اسكندر حبش
(لبنان)

مارينا تسفيتاييفقدر بعض الشعراء في حياتهم، أن يعيشوا في الهامش، أن لا تُقرأ قصائدهم وأن تبقى مجهولة، إلى أن تجيء لحظة، يُكتشفون فيها من جديد، أو بالأحرى، يولدون فيها من جديد. وتكون هذه اللحظة، لحظة اكتشاف عالمين شعري وحياتي غنيّين بالتناقضات والتفاصيل والدهشة، فهل هذا هو قدر كبار الشعراء؟
في صيف العام ،١٩٤١ وفي إحدى مدن “تاتاري”، كانت امرأة محطمة، تبحث بشتى الوسائل عن وظيفة لتكسب منها قوتها، إذ بعد أن عملت كمساعدة خادمة لفترة قصيرة، توسلت العمل مكان فتاة تركت عملها في احد المستشفيات، لكنها جوبهت بالرفض، مثلما جوبهت، حين ألحت على استخدامها كغاسلة أطباق في احد المطاعم. إزاء ذلك، ما كان منها إلا أن شنقت نفسها. كانت في التاسعة والأربعين من العمر، وكان اسمها مارينا تسفيتاييفا. كانت واحدة من اكبر الشعراء الذين عرفتهم روسيا في تاريخها.

في ربيع العام ،١٩٨٤ وبعد مراسم جنازة متواضعة في مقبرة صغيرة في مدينة “شامبري” الفرنسية، قرأ بعض الأصدقاء، قصائد مارينا تسفيتاييفا بالفرنسية. هذه القصائد، قامت بترجمتها عن الروسية، تلك المرأة التي كانت دفنت لتوها. عمرها ٣٩ عاما، وهي في بعض تفاصيل حياتها، تشبه الشاعرة الروسية، تدعى ايف مالوريه، وهذه الترجمات، هي الشيء الوحيد، الذي فعلته، لتعرّف بمغالاة واندفاع حقيقيين عبقرية هذه الكاتبة، التي كانت مجهولة في فرنسا وأوروبا في تلك الفترة. كانت تلك الترجمات، أولى قصائد تسفيتاييفا التي تترجم إلى لغة أخرى.

تتكاثر اليوم، الكتب حول تسفيتاييفا، وبخاصة باللغة الفرنسية، كما تتكاثر ترجمات شعرها من الروسية، إذ نستطيع أن نحصي العديد من هذه الكتب، منها على سبيل المثال لا الحصر: “بعد روسيا” ترجمة برنار كرايسي (منشورات ريفاج)، “من دونه” ترجمة هنري دولوي (منشورات فوربي)، “الإهانة الغنائية” لدولوي أيضا وعن المنشورات ذاتها، “الصبي” من دون ذكر اسم للمترجم (منشورات دي فام) كما كتاب “السماء تحترق”، منشورات “غاليمار شعر”. ناهيك عن الكتب التي تتحدث عن سيرتها مثل كتاب “مارينا تسفيتاييفا القدر المأساوي” تأليف مارينا بيليكينا (منشورات أليان ميشال) و”رواية مارينا” لدومينيك ديسانتي (منشورات بلفون) و”الأمل العنيف” لروضة جيمس (منشورات نيل)... وكأن قدر الشاعرة، الكثير الاضطراب والأوهام، يلهم العديد من كتاب السيّر، وبخاصة في فرنسا، هذا البلد الذي جاءته، حيث كانت في السابعة عشرة، حيث قضت القسم الكبير من سنوات منفاها بين ١٩١٨ و.١٩٣٩

