النهار الثقافي
(لبنان)

محمد الماعوظفي آخر الزمان الأدبي، عندما يهجم الليل ويذهب الجميع الى مناماتهم، ويغادر الشعراء الى كتبهم ورفوفهم، قلائل من هؤلاء الشعراء سيظلون أحياء يُرزقون. منهم الذين رأوا ما لم يُر من قبل، ومنهم الذين نزفت أحلامهم ما لم يُنزف من قبل، ومنهم الذين كتبوا ما لم يُكتَب من قبل. هؤلاء، أكثر من غيرهم، سيظل شعرهم حياً لأنهم وسطاء المعرفة الوجدانية النبيهة، وهي لدينا، نحن الأدباء، أرفع أنواع المعرفة وأبعدها منالاً.
محمد الماغوط الذي مات منذ أيام (1934 2006)، سيكون واحداً من هؤلاء. لا لأنه فيلسوف عبقري أو مفكر عالم وعظيم، إنما لأنه شاعر.
تنطبق صفة الشاعر على محمد الماغوط كأنه يرتديها. بل كأنها ترتديه. وخصوصاً لأنه كان فريداً في سلطته على استدعاء الشعر الشعر حتى في النثر العادي واليومي والمباشر من لغة الحياة والأشياء الماثلة أمام العيش.
خرج الشعر من أحشائه الممعوسة بطفولات الألم والوجع والفقر والتسكع والديكتاتوريات السوداء، فظاً وليّناً، مدهشاً وسهلاً وممتنعاً، كما يخرج ضوء من حزن في قصيدة. من صحراء حياته أطلعَ الأخضر اليانع، كمن يُطلِع ماءً سلسبيلاً من قبر. يكفيه أنه كتب ديوانه الأول، "حزن في ضوء القمر"، الذي كضربة نرد. ويكفيه أنه اتبعه بديوانيه اللاحقين، "غرفة بملايين الجدران"، و"الفرح ليس مهنتي"، لكي ينتمي بقوة الى تلك الحزمة الباهرة من الشعراء الذين دوّخوا اللغة الشعرية العربية، وناموا معها فأنجبت منهم، ونقلوها من حيث لا يصلح يباسها لإشعال نار الى حيث يجدر بها أن تشعل الحياة برمتها.
أعماله الأخرى، مسرحاً وقصائد ومقالات، تتفيأ كلها تلك السماء، سماءه الشعرية الأولى، وتنسج على منوالها. وإذا أجزنا لأنفسنا أن نحرّف عنوان ديوانه، "الفرح ليس مهنتي"، لقلنا إن مهنة هذا البدوي الخارج من "العدم"، هي غريزته شاعراً. "الشعر ليس مهنتي"، سنجعل محمد الماغوط يقول ما نقوله عنه، ونضيف توضيحاً: "الشعر ليس مهنتي لكنْ غريزتي".
هذا الشاعر الذي قرأنا قصائده، ونحن فتية، وفي ما بعد، مثلما يلتهم الجياع أرغفة الخبز، بل مثلما يفوز المرء بالمرأة التي يشتهيها سواه، كل الذين سواه، نقدّم في هذا العدد، لقرائه، القدامى والجدد، ملفاً يتضمن قراءات لأدبه ومختارات من شعره، كي إذا قرئت، يكذّبنا القراء فيقولون: بل كان الشعر مهنته. وهي مهنة لا تنتهي بالموت!

"الملحق"

***

الشعرية المتوحشة

عقل العويط

ليس من سبب يدعو شاعراً من طراز محمد الماغوط الى أن يتعمشق بالحياة ويحافظ عليها. كل الأسباب تدعوه الى العكس: أي الى استفزاز الحياة والمناداة بقتلها. ليس من سبب البتة، ومطلقاً، ينبغي له أن يحمل شاعراً كهذا، يولد عارياً ويغادر عارياً، على حماية "الحياة الكلبة" (التعبير لأنسي الحاج) من الموت، بهدف أن يحيا أكبر قدْر ممكن من الأيام، ويحظى بأكبر قدْر ممكن من هول العيش المفجع. الأحرى أن الأسباب كلها كانت قد توافرت له ليكون في الموقع الضد وليفعل العكس، وبوحشية استعراضية تضاهي وحشيتيه، الإنسانية والشعرية. هو، في كل الأحوال، لم يقصّر في ذلك، البتة، وربما وفّى قسطه الانتقامي حين نذر يومه، وكل يوم، وشعره، وكل شعر متواطئ معه، وفي آن واحد، للثأر من هذه الحياة، بالحياة نفسها. وبالكلمات.
هو منذ أعوام كثيرة، ربما منذ ولادته "الملعونة"، عام 1934، قرر أن يشنّ الحرب على هذه الحياة، وأن يصليها النيران الحامية، وأن يقذفها بالحمم والشظايا، وأن يخربط لها البوصلة لتصاب بالجنون، ولتهستر الجبال والأنهر والمنبسطات من الأراضي، والبحر والقفر. ومنذ ذلك الزمن، بل منذ أول الدهر، قرر، ولربما قبل تلك الولادة، أن يمزق للحياة الدساتير والأعراف، وأن يبصق لها على القوانين، وأن يجعلها تحت قدميه العاريتين والموحلتين، وأن يمشيها مثلما تمشي العاصفة تحت العاصفة.
لم يترك محمد الماغوط سلاحاً "معنوياً" إلاّ استخدمه في حربه تلك. كان مؤمناً بالنظرية الآتية: قاتلاً أو مقتولاً. بل بالنظرية هذه لا بسواها: قاتلاً الحياة لينقتل بها لأنه قتلته بالولادة.
بالأسنان حارب الحياة، وبعينيه. وأكثر أكثر: بجسده العاري، وبقلبه العاري، وبروحه العارية. بل أكثر أكثر وبدون هوادة: بالكلمات العارية. بالنثر الذي يجعل النثر شبيهاً لا بذهب السهول في الصيف لكن باللعنة. وبالشعر الذي يهزأ بالشعر ويعطيه موهبة أن يصير شعراً. وبدون انتباه. بفطرة الزهرة التي تنبت في البراري، وتعيش. بقوة الموت الذي فيها. وبسلطة الغريزة الحياتية. وبكبرياء الجهل. وبالأمية التي تجعل الحياة تحيا وحدها، وبقوة نفسها. ولا تحتاج الى حماية.
تماماً، على طريقة الحب الذي يولد بدون جهد. وبدون ملاحقة وتعقّب ومطاردة. أي فقط بـ"الصدفة الموضوعية"... السوريالية. كما التقاء الصدمات الهائلة التي تصنع لغةً في العيون، أو أثلاماً باكية في الصحراء، صحراء الوجدان، وفي كل صحراء. أو تلك التي تصنع شيئاً يشبه الكهرباء والنار والعاصفة. او التي توقف القلب عن الخفق. أو تلك التي تجعله، يا للهول!، تجعله يعود عودته المفاجئة من موت لم يكن مقدَّراً له فيه أن يموت.
محمد الماغوط هذا، شاعر وُلد شاعراً وعاش شاعراً ومات شاعراً. هو شاعر الوديعة. وهذا يكفي.
لم يقرأ. حتى ليبدو لي أنه لم يكن في حاجة الى أن يقرأ ليعرف. فقد قُرئ له قبل أن يولد، وحين ولد، ولد قارئاً وعارفاً ما يعرف، وشاعراً ما يشعر به، ورائياً ما يراه، وقد كتب ما أعطي إياه فقط. وعندما طال به المقام والمقال، وقع في "نثر" النثر الذي كان كتبه. وهنا، بالذات، وتحديداً، يحمل هذا الشعر أسباب حياته، متوأمةً مع أسباب الأخطار المحدقة فيه. وهو، في عتمة اللغة وتجاريبها، قد لا يستطيع أن يظل يقاوم طويلاً أهوال التحديات الليلية والباطنية، التي تمثل أمام اللغة بعد استتباب قمر "القول الأول".
لم يذهب محمد الماغوط الى العمل ولا الى الأشغال الأدبية الشاقة ليصنع لنفسه أدباً ويبني لغة ويرفع مقاماً شعرياً. أنصنع أدبه معه كأنه مصنوع سلفاً، وانبنت لغته به كأنها مبنية سلفاً، وارتفع مقامه الشعري من تلقائه كأن الشاعر يرتفع من تلقاء الغريزة الفطرية ليس إلاّ. كاجتماع هذا الجسد بهذه الحياة، وكاجتماع هاتين العينين بهذه النظرات، وكاجتماع هذه اللغة بهذه الكلمات.
هذا شاعر ولد شعره معه وعاش معه، وأكاد أتجرأ فأقول إنه سيعيش وحده كنيزك أفلت من الجاذبية، وإنه لن يستطيع أن ينجب، لأن الإرث المتوارث لن يستطيع الأصل، ولن يطوّره، أو يتخطاه. فمثل هذا الشعر لا يتطور، لأنه يولد بهذه الطريقة، ولا يذهب بعد الآن الى قعر لأنه في القعر. فليس فيه بعد الآن من البواطن غير المكتشفة، لأنه خرج من المنجم حاملاً معه الذهب والغبار، والكثير الكثير من الأسمال والوحول. وهذا ليس مذمة. إنه موهبة. ويقع في باب الوصف والتقريظ، وحسب.
وعندما تكون أمام شاعر، كهذا الشاعر، وحيال أمية كهذه الأمية، من الجهل أن يطالب المرء شاعراً أكان أم ناقداً أم قارئاً بغيرهما. بل من العته مناهضة هذا النوع من الشعر والشعراء لأن في النوع شيئاً يشبه الصدفة النادرة. او الكنز.
وفي كل الأحوال، هو، أي محمد الماغوط، ليس صالحاً للعلم والتعلم، لأنه صالح فحسب لهذه الأمية الشاعرة. ولو تعلّم، بمعنى أنه لو اشتغل شعرَه، بالثقافة، وصرف عليه ما يصرفه الشعراء على أشعارهم من غرائز وحدوس لتصير قصائد، لكان فقد سرّ هذه الموهبة الكبيرة، المنذورة للفطرة الحياتية واليومية فحسب. والشاعر حين يكون هكذا فإن الشعر لا يسمح له بالتعلم لأنه يُعطى له مرةً واحدة. ينزل فيه هذا الشعر نزول اللعنة في الضحية، أو نزول الربيع في الزهرة. وهذا، أيضاً، يشبه نزول اللون الأزرق في العينين. وكله ليس مدعاة للأسى أو للتألم إنما للدهشة المزهوة أو المنصعقة. حتى ليجب على المرء أن يقول حيال مثل هذه الصدفة: يا للقدر الجميل. أو يا للهدية التي تشبه الجوائز الكبرى!
وأمام موهبة مفطورة على الشعر كهذه، يكاد يقول المرء، أحياناً، ليت البعض لا يتعلمون تهذيب الشعر لأنهم يقتلون موهبته. وليته، الشعر، لا يسمح لهم بذلك. وليتهم يكونون أميين، على طريقة الأمية الموهوبة، وإن بلغات وأساليب مختلفة، أو مناقضة، أو ضدية.
كنت أتحدث قبل قليل عن قتل الحياة، أو حتى عن الحياة القاتلة. وفي الحالين، عن محمد الماغوط الذي قتلته الحياة حين أنجبته، فصرعها بشعره، وبحياته الشاعرة، وهذه هي أيضاً فجيعته. نعلم أن هذا المتوحش الغاباتي إنما هو صالحٌ للغابات وللعيش فيها. أقول الغابات، وأعني الأرض البدائية، وكل أرض بدائية. فهناك تحيا الفطرة الكاملة، وهناك ترسل شموسها وأقمارها لتعيث الفساد الجميل في تلك الأرض. وهو، أي البدائي، يكون "مصنوعاً"، بل منذوراً للعيش فيها. وعندما يقيّض له - أو يُجبر على ذلك - أن يخرج من تلك الأرض البدائية، الغاباتية، يكون كمن يُزاح قلبه من قفصه الصدري فيعيش بلا قلب أو بلا صدر. هذا تماماً، ما أحاول ان أقوله عن شعرية الماغوط وعن حياته الشعرية، وهذا ما أحاول أن أتوصل الى استنتاجاته اللاحقة. هو خرج من الأرض البدائية، حاملاً جسمه البدائي، وقلبه البدائي، وروحه البدائية، ولغته البدائية، ومفاهيم الغابة حصراً، ليعيش في المدن ولغات المدن وأرواحها وأجسامها وقلوبها، وفي مفاهيمها المضادة. هناك، إذاً، ستقع الواقعة التي ما كان لها أن تقع لو أن هذا العصفور المتوحش بقي متوحشاً في غابة متوحشة. وفي الخروج من الفردوس، كيف يؤتى للفردوسي أن يحيا في الجهنمي؟ وكيف يستطيع، وهو الخارج من هوائه الطبيعي، أن يتنفس هواء اصطناعياً؟ وكيف يستطيع، وهو المصنَّع في الأصل ليعيش في الغابة المتوحشة، الحنونة، المخلصة، الطيبة، الرؤومة، الغنية، اللذيذة، والكاملة، أن يُحرَم العيش في الرحم ويُنقَل للعيش في الغابة المضادة، الغابة المدجنة، القاسية، الخائنة، الكاذبة، الفقيرة، النتنة والناقصة؟
كيف يستطيع امرؤ كهذا، وهو منتزَعٌ انتزاعاً من مكان إقامته، أن "يتعايش" مع شعوب وبلدان هم غرباؤه ونقائضه؟ وكيف تستطيع الغابة الأولى أن تحيا في الغابة الثانية، التي هي في الواقع الفعلي للأمور، متوحشة لكنها تزعم "مدينيتها المدجنة"؟! وكيف يستطيع هذا الشخص الشاعر أن يوائم بين الأصل الذي كان عليه، وحيث كان، وبين هذا اللاحق الذي صار اليه، ويعيش فيه؟
في قلب هذه المعمعة الهلاكية، في خضمّ هذا النزوح القدري، تحيا الواقعة الشعرية الماغوطية. وعلى وقع هذه السنابك، ذهب الشاعر بعيداً في التدمير الذاتي، وفي التدمير الشعري، الى حدّ أن الحياة نفسها، الحياة المدينية خصوصاً، صارت تناديه وتستغيث به كي يفرج عنها ويحرّر لحمها من براثنه، بعدما أثخنه تنكيلاً وجروحاً.
وهذه أيضاً كانت حال الشعر معه.
كالوحش، أنشب مخالبه فيها، هذه الحياة، وكالإنسان البدائي. وإذا كنا نراها قوية، فليس ذلك سوى على سبيل وهم الرؤية أو غبش القلب والعقل. لا، لم تكن الحياة قوية لتصرعه. كان هو متوحشاً فالتهمها. وكان هذا المتوحش هو الأقوى. لأنه كان ضحية. وهل من قوة أشرس وأوحش وأدهى من قوة الضحية التي تفترس نفسها وحياتها وكلماتها؟
توافرت لمحمد الماغوط الأسباب الجوهرية والأساسية كلها ليكون ما كأنه، وليكون: لعنة الولادة تحت سماء ملعونة وزرقاء، لعنة العيش، ولعنة الشعر. ثم الأسباب الثانوية الأخرى: الفقر، الجوع، التشرد، الوطن، الأهل، المدن، الديكتاتورية، السجن، المخابرات، التخلف، الهزيمة، اليأس. فضلاً عن "الديكتاتوريات" المضادة: الحلم، الخيال، الثورة، الرفض، الشتيمة، السخرية، الحب، الجنس، الكحول، التدخين. ونهم العيش. والعيش النهم. وبكامل الجسد البدائي. وبكامل وجدانه. وبروحه. وكل الشعارات "الموضوعاتية" التي يمكن رفعها في مثل هذه المناسبة.
هل تنحاز الى هذا النوع من الشعر، يسألني سائل؟ ثم يسأل: ألا تخاف عليه، من نفسه، ومن مريديه؟ ومن مشقات استمراره في الحاضر الموصل الى الغد ومفاجآته؟
بل أحبّ هذا الشعر حباً عظيماً، وقد قرأته مراراً. وسأقرأه أيضاً. وأرى فيه ما لا تستطيع تجارب أخرى أن تجاريه في ميدانه، مهما كثرت ثقافاتها وعلومها وخبراتها. فهذا شعرٌ يستطيع أن "يصادر" الوجدان الشخصي والجماعي، ويحرره في الكلمات. وهو شعر - وديعة. بل نيزك أفلت ضؤوه من سرّ الجاذبية.
فماذا نريد أكثر؟! .

