقد صرت حثالة". ومنذ ذلك الحين، صرت اشعر بشفقة قوية وصارت لي مشاعر أخوية.
مارغريت دوراس زارت السينما آنذاك، ولم تكن تملك مالا كافيا، فدفعت لتجلس في الأماكن المخصصة للذين هم "دون" مستوى المقاعد العالية، أي انها جلسة مع "حثالة" المدينة.
(..) حين وصلت إلى مدخل صالة العرض، وجدت الصالة مضاءة. كان الوقت لا يزال باكرا، ولم يكن بعد قد بدأ العرض. في عمق المقاعد الأمامية، كان هناك ثلاثة صفوف مخصصة للفرنسيين. وأمامهم، كانت هناك فرقة "لزعران" المنطقة الذين راحوا يصفرون ويضحكون كان علي ان اقطع مشياً كل المسافة لأصل إلى مكاني وحدي. لأنه لم يكن احد يرافق زبائن الصفوف الرخيصة، لم يكن هناك أي إنسان ابيض في تلك الصفوف. لم أتراجع، اجتزت المسافة، قطعت هذه الصالة بشخصي في صمت عميق أحدثه شخصي الذي يدخل. اذكر أنني في تلك اللحظة لم اعد اذكر كيف نمشي. الانسانية بكاملها كانت تنظر إلى. وكنت بيضاء، بلا ريب، لم يكن احد قد رأى من قبل فتاة بيضاء بين تلك الصفوف. كل شي، كنت اعرف كل شيء يفكرون به في تلك اللحظة، لأنني انا أيضا كنت أفكر به، كان كل شيء يرقص أمام عيني ووجدت نفسي في حالة من اللاواقعية المتقدمة. كنت في حال احتكاك قوي وعميق مع الخجل. كنت الخجل يمشي. وكنت بكل بساطة مضحكة، لم يكن لي ما افعله في تلك السينما، ولم تكن ثيابي طبيعية، كانت تدعو إلى الضحك، أو على الأقل إلى الشفقة.
انكسر كل شيء، ووجدت نفسي أخيرا مكسورة على كرسي من القش وحقيبتي فوق ركبتي وكأنني أسبح، لم اعد اذكر إذا كانت مرت عشر دقائق أو ساعة كاملة قبل ان تطفأ الأنوار. ولكن فجأة حلت العتمة، وسمعت صوت بيانو. وخرجت من إحساس الحذر. كان فيلم "كازانوفا". ووجدت الفيلم فائق الجمال. فخرجت راضية. وكنت رأيت كازانوفا يقبل امرأة على فمها ويعترف لها بحبه".
المستقبل
الثلاثاء 3 تشرين الأول 2006