المأساوية
ولدت مارينا تسفيتاييفا العام ١٨٩٢ في عائلة مثقفة موسكوبية، كان والدها أستاذا لتاريخ الفن في جامعة موسكو (وفي رواية أخرى، كان كاهنا أرثوذكسيا)، وتميّزت عن باقي أفراد هذه الأسرة، بنضج موهبتها الشعرية، إذ بدأت الكتابة وهي في السادسة من عمرها، ونشرت ديوانها الأول، وهي في السادسة عشرة. عرف عنها، ثورتها على التقاليد الامتثالية، فعاشرت في الثامنة عشرة، فتاة سحاقية شهيرة، ولتزيد في كيد أهلها ولتصدمهم، وبخاصة أنها ابنة أرثوذكسي معاد لليهود، تزوجت من حفيد احد الحاخامات. كذلك دفعها ميلها، الذي لا يكل، للتحدي، إلى “عبادة” نابليون، كما قادها هذا الأمر إلى معارضة عنيفة، شغوفة لثورة أوكتوبر، غنّت الجيش الأبيض “في قفزة بائسة ضد التاريخ وضد الحياة”. ومع ذلك، فإن منشورات الدولة في تلك الفترة، نشرت لها كتابين.

في العام ،١٩٢٢ هاجرت مع ابنتها لتلتحق بزوجها الذي كان ضابطا سابقا في الجيش الأبيض، فعاشت في برلين ومن ثم براغ، وفرنسا أخيراً، لكن سرعان ما تدهورت علاقتها بالمهاجرين البيض، حتى انقطعت كليا. عاشت في بؤس كليّ، وانشغلت كثيراً بالجوانب المادية للوجود. وقد كتبت الكثير لكنها لم تنشر إلا القليل. ولم ينشر لها المهاجرون البيض أي كتاب بعد العام ،١٩٢٨ وتحت وطأة الحاجة، أصبح زوجها مخبرا للمخابرات السوفياتية، واحترز منها، المهاجرون، زيادة. وحين عادت إلى وطنها، العام ،١٩٤٠ بعد “حرب الجلاء” النازي، بقيت أيضا، موضع اشتباه من قبل السوفيات. ومع صعود الفاشية، كتبت سلسلة من الأشعار أهدتها إلى تشيكوسلوفاكيا، تهاجم فيها الهتلرية بقوة. قتل زوجها رميا بالرصاص، نفيت ابنتها، فوجدت نفسها وحيدة، معوزة، رازحة تحت اليأس المطلق، وتحت الألم والحرمان، فانتحرت في ٣١ آب .١٩٤١

الإخلاص للفن الشعري
نحن أيضا أمام يوميات ودفاتر عمل وانطباعات تسجلها الشاعرة خلال القراءة وأمام تأريخ كرونولوجي لكل يوم بيومه. وبين ذلك كله نحن أمام شيء أكيد: تشكل هذه المقاطع الهاربة والآسرة مكانا يلتقي فيه النثري والعادي مع الماورائي. أي تبقى الشاعرة في نصوصها هذه مخلصة لفنها الشعري حيث تربط الواقع بسحر وعيها في حوار داخلي تقيمه مع نفسها ليصبح أيضا، وفي مرحلة لاحقة، حوارا بين الأنا والعالم.

دفاتر تسفيتاييفا هذه، كانت بدأت كتابتها قبل الحرب العالمية الأولى، وتنتهي عشية الحرب العالمية الثانية. إنها تمرين في القسوة يضع أمامنا مفاتيح أسرار الشاعرة من خلال فتح المشهد على التاريخ وإن كان ذلك لا يمنعها من التقدم في هذه العوالم الحميمة التي اكتشفها قارئ شعرها ونثرها. في مواجهتها الدائمة مع الكلمة، في همها المستمر في أن تهب الأبدية لهذه الأشياء الصغيرة، تقف الشاعرة في هذا الفاصل لتسمع لا ضجة الدمار الذي كان يلف وطنها اولا والعالم فيما بعد ولكن أيضا كانت تسمع هذا الهمس الحميمي للأشياء التي كانت تبحث عن أسماء جديدة لها.

وما يميز هذه الطبعة الفرنسية من دفاتر تسفيتاييفا، الملف الخاص الذي يسترجع فيه المشرفون على الكتاب، الكتابات والأحاديث والمقالات التي كتبت عن الشاعرة الراحلة وذلك بعد الحصول عليها من أرشيف الدولة الروسية للفن والأدب، ما يعطينا، إضافة العديد من الوثائق التي تضيء هذه الكتابات.