***

لهذه الأسباب لسنا أيتامه

ماهر شرف الدين

فعلها الماغوط. أفرغُ من كتابة هذه الجملة، وأستمهل إشارتَي تعجب واستفهام. بالطبع، كان الماغوط ميتاً منذ زمن. لم ننتظر اتصالاً هاتفياً، أو خبراً عاجلاً من وكالات الأنباء، كي نتأكد من موته. لقد مات الماغوط قبل ذلك بكثير. مات لحظة لم يعد يرى دمشق امرأةً تضطجع في دفتره كفخذين عاريتين. لقد مات منذ أن طالب شامه الحديثة بأرصفتها القديمة. لم يخرج الماغوط في تظاهرات بلاده، بسبب ترتيبها، كما يقول: تظاهر على أوراقه. لكن علبة الثقاب لم تفارق جيبه، لإشعال السجائر، وإشعال ما كتب. صحيح، كان الماغوط مستعداً دائماً لاستعمال علبة ثقابه (استعملها؟). وكان على الدوام لا يجد ميزاناً أفضل من كفّ يده ليزين فيها قضاياه. حمل الماغوط قضيته كالكنغر في جيب أمامي. زانها في يده، وقذفها برجله، وبكاها. الصحيح، أن ما أخّر هذا الصعلوك الغابر عن قبيلته هو بالضبط ما جعله شاعراً كبيراً: فردة حذاء دائمة في يد الماغوط. حملها في شعره، وفي حياته. واصطحبها إلى بيروت ودمشق والسلميّة. فردة حذاء حسبها أحياناً للعسكر، فغنّى فلسطينه. وخالها أحياناً أخرى للشرطة، فغنى حرّيته... لكنها كانت فرده حذائه هو. كان الماغوط ساندريلا نفسه. حمل حذاءها بيده، وقطع البلاد بحثاً عنها. بالطبع، لم يجد الماغوط ساندريلاه. وفي اللحظة الأخيرة من حياة زوجته الشاعرة سنية صالح كان يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، ولا يجرؤ على تجريب الحذاء فيهما. كان الماغوط يخاف أن يجد ذاته، أن يعثر عليها، أن يلمسها بيده. كان يخاف إنهاء تسكّعه. ولأنه كذلك، دقّ الأبواب بقبضته المتعبة، والأشجار بمساميره الكبيرة. كان شحاذ أوطان من دون منازع. كان يقول: أبحث عن وطن، وكان يبحث عن نفسه. نتذكّر ما كتبه للسيّاب في موته. نتذكر تلك الجملة التي "تومض كالنسر": "تشبّث بموتك أيها المغفّل". لم يتشبّث محمد الماغوط بموته، كما طالب رفيقه بذلك. لكن الميتة نفسها انتظرته. طالب الآخرين بالتشبّث بموتهم، وتشبّث هو بالمرض والويسكي. "كنتُ أول من يبكي ويصرخ أثناء التحقيق"، قال. ولم نعتبر ذلك اعترافاً: جبناً يُحسب عليه، أو شجاعة تحسب له. كان الماغوط شاعر الرايات المنكسة، والجيوش الجالسة قرفصاء. وكان شاعر الرغبات بلا منازع، والهزائم بلا منازع. لم تهزمه القضايا الكبرى، كما هزمته فاتورة الكهرباء والهاتف. استعمل محمد الماغوط مكانس الزبّالين في تنظيف أحزانه وأشعاره، وفي ضرب أمّته على عجيزتها المضحكة. وكان الماغوط أبا الكثيرين منّا. كان أبانا. ولأنه تنصّل من أبوتنا، لم نصبح أيتامه حين مات. عقوقنا له كان أفضل طريقة للردّ على أبوته، لردّ جميله، والعرفان بفضله. ظلم الماغوط نفسه في أعمال كثيرة، صحيح. وكتابات كثيرة، وتنازلات كثيرة. الأرجح، لأن علاقة الكلمات بعضها بالبعض كعلاقة الأخ بأخته، وهما نائمان في فراش واحد، كما قال يوماً: كل حركة منهما تفسَّر. لذلك، ربما، أكثر الماغوط من "الحركة" في سرير كلماته. أكثر من الشعر الحرام، والحزن الحرام، والوطن الحرام. بذهنية البغيّ قبل المداهمة، كتب أشعاره ومسرحياته، "كلما تحرّكت ستارة أو قُرع الباب سترتُ أوراقي بيدي". لقد كتب الماغوط عن وطنه، كما كان سيكتب الجائع، لو أتيح له، عن رغيفه، وكما سيكتب المحروم عن فخذ بيضاء لامرأة ترقص على الطاولة. كتب برغبة من يريد، ومن لا يملك. رغبة بأسنان طويلة، وأظافر طويلة، وحاجبين طويلين. ولطالما اعتقدتُ أن الماغوط لا يكتب إلا والدموع تملأ جرّتَي عينيه. عاش الماغوط أيامه الأخيرة مع كؤوس الويسكي وأعقاب السجائر. عاش مع أشياء لا تحمل هوية في سحنتها، أو بطاقة شخصية في جيب قميصها. مع ذلك، لم يُنزل سبّابته التي رفعها كتلميذ في وجه وطنه. بقي الماغوط رافعاً سبّابته حتى اللحظة الأخيرة، حتى تحقيق مطلبه. لا يكون المرء حيادياً حين يرثي محمد الماغوط. أقول، لا يكون حيادياً، ولا يكون مرتاحاً. يرعبني أن يموت محمد الماغوط، ولا يتغير شيء في العالم. يرعبني أن يموت الذي أصاب وطنه بالدوار، من دون أن نشقّ ثوباً عليه. كتب الماغوط أجمل قصائده، وإصبعه على الزناد. وارتجل وطنه، على مثال ما ارتجل قصائده، قبل أن يوصي به لأول قاطع طريق. هكذا لن يغرب عن بالي قوله في لقاء تلفزيوني إنه لا يكتب الشعر إلا على ركبته: لم يكن التسكع والسفر الدائمان، وما ينطويان عليهما من معاني العجلة وسباق الزمن، هما وحدهما يجعلان شعر الماغوط غير مرتاح إلى طاولة الكتابة، أو إلى ما يشبهها من وسائل الاستقرار والطمأنينة، لكنها أخلاق الخبز: حينما تكون الركبة طاولة الرغيف وطاولة الكتابة. لم يأكل الماغوط، وأبناء جيله من الفقراء، الخبز على الطاولات. هكذا تناول الماغوط الشعر والخبز من القمة نفسها، ركبته، قمته الواطئة والعالية، والتي ليس لعلم أو راية غزوها. ركبته - قمّته: مسقط شعره. لا بدّ لمن قرّر قراءة شعر الماغوط من آخر دواوينه، "البدوي الأحمر" (دار المدى)، أن يظلمه، على مثال ما ظلم الماغوط مسرحه حين جعل من مسرحية "قيام جلوس سكوت" آخر مسرحياته. لكنا، إذ نقرأ كتابه هذا، ونعيد قراءته، فإنما ليقيننا أننا لن نعدم تلك الأنا المتسكعة، التي أبى الماغوط أن تكون ربطة العنق في شعره. أصرّ الماغوط في آخر أشعاره على سؤال أمّهات الكتب عن مصير مؤلفاته "المتواضعة"، كما سمّاها. أراد أن يعرف على أي الرفوف سترقد، وأي الأضواء ستُسخَّر لها. ولأنه تخلّى عن حلمه القديم (وطن محتلّ يحرّره، أو ضائع يعثر عليه)، أجاز لنفسه السؤال عن كَنَبَته في صالة التاريخ. هل أراد الماغوط فعلاً إنهاء تسكعه في مكان وثير؟ أسئلة لا نملك جرأة الادعاء على امتلاك أجوبتها. أسئلة لن تصبح في رسم المستقبل، أو في رسم البيع. لم يقلع الماغوط عن التدخين، بالرغم من معرفته أنه قاتل لمن يعاني ضعف تروية في القلب. لم يقلع الماغوط عن التدخين، ولم يقلع عن مرضه أيضاً، وعن قلمه. لا يشبه إصرار الماغوط على الكتابة إصرار صباح على الغناء. قطعاً لا. وقطعاً لا يشبه إصرار المنتحرين. شعر الماغوط كان صنو سعاله: مظهر من مظاهر شيخوخته، كما كان في الماضي وجهاً من وجوه شبابه. أتذكر، قبل عام ونيّف، أننا استعرنا، في رثاء ممدوح عدوان، الكلمة التي قدّمه بها محمد الماغوط. استعرنا تلك المقايضة التي عقدها الماغوط بينه وبين صديقه: سعاله، مقابل الشَعر المتساقط من رأس صديقه المصاب بالسرطان. اليوم أفتّش في تلك المقدمة - القصيدة، علّني أقع على ما ينقذ مقالتي هذه، على جملة تتنبّأ بموت يأتي، أو رحلة أبدية. على الدوام نحن نبحث، بعد رحيل كل شاعر، عن تلك الجملة، أو الجمل، التي سنلقيها في وجه القارئ، ونقول: إقرأ (تباً لمالك بن الريب). تلك الجمل التي تجعل راحلنا رائياً كبيراً، يرى موته قبل الآخرين. "وإذا خطرت لك زيارتي، يقول الماغوط مخاطباً عدوان، حيث أقيم/ فعلى الرحب والسعة/ فإذا لم أكن موجوداً/ فسعالي يقوم بالواجب وأكثر (...) لأنني قد لا أعود أبداً/ فمدينة لا يوجد فيها مريض نفسي أو عقلي حتى الآن/ لن أبقى فيها دقيقة واحدة". صحيح أني وجدتُ الذي يخوّلني الصراخ في وجه قارئي: إقرأ. وصحيح أني أستطيع أن أشفع هذه الجمل بما قاله سابقون، ولاحقون، عن أن الماغوط هو قرين الشاعر الرائي رامبو، لكن ما الفائدة، أقول، وأعفّ عن فعل ذلك، ما دام صاحب الرؤيا يجزم بأن كل فلاح عجوز يستطيع، وهو يدرّج لفافة التبغ بين يديه، أن يروي كل تاريخ الشرق في بيتين من العتابا. غالباً ما أشعر أني أمام منجم حين يقع بين يديّ كتاب للماغوط. نعم. هو منجم شعريّ من أمنيات كثيرة وخائبة: تمنى الماغوط أن يكون حصاة ملونة على الرصيف، أو أغنية طويلة في الزقاق. وتمنى أكل النساء بالملاعق. تمنى الماغوط، وما أكثر ما تمناه. لكن هذه الأمنيات لم تأخذ استحقاقها الشعري بغير خيبتها. الخيبة مطهر الأمنية لتكون شعراً؟ العكس ليس صحيحاً بالتأكيد. كتب الماغوط خيبته حتى لم يعد يميّز قلمه من أصابعه. لكن الذي أنقذ شعره "المباشر" من نفسه هو أنه مكتوب بدموع فوسفورية. شعر فوسفوري، هو أكثر ما أستطيع الوصول إليه في وصف شعر الماغوط. وذلك ما يصدّق القول إننا أمام منجم: كلمات تلمع وتومض وتبرق. لقد خرج محمد الماغوط على آداب الشعر العربي، في كل شيء. لم "يحترمها"، وخصوصاً في تحويله الهزائم انتصارات شعرية. هزائم ظافرة، هي هزائم الماغوط. في الشعر، فقط، يغدو للهزيمة تاجها وإكليلها. كثرٌ هم الذين كتبوا عن كاف التشبيه في شعر الماغوط، وقالوا إنها السرّ. وكثرٌ قالوا الواو الثالثة. وآخرون قالوا صوره الموحلة. وغيرهم قال. لكن... لا يعطي الماغوط مفاتيح شعره لأحد، لأن الهزيمة لديه أمر شخصي، وسرّ شخصي، وامتياز شخصي. ميدالية مفاتيح شعر الماغوط بقيت معه. لذلك لا توجد كلمة في اللغة العربية غير صالحة للاستعمال لديه: "الكل مطلوب الى الخدمة".
فعلها الماغوط. نعم. فعلها: زان فردة الحذاء بيده. رمقها بطرف عينه. حرّك أصابع قدمه اليسرى المتورّمة، والنافرة من جورب عتيق.
- لبسها؟
- لا.
- قذف بها إلى النهر؟
- لا.
أهداها لأول إسكافي صادفه في الطريق.
فعلها الماغوط: مات، ولم يجد ساندريلاه .