أما الكتاب الثاني فهو كان نشر في موسكو العام ،١٩٨٨ ويجيء كوثيقة كبيرة عن حياة الشاعرة بقلم ابنتها التي عاشت بقربها لفترة طويلة. كانت أريادنا ابفرون قد بدأت منذ العام ١٩٥٥ في تجميع كل الوثائق المتعلقة بوالدتها، لتدرس وتنقب وتفحص كل المخطوطات الباقية. من هنا، يبدو كتابها وكأنه “معركة” ما من أجل إنقاذ هذه الذاكرة ومدى تقاطعها مع التاريخين العام والخاص. يقال إن الكتاب حين صدر في الاتحاد السوفياتي (قبل أن يختفي) كان يحمل في طياته بعض الرسائل المتبادلة بين الشاعرة وشعراء آخرين، كما كان يحمل بعض الملاحظات التي كتبتها المؤلفة. في الترجمة الفرنسية لا اثر لذلك، فقط يترجم الكتاب الذي عرف يوم صدوره نجاحا كبيرا حيث طبع لمرات عدة، إذ أنه في النهاية المرجع الأكثر تكاملا عن حياة الشاعرة.

مارينا تسفيتاييفا، شاعرة القدر المأساوي، التي عرفت وبالرغم من كل الاضطهاد التي تعرضت له كيف تبقي كلمتها نقية، ساطعة. على الأقل هذا ما تخبرنا به الدفاتر التي نترجم بعض الفقرات منها. ملاحظة أخيرة، إن الترقيم التي تحمله هذه المقاطع غير موجود في الأصل، بل هو من وضع المترجم هنا.

****

من دفاتر تسفيتاييفا

“لا يعرف الناس كم تشكل الكلمات بالنسبة إليّ قيمة لا متناهية. (أكثر من المال، لأنه يمكن لنا أن نعبر عن العرفان بالجميل بسهولة أكبر!)

نهاري: أنهض - النافذة بالأعلى بالكاد بيضاء - برد - برك مياه - غبار نثارة - دلاء - جرار - مماسح - أثواب الأطفال وقمصانهم في كل مكان. أنشر الخشب. أشعل النار. أغسل بمياه مثلجة حبات البطاطا التي أضعها لتغلي في مياه السماور. أضع تحت السماور الحطب المشتعل لأعود وأضع فوقها المقلاة. (أرتدي نهارا ومساء ثوب البزان البني عينه الذي خاطته لي آسيا في ربيع العام ،١٩١٧ في ألكسندروف، والذي ضاق، ذات يوم، بشكل فظيع. أصبح مثقوبا من جميع الجهات بسبب الجمرات والسجائر التي تتساقط عليه. أما أكمامه - التي كانت، في ما مضى، مشدودة بالمطاط - فقد صارت مشمرة كبوق ومثبتة بدبوس أمان).

من ثم يبدأ العمل المنزلي - “أليا، أخرجي الدلو!” لكن قبل أن أضيف أي شيء سأقول كلمتين عن الدلو - إنه يشكل الشخصية المحورية في حياتي. في قلب الدلو أضع السماور، إذ حين نغلي البطاطا نجده يرشح من حوله. في الدلو، تمتزج المياه المنزلية - لقد تجمدت مياه الأقنية - لذلك، وبعنايتي، أفرغ الدلو ليلا تحت نافذتي. إذ من دونه - الموت.

لم أبحث عن قصائدي أبدا. إنها قصائدي التي تبحث عني.
أضف إلى ذلك، تبدو غزارتها فائضة لدرجة أنني لم أعد أعرف ماذا أكتب، أو ماذا أهمل.
من هنا تجدون مليار بيت غير مكتمل، غير مدون.
يحدث لي أحيانا أن أكتب بهذه الطريقة: أبياتا على يمين الصفحة، وأخرى إلى اليسار، في مكان ما من زاوية - بيتا آخر، تطير اليد من مكان إلى آخر، تطير فوق الصفحة بأسرها، تنتزع بيتا، ترتمي على آخر كي لا تنسى! تلتقطه! تحتفظ به! الوقت غير ملائم - ينقصني يدان!”