***

بين الثورة المغدورة والشعر المنثور

سلام عبود

لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
أنا أعرف أن قولي هذا سيصيب كثيرين بالدهشة، إن لم يكن بالبَهت.
ماذا عن أمه؟
ماذا عن رفاق طفولته الحزينة؟
ماذا عن زوجته، وهي شاعرة مثله؟
ماذا يقول زكريا تامر الذي كان يزوده بعض معارفه في سجنه؟
ماذا يقول الذين نشروا أول قصيدة له، والذين تبنّوه شاعرا قبل أن يفطن هو الى معاصي الشعر الخفيّة؟
ماذا سيقول زملاء مجلة "شعر"؟
ماذا عن دارسي حياته وأدبه؟ وماذا عن الأصدقاء والأعداء والأعدقاء؟
كثيرون سيصابون برعدة وهم يجدون أنفسهم قد سُلبوا حق معرفة الماغوط، أو، لنقل، حق مجهولين في معرفة بعض أسراره الصغيرة والكبيرة؟
وكيف يحق لمن لم يقتربوا منه أن يجدوا في أنفسهم الجرأة على احتكار حقائق الشاعر الخفية؟
على الرغم من هذا كله، أعود فأقول جازما، مكابرا: لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
حينما تعرفت الى الماغوط في أواخر النصف الثاني للستينات، كنت طالبا في كلية الآداب. كان عمري ثمانية عشر عاما. لم أعرف حينذاك عن سجنه، ولا عن طفولته، ولا عن قصيدته الأولى. لكني كنت أحمل في روحي "ملفا ضخما عن العذاب البشري". ولسبب ما، كنت أنوي رفعه الى الله حالما أنهي كتابته. لا أدري إن كنت فعلت ذلك أم لا، ولا أدري إن كان الله استقبله مني أم لا، والأكثر أهمية أني لا أعرف حتى هذه اللحظة بأي اللغات كان يتوجب عليَّ كتابته، لكي يستطيع ذلك الذي في الأعالي أن يتواصل معي في متعة قراءته.
ملاحظة عابرة: كان الماغوط شكاكا في ما يتعلق بألغاز اللغة الوحيدة التي يجيدها. ولفرط هوسه بها، كان يظن أنه أقدر حتى من الخالق عزّ وجلّ، على فك أسرارها.
من هنا بدأت معرفتي بالماغوط. صديق ما، أرجّح أن يكون الصديق الشاعر عبد الحسين الهندواي، هو الذي وضع في يدي ديوانا هزيلا، منسوخا بخط اليد، ملفوفا بجريدة رياضية، وقال لي هامسا:
- كن حذرا كما اتفقنا! ولا تخبر أحدا أني من زوّدك هذا!
لم أخبر أحدا. لكني حفظت الأحزان التي كُتبت في ضوء القمر عن ظهر قلب، ورحت أرددها على كل من أختلي به، حتى بتّ أظن، لسبب خفي، أني منشور سري حي، منشور محظور، جريمته الكبرى أنه يقطر شعرا خالصا.
ذلك كل ما أذكره عن الماغوط وبداية صلتي به، التي تجعلني الآن أشك في وجود كائنات أخرى غيرنا، نحن معشر العراقيين، يعرفه أكثر منا، وعلى أقل تقدير يعرف ملفات عذابه، عذابنا، السرية الضخمة.
لسبب خفي أيضا، لم أكتف بحفظ قصائد الماغوط. كنت أضع الديوان الصغير المنسوخ تحت ملابسي وأمشي بمعيته في الشوارع. وفي شارع الرشيد، شارع التبّضع البغدادي، كنت أسير وأراقب بحذر تام شبح صورتي المرسوم على الواجهات الزجاجية للمخازن التجارية، لأعرف إن كانت هيئتي تشي بأني أحمل ملفا ضخما عن العذاب البشري بين طيات ملابسي وفي ثنايا روحي.
كنت أسير بين أعمدة البنايات ولا أرى الناس. لأني كنت مشغولا بأمرين: ملف الماغوط الضخم، ومصير بطل مالرو في "الوضع (أو المصير) البشري"، الذي كان يمشي معي بحزم وثقة، يبادلني، رغم لغته الصينية، قراءة كلمات الماغوط، ويعدّ معي، سرا، عملية تفجير هائلة، هدفها قلب موازين العالم رأسا على عقب.
ففي اليوم نفسه، الذي تسلمت فيه ديوان الماغوط، سلّمني التنظيم المسلح مجموعة وثائق نظرية عن طرق إعداد قنابل محلية الصنع. بعدما ألححت كثيرا على رفاق التنظيم وأقنعتهم بأني مسكون بعمليات التفجير.
كانت مشكلتي الكبرى أني لا أملك مسدسا، والأهم أني لم أر في حياتي مسدسا حقيقيا، عدا تلك التي رأيتها في الأفلام، وتلك التي يملكها جهاز القمع المتوارث في بلادي.
بيد أن مشكلتي الأضخم كانت أني كنت مقسّما، كرغيف الفقراء، بين الثورة المغدورة والشعر المنثور. فخسرتهما معا، بالضبط كما ربحهما الماغوط معا.
فمن يعرف الماغوط أكثر منّي، ومنّا؟
ومن يعرف أرباحنا وخسائرنا، الظاهرة والمستترة؟
لا أحد يعرف ذلك غير ذلك الذي أعددنا له، يوما ما، ملفنا الضخم عن العذاب البشري، وكنّا نأمل بصدق فطري أن لا يكون أميّاَ.

***

قصيدة واحدة تكفي

ديما الشكر

في إحدى جلسات مجلة "شعر" قرأ أدونيس قصيدة لمحمد الماغوط بحضوره وفي حضور شعراء "نجوم" مغفلاً عن قصد اسم الشاعر. وحين سأل أدونيس الحضور النجوم، إن كانوا يعرفون لمن القصيدة، احتاروا بين بودلير ورامبو، بيد أن أدونيس الذي كان قد التقط جمرة نص الماغوط وعمّدها شعراً، أشار بهدوء إلى الرجل وقال مفاجئاً الحضور: "هذا هو الشاعر".
روى محمد الماغوط هذه الحادثة لخليل صويلح الذي قيّدها كما قيّد غيرها في الكتاب - الحوار (اغتصاب كان وأخواتها) الصادر في دمشق لدى "دار البلد" عام 2002.
لعل في استعادة تلك الحادثة، ما ينفع الذكرى اليوم وقد أطفأ الماغوط عمره ورحل عنّا (1934 - 2006)، مخلِّفاً لنا قصائد ومسرحيات ونصوصاً وتصريحات كثيرة وعديدة، كرّسته شاعراً "كبيراً" لقصيدة النثر.
كأنما التنظير الفضفاض لقصيدة النثر - آنذاك والمستمر إلى اليوم - وجد في نصوص الماغوط شرعية لا بدّ منها، من أجل الانطلاق قدماً في طريق الحداثة الشعرية. لكنّ نص الماغوط الآتي من "خارج" التنظير، كما تُثبت ذلك جليّاً الحادثة أعلاه، يختلف عن قصيدة النثر التي بُشِّر بها، في نقاط أساسية ومفصلية: لم يكتب الماغوط قصائد غير موزونة عمداً ومن أجل التحرر من الوزن. ولم يتقصد خرق القواعد النحوية، ولا الجنوح نحو مبدأ الفوضى في التركيب. ولم يكتب قصيدة "مجانية". ولم يكتب مطلقاً قصيدة غامضة تعتمد التجريد أساساً في وصف عوالم داخلية لا طائل منها. إنما كتب على العكس من ذلك كلّه، وتكفي قراءة قصيدة واحدة للماغوط، للتعرّف دفعةً واحدة الى إنتاجه كلّه. فهو الذي كتب نصوصاً بلا وزن، لأنه لم يَنظر إلى نصوصه أصلاً في اعتبارها قصائد، قدر ما اعتبرها احتجاجاً صارخاً على واقعه البائس، فلم يتوقف يوماً ويدقق مطالباً بالانتماء إلى قصيدة النثر، بل هي التي أتت إليه. ولم يتعمد الماغوط خرق القواعد النحوية، كأن يقدّم الفاعل على الفعل، أو يضيف أداة التعريف إليه. بل أكثَرَ من اللجوء إلى أدواة النداء (أيها، أيتها، يا) في قصائده بصورة واضحة. وفي الأمر دلالةٌ على رغبة جامحة في استحضار مخاطَب حسيّ لا مجرد، ليس إلا الديكتاتور أو الطاغية، أو حذاء الضابط، أو الحزن: "أظنها من الوطن/ هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين/ أظنها من دمشق/ هذه الطفلة المقرونة الحواجب/ هذه العيون الأكثر صفاءً/ من نيران زرقاء بين السفن./ أيها الحزن... يا سيفي الطويل المجعد/ الرصيف الحامل طفله الأشقر/ يسأل عن وردة أو أسير/ عن سفينة وغيمة من الوطن " (من "جنازة النسر").
لقد تحول هذا المخاطَب في نصوص الماغوط إلى موضوعات ثابتة في قصائده، على نحو كرر فيه دائماً تذمره منها وثورته عليها، بصورة أفضت في نهاية المطاف إلى إنشاء بصمة خاصة بالماغوط لا يمكن تقليدها أو استنساخها، لكثرة ورودها في قصائده. من هنا، لم يكن ممكناً أن ينجح "شاعر" جديد منتمٍ عن سابق قصد وإصرار إلى "قصيدة النثر" في إعادة تكرار ما هو مكرر أصلاً، وخصوصاً أن نجاح الماغوط في ذلك، يعود في الدرجة الأولى إلى عفوية بناء القصيدة وبساطتها من ناحية، وإلى أن الشاعر تكلّم فيها دائماً بصوت الفقراء والمهمشين بالطبع لا بالتطبع، وصوّر نفسه ضحيةً بامتياز لأنظمة القمع والاستبداد من ناحية أخرى. عند هذه النقطة بالذات استطاع الماغوط أن يكتب لا "قصيدة النثر" المترفة بتنظيرها، وإنما استطاع كتابة ذلك النص الذي يمس وجدان شريحة كبرى من الشعوب العربية، ليظهر كمعبّر حقيقي عن صوت الجماعة المقهورة وعمّا تختزنه من آلام ومآسٍ لمّا تنته بعدُ.
بيد أن تميّز الماغوط في إضفاء حسية واضحة على مخاطَبه، وتصويره بصورة مادية، من طريق أدوات النداء، لعب دوراً كبيراً في تحويل وجهة القصيدة نحو المسرح. ذلك أن النقاط المميِّزة أعلاه لنص الماغوط، أخذت أبعادها ومداها في نصوصه المسرحية الشهيرة التي نجحت في تربتها السورية، وبصورة أدق عند زواجها الأبدي بالممثل السوري القدير دريد لحام، قبل أن تعرف نجاحاً باهراً في المدن والعواصم العربية التي عُرضت فيها. وبعد، فإن النظر في نصوص الماغوط الشعرية منها أو النثرية أو المسرحية، يُبطن مفارقات تنبئنا ببؤس التنظير الذي استند إلى ألم السجين المعذب الفقير، ليجد "التوهج والكثافة والمجانية والإيقاع الداخلي"، ويدشّن أريستوقراطية "قصيدة النثر" بدلاً من أن ينتمي إلى النقد ويدقق في الألم الذي لا يطاق، الذي سمح للنص الشعري بالانطلاق بسلاسة نحو النص المسرحي، ليخاطب اثنين، طاغية لا يسمع، وجمهوراً يصغي إلى نفسه، إلى كلامه اليومي، ويرى قهره واغتصابه، فيبكي ويضحك من شدة البؤس.

***

صحبة الأب

أكرم قطريب

1

مات محمد الماغوط. من يصدّق! الآن عرفت لماذا كان إليوت يكره شهر نيسان. فالذي كان يغرد خارج حدود العرب وأوطانهم أجمعين مات. مات الذي بقي يحلم وهو على عكاز في بلاد تشبه الشعر إلى حد بعيد، تاركا وراءه شجرته العظيمة وأعمدة وقوارب منهكة وزرقة، وشحوبه الذي لطالما اتصف به. مات محمد الماغوط الذي لم ينتم إلا إلى نفسه ولغته وبرّيته، التي لم يستطع أحد منا اللحاق به إليها. في كل لحظة من كتابته، كان ثمة مجازفة ومرارة ضرورية في كل سطر، والخيط الممدود بين لغته وحياته اليومية أشبه ما كان بسرّ خاص به. لم يضع نفسه في مواجهة مقصودة مع البلاغة وحرّاسها، ولم يكن يستطيع أن يتخيل أن الشعر يمكن لجمه بين أسوار الأكاديميات والفلسفة التي لا طائل لها وهي تشرّحه في غرف العناية الفائقة. كان ناسخ نفسه، هذا البدوي الذي نزل من أصقاع الريف القاسي إلى المدن، وقلبه وحذاؤه تحت إبطيه. إن اختزال الماغوط في لحظة موته هذه قد تظلمه، هذا الذي سيبقى نحس الشعراء وهم يحرثون اللغة في أرضه الملغّمة. ستكون خسارة أكيدة ومزعجة لكثيرين، ولن تنفع كل أنواع الأسلحة المضادة لأنه كان يكتب أشياء يود نسيانها، وكان قدره أن يهبط من اللغة العربية حين أعاد إليها الحياة في ثقافة الموت. قصائد تركض عارية في المدن المحجّبة والمسكونة بالرعب، أشبه بنداء قصيّ في صحراء، وأوطان هي هذيانات مكانية لم يستطع أن يكون واحداً من حكمائها، هو المستوحش والغريب والمتجهم، وظمأه تحت لسانه، بالكتف المغبرّة والعاطفة الراسخة كجبال الأساطير القديمة. ها نحن نستعيده في الصحو، ومن دون حراك سنتلمس قلبه الذي يرفّ تحت التراب. نحسده ونحن نصدق أنّ في إمكان الشاعر أن يكون حارس الأبدية بساق جريحة، أو عرضة للفناء على هذا الشكل.

2

أزيحوا تماثيل الجنرالات ولو قليلا تحت شمس هذا الشهر. دعوه يمر، يا للحسرة. كل ما حفظناه من لمح عينيه القويتين سيذوي ونحن نتدرب على سرقة لمعانهما. لم يورثنا إلا الحواف المسننة وأجنحة من الشمع ومدنا ميؤوسا منها، مدنا لا تزال تنام على ألحان المارشات والشجر المحروق على مهل. كنت لا أصدق أن الشاعر يموت هكذا على حين غرة من لحم ودم، وبكل هذا النضج الهائل سيجفّ وسيُحشر لحمه نيئا بين صفائح الرخام، حيث هنا سيقوّي عزلته التي كان يستشرس في الدفاع عنها. كل ذلك الشعر، وكل هذا الخدر، وكل تلك التخوم التي تهافت عليها، وكل ذلك العوز الرومنسي إلى حرية متوهمة، لم ينقذ قلبه من أن لا يتوقف، وهو الشاعر الذي يكاد يكون الوحيد الذي لا أملّ من قراءته مرات ومرات وبشغف لا يضاهى، وحيدا معه في التيه وفي السجن العربي الشاسع المربوط بكسرة الخبز والصحون الطائرة في الخطابات. هل من تمثال له على أطراف البادية، حديقة وبضعة رفوف عليها كتبه. أو رسم صغير لرجل طاعن أحنته مفاتيح الأرض الخراب الثقيلة. ترى، لمن سأدين بهذه الصحبة، صحبة الأب في "الفرح ليس مهنتي" من مكتب البريد الى الجامعة، أيام دمشق، الى المقهى والحي الذي كنت أسكن فيه، ثم وسادة النوم إلى صوره أيام مجلة "شعر" مع أنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة ونازك الملائكة وأدونيس ولور غريب وليلى بعلبكي ، إلى كلامه الآسر عن بدر شاكر السياب. ترى من يستطيع نسيان تلك المقالات التي كتبت أيام مجلة "المستقبل" مع نبيل خوري ورياض نجيب الريس. مجرد رمية الحجر هذه على هامش صفحة مذهولة، ستذكّرني بسياف الزهور الذي كان يتمرن على النظر نحو الشمس من وراء شباك مكسور. سأتحلى برباطة جأش وأنا أتخيله عائدا إلى سفوح مدينتي وفي يده شمعة تضيء له القبر وربما تنطفئ، وليس لديَّ من تسميات لكل تلك الشاعرية التي كانت تأسرني في كتبه وطريقة مشيته محنياً وساخراً وصاحب نكتة مريرة، في الحلم وتجربة العيش، نقلها حتى إلى شعره الذي كسر ذلك التناظر والزخرفة اللفظية التي داخت بها مدوّنات كثيرين. بالحمية نفسها لن أتمكن من ضبط نفسي وأنا أدفع حصتي من وهمٍ دفع بي إلى بلاد لا تُرى بالعين المجردة، باحثاً عن والت ويتمان على ضفاف البحيرات وفي شوارع هارلم. وكم كان محمد الماغوط لصيقاً وقريباً، أنا المذهول لرفقته لي حين أستدعي النادل في البار لأدفع قيمة الزجاجات التي سفحناها معاً قرب الهدسون.

3

قلت لزوجتي: مات الماغوط. ردّت: من زمان كان مبيّن أنّو بدّو يموت.

***

حزن بين دمشق وبيروت

شوقي نجم

لا ادري ما هي "الصدفة القدرية" التي جعلت المسرحي والمثقف عصام محفوظ، والشاعر والمسرحي محمد الماغوط يغيبان في السنة نفسها. محفوظ والماغوط من الجيل نفسه، ومن "نجوم" مجلة "شعر" في الستينات في القرن الماضي، ومن أصحاب الهواجس الكبرى في البحث عن تغيير الواقع، في عالم يرزح تحت ثقل الأعباء الاجتماعية والسياسية.
مات "المتمرد القلق" عصام محفوظ وحيدا وفقيرا، تاركا رصيدا هائلا من الكتب في المسرح خصوصا، والثقافة عموما. مات بعدما مكث في المستشفى لأشهر تحت وطأة الغيبوبة والبحث عن معين لتطبيبه. لا احد يحتاج الى التذكير بأحواله في سنواته الأخيرة، التي ربما لا تشبه الا أحوال الثقافة نفسها. اما "البدوي الأحمر" محمد الماغوط فمات وفي يده اليمنى عقب سيكارة وفي اليسرى سماعة الهاتف، في حين يدور صوت شريط المسجلة في تلاوة لسورة يوسف. لا تحتاج أحواله الى التذكير. لقد مات بعد أسابيع من تسلمه "جائزة سلطان العويس". هكذا كان قدره ان يعيش حياته فقيرا، ويموت "غنيا". وكان "الرعب المادي" جعله يكتب في الصحف البعثية، ويتغاضى عن توظيف مسرحية "قيام جلوس سكوت" في خدمة البعث الاشتراكي.
ليس قصدنا التنديد بالماغوط وأفعاله الأخيرة، اقل ما يقال إنه الألمع بين جيله. لقد مات الماغوط في دمشق، ومات محفوظ في بيروت. يذكر الجميع الجسر العريض الذي صنعته الثقافة بين المدينتين المختلفتين، قبل ان تأتي السياسة البعثية المخابراتية وتنسفه من اجل ان تبني جسور الحرب والأسلحة والاغتيالات والتصفيات، ثم لتكون النهاية صعود الغرائز البدائية بين الجماعات وضمور الشعر.
كثيرون حاولوا تقليده ووجدوا صعوبة في ذلك لأنه ينتمي الى خانة "السهل الممتنع". حماسة الشباب لشعره سببها انه كان يحمل عنصر المفاجأة والمفارقة، والنهايات غير السعيدة. قصيدته غنية بقدرتها على التدفق والبقاء والتأثير بما تحمله من حداثة، ولغة شخصية لا تشبه إلا صاحبها، في حزنه و"فرحه"، في بدويته وحداثته، في بريته ومدينيته. يربط بين قصائده خيط من الحزن الطويل، حزن في ضوء الشعر، وهو الذي آثر أن يبقي القصيدة بعيدا عن منابت الثقافة والتنظير الهلامي، ونجح في الانتماء الى الحداثة وفي الخروج عليها في آن واحد.
كان "ملك التمرد وصعلوكه"، عاشق المدينة والمتأزم منها. صرخ منذ البداية: "الا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن". كان يحمل لواء الدفاع عن الأمة ومستقبلها، لكنه يعلن انه "سيخون وطنه". وتقول زوجته الراحلة سنية صالح إن مأساة الشاعر أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط. ومنذ مجموعته الأولى وهو يحاول توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية، وذروة هذه المأساة إصراره على تغيير الواقع، وحيداً لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. كان الماغوط من ابرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. نزل الى الشارع اليومي، واستطاع ان يكون شعره قريبا من الناس. اللافت انه بقدر ما يشعر المرء بفرح عندما يقرأ شعر الماغوط، يستنبط الحزن من بين كلمات قصائده، الحزن جذري في عباراته، لأنه في قلب النص. انه "أميرال الفجائع". رأى في كتاباته كيف ينبت الجوع في الطرق وكيف يتفجر الرعب في العقول وكيف تغل العبودية أحرارها بالحديد وكيف يركض الضجر إلى المقاهي، باستثناء الأمل صديقه الودود. في "الفرح ليس مهنتي"، كان المطر حزيناً يغمر وجهه الحزين. يقول: "حبيبتي: هم يسافرون ونحن ننتظر، هم يملكون المشانق، ونحن نملك الأعناق، هم يملكون اللآلئ، ونحن نملك النمش والتواليل، هم يملكون الليل والفجر والعصر والنهار ونحن نملك الجلد والعظام".
لا نعلم ما سر الحزن الماغوطي. ربما كان في السلالة او الجينات. كان جهورا في الإعلان عن حزنه، يقول: "ولدت مذعورا وسأموت مذعورا، انا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني". يعترف ان الحزن لا يفارقه منذ البداية، ربما لهذا السبب عنون مجموعته الشعرية الاولى به، حتى لقّب بشاعر الأحزان الدفينة وإنكسارات الأحلام المقموعة، ولقب بالشاعر الصعلوك والشاعر الضليل والشاعر الكوابيسي.
لم تكن الصعلكة بالنسبة اليه تنظيرا في الصحف او في الكتب. كانت نمط حياة وأسلوب عيش، وكانت لغته اليومية. كان يتحدث عن الشعر ببساطة عالية، وعفوية مطلقة، حتى ليكاد المرء يظن ان هذا الشاعر الكبير لا يفقه في الشعر شيئا، من ناحية التنظير. لقارئ كلماته عن الشعر ان يلاحظ ذلك في المقابلات التي أجرتها معه الدوريات الثقافية، فمن أطرف ما يرسمه لمجلة "شعر" التي لجأ اليها في شبابه، انه في اللقاءات التي كانت تتم في غالب الأحيان في بيت يوسف الخال، كان يسمع الأحاديث عن شعراء وأسماء لا يعرفهم مثل عزرا باوند واليوت وسوزان برنار. لم يكن يجيد لغة سوى العربية، لذا كان يصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام يأكل. في إحدى المرات قال: "كانت مشكلة جماعة مجلة "شعر"، استغراقهم في تحطيم السفينة، دون ان يفكروا بالغرق المؤكد. قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي، يسقط مغميا عليه، بينما قل له وعلى مسافة كيلومترات: جاك بريفير، ينتصب ويقفز أمتارا عدة عن الأرض كأنه شرب حليب السباع".
لم يكن الماغوط إيديولوجيا، لكن شعره كان أشبه ببيان احتجاج ضد المحيط الذي يعيش فيه. بدايته الأدبية في السجن، وفي الحزب. والمعروف انه انتمى في شبابه الى الحزب السوري القومي الاجتماعي. "حصل الأمر دون قناعة تذكر، ربما كان الفقر سببا في ذلك. فالنسبة لفتى يافع وفقير مثلي، كنت بحاجة الى انتماء ما. وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية هما حزب البعث والحزب السوري القومي. وفي طريقي للانتساب الى احدهما، اتضح لي ان احدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة. ولأني متجمد الأطراف من البرد، اخترت الثاني دون تردد لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأة، وصراحة الى اليوم لم اقرأ صفحتين من مبادئه. ومنذ ان انتهت موجة البرد الاولى لم احضر له اجتماعا، ولم أقم بأي نشاط على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني بها جمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت اعمل في بساتينها. جمعت الاشتراكات والتبرعات واشتريت بنطلونا وذلك وجه الضيف" ("الحياة" 4 نيسان).
لكن الماغوط سجن بسبب هذا الحزب مرتين، "صحيح اني لم اسجن طويلا، لكني حين سجنت في المرة الأولى، رأيت الواقع على إيقاع نعل حذاء الشرطي الذي كان يضرب على صدري. أحسست بشيء في داخلي ينكسر. ليس الضلوع، بل شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني وأقام معي صداقة لا تزال قائمة بداخلي حتى اللحظة. صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمان لآخر لحظة في عمري". في زمن عيشه في دمشق كان يحن كثيراً الى بيروت الخمسينات، ويعتبر انها لن تعود قطعاً، وأن دورها انتهى. ويحن الى الشام التي عرفها، لا الى شام السلطة. كتب مرة: "المدينة التي أعطيتها صدري أربعين عاماً، لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة. حتى في السلمية أشعر بنفسي غريباً، فالناس تبدلت أكثر من تبدل الأمكنة. الشام مثل البنت التي أحببتها في صغري ورأيتها بعد خمسين عاماً. أصبحت مرعبة".

***

شخّوا على قبري

محمد علي الأتاسي

في مطلع العام 2001 أراد "الملحق" تكريم الشاعر محمد الماغوط بتخصيص ملف له يكون تحية حب وتقدير. اقترحت إجراء مقابلة صحافية معه تتصدر هذا الملف، وكان ذلك تحدياً كبيراً، فالشاعر المعتكف في بيته يرفض إجراء المقابلات وهو يكاد يخرج على طوره من السين والجيم ويكره بشدة آلة التسجيل.
مع ذلك، قررتُ المحاولة، فأتيت إليه من بيروت برفقة صديقتي، زوجتي لاحقاً، وتواعدنا في مقهى فندق "الشام" في صباح أحد الأيام الباردة. وما كدنا نجلس معه حتى كان واضحاً وصارماً وجازماً في رفضه إجراء المقابلة. قبلنا مكرهين برغبته وجلسنا مع ذلك الى طاولته نتقاسم قهوة الحياة والحزن والحب والفرح. كان لديه شوق جارف لبيروت ومقاهيها وأرصفتها وللأصدقاء الذين تركهم فيها. وبدلاً من أن نسأله نحن، راح هو يسألنا عن شارعي الحمرا وبلس، عن أطلال النغرسكو والهورس شو، عن الصحف والمجلات، عن أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. كان يتحدث بقنوط فاجع ويردد أن فجره كان في بيروت وغروبه في دمشق، قبل أن يسرّ أن بيروت لم تنتزع الشام من قلبه.
أمام هذا الحنين المثقل بالأحزان والبعاد، لم أجد بداً من أن أقترح عليه بكل جدّية وإصرار أن آخذه حالاً الى بيروت: السيارة جاهزة والطريق لن تستغرق منا أكثر من ساعتين وسنكون هناك في الساعة الحادية عشرة، وما علينا بعدها سوى أن نكمل قهوتنا في احد مقاهي الحمرا ثم نمشي قليلا في اتجاه مكاتب "النهار" لرؤية صديقك أنسي الحاج، وبعدها تذهب للغداء مع شوقي أبي شقرا، وفي المساء سنكون حتماً في الشام. ارتبك الماغوط بشدة وأحمرن وجنتاه كطفل كبير وأشاح عينيه عن الإصرار البادي على ملامحي، وراح يردد متهرباً أنه يحن كثيراً الى بيروت الخمسينات وأن بيروت الحالية ليست بيروت التي يعرفها وأن لا طاقة له على رؤية صور المعممين في كل مكان. قلت له إن شارع الحمرا الذي طالما اعتبره أجمل من الشانزليزيه، لم يعد فيه صور للمعممين على أعمدته وإنه بدأ يستعيد شيئاً من رونقه. أجابني ساخراً أن "شارع الحمرا صار مثل شارع الشانزليزيه كله عرب!".
وقفت حائراً أمام عناد هذا الطفل الكبير وإصراره أن يعيش متوحداً في ذكرياته، وكان لا بد أن أحترم رغبته في مداواة وحدته وجروحه بالشكل الذي يرتئيه. بعد ما انتهى طقس القهوة الصباحية دعانا الماغوط لإكمال الدردشة في بيته. في الطريق استوقفنا لشراء زجاجة ويسكي حملها بفرح قائلاً: "زجاجة الويسكي حبيبتي. الويسكي كالشاعر لا هوية له ولا وطن". وصلنا إلى المنزل في العاشرة والنصف صباحاً. ارتدى الماغوط بيجامته وأدار المسجلة على صوت فيروز وتمدد على الأريكة بعدما وضع على الطاولة كأساً من "الجين تونيك" وطقم أسنانه. وراح يشكو من خيانة جسده له، في وقت لا يزال عقله صافيا، وكيف أن يده التي يكتب بها القصائد، قد يمر شهران من دون أن يتنبه إلى استطالة أظافرها. نهار الماغوط وليله كان يمضيهما ممدداً على هذه الأريكة في غرفة الجلوس، ورغم حبه لليل كان يصاب بالنعاس بدءاً من ا الخامسة مساء فيصرف بقية الليل بين النوم واليقظة. حدثنا الماغوط عن حلم كان يراوده كثيراً في الآونة الأخيرة: "أحلم أني دائماً بعيد عن مكان إقامتي. لكني لا أعرف ما هو مكان إقامتي، بيروت أم الشام. أرى أحياء وأرى نفسي بعيداً عن بيتي وضائعأً، أحاول أن أصل إليه ولا أستطيع. بعيد. ضواح ومستنقعات وأنهر وسلالم وقطط وكلاب وشرطة، وأنا حفيان. دائماً حفيان".
كان الماغوط في ذلك اليوم منفرج الأسارير وكنت أنتهز الفرصة بين الفينة والأخرى للذهاب مسرعاً إلى المرحاض لتسجيل بعض الفقرات التي أعجبتني والتي كان لتوه قد نطق بها. فهو ما كان ليرضى ولا ليشعر أنه مرتاح إذا رحت أسجل الملاحظات على مرأى منه، لكنه كان مع ذلك متواطئاً في اللعبة ولم يبد استغرابه من كثرة ذهابي لقضاء الحاجة. حتى أني أمضيت الجلسة معه متنقلاً بين غرفة الجلوس والمرحاض!
كان ذلك الزمن زمن "ربيع دمشق" وبيانات المثقفين والكلام العلني والمنتديات السياسية، لكن الماغوط كان يعيش زمناً آخر، حيث الرعب والسجون والكتابة بالتورية. ورغم كره الماغوط الشديد للسجون وتعاطفه الصادق مع السجناء السياسيين وخصوصاً المثقفين، إلا أنه كان من الاستحالة انتزاع موقف منه، واضح وصريح، لما يجري في سوريا. كان يردد الآتي: "أنا لم أوقّع في عمري ولن أوقّع أي بيان أو عريضة. عندي رأي، أكتبه باسمي الصريح".
ولكن ماذا لو كان هذا الرأي ليس صريحاً بالشكل الكافي؟ يجيبك الماغوط محتجاً: "مستحيل أن أكتب زاوية دون ذكر الحرية أو السجون. أما لماذا لا أذكر أسماء السجون والسجناء، فلأنه ممنوع أن تذكر. يجب أن تعمم، هذه خبرة. أنا أحياناً لا أجرؤ على ذكر اسم الشام". ومع ذلك فالماغوط كان يتهكم على الزمن العربي الراهن ويقول بسخرية لاذعة: "أين طغاة ذلك الزمن وأين ستالين من طغاة اليوم وبهدلتهم".
في رحلة الذهاب والإياب من المرحاض إلى غرفة الجلوس وبالعكس، قادنا الحديث إلى الشعر وقصيدة النثر وعاد الماغوط ليردد طموحه في إلغاء المسافة بين هذه التعريفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عنده نصوص. في حين كان همي أنا إلغاء المسافة بين المرحاض وغرفة الجلوس علني أستطيع أن أسجل كمية أكبر من الحديث. عندما رحت أسأله في بنية قصيدة النثر التي كتبها وفي موسيقاها الداخلية تبرم من السؤال وأجابني جازماً: "علاقة الكلمات بعضها ببعض في النص مثل علاقة الأخ بأخته وهما نائمان في فراش واحد. أي حركة منه أو منها يمكن أن تفسَّر". وعندما طلبت منه أن يشرح أكثر أجاب: "علاقة الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، وفي القصيدة يجب أن لا يكون هناك أي إشارة خاطئة من هذا النوع. وهذه هي الموسيقى". طبعاً لم أفهم ما يقصده بالضبط من هذا التشبيه، ولا أعتقد أنه هو الآخر فهم.
حديث محمد الماغوط عن زوجته الشاعرة سنية الصالح التي قضت مبكراً بمرض عضال، فيه الكثير من الحب والألم والندم والشوق. هي في نظره وحدها السماء وكل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفئ. وإذا كان الماغوط يشعر بتأنيب الضمير كونه أذاها واسمه طغى عليها، فإنه يروي بحزن كيف جلس يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الأبر وهي على فراش الموت فقالت له عبارة لن ينساها: أنت أنبل إنسان في العالم. وإذا كان الماغوط قال لي إن مكان الدفن وشكليات الموت لا تعني شيئاً له، فإنه مع ذلك كتب على قبر زوجته في مقبرة الست زينب قرب دمشق، وذلك من أجل أن يميزه عن بقية القبور، كما يقول: "هنا ترقد الشاعرة سنية الصالح آخر طفلة في العالم". وعندما سألته في ختام تلك الجلسة كيف سنميز قبره؟ ضحك بخبث العارف واستوقفني قبل أن أعود مجدداً إلى الحمام وأجابني قائلاً بتهكم: "شخّوا عليه".
رويداً رويداً انتهت زجاجة الجين التي ألحقها بزجاجة الويسكي. قل الكلام وتعبت بدوري من كثرة الذهاب إلى المرحاض، فاستأذنت الشاعر الكبير بالمغادرة وطلبت منه أن يسمح لي بكتابة خلاصة لحديثنا، على أن أطلعه عليها قبل النشر. وبعد أيام عدت إليه مع النص الذي نال موافقته وتم نشره لاحقاً في "الملحق"، وفي ختامه عبارة "شخوا عليه"، عدا أني في لقائنا الثاني جلست معه مرتاحاً ومستمتعاً، بعيداً عن المرحاض وهمومه.