(٢)

“إيرينا! لو كنت ما زلت على قيد الحياة، لكنت أطعمتك من الصباح حتى المساء. قليلا ما نأكل أليا وأنا! إيرينا ثمة شيء تعرفينه: لم أرسلك إلى الميتم لأتخلص منك، بل لأنهم وعدوني بأنك ستجدين هناك الأَرُز والشوكولا.
أي أفضل من أن تموتي جوعا.
للمرة المليون، أنا متفاجئة بالصمت، الذي تكتمل عبره أكبر الأحداث - ببساطتها أيضا. لا من رعد، أو برق، أو “تم الأمر”. لكن ببساطة: قارورة علاج، فوطة هملة قديمة، نتحدث عن المطر والثلج - نأكل، ندخن - وفجأة: يتوقف تنفس الكائن. من دون أن نصرخ حذار!
لن أعرف أبدا كيف ماتت.
تملكون جميعا: الوظيفة - البقول - المعارض - اتحاد الكتاب - تعيشون أيضا خارج أرواحكم، بينما الأمر بالنسبة إليّ، ذلك كله: وظيفة - بقول - معارض - اتحاد الكتاب - أنا نفسي دائما، روحي، حبي، أن أكون مرفوضة، حزني الذي يتأجج، ألمي المخيف من كل شيء!
إذاك - وبشكل طبيعي - أعود إلى منزلي، إلى نفسي، هنا حيث لا أحد يناقشني، هنا حيث لا أحد يرفضني، في منزلي الفقير المدمر، حيث - وبالرغم من كل شيء يحبونني.
ليس ذنبي إن كان ذلك كله يفضي إلى كتابة قصائد”.

(٣)

“التاسعة صباحا أ كما يبدو، سنكون قريبا في موسكو.
شجرة بندق.
توقفنا عند الجمارك طويلا. أفرغت كل الحقائب. فتشت جميع الأشياء المتراكمة فوق بعضها، المضغوطة كفلينة شمبانيا مستعدة لأن تطير. ١٣ رزمة من بينها سلة كبيرة، كيسان ضخمان، سلة كتب، مرصوصة جيدا. شهدت رسوم “مور” نجاحا حقيقيا . صودرت من دون ديباجة، بدون احتفال او شروحات. (لحسن الحظ أن المخطوطات لا تثير الإعجاب عينه!) لم يطرح ولو سؤال واحد عن المخطوطات. بل أسئلة عن السيدة لافارج، عن السيدة كوري وعن كتاب بيرل باك “المنفية”. آمر الجمارك كان شخصا كريها، باردا، بدون مرح، أما الآخرون فطيبو القلب. كنت أمزح وفي الوقت عينه كنت على عجلة: لم أنجح في إعادة إقفال حقائبي، وكان القطار ينتظر. ساعدني مأمور بقوة بينما أنهى آخر القضية حين أعلن بأنه تم فحص الحقيبة الأخيرة (السوداء الكبيرة): لم يفعل ذلك في واقع الأمر، والجميع على دراية بذلك.
حين استيقظت هذا الصباح، فكرت بأن سنواتي أصبحت معدودة
- وداعا أيها الحقل / وداعا يا مغيب الشمس / وداعا يا / أرضي، أرضي أنا!
سيكون الأمر محزنا. ليس بالنسبة إلي فقط. بل لأن لا أحد أحب - مثلي - ذلك كله”.

**********

مارينا تسفيتاييفا: يعجبني أن تعانق امرأة أخرى

زينات بيطار
(لبنان)

مارينا تسفيتايفا علم من اعلام الشعر الروسي المعاصر. شقت طريقها الابداعي بخروجها عن المألوف والتقليدي. مسهمة اسهاما جذرياً في حركة التجديد الشعري، التي بدأها ماياكوفسكي وباسترناك. قلما نجد في تاريخ الشعر العالمي ظواهر شعرية نسائية، تمكنت من فرض وجود ابداعي واضح الاثر في تاريخ بلدها وعصرها كما تحقق في الشعر الروسي في النصف الاول من هذا القرن حين برزت آنا اخماتوفا ومارينا تسفيتايفا[، وان اختلفت في الطريقة والمنحى الشعري. الا انه من الضروري اليوم في سياق الكلام عن تاريخ الشعر الروسي والسوفياتي، التنويه، بالمكانة الرفيعة التي تتبوأها تسفيتايفا وقيمتها الابداعية فيه.

تركت مارينا تسفيتايفا إرثاً ابداعياً هاماً، قوامه عدد من الدواوين الشعرية الوجدانية وسبع عشرة قصيدة شعرية مطولة، وثمانية كتب دراما شعرية، اضافة الى سيرة حياتها ومذكراتها ويومياتها ومجموعة كبيرة من النثر الأدبي - التاريخي ومقالات نقدية وفلسفية.
تكمن اهمية مارينا تسفيتايفا الشاعرة في كونها لا تشبه احداً، بل هي ظاهرة متميزة بذاتها، وتكمن قوة شعرها في ذلك الزخم اللغوي المتغير دائما والمتضمن تنويعات ايقاعية تهدر كالرعد. فهي بعيدة عن الغنائية تماما، وتلعب باللغة، على مخارج الاحرف لعبة متقنة ومجددة، عنيفة وهادئة، احتفالية وحميمة، بحوارية ومونولوجية، وهي صادقة دائما مع نفسها، لذلك تأتي جملها الشعرية مقتضبة، منتقاة، هادرة احيانا كثيرة، ومشوبة بالحزن والقلق احيانا اخرى. تجدها تواجه الموت في كل حرف، وتغازل الحياة مع كل قصيدة.

وهي تشكل لغة شعرية جديدة على الشعر التقليدي الروسي وقريبة جدا من لغو مايكوفسكي وباسترناك، مختلفة تماما عن انسيابية ورقة اللغة الشعرية لدى معاصرتها آنا أخماتوفا. لم تغرق في شكلانية اللغة الشعرية بل طوعت بنيان الجملة والاصوات ومخارج الاحرف لخدمة المضمون. وهي، في طرحها لمضمون شعري جديد، تخرج عن المألوف الأنثوي لتتعداه الى الانساني العام، ولا تحس في صورها الشعرية بأنها امرأة تقرض الشعر وانما هي امرأة بمستوى شاعر كبير من شعراء العصر يتداخل في نسيج بطانته الشعرية مخزون معرفي عميق، وثقافة شعرية واسعة، فضلا عن حدس أنثوي “كالرادار” يلتقط ذبذبات الواقع بحس لاهب. يدخلها موقد الحكمة التاريخية ليعيد صهرها، في رموز واشارات ودلالات على المستقبل. قلما تخونها المخيلة لانها ملتحمة دائما بنفسها، وفي داخل ذاتها. لم تخرج مارينا تسفيتايفا لحظة واحدة من حدود أحاسيسها، لذلك لم تستطع ان تصانع أبواق الاعلام ودور النشر التي حاولت ان تستغل وضعها المادي في المهجر. بل بقيت تقول: “إن شعري كتبته الى شعبي وشعبي هناك في روسيا”. ولقد احبت وطنها، ولكنها رفضت المشاركة في لعبة السياسة بعد الثورة.

العذاب والطحين

سوف يطحن كل شيء، ويغدو طحيناً
فالناس يجدون سلواهم في هذا القول
هل سيصبح طحيناً ذلك الذي كان عذاباً؟
لا! الأفضل لو يبقى عذاباً!
صدقوا ايها الناس
اننا نحيا بالحزن
نتغلب به على الملل
هل سينطحن كل شيء؟
وهل سيغدو طحيناً؟
الأفضل لو بقي عذاباً

الى القادمة

مقدسة كنت او انك اكثر الناس خطيئة
تلجين باب الحياة للتو او انك قطعت شوطك
احبيه، احبيه بحنان اكثر
هدهديه مثل طفل على صدرك
لا تنسي انه احوج إليك
منه إليّ
لا توقظيه من احضانك
كوني معه الى الأبد
دعي حزنه وحنانه
يعلمانك الوفاء
كوني له الى الأبد: تعذبه الظنون
احضنيه بلمسة أخوية
واذا انطفأت احلام البراءة
فأججي موقد ناره العجيب
لا تتجرئي على تبادل التحية مع أحد
وأغمضي جفن الماضي والتوق إليه
كوني له ما لم اجرؤ على كونه
لا تدفني احلامه في خوفك
كوني له ما لم استطع ان أكون
احبيه بلا نهاية
احبيه حتى النهاية
كتبت بين عام ١٩٠٩- ١٩١٠