***

الشعر مستعصياً

بلال خبيز

غياب محمد الماغوط قد يكون حجتنا، نحن الذين ما زلنا على علاقة ما بالشعر من قريب او بعيد. حجتنا لنفكر ملياً في المعنى الذي نريد ان يودي شعرنا إليه. محمد الماغوط كان الشاعر الوحيد الذي لم يهاجمه الشعراء. العلة كانت في انه يكتب القصيدة ويدير ظهره للجمهور. في آخر حديث له، بدا الرجل كما لو انه يستذكر إلى أي حد كيل له المديح. سأله الزميل عبده وازن إن كان يحب المديح، فأجاب من دون تردد: أكره المديح. والحق اننا كنا على الأرجح، ونحن نجمع على شاعريته، ولا نختلف عليها، نضيّق عليه الخناق. ذلك اننا نحن الشعراء إنما نقرأ بمزاجين على الأقل. لذا كان محمد الماغوط حجتنا القاطعة في ذم الشعراء الذين لا يشبهونه، ولذا كانت جملته سبيلنا الأول إلى الاعتراض، شعرياً على الأقل. لكن موضوع شبهنا به، يحتاج إلى تدقيق طويل وعسير. نجمع على الماغوط، لكننا نختلف في ما بيننا. نجمع على الماغوط ذلك انه الشاعر، وما ان نباشر قراءته حتى يحوّلنا قراءً. لا نعود لنقرأ بعين الكاتب ومزاجه، لأن كتابته أصعب من ان يجد فيها الناقد والشاعر صنعة ما. كان عباس بيضون يقول عنه: انه سليقة فوارة. كتابته حية ونضرة وتفسد مزاج السليقة عند الشاعر بمجرد ان يباشرها. لذا كنا نقرأه ونعجب به، لأنه شاعر يجدر بنا قراءته، لكن هذه القراءة نفسها تفسد حيويتنا ونضارتنا، فلا نعود نستطيع ان نقلده او نتتلمذ على يديه. كل تلمذة على يدي الماغوط تشبه خيانة لشعره. كما لو انه حين يكتب، يقطع العبارة من جذرها ويمنعها عن أي استعمال. سنقول ان الماغوط قال كذا، في مناسبة كذا، لكننا لن نستطيع ان نكتب سليقتنا وقد سبقنا الماغوط إليها. كل وجوه الشبه مع الماغوط هي محض صناعة. فالشعر يجود بشاعر واحد مثله، وكل ما عداه يبدو، في معنى ما، خروجاً على السليقة نحو الصناعة الباهتة.
كلنا قلّدنا الماغوط في لحظة او في أخرى، وكلنا أحببنا شعره. لكننا دائماً لا نتأثر بالماغوط بل نقلده.
نعرف منذ زمن اننا نستطيع ان نتأثر بالصناعة: بطريقة ليّ الجمل، وطريقة الإنشاء. لكننا لا نستطيع ان نقلّد الروح. والماغوط كان على الأرجح روح الشعر العربي الحديث.
نقرأ الماغوط قراءً، لكننا نقرأ الآخرين بحرفة الصاغة. نعرف كيف تتالت الجمل، واين يكمن سر الصناعة الماهرة، وكيف يمكن استحلاب الفكرة من اللغة، وكيف يمكننا ان نقول شيئاً لا يعني شيئاً في ذاته، لكنه يستطيع ان يوحي ويغمر ويطوف. لذا نبادر إلى تنحية الماغوط جانباً، فهو لغزنا الذي نتحدى به شعرية الشعراء. نحن لا نشبه الماغوط، لكننا نجزم ان الآخرين لا يشبهونه، وان في قلة شبههم به ما يجعلهم ناقصين واقل من ان يكونوا شعراء. نقرأ الماغوط ولا نجرؤ ان نكتب على منواله. ذلك اننا نحتاج ان نكون في حال من اثنتين لنكتب مثل الماغوط: إما اننا نجهل ما كتب، وإما اننا قررنا ان نلقي بكل ما قرأناه في سلة المهملات، لنباشر الشعر من حيث تقودنا أمزجتنا الحارة في تلك اللحظة. لذا كله تبدو معرفة الماغوط لعنة. قراءته تشبه لعنة نحيل آثارها المدمرة على غيرنا، على شعرائنا الكبار تحديدا. لكننا لا نحسن ان ننجو منها.
كتب الماغوط ما يكفي ليجعل الشعر مستعصياً. وليجعلنا ننصرف عنه إلى صناعة المعجبين والأفكار النقدية. لا نقول في شعر الماغوط الكثير، ذلك انه يشبه الأنصاب، نتفق على معناه ولا نجرؤ على مساءلة معانيه مرة أخرى. ففي مثل هذا التجرؤ ما يجعل كل ما حاولنا تحقيقه في مهبّ الريح.
الآن بعد الماغوط، أفكر ان من الأنسب لي ان أتجاهل وجوده كلياً. وان انسى انه وجد ذات يوم. ففي مثل هذا النسيان ما يجعلني قادراً على تصديق ما اكتب والدفاع عنه.

***

نعم تقريباً هذا هو

محمد علي شمس الدين

أخيراً، مات الماغوط.
وأحسب أنه سيحلّ في جسد طائر.
وبدأتُ أفكّر: ما هو؟ وأين؟
* الحمامة؟
- كلا. الماغوط ليس في بياض الحمامة ووداعتها.
* الغراب؟
- ومن أين له ريشٌ أسود كريش الغراب، ونعيب لا ينقطع على الأموات؟
* النسر؟
- كلا. الماغوط وإن كان له عين النسر ومنقاره، إلاّ انه لا يحطّ على الجيف.
* العصفور؟... الأحدب؟
- كلا. الماغوط ليس عصفوراً يصطاده الصيادون المتجولون، ولا هو بأحدب فيكون فرجة.
* الهدهد؟
- كلا. فالماغوط ما كان رسولاً ينتقل من بلاط لآخر.
* الطاووس؟
- آه ما كان أبعده عن ريش الطواويس الملوّن.
* الكنار؟
- وما كان صوته يغرّد ويثرثر ويكرّ كالكنار ألف كرّة في اللحظة.
* ببغاء؟
- كلا فهو يستعصي على التلقين.
* حجلاً؟
- ويستعصي على الصياد.
* أهو طائر حبّ ملوّن؟
- أيضاً كلا. هو أشدّ قسوة من هذا اللطيف العاطفي.
* سنونوة سوداء، إذن...
- لقد كان أضخم من ألف سنونوة سوداء متراكمة بعضها فوق بعض.
* رخّ... عنقاء... سيمرغ؟
- آه... إنها طيور الخرافة. كلا. الماغوط ليس من طيور الخرافة.
* أهو طائر الهامة؟
- كلا، وإن رأيته مرةً يقف على جدار المقبرة ويصرخ اسقوني.
* هل سقيتَه؟
- نعم
لكنه رفض الماء.
* إذن
لا هو الرخ ولا العنقاء
لا السيمرغ ولا الهامة
لا النسر ولا الحمامة ولا الطاووس ولا الكنار
فمن هو إذن؟
- حسناً...
سأروي لكم حكاية رواها رسول عن طاغور قال:
"رأيتُ في كلكوتا في بيت رامبرانت طاغور العظيم، طائراً مرسوماً. هذا الطائر ليس موجوداً على الأرض، ولم يوجد عليها إطلاقاً. إنه ولد وعاش في نفس طاغور. إنه ثمرة خياله. لكنْ، طبعاً، لو لم يرَ طاغور أبداً طيوراً حقيقية، طيوراً على هذه الأرض، لما استطاع أن يخلق صورة طائره البديع".
* إذن: الماغوط طائر نفسه.
- نعم. تقريباً. هذا هو.

***

عالم لبراءة الولادة وقذارتها

محمد أبي سمرا

العالم الذي ترسم صوره لغة محمد الماغوط الشعرية، هو عالم حسي ومادي وفوضوي ومرتجل. أشياؤه وكائناته تولد مفاجئة وبنت لحظتها، ومن دون إنذار مسبق تولد ملطخة بقذارة الولادة وبراءتها وطزاجتها وآلامها وصرختها الاولى، التي لن تشفى منها الى الأبد، ولن تنمو أو تتحول لتتخلص من تلك البراءة القذرة، المادية والطازجة. والعالم هذا، في أشيائه وكائناته، أي في صوره، مثل شاعره ومنشئه، غير قابل للانفصال عن مادته وعناصره الاولى، ولا للإنبناء والتركيب والتحول. فهو صنيع الهنيهة القدرية الحاسمة والمفاجئة، بلا سبب ولا سؤال ولا منطق سوى منطقه الذي يولد معه ومنه مكتملاً ومجبولاً بمادته الفوضوية المرتجلة، كأنها تخرج من فوهة بركان لتتدحرج حارة على هواها في الاتجاهات كلها، من دون أن تكون معنيّة بالوصول أو عدم الوصول الى مكان تستقر فيه، لتبدأ حياتها ووجودها من جديد.

غرفة سنيّة صالح

عالم شعري، مثل شاعره ومنشئه الذي ولد وعاش ومات بقلب جمل مسنّ وجناحي فراشة، أعزل، وحيداً، مستوحشاً، حتى آخر العزلة والوحدة والوحشة في "غرفة بملايين الجدران" المقبضة. "غرفة مسدلة الستائر (...) سقف (ها) واطئ، حُشرت حشراً في خاصرة أحد المباني: (...) سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة (...) هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم"، على ما كتبت قرينته في المرارات والآلام، سنية صالح التي كان من الأفضل ألاّ تضيف، في تقديمها لأعماله الشعرية الكاملة، أن هذه الغرفة "إسمها الشرق الأوسط"، قبل أن تكتب أنها "راكضة" و"خفية" كانت تنقل اليه في تلك الغرفة "الطعام والصحف والزهور (...) في البرد القارس والشمس المحرقة"، لتجد "الكتب (...) ممزقة أو مبعثرة (على) الأرض، (و) مبقّعة بالقهوة (... فـ) ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف"، فيما "كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعالٍ على ما يحط بنا".

لهاث في البرد والعتمة

لا، ليس شعر محمد الماغوط عالماً بديلاً متعالياً، بل عالم مادي سفلي تنبعث منه رغبات مستحيلة في هواء نقي، ويدين حرّتين، وسماء زرقاء بلا دموع، وشفتين لا تنبت فيهما الأشواك، ولا يلطخهما قطران التبغ المحروق الذي لو جُمعت لفافاته "لبلغت فم الله".
لا، ليس محمد الماغوط حالماً في شعره، بل إن شعره طالع من حطام الأحلام، كأنما الشاعر يقلب الكلمات على قفاها لتنزّ شعراً، كما لو أن الوردة تنزّ قيحاً، أو ليصنع من القيح وردة يعلّقها وساماً على صدر جندي قتيل، أو عائد من الحرب مهزوماً الى قريته البدوية الضائعة في الغبار والوحشة على طرف صحراء.
في شعر محمد الماغوط عطش أبدي فيما صاحبه يبتلع نهراً، إذ "ماذا تفعل الغزالة العمياء بالنبع الجاري؟". عطش صحراوي الى مدينة مستحيلة، يصل اليها كتائه ضلّ الطريق، فتغويه أضواؤها الملونة "كبغي في لحظة المداهمة"، ليسيل من فمه لعاب الشهوة ممتزجاً بمسحوق الخوف واللهاث الحار في البرد والعتمة.
إنه عالم شعري يختلط فيه الحنين الى عزف الربابة بالرغبة المستحيلة الى رنين كؤوس الشمبانيا، فيما الدم ينزّ من خطافات أوسمة الضباط الذين يشاركون في حفلة تنكرية للإعدام، حيث ترفرف أعلام عتيقة، بالية وملطخة، كأسمال الفقراء الراكضين في أزقة مدن داخلية تطاردهم طلقات رجال الشرطة والعسس الليلي.
شعر طالع من عالم بدوي رعوي، وفيه شيء من وحشة شخصيات أفلام رعاة البقر، لكن الممتطين صهوات جياد هرمة هربت من سباق الخيل الى قرية فلاحية يستعبد بكواتُها القساة الفلاحين ويغتصبون نساءهم وبناتهم، قبل فرارهن للعمل خادمات في مدن عسكرية أو شبه عسكرية، وقبل سَوق الرجال الى التجنيد الإجباري، أو الى أعمال السخرة في بناء السكك الحديد ومحطات القطارات في السهول الجرداء.

مدن الصعلكة والسعال

شعر نثري حديث عابق بذكريات الزمن العثماني، حينما كان البدو يغيرون على المدن الموكلين حماية طرق قوافلها التجارية، فيتواطأون مع الجنود الفارين من الحرب قبيل هزيمة منتظرة، حيث تبدو "التلال" في البعيد "مقلوبة كالمناضد".
وللصعلكة المدينية الآتية من عذابات الأرياف وقسوتها، حضورها القوي والأكيد في هذا الشعر المسكون بخوف لا موضوع له ولا سبب. خوف قديم موروث يقيم في اللاوعي الفردي والجمعي منذ الطفولة المنذورة لليتم والانقطاع والتشرد والعنف، بل للعسف الاجتماعي القديم والمتجدد في مدن متروكة للإهمال والفوضى والنهب المسلح الذي يشبه الأعراس البدوية والابتهاج بالنصر، فيما "ذباب المطاعم المقفرة يحوم فوق المنعطفات وعورات التماثيل".
شعر الصعلكة التي هي الشكل الوحيد للفردية والحرية الجريحتين في بلاد الأهل والوجوه "المختنقة بالسعال" و"الصفراء كالسل". وجوه الأطفال المليئة بالندوب والمسلوبي الطفولة منذ الولادة من أمهات يضربهن رجالهن قبل المضاجعات السريعة الصامتة وبعدها، فتدمع أعينهن في صمت انتظارات عودة أبنائهن من المنافي البعيدة، والمختنقين بفحيح شهواتهم البدائية الجامحة الى ثدي ساخن كرغيف الحنطة تخبزه الأمهات المسنات في القرى النائية المنسية.
أطفال سُلبت طفولتهم، ويشبّون جارحين ومحطمين ليكتهلوا، فجأة، في رجولة يملأونها بعويل كعويل الأطفال ونواحهم، بحثاً عن "ركبة امرأة شهيّة" أبصروها في مناماتهم المترمدة التي تردّد أصداء "وجيب اللحم العاري" في مدينة "السبايا الوردية"، حيث: "ملايين السنين الدموية/ تقف ذليلة أمام الحانات/ كجيوش حزينة تجلس القرفصاء/ ثمانية شهور/ وأنا ألمس تجاعيد الأرض والليل (...)/ والثلج يتراكم على معطفي وحواجبي".

مأساة الحداثة والمدينة

أفتح مجموعات محمد الماغوط الثلاث الاولى، "حزن في ضوء القمر"، "غرفة بملايين الجدران"، "الفرح ليس مهنتي"، يطالعك دائماً هذا الشعر الداهم والمفاجئ في وحشته القاسية وحنانه الأصم والأخرس، المنبثق متدفقاً في حرارته المسكونة ببرد داخلي لا ينضب، بجوع الى الماء والمطر وطيف نساء جديدات غير مسكونان بالخوف والخطايا والقسوة الجارحة: "نحن الشبيبة الساقطة/ (...) من يعطينا امرأة بثياب قطنية حمراء؟ (...) حيث مئة عام تربض على شواربنا المدمّاة". لكن "ليس لنا الاّ الخبز والأشعار والليل/ وأنت يا آسيا الجريحة/ أيتها الوردة اليابسة في قلبي (...)/ القمح الذهبي التائه يملأ ثدييك رصاصاً وخمرا".
نعم، إن في شعر محمد الماغوط، سيرة مروّعة للهروب من أطراف المدن الداخلية على تخوم بادية الشام، الى بيروت الرافلة بالأضواء والأمواج البحرية في مطالع ستينات القرن الماضي، قبل أن تسقط بدورها تحت سنابك الغزو المنفجر من داخلها والآتي اليها من خارجها.
شعر هو سيرة للهرب من سوريا البعث والزمن العثماني، ومن: "أمواج البدو والعسكريين الزرق/ ينحدرون كالعاصفة/ بين الأنهار والملاءات السود/ حيث الغربان تبكي/ والفضاء مظلم كفوهة المدفع/ (و) كنت وحدي... أعود الى القرية المهجورة/ والتراب الساخن يسلق قدمي".
إنه الشعر الذي يصح فيه قول سنية صالح في انبثاقه من "سكب الأحماض المأسوية على الفوضى البشرية". ويمكن أن نضيف كذلك إنه الشعر الذي، اذا جمعنا اليه شعر بدر شاكر السياب والبدايات الشعرية لسليم بركات، نقرأ سيرة مأساة الحياة العربية والثقافة العربية مع الحداثة والمدينة والفردية المحطمة.

***

حارس الغفلة

شادي علاء الدين

الماغوط عين تقشر الاشياء، تتبنى هواماتها، وقدرتها على تقديم العوالم المتناقضة كأنها بنية واحدة متماسكة ومتجانسة، وجزء من نسيج واحد موحد لا يلتقي الا ضمن الخريطة المشهدية الخاصة. وقد أفلح في صناعتها وجعلها خطاً بيانياً متصاعداً يتدرج فيه الخطاب شيئاً فشيئاً ليصل في نهاية المطاف الى تتويجه النهائي المفتوح الذي يكمن في انفساح مدى التشبيه وخصوصاً في خروجه على المعطيات البلاغية العربية التقليدية المألوفة التي كانت تعتبر أن التشبيه الأهم هو التشبيه البليغ الذي تحذف منه أداة التشبيه. الماغوط أحب هذه الكاف، تناغم مع معطياتها البرزخية، اتصل بإمكاناتها إيقاعيا وتصويرياً وقدمها وسيط إدهاش. فرغم واقعية التشبيه عنده فانه يبدو سحرياً، غائماً وغير قابل للامساك، مستعصياً على كل محاولات التصور. يبدو كشحنة عفوية مكهربة، طائشة، رزينة وصلبة. وسيلة لقنص الرؤى والقبض عليها. هو عتال صور يحمّلها ما لا طاقة لها به، فتبدو دائماً العلاقات بينها ملتبسة وغامضة بقدر ما هي محسوسة وعيانية، حتى كأن لها جسداً وجلداً وأعصاباً. فهذه الروحنة للأشياء تجعلها قادرة على النفاذ في الأعماق. التشبيه الماغوطي جساس قيعان، يقول: "روحي معقوفة كالصنبور".
يجعل الماغوط الروح تلتقي مع الصنوبر في آلية التشكل اللاإرادي، وفي بنية الانسحاق واللاجدوى. فالروح المتصنبرة هي الشكل الحقيقي للروح في عصرنا هذا. من هنا فإن التشبيه مزدوج الإحالات، وهذا ما جعل من الماغوط دائماً حارس الغفلات. ويقول ايضاً: "لا شيء سوى الغبار/ يعلو ويهبط/ كثدي المصارع".
الحركة المتعاقبة الرتيبة للعلو والهبوط تظهر كشكل لسيرورة الحياة التي لا يبدو ثباتها قائماً الا من خلال فعل الصراع. المصارع كأنه الحياة نفسها وممثل لحركيتها الرتيبة المتعاقبة المتحولة الى غبار، ذلك الجدار الطيفي الذي يحاصر الاشياء ويقدمها مموهة. لعل في إطلاق تسمية الثدي مكان الصدر إشارة الى فكرة الأمومة التي لم تستطع "القسوة/الحياة" أن تدخلها في تكوينها وتجعلها جزءاً منها. لذلك فإن هذا التفصيل صارخ واحتجاجي، والمصارع كما هو في الأصل طفل غاضب يثير الغبار. حركة الغبار تجمع الاشياء كلها، فهي وجه الذاكرة وطيف المستقبل، والمصارع/ الحياة لم يستطع أن ينجو من هذا التكرار الفظ للأشياء. انه سيزيف عبثي يعرف ان الصخرة هي أمه الممكنة.
التشبيه كأنه خاتمة لا بد منها لسيرة الماغوط. خاتمة مبكرة كما هو دائماً شأن الشعراء.

***

حتى نهاية الكلام

الياس خوري

قال محمد الماغوط انه لم يكن يعرف ان نص "القتل" الذي جعله شاعرا، كان قصيدة. قال انه كتبه كي يكتب، وجاء الشعر. اما كيف ولماذا فالماغوط لا يدري، وظل لا يدري حتى مات مستلقيا على الأريكة والسيكارة في يده. روى في حواره الأخير مع عبده وازن ("الحياة" 4 نيسان 2006) ان احدهم قال انه اله الشعر. هكذا تولد الالوهة من العدم. فهذا القروي جاء الى المدينة كي يهرب منها، دخل السجن من طريق المصادفة، وكتب الشعر كأنه لا يكتبه. لا رهبة ولا خوف، لا قراءة ولا معاندة، خرجت الكلمات من بين أصابعه كما يخرج الماء من النبع، ومشت في طريقها الى البحر. وكانت مجلة "شعر" بحرها الصاخب. في بيروت اجتمع فرسان الكلمة القادمون من سوريا، يوسف الخال وادونيس ونذير العظمة وفؤاد رفقة. سوريون مهاجرون في سوريا، هكذا علّمهم أنطون سعادة. كبيرهم جاء من أميركا وافتتح المسيرة بمحاضرة شهيرة في "الندوة اللبنانية" هاجم فيها سعيد عقل. واتسعت القافلة، ودخلت في سحر الترجمة، والانبهار بالشعر الغربي.
ترجموا اليوت وعزرا باوند، ترجموا رامبو والسورياليين وسان جون بيرس، وأذهلهم "الغصن الذهبي" لفريزر الذي ترجمه جبرا ابرهيم جبرا، وانضمّ إليهم السياب، واكتشفوا شعر انسي الحاج الملعون، وبراءة شوقي أبي شقرا الريفية، وذهبوا في التجربة حتى "جدار اللغة"، كما كتب يوسف الخال.
تخلوا عن انتمائهم الحزبي محتفظين منه بنخبوية رافقتهم دائما، لكنهم تصرفوا وكتبوا في وصفهم رسل الحداثة وأنبياءها الصغار.
كانوا يتموجون بين تراثين، يرفضون الشعرية العربية الكلاسيكية من اجل تبني شعرية الحداثة الأوروبية، قبل ان يكتشفوا ان المصالحة بين التراثين ممكنة،"ابو نواس بودلير العرب"، و"ابو تمام مالارميه العرب"! مثلما كتب أدونيس في مقدمته للشعر العربي.
لكن المفاجأة جاءت من مكان آخر. هبط عليهم شعر يتدفق نثرا، يقول النثر كأنه شعر، ويذهب الى الغرابة الطالعة من خيال قائم على التشابيه المباشرة. لم يأتِ الماغوط من أي من التراثين، ولم يكن في حاجة إليهما. جاء كفلاح يقطف ثمار اللغة من دون عناء، وقال حكايته البسيطة التي أعاد كتابتها في جميع قصائده. انها حكاية فلاح يعيش على حافة البادية، يصرخ بالتمرد، ويلهو بالصراخ. ينتشي بفجاجة الصورة الشعرية، ويحزن "تحت ضوء القمر". مزيج من الرومنسية والواقعية، صور سوريالية كأنها آتية من اللاوعي، ووعي حاد بأن الشاعر يسخر من العالم ومن نفسه، من الثقافة والحداثة، من القهر والقمع ومن الحرية ايضا.
نبت شعر الماغوط كحشائش برية على حافة شعراء الحداثة الذين اخذوا الشعر كرسالة، وصنعوه بجدية مفرطة. كان السياب يكتب الإيقاع الجديد في "أنشودة المطر"، وادونيس يبحث عن مزيج النبوة والهرطقة في "أغاني مهيار الدمشقي"، وانسي الحاج يصنع من التمرد لغة في "لن"، بينما كان الماغوط يلهو بالشعر ويسطّر حكايته الرومنسية تمردا مجانيا وسخرية وتهكما.
لا استطيع فهم ظاهرة الماغوط من دون ربطها بظاهرة زكريا تامر. مثلما جاء الماغوط كصاعقة شعرية، جاء زكريا تامر كنبرة جديدة في القصة القصيرة. كان صاحب "النمور في اليوم العاشر"، و"دمشق الحرائق"، يلهو بالقصة في وصفها مزيجا سورياليا رومنسيا. كأنهما رسما تجربتيهما على هامش خريطة أدب الحداثة. مزيج بدائي وحلمي في الآن نفسه. عرف زكريا تامر ان يهذّب أحلامه بالمثابرة على كتابة القصة، اما الماغوط فجعل من المسرح ميدانا للهوه الشعري.
هذه التجربة الشعرية الخاصة صنعتها ثلاثة دواوين. الديوان الأول "حزن في ضوء القمر"، نشر عام 1959، وبعده بعام نشر الديوان الثاني: "غرفة بملايين الجدران"، اما الديوان الثالث والأخير "الفرح ليس مهنتي" فنشر عام 1970. أي ان الماغوط صمت شعريا منذ ستة وثلاثين عاما.
شعر مصنوع بالصمت، وحكاية سلاحها المفارقة. صرخة ضد القمع والقهر والعسكريتاريا، بقيت ضمن الحدود التي تصل اليها الحنجرة، ونداءات لا تنتهي، فالشاعر يخاطب عالما أصم وآلهة لا تستمع الى صرخات الاستغاثة، وحياة حصادها الوحيد عبث وموت.
صور مفارقة تصطدم، ونثرية تقترب من الحكي في بنيتها لكنها تفاجئ بتشابيهها الغرائبية والمجانية، وشعر مفلوش أحيانا ومقتضب أحيانا أخرى. قصيدة الماغوط عصية على التطور، لأنها ذاهبة من لا مكان الى لا مكان. حتى المسرح العبثي - السوريالي في "العصفور الأحدب" سوف يتحول مسرح سخرية تصل الى حدود الوعظية مع مسرحيات دريد لحام الماغوطية.
هذا اللاتطور جعل من دواوين الماغوط الثلاثة أشبه بديوان واحد. صورة واحدة تكفي من اجل كتابة قصيدة، سبق للشاعر ان كتبها، لذا لن يكتبها من جديد. غناء بلا موسيقى ورومنسية تحطم نفسها وشعور هائل بالغربة والوحشة. لذا لم يستولِ الماغوط على ذاكرة البسطاء والفقراء الذين كتب عنهم، بل استولى على ذاكرة الشعراء الذين سحرهم بقدرته على المفاجأة وبصوره العارية والجارحة. فبدا شعره وصفة جاهزة من اجل التحرر من قيود الشعر وصعوباته.
صرخ الماغوط كثيرا في وجه هذا العالم القبيح، لكنه لم يحاول تغييره. كأن الصوت يجب ان يستخدم حتى يبحّ، والكلمة يجب ان تقال حتى نهاية الكلام.
قال الماغوط حكايته منذ السطر الأول، وتوالت السطور والمسرحيات والمقالات، وامحت المسافة بين القصيدة والمقال وبين الشعر والنثر. لقد نثر الماغوط الشعر وشعرن النثر، لكن حكايته الكبرى تكمن في قدرته على تحويل الحياة نكتة سوداء لا نملّ من سماعها.

***

مختارات

خريف الأقنعة

أيها المارة
اخلوا الشوارع من العذارى
والنساء المحجبات...
سأخرج من بيتي عارياً
وأعود الى غابتي.
محال... محال
أن اتخيّل نفسي
الا نهراً في صحراء
أو سفينة في بحر
او... قرداً في غابة
يقطف الثمار الفجّة
ويلقي بها على رؤوس المارة
وهو يقفز ضاحكاً مصفقاً
من غصن الى غصن.
أنا لا أحمل هوية في جيبي
ولا موعداً في ذاكرتي
أنا لم أجلس في مقهى
ولم أتسكع على رصيف
أنا طفل
ها انا أمد جسدي بصعوبة
لأدفن أسناني اللبنية في شقوق الجدران
أنا شيخ
ها ظهري ينحني
والمارة يأخذون بيدي
أنا أمير
ها سيفي يتدلى
وجوادي يصهل على التلال
انا متسوّل
ها انا أشحذ أسناني على الأرصفة
وألحق المارة من شارع الى شارع
أنا بطل... أين شعبي؟
أنا خائن... أين مشنقتي؟
أنا حذاء... أين طريقي؟

***

جناح الكآبة

مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبة
أتسكعُ كالضباب المتلاشي
كمدينة تحترق في الليل
والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين
كالرياح الجميلة، والغبار الأعمى
فالطريق طويلة
والغابة تبتعد كالرمح.
مدّي ذراعيك يا أمي
أيتها العجوز البعيدة ذات القميص الرمادي
دعيني ألمس حزامك المصدَّف
وأنشج بين الثديين العجوزين
لألمس طفولتي وكآبتي.
الدمع يتساقط
وفؤادي يختنق كأجراس من الدم.
فالطفولة تتبعني كالشبح
كالساقطة المحلولة الغدائر.