شمسان

شمسان تنطفآن - رحمتك يا رب
واحدة في السماء، واخرى في صدري
شمسان منهما ذهب عقلي
شمسان في آن، طلبتهما نفسي؟
كلتاها تنطفآن ولا تؤلمني اشعتهما
ولسوف تنطفأ الشمس الاكثر حرارة قبل الاخرى

المرأة

في سفر الفناء
لا غواية للنساء
انه فن الحب
لنساء الأرض كلها
في القلب سمّ العشاق
والسمّ أصدق
فالمرأة منذ المهد
ذنب قاتل لأحد ما
ما أبعد الطريق الى السماء!
ما اشد تقارب الشفاه في العتمة!
رباه. لا تحكم علينا
لانك لم تكن امرأة على الأرض

يعجبني

يعجبني انك لست مريضا بي
يعجبني انني لست مريضة بك
وبأن الكرة الأرضية الثقيلة
لن تزحف من تحت أقدامنا
يعجبني ان في وسعي ان اكون مضحكة
مجنونة، ولا اتلاعب بالألفاظ
ولا تغمر موجات الحمرة وجنتي
حين تتلامس أيدينا برقة
ويعجبني ايضا ان تعانق امرأة اخرى
بهدوء امامي...
وان لا تصب لعنتك عليّ بالاحتراق
في نار جهنم لاني لا اقبلك
وانك يا حناني لا تذكر اسمي بحنان
عبثاً ليلاً ونهاراً
وانهم لن يرتلوا في هدوء الكنيسة
فوق رؤوسنا هللويا!
اشكرك من قلبي ويدي
على انك تحبني دون ان تعلم
وعلى هدوئي الليلي
على لقاءاتنا النادرة
وقت الغروب
وعلى اننا لم نتنزه تحت ضوء القمر
وعلى الشمس التي تسطع فوق
رؤوس الاخرين
وعلى انك لست مريضا بي
وعلى اني لست مريضة بك
وأسفاه

ثمة خلق

ثمة خلق من الحجر
وثمة خلق من الطين
أما أنا فأتلألأ مفضضة
مهمتي التغيير
واسمي مارينا
وأنا زبد البحر الفاني
ثمة مخلوق من طين
ثمة مخلوق من لحم
مصيرهما القبر
وبلاطة الضريح
عمدت في جوف البحر
وفي تحليقي أكسر دائما جناحي
تندفع إرادتي ثاقبة
الى كل قلب وكل غلالة
انظر الى شعري العابث
فلن تستطيع ان تحولني الى ملح أرضي
انبعث مع كل موجة
كلما اصطدمت بمنعطف غرانيتي
عاش زبد البحر الفرح
عاش زبد البحر العالي

أحببني

أحببني ليل نهار - كتابة وشفاهة
أحببني على حقيقة “نعم" و"لا"
أحببني على حزني الدائم
أحببني على عمري العشرين
وعلى ان غفران الغضب
حتميتي
أحببني على حناني الجامح
أحببني على كبريائي
أحببني على الجدي والهزلي
اسمع! أحببني كذلك
لأنني سأموت

لم أرع الوصايا

لم أرع الوصايا
ولم اتردد لتناول القربان
يبدو انني سأظل
ارتكب الخطايا بحماس
كما افعل وكما فعلت
بكل الحواس الخمس
التي وهبني إياها الرب
ايها الاصحاب! ايها الشركاء!
ان مواعظكم لاذعة دائما
وانتم الشركاء في ارتكاب الجريمة
ايها المعلمون اللطفاء
ايها الفتيان
ايتها العذارى
ايتها الاشجار والنجوم
والغيوم
ايتها الأرض
سنتحمل التبعة معاً
امام الرب يوم الحساب!

التوق الغجري الى الفراق

التوق الغجري الى الفراق
ما ان تلقاه حتى يهرب منك
وقع جبيني على يدي
امعنت في التفكير
محدقة الى الليل
لم يفقه احد منّا بعمق
كم كنا في رسائلنا غادرين
اي كم كنا لأنفسنا أوفياء
كتبت في تشرين الأول عام ١٩١٥
يا عابر السبيل
انك تشبهني في سيرك
خافض العينين
وأنا خفضت عيني ايضا
أيها الاخفش قدم لي
باقة أقحوان وثق
بأن اسمي كان مارينا
ومهما كان من العمر لي
لا تظن ان ها هنا مقبرة
وأنا سأظهر متوعدة
فأنا أحببت الضحك فقط
حين كان الضحك محرماً
وكان الدم يطفح من جلدي
وكان شعري يتبعثر
لكنني كنت احيا، كعابرة سبيل
قف يا عابر السبيل!
اقطف لي غصنا برياً
ثم اقطف حبة توت
فلا ألذ ولا اجمل
من توت الأرض الذي
ينمو فوق المقابر
ولكن لا تقف مكفهر الوجه
مطأطئ الرأس محني القامة
فكر فيّ برقة
وانسني برقة
يا له من شعاع يضيئك
يغلفك بغبار ذهبي
اريد ألا يحيّرك
صوتي من باطن الأرض

اشعاري التي نظمتها باكراً

اشعاري التي نظمتها باكراً
حين لم اكن ادرك انني شاعرة
هي اشعاري التي اندفعت
كالرذاذ من نوافير الماء
كالشرارات من الصواريخ
اشعاري التي اندفعت
كالعفاريت الصغيرة داخل المعبد
حيث الحلم والبخور
هي اشعاري في الصبّا والموت الردى
التي لم يقرأها احد
قد تجدها مبعثرة في المخازن
يعلوها الغبار ولا احد يشتريها
هي اشعاري كالنبيذ المعتق
سيأتي زمنها حتماً!

السفير
1-7-2008

* * *

عروس الثلج

فوزي كريم
(العراق/لندن)

قال عنها الشاعر يفتِشينكو، في الإنتولوجيا الضخمة التي أعدها للشعر الروسي، إنها 'شلال نياغرا جليل من العاطفة، الألم، الاستعارة، والموسيقى'. ترجمةُ قصائدها إلى الإنكليزية لم تُضعف دويّ الشلال إلا بمقدار. ولقد تُرجمت مراتٍ عديدة.
إنها الشاعرة الروسية مارينا تسفيتاييفا (1892-1941)، التي تستقر مختاراتُها الجديدة بين يدي: 'عروسُ الثلج: قصائد مُختارة'(صدرت عن دار كاركنيت، لندن، 2009)، التي أعدّت ترجمتَها الشاعرةُ الإنكليزية، من الأصل الروسي، إيلين فينستاين.

فينستاين لم تترجم قصائد تسفيتاييفا عن الروسية مباشرةً، بل أعادت صياغتها عن ترجمات عدة، في قالب القصيدة الإنكليزية التي ارتأته، وهو أسلوبٌ مُعتمد في الترجمة الشعرية، وعادةً ما يتم على يد شاعر ذي مكانة، تُنسب الترجمة إليه جملةً.
على أن فينستاين شاعرةٌ مولعة بتسفيتاييفا، منذُ سنوات بعيدة. وضعت عنها كتاباً مهماً في السيرة: 'أسدٌ في الأسر' (1987)، كما ضمنتها في روايتها 'أورشليم الروسية' (عرضت للكتاب على هذه الصفحات في مقال: 'شعراء المحجّ الروسي').

محوران يشدّان شعرها لبعض: الحاجةُ القصوى إلى الحب، والتوتّرُ بين الشعر ومهمات المرحلة، وكلا المحورين عاملُ أذى وعذاب، جعل من حياة تسفيتاييفا أيقونةً، عزّ نظيرها، لمقدار الضريبة التي يجب أن يدفعها الشاعر عن صدقه، في العصر الإيديولوجي.