***

الرجل الميت

أيتها الجسورُ المحطمة في قلبي
أيتها الوحول الصافية كعيون الأطفال
كنا ثلاثة
نخترق المدينة كالسرطان
نجلس بين الحقول، ونسعل أمام البواخر
لا وطن لنا ولا أجراس
لا مزارع ولا سياط
نبحث عن جريمة وامرأة تحت نور النجوم
وأقدامنا تخبُّ في الرمال
تفتح مجارير من الدم
نحن الشبيبة الساقطة
والرماح المكسورة خارج الوطن
مَن يعطينا امرأة بثياب قطنية حمراء؟
مَن يعطينا شعباً أبكم نضربه على قفاه كالبهائم؟
لنسمع تمزّق القمصان الجميلة
وسقسقةَ الهشيم فوق البحر
لنسمع هذا الدويّ الهائل
لستة أقدام جريحة على الرصيف
حيث مئةُ عام تربض على شواربنا المدمّاة
مئة عام والمطر الحزين يحشرج بين أقدامنا.
بلا سيوف ولا أمهات
وقفنا تحت نور الكهرباء
نتثاءب ونبكي
ونقذف لفائفنا الطويلة باتجاه النجوم
نتحدث عن الحزن والشهوة
وخطوات الأسرى في عنق فيروز
وغيوم الوطن الجاحظة
تلتفت إلينا من الأعالي وتمضي...
يا ربّ
أيها القمر المنهوك القوى
أيها الإله المسافر كنهد قديم
يقولون أنك في كل مكان
على عتبة المبغى، وفي صراخ الخيول
بين الأنهار الجميلة
وتحت ورق الصفصاف الحزين
كن معنا في هذه العيون المهشمة
والأصابع الجرباء
أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر
لنبكي
لنسمع رحيل الأظافر وأنين الجبال
لنسمع صليل البنادق من ثدي امرأة.
ما من أمة في التاريخ
لها هذه العجيزة الضاحكة
والعيون المليئة بالأجراس.
لعشرين ساقطة سمراء، نحمل القمصان واللفائف
نطل من فرجات الأبواب
ونرسل عيوننا الدامعة نحو موائد القتلى
لعشرين غرفة مضاءة بين التلال
نتكئ على المدافع
ونضع ذقوننا اللامعة فوق الغيوم.
ابتسم أيها الرجل الميت
أيها الغراب الأخضر العينين
بلادك الجميلة ترحل
مجدك الكاذب ينطفئ كنيران التبن
افتح ساقيك الجميلتين... لنمضي...
لنسرع الى قبورنا وأطفالنا
المجد كلمات من الوحل
والخبز طفلة عارية بين الرياح.
يا قلبي الجريح الخائن
أنا مزمار الشتاء البارد
ووردة العار الكبيرة
تحت ورق السنديان الحزين
وقفتُ أدخن في الظلام
وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار
كنت أتدفق وأتلوى
كحبل من الثريات المضيئة الجائعة
وأنا أسير وحيداً باتجاه البحر
ذلك الطفل الأزرق الجبان
مستعداً لارتكاب جريمة قتل
كي أرى أهلي جميعاً وأتحسسهم بيدي
أن أتسكع ليلة واحدة
في شوارع دمشق الحبيبة.
يا قلبي الجريح الخائن
في أظافري تبكي نواقيس الغبار.
هنا أريد أن أضع بندقيتي وحذائي
هنا أريد أن احرق هشيم الحبر والضحكات
أوروبا القانية تنزف دماً على سريري
تهرول في أحشائي كنسر من الصقيع
لن نرى شوارع الوطن بعد اليوم
البواخر التي أحبها تبصق دماً وحضارات
البواخر التي أحبها تجذب سلاسلها وتمضي
كلبوة تجلد في ضوء القمر
يا قلبي الجريح الخائن
ليس لنا الا الخبز والأشعار والليل
وأنت يا آسيا الجريحة
أيتها الوردة اليابسة في قلبي
الخبز وحده يكفي
القمح الذهبيّ التائه يملأ ثدييك رصاصاً وخمراً.

***

حريق الكلمات

سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة
لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء
وأنا ابحث عن فتاة سمينة
أحتكّ بها في الحافلة
عن رجل عربي الملامح، أصرعه في مكان ما
بلادي تنهار
ترتجف عارية كأنثى الشبل
وأنا أبحث عن ركن منعزل
وقروية يائسة، أغرّر بها.
يا ربة الشعر
أيتها الداخلة الى قلبي كطعنة السكين
عندما أفكر، بأنني أتغزّل بفتاة مجهولة
ببلاد خرساء
تأكل وتضاجع من إذنيها
أستطيع أن اضحك، حتى يسيل الدم من شفتيّ
أنا الزهرة المحاربة،
والنسر الذي يضرب فريسته بلا شفقة.
أيها العرب، يا جبالاً من الطحين واللذة
يا حقول الرصاص الأعمى
تريدون قصيدة عن فلسطين،
عن الفتح والدماء؟
أنا رجل غريب لي نهدان من المطر
وفي عينيّ البليدتين
أربعة شعوب جريحة، تبحث عن موتاها.
كنت جائعاً
وأسمع موسيقى حزينة
وأتقلب في فراشي كدودة القز
عندما اندلعت الشرارة الاولى.
أيتها الصحراء... إنك تكذبين
لمن هذه القبضة الارجوانية
والزهرة المضمومة تحت الجسر،
لمن هذه القبور المنكّسة تحت النجوم
هذه الرمال التي تعطينا
في كل عام سجناً أو قصيدة؟
عاد البارحة ذلك البطل الرقيق الشفتين
ترافقه الريح والمدافع الحزينة
ومهمازه الطويل، يلمع كخنجرين عاريين
أعطوه شيخاً أو ساقطة
أعطوه هذه النجوم والرمال اليهودية.
هنا...
في منتصف الجبين
حيث مئات الكلمات تحتضر
اريد رصاصة الخلاص
يا أخوتي
لقد نسيت حتى ملامحكم
أيتها العيون المثيرة للشهوة
أيها الله...
أربع قارات جريحة بين نهديّ
كنت أفكر بأنني سأكتسح العالم
بعينيّ الزرقاوين، ونظراتي الشاعرية.
لبنان... يا امرأة بيضاء تحت المياه
يا جبالاً من النهود والأظافر
اصرخْ أيها الأبكم
وارفع ذراعك عالياً
حتى ينفجر الإبط، واتبعني
انا السفينة الفارغة
والريح المسقوفة بالأجراس
على وجوه الأمهات والسبايا
على رفات القوافي والأوزان
سأطلق نوافير العسل
سأكتب عن شجرة او حذاء
عن وردة أو غلام
ارحل أيها الشقاء
أيها الطفل الأحدب الجميل
أصابعي طويلة كالإبر
وعيناي فارسان جريحان
لا أشعار بعد اليوم
اذا صرعوك يا لبنان
وانتهت ليالي الشعر والتسكع
سأطلق الرصاص على حنجرتي.

***

مقهى في بيروت

لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء
لا شيء يربطني بهذه المروج
سوى النسيم الذي تنشّقته "صدفة" في ما مضى
ولكن من يلمس زهرة فيها
يلمس قلبي
من بلس الى جاندارك
ومن جاندارك الى بلس
رفعت يدي مئات المرات
محيياً مئات الأشخاص
باليد التي تأكل
والتي تكتب
والتي تجوع.

***

من التاسعة حتى العاشرة
رأيت نوافير الطيور والدم
والفراشات الممزّقة منذ أجيال تحت الحوافر
شربت قهوة وماء وتبغاً ودموعاً
حتى أصبحت كالحبلى
وما ارتويت.
وعرضت نعلي في وجه
الصيف والخريف
في وجه البحر والصحراء
والأمطار اليابسة كالحجر
وما ارتويت.

***

سمعتُ موسيقى حزينة
وهززتُ رأسي كالجواد
واشتهيت أن أصهل صهيلاً طويلا يمزق عنقي
أن يكون عنقي من البلّور الصافي
لأرى أنهار الشوق والجوع والذكريات
كيف تجري؟
أن أخلع نواجذي
وأضعها على طاولتي كالقفاز
وأنام... حتى ينتهي العالم.

***

اشتهيتُ أن يدخل أبي
من ذلك الباب المذهّب
وعقاله يتأرجح على ظهره كحبال المسارح
ومخاط بقرته الحبيبة
يسيل هنا وهناك
كما يسيل الدم من شقوق المقابر.
اشتهيت ان أرى قرنيها اللامعين
يثقبان الضجر والحرية
الريح والمطر والهتافات
وتلك الأثداء المفلطحة كأزرار المعاطف.

***

اشتهيتُ أن تدخل أختي الصغيرة
ذات العيون الفستقية
والجدائل المربوطة بالقنّب
لأبتلع يديها الصغيرتين كالنعناع.
اشتهيتُ أن أسمع ضحكة عاليةً علو النجوم
تخلخلُ ملايين الجدران
وتطحنها أمام عينيّ كالرمل.

***

من التاسعة حتى العاشرة
حيث أمعاء الساعات تبرز من المعاصم
اضطجعتُ وحيداً على الصخور
ذهبت الى دورة المياه
شاداً ربطة عنقي الى أسفل
تاركاً إياها
تتأرجح كيد ميتة على صدري
وتخيلت آلاف الأشجار المحترقة
تهوي على الأرض
آلاف الخنازير والأفواه والسلاسل
تطوق غرفتي كالضماد.

***

اتكأتُ بجوار المداخن
والأوراق المضغوطة بالحبر
لأسرّح شعري جيداً
لأشدّ حزامي جيداً
كي تبرز كآبتي كلها
كي تبرز أعضائي المتوترة كلها
كما تبرز الفتاة نهديها في النزهات.
ورجعتُ الى الزاوية نفسها
مستحماً حتى قمة رأسي باللهب والانكسار
"أيتها المرأة، أيتها الحصاة!"
أيتها النافذة
"كوني اماً أو شقيقة أو حبيبة لي".

***

من الواحدة حتى الواحدة
حيث لحمي يرفع جناحيه كالعصفور
شربت ماء مثلجاً بالقش
ومسحتُ العرق بالجدار
وتذكرت الطبيعة الشاسعة
والبيادر المنفصلة عن بعضها كالكنائس.
تذكرت الضفادع وأغصان الغار
كنت أستلقي على مرفقي فيما مضى
اشرب بفمي وحواجبي وجلدي
اشرب ماء ازرق بلون العضلات
بلون البنفسج
بلون الدماء الملكية.

***

من جاندارك الى بلس
ومن بلس الى جاندارك
سرت آلاف الكيلومترات المرصوفة فوق بعضها
رأيت أطنانا من النساء والخادمات
تأملت النقود البرية
والحلوى الهادرة تحت الجسور
تأملت أصابع النادل الرفيعة
وهي تمسح دموعي عن الطاولة كالحساء.

***

قهوة قهوة أيتها الجدران
مزيداً من الأرصفة والغبار أيها الله
شفتاي في قاع الزجاجة...

***

أريد أن أكون سمكة في مستنقع بعيد
سمكة في غيمة عالية تتحرك.

********

محمد الماغوط، صنّاجة الهزائم وحفيد القرامطة

(ملف جريدة المستقبل)

محمد مظلوم
(العراق/سوريا)

محمد الماعوظفي الوقتِ الذي كنتُ فيه بصدد مراجعة "تاريخ قصيدة النثر العربية" حلَّ يومُ الثالث من نيسان 2006 ليعلنَ تاريخاً آخرَ فاصلاً في عمر قصيدة النثر العربية. فقد رحل محمد الماغوط، الذي ارتبطت قصيدةُ النثر باسمهِ أكثرَ من سواه، وكان على التاريخ أن يعيدَ صياغةَ السؤال بطريقة مختلفة، عما إذا كان الماغوط هو البطل التاريخي، حقاً، لهذا النمط من القول الشعري العربي القلق بصيرورته حتى الآن.

على انني كنت أحاولُ أن استقصي الملامحَ الممكنة التي قد تقترحُ إجابةً عن هذا السؤال، في رصدِ بدايات ذلك التاريخ من خلال فحص نموذجيها العراقي والشامي وما بينهما من تمايزات أو توازيات ممكنة، متوقفاً بشكلٍ خاصٍ ومقصود عند تجربة الراحل حسين مردان، لأنَّني ما زلتُ أرى فيها تجربةً لافتةً ومبكرةً في الكتابة الحرَّة خارجَ غيتوات الأشكال الشعرية، وهي لم تَنلْ ما تستحقُّ من الفحص ربَّما نتيجة انشغال النقد العربي بتجربة الشعر الحر، مما انعكس في الإهمال النقدي لتجربة حسين مردان الذي رحل قبل أكثرَ من ثلاثين عاماً. قلتُ بما أن روادَ هذه القصيدة من بلاد الشام لا يزالون بيننا: الماغوط في دمشق، وأنسي الحاج في بيروت، فإن الحديث عن "التاريخ الحيِّ" سيكون ذا جدوى أكثر، وليس بعد الفوات، كما درجت عادات العوادي، بيد أن "نيسان أقسى الشهور" كما يقول إيليوت إذ سرعان ما هوى ضلع آخر من جغرافيا المثلث برحيل محمد الماغوط، وقد أضحى اليوم تاريخاً هناك ودائرة مكتملة، بعد أن خرج من ذمَّة الجغرافيا إلى ذمَّة السماء.

ربَّما ثمَّة من يرى في الماغوط، خصوصاً بعد مماته، رائداً لا ينازعهُ أحدٌ على الإمساك بالنار الأولى لقصيدة النثر العربية، لكنَّ رأياً معتاداً كهذا الرأي قد يبدو من قبيل ذكر محاسن الموتى إذا ما تطرَّف مطلقوه في تأويلاته البعيدة، وقد يكون من باب الجحود لدور الماغوط إنْ تنكَّرَ لهُ من لا يرى فيها الرائد، وكأنَّنا هنا نُعيد أسئلةً قديمةً ذات نكهة بيزنطية، مثلما حدث مع قصيدة التفعيلة في الشعر العربي، على إنَّنا في كل الأحوال لن نختزل الصورة التي يبدو فيها الماغوط أوضح شعراء قصيدة النثر العربية تأثيراً في الأجيال اللاحقة وفي الطبيعة البنائية لتلك القصيدة خلال العقود الثلاثة الماضية.

فمن اللافت أن معظم شعراء قصيدة النثر في ثمانينات العراق، على سبيل التمثيل الحصري للظاهرة لا الحصر المطلق لها، اهتموا بالماغوط وأنسي الحاج، ولم ينتبهوا إلى تجربة حسين مردان. فقصيدة النثر في العراق التي كتبها مردان ظلت هامشاً أمام المدِّ القوي لقصيدة التفعيلة ممثلة بأصوات جيل الرواد.

حتى أولئك الشعراء الذين جاءوا إلى قصيدة النثر، من احتمالات قصيدة التفعيلة، لم يدققوا جيداً في تجربة حسين مردان بل تفاعلت نصوصهم بشكل أوضح مع "حزن" محمد الماغوط الأليف تحت ضوء القمر و"لن" أنسي الحاج أكثر من انتمائهم لـ"صور" حسين مردان المرعبة وأرجوحته "هادئة الحبال". بل انشغلوا عن تلك "الصور المرعبة" بأخبار تمرد شاعر "قصائد عارية" الذي كان يوصف بنوع من العسف بأنه ظاهرة في السيرة الحياتية أكثر من كونه طاقة شعرية. فمردان جاء إلى النثر من عمود الشعر الكلاسيكي، بينما جاء الماغوط والحاج من براءة النثر الطازج، وفوضى الإيقاع الجماعي، متعثرين بركام هائل من القول المعاد، قبل أن يمضيا سارحين لاحقاً في اللغة التي تنبش صحراء مبكرة.

شعراء قصيدة النثر في العراق بهذا المعنى، انقسموا بين واردٍ من مشروع الشعر الحر، وصادرٍ عن كتابة خارج الإيقاع، وهم كثر بين شعراء جيل الثمانينات.

لكن تجربة الماغوط بقيت أكثر براءة بحسها البدائي، المتخفف من لوثة المعرفة، مما جعل كيمياء الجملة لديه مشحونة بطاقة طرفاها ما يتخيله وما يعرفه، وبين ما يعرفه قليلاً ولا يعرفه البتة! لذلك فهو يضعنا ببراعة وخبث لافت، أمام حيلة لا يجيدها الكثيرون ممن ينسجون المدارع للأعماق من سراب تمرُّ عليه الريح.