ولدت في عائلة معنية بالفن: أبٌ مؤسس لمتحف الفنون الجميلة، وأمٌ عازفةُ بيانو ماهرة، وهي جذوةُ لهب شعري، لا تُقرن في طاقة التفجر إلا بماياكوفسكي، وإذا ما انصرف تفجرُ ماياكوفسكي إلى الثورة، فتفجّرها انصرف إلى الحب، لكن لا على هوى الشاعرةِ إخماتوفا المعاصرة لها، فحبُّ هذه كان متوازناً، مُشبعاً بتطلّع وأسىً رفيقين، رقيقين، في حين كان هواها عاصفاً، غيّر من جذرِ قصيدة الحب الروسية، ومن جذر معاني التطلّعِ والأسى المألوفين.

أحبت سيرجي إفرون، الكاتب والممثل، وتزوجت منه (1912). التحق بالتجنيد في مرحلة الحرب الأهليه عام 1914، فوجدت تسفيتاييفا نفسها في أحضان حبٍّ جديد، لكن مع شاعرةٍ من جنسها، هي سوفيا بارنوك. أنجبت من زواجها طفلتين أودعتهما في دار للأيتام، على أثرِ عاصفةِ المجاعة التي ألمّت بروسيا في عامي 1919 و1920، حتى أن إحدى الطفلتين توفيت من الجوعِ هناك، فلم تفلت الشاعرةُ من أزمةِ الذنب، وإشاعاتِ الاتهام بالإهمال.

في براغ، حيث التحقت بزوجها الأول، تعرّضت لحب خاطف جديد، هو الثالث، ثم الرابع في برلين، ثم الخامس مع الشاعر باسترناك، والسادس مع الشاعر مندلستام. وعقدت أملاً سابعاً على الشاعر ريلكة الذي لم ترَه، بل قرأ لها قصائد أرسلتها له، وهو على سرير مرضه الذي مات فيه، كتبت له: 'عزيزي رينر، هذا هو المكان حيث أعيش. هل مازلت تُحبني؟ مارينا'.
وكل تطلّعات الحبّ هذه، ما تحقّقَ منها وما لم يتحقق، أثمرَت قصائد رائعة، قصائدٌ لا تكتفي بأن تُطلَّ على كيان تسفيتاييفا المضطرب الظامئ الداخلي. بل على الكون المضطرب الظامئ للحقيقة، خارجها. ولقد كانت المرحلةُ التاريخية لا تقيم وزناً للإنسان الشاعر، ولا للقصيدة، إلا باعتبارهما وسائل لمُعترك من أجل 'فكرة'، لم يعرف أحد مقدارَ صحتها.
ظلّت الشاعرةُ كياناً مهجوراً، تكتب من باريس لصديقة لها: 'في باريس، مع استثناءات جد شخصية، يكرهني الجميع، يكتبون كلَّ ما يخطر لهم من بذاءات عني...'، حتى ابنتها، التي كانت قريبةً منها ذات يوم، فضّلت العيشَ مع أبيها، ومنافي المهاجر الأوربية لم تُمكّنها من مصدرِ رزقٍ واحد، الصحفُ التي كانت تنشر لها قاطعتها، حاولت التشبثَ بالبقاء في مدينة براغ، لكن الاحتلال النازي عام 1939 حال دون ذلك، فاضطرت مع ابنها وزوجها السابق للعودة إلى روسيا.

لم يحذّرها صديقٌ من موجة الرعب الستالينية التي اجتاحت روسيا في منتصف الثلاثينيات.
حين وصلت لاحقتها الأخبارُ المفاجئة: زوجها اعتُقل في الحال وأُطلق عليه الرصاص فوراً. أختها اعتُقلت وسُجنت. ابنتها وابن أخيها اعتُقلا وأُرسلا إلى الأشغال الشاقة. ماندلستام اعتُقل وقُتل. معظم أصدقائها المقربين تحاشوا لقاءها، باسترناك وإخماتوفا ضمناً، بفعل المحاذير.
على أثر الاحتلال الألماني مُنحت فرصةَ السكن في منطقة نائية، في جمهورية التتار. في كوخها البائس، وفي تاريخ 31 /8/ 1941، علّقت نفسها بحبل.

الجريدة
10 - 9 - 2009