وفي هذه المنطقة بالذات بدا الماغوط أحد مفسدي العديد من شعراء جيلنا، أولئك الذين وجدوا للسخرية من سيوف الأجداد وقوافيهم وأمجادهم أمثولات حية في شعر الماغوط، بدءاً من علاقاته الإشكالية مع ما حوله بكل أشكاله وتجلياته: عائلة أم بيئة أم مجتمع أم لاهوت، ولعل في صورة، الأب الجاني في أشعاره، بعمقها الوجودي وتعبيرها البسيط ما يجعل منه طفلاً أسطورياً مؤبداً تنفع سيرته أن تغدو تميمة خاصة سينسج منها الشعراء خطاباً نمطياً في الرفض، هو أيضاً أبرز مبدعي الفتن الشعرية التي فخخت خريطة الآباء الشعريين، عندما كان الأكثر من الشعراء مفتوناً بنماذج ثاوية في البعيد، جاء جيل كامل لم يعبأ كثيراً بأوزان الخليل فتأبط شرور قصائد الماغوط ورددها كمحفوظات أين منها البائيات واللاميات والميميات العربية، نغزات ووخزات ساخرة ومستفزة لكنها ماضية ونجلاء واسعة الغور في العمق، وحجج شعرية لمن يطلب الشعر خارج القوالب الجاهزة. بيد أن الماغوط قولب جمله كمن يغلقها على نفسها، فغدت علامة فارقة تدل على اسمه وفخاً يرتاده الكثير من شعراء الأجيال اللاحقة وهم مصابون ببقايا تراب الفخ الماغوطي.

هذه الدهشة المركَّبة من البساطة في بناء الجملة ووضوحها، والعمق الذي يزين الجماليات الباطنية للصورة الشعرية، جعلت منهُ حراً في تشبيهاته لا يقف أمامه عمود للشعر ولا صولجان من البلاغة العتيقة. بلاغته ليست تلك الوصفة الجافة المستلة من بين قواميسَ ومعارفَ سابقة، لكنها صيدُ خاطره الذي يثب ما بين وثبة الفزع ووثبة النشوة ليلتقط الصور بمخالب مشعة ويضعها كعمود من نور وسط الظلام. لذلك لا عجب عندما نسمع منه، إنه شخص لم يقرأ في صغره الكثير من تراث اللغة، بل حتى دراسته مزارعاً لا يتعلم الكثير، لم تساعده على الإطلاع على المزيد من الثقافة. ربما ليس من المهم أن نصدق مثل هذا القول تماماً، لكن قراءة نصوصه بروية ستثبت حقاً أنه كان كثير الاتكاء على نفسه في تحميل الصور وإلحاق الجمل بما يناسبها من إضراب مقصود عن كل ما يذكر بالنسل اللغوي المعتاد.

إن وجوده في الحياة كالمقسور، دفع به إلى استدراج عناصر الطبيعة لتعيد ترميم مشهد الحياة في الشارع الذي لا يبدو لها مقاماً ذا مأمن، من هنا هذا التلاقح والعطف الفصامي، والنعت الغريب في علاقات مفرداته بعضها مع بعض أو في تجاورها.

"كنت مهرجاً...
أبيع البطالة والتثاؤبَ أمام الدكاكين
ألعبُ الدّحل
وآكل الخبز في الطريق
وكان أبي، لا يحبني كثيراً، يضربني على قفاي كالجارية
ويشتمني في السوق
وبين المنازل المتسلخةِ كأيدي الفقراء
ككل طفولتي
ضائعاً .. ضائعاً
أنا إنسان تبغ وشوارع وأسمال".

أي قراءة تقوم في التدقيق في القاموس الشعري للماغوط ستصل إلى أن قاموسه لا يتخبط في المفازات البعيدة للغة في التشبيه الصريح أو حتى في الاستعارة وهو يمسح المكان بعينيه وبخاطره، وإنما يتسكع بشكل دائري حول المكان نفسه فتبصر عينه الشيء ذاته من جهات شتى، لذلك فإن مفردات الوطن، والمدينة، والأرصفة، والمقاهي هي السعة المجازية للصورة الشعرية، رغم صيغ النداء المفخم وبناء الخطابة الظاهري الذي يغطي به جمله وكأنها تنبيه مبالغ فيه لأمر أقل قيمة، بلاغة غير مفرطة ومادة مقتصدة، جعلت من غرفته الصغيرة ذات "الملايين من الجدران" التي تنفتح على أسراب من الدهشة.

وبهذا الصدد تقترب تجربته في مسارها العام من تجارب شعراء التروبادور الجوالين. حياته صورة تقريبية لجوَّابٍ من عصور الغجر، بل يمكننا أن نرى فيه صورة لانمطية للشاعر العربي فما هو، في دواوينه الثلاثة، بجليس الأمراء ولا منشد المجاهدين في الحروب المقدسة والبطولات الملحمية، لكنه يحمل غيتاره في ليل التشرد مرة وصنوج الاحتجاج في أقاليم الهزائم العربية مرة، مما جعله صنَّاجة الهزائم بامتياز.

وإذا كانت صورة الشاعر، غير العربي، لا تناسبه للاستعارة هنا وهو الدائب في التأكيد على فطريته التي لا تبدو مقنعة تماماً في ما تذهب إليه من غلو، وهو الذي أسمعني أكثر من مرة، بأنه لم يقرأ من الكتب في صباه عدا القرآن! فإن نموذج الشعراء الصعاليك والفتاك واللصوص، وشعراء الهامش الذين ترعرعوا في ثقافة الخوارج ستبدو مجالاً حيوياً مناسباً للماغوط..

لسنا بحاجة للتدقيق المضني في نصوصه لنعثر على تجليات كثيرة لهذه الفكرة:

"آه كم أود أن أكون عبداً حقيقياً
بلا حبٍّ ولا وطن
لي ضفيرةٌ في مؤخرة الرأس
وأقراطٌ لامعةٌ في أذنيّ
أعدو وراءَ القوافل
وأسرج الجياد في الليالي الممطرة
وعلى جلدي الأسود العاري
يقطرُ دهنُ الأوز الأحمر".

"لا امرأة لي، لا عقيدة/ لا مقهى، لا شتاء/ ضمني بقوة يا لبنان".

شيء إضافي، أراه أساسياً في المفترق الحداثي الذي أحدثه الماغوط في القصيدة العربية، يتجسد في كونه أسهم في نقل الذات الشاعرة من متن الحس الرؤيوي النبوي، إلى هامش آخر سيغدو لاحقاً متناً طبيعياً مضافاً في المتن الأصلي للنسق الشعري. ذلك أن الذات المنهزمة المشروخة المهانة، أضحت التيمة الأوضح في شعره إزاء أنبياء الشعر الذين لا ينكسرون أمام شيء مهما عظم بما في ذلك الآلهة!

لكن أين هو الماغوط الذي نقصده؟ إنه في "حزن في ضوء القمر" و"غرفة بملايين الجدران" و"الفرح ليس مهنتي" وصولاً وربما انتهاء بـ"العصفور الأحدب" التي سماها مسرحية مجازاً كما أظن، فهي لا تدخل في سياق مسرحياته اللاحقة، لكنه بقي محيراً منذ "المهرج" رغم المفارقة الشعرية الباهرة التي لم تفقدها معظم أعماله اللاحقة. الواقع أن السخرية السوداوية الفائضة في شعره تسربت ببطء إلى "مسرحيات جماهيرية" وجدت في زمن الهزيمة العربية خصوبة المرتع والحاضن الاجتماعي لها، بيد أن أعماله الشعرية التي نشرت منذ التسعينات يوم عاد ليرثي سنية صالح، بدا فيها وكأنه يرثي الماغوط في دواوينه القديمة، فيما لم تكن عناصر الصورة في قصائده أكثر من مواد "تحبير" لما اجترحته مخيلته من صورٍ أولى برِّية وعصية على التزيين.

ولأن الماغوط الشاب كان يرسم صورة الأمكنة بأقدامه وعينيها قبل قلمه فقد عشقنا صور تلك الأمكنة في دمشق واحتضنا ملامحها في الوجدان مع قصائد الماغوط قبل أن نُبتلى بعشقها المكاني عندما زرناها وعشنا فيها في ما بعد، فباب توما، بالنسبة لي، كانت مثل جيكور السياب بالنسبة للكثيرين، مع فارق إن جمال باب توما، كما رأيته لاحقاً، يستجيب بطواعية جمالية لما ارتسم في المخيلة ربما أكثر من تلك التي أسبغها السياب على جيكوره المتواضع في الجغرافيا.

"ليتني وردةٌ جوريةٌ في حديقة ما
يقطفني شاعرٌ كئيب في أواخر النهار
أو حانةٌ من الخشب الأحمر
يرتادها المطرُ والغرباء
ومن شبابيكي الملطَّخة بالخمر والذباب
تخرج الضوضاءُ الكسولة
إلى زقاقنا الذي ينتجُ الكآبةَ والعيون الخضر".

حتى بيروت، وهي تحترق، عشقنا فيها تلك الحياة التي لا تحرقها الحروب:

لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء
وأنا أبحث عن فتاة أحتك بها في الحافلة!".

أو

"لبنان.. يا امرأةً بيضاء تحت المياه
يا جبالاً من النهود والأظافر".

محمد الماغوط حفيد القرامطة الذين ملأوا التاريخ بالشبهات، لم يكن التاريخ بالنسبة له سوى كوميديا مثل أشياء كثيرة تبدو القداسة هالتها المنيعة قبل أن تتداعى أمام الكركرات العالية المتدفقة من بين الجمل اللاذعة في قصائده عندما تستوي عنده القضايا الكبيرة والصغيرة:

"كنت أودُّ أن أكتبَ شيئاً عن الاستعمار والتسكُّع
عن بلادي التي تسيرُ كالرِّيح نحو الوراء".

لكنها الكتابة التي جعلت منه المتسكع والسجين في دمشق، المتشرد الهارب من جسر أيامه في بيروت، ثم المعتكف في دمشق، بعد أن بقي أعزلَ حتى من عكَّازه، لكنه ظلَّ متدرعاً بقلمه ودنه وتبغه وصوته الأجش يختتم الرحلة على كرسي متحرك، وهو يحاول إيجاد حلول جديدة لا تشبه جواب أوديب عن لغز أبو الهول، فلن يكتمل تعريف رحلة الإنسان في هذا العصر بعكازه الذي يجتاز به آخر قنطرة في الغروب، لنقول إن اللغز أنجز بالمشي على ثلاث، لكنها الكراسي المتحركة، المصير الأكثر قسوة للشعراء حينما كانوا قساة على أنفسهم بما يكفي لأن يموتوا وحيدين، كنجمة تهوي في النهار ولا مراثي لها سوى الشمس.

******

محمد الماغوط الذي لم يعرف ربما لماذا يظلّ شعره حيّاً

حسن داوود
(لبنان)

حين التقيته للمرة الثانية في أحد مقاهي دمشق كان ذلك الوشم ما زال على يده لم يبرح. كان موضعه غريباً، هناك على قفا راحته، وكان نقشه قديم الطراز، أقدم مما ينبغي لرجل كان آنذاك، أقصد وقت التقيته للمرة الأولى، في مطلع أربعيناته. عندنا، في قريتي، كانت الوشوم لا ترى إلا على وجوه النساء العواجز، اللواتي في عمر جداتنا. منذ اللقاء الأول به ذاك، انطبع الوشم في ذاكرتي إذ بدا لي مفارقاً. كما لو أن الرجل الذي أمامي تأخر عن جيل سابق، أو أنه استلحقه بعد فوات زمنه. ثم انه الشاعر "محمد الماغوط" الذي كنا لا نقرأ قصائده فقط بل نحفظها ونروح نرددها في مشينا الليلي معاً، ذلك الذي كنا نحب أن نسميه تسكعاً. أي أنه كان شاعراً لزمننا نحن، زمننا الذي كنا نشقه مخلفين وراءنا أزمنة كنا نرى أنها باخت وتهرأت. كان محمد الماغوط يساعدنا بشعره على أن نتقدم خطوة أخرى نحو تلك الجدة، أو الحداثة كما كنا نسميها آنذاك، هو الذي بدا في ذلك اللقاء الأول، أقرب الى ماضيه منه الى حاضرنا. وحين بدأنا الكلام الذي، بدوره، كان يتقدم عنا ويسبقنا، بدا الماغوط كأنه يحيلنا الى آخرين كانوا معنا في تلك السهرة. لم يكن يعرف كيف يصف حداثته وكيف يجد لها الكلام النقدي أو النظري الذي يسوّغها. في الحوار المتقطع الذي أجراه معه الزميلان يوسف بزي ويحيى جابر، والذي نعيد نشره في هذا الملحق، بدا كثير البعد عن رد شعره الى موقف نقدي أو الى عقيدة شعرية من أي نوع، وذلك حين قال للزميلين إنه لم يقل ما قاله عن أدونيس إلا بعد أن "شرّبه" مساهروه الويسكي وأسكروه. كما أن هناك من ذكر كيف أنه، في حلقات الحوار التي كانت تدور بين جماعة مجلة شعر، كان يتوجه الى حيث البراد الذي لا بد ملأه يوسف الخال بأشياء لم تكن مألوفة آنذاك للماغوط.

لم يكن يحب أن يفلسف شعره. بل انه، على الأغلب، لم يكن يستطيع ذلك.
ربما، في لقائي الثاني معه في ذلك المقهى الدمشقي، لم يجب بكلمة واحدة عن السؤال الأول الذي وجهته له. ربما لم أعرف أنا ماذا أسأل، وكيف. في الحوارات، القليلة على أية حال، التي أجريت معه، كان كمن يكمل حديثاً مستمراً مع محاوريه. لم يكن من النوع الذي تلتقيه دون معرفة كافية وتسأله السؤال الأول فيما أنت ممسك بالقلم ومستعد لبدء التسجيل. ذاك أن ما سيقوله لا يملك التحكم به، هكذا مثلما يصعب على واحدنا، في السهرات، أن يكون هو ذاته في كل مرة. لم يكن يجيد صناعة الكلام الموازي، ذلك الذي كان الشعراء الآخرون يجدونه ضرورياً من أجل أن يتأكدوا، أو يؤكدوا، أنهم يعرفون تماماً الى أين يذهب شعرهم. أو أنه، هو محمد الماغوط، لم يكن يحظى بتلك الملكة. لكن المهم هو أنه كان يعرف ذلك فيه فلم يسْعَ الى أن يسأل نفسه من أين يأتيه الشعر. لم يرتكب ذلك الخطأ، المميت، الذي أودى بالروائي الأميركي سكوت فيتزجرالد حين راح، ليعرف من أين تأتيه موهبته، يسألها كما تفعل فراشة تسائل نفسها من أين تأتيها قدرتها على الطيران، فكانت تلامس الغبار الذي يصنع جناحيها مسقطة منه ذرات في كل مرة (بحسب وصف أرنست همنغواي لفيتزجرالد).

هذا ولم نفلح نحن قراؤه في أن ننوب عنه في ذلك. لقد تركنا "نظرية" شعره في شعره نفسه وذلك ما نجّاه، في ما أحسب، من بقاء هذا الشعر في زمنه منحبساً فيه. قارئ الشعر تراه يطوي شعراء كما يطوي أزمنة إذ هو، شأن الشعراء، يظل يبحث عن ذلك القول الموازي، مجدداً إياه كل مرة، أو مثيراً إياه، أو منكره.

لم يصمد طويلاً إذن شعراء كانوا، فيما هم يعيّنون لحظة التجاوز التي حققوها، لا يعرفون أن هناك من سيأتي ليبقيهم في لحظتهم تلك. محمد الماغوط نجا من إهمال حافظيه له. ما زلنا، بعد أكثر من ثلاثين سنة، نحسب أننا ما زلنا في الشعر حين نردد لأنفسنا "ماذا أفعل بتلك السنوات المتماوجة أمام عيني/ كالبحر أمام البجعة". ما زلنا نجد أنفسنا واقفين، وقفة البجعة، أمام تلك السنوات المرهقة التي، في لحظة ما نقف، نكاد نستنكف عن أن نخطو الخطوة الأولى نحوها. كما أننا لم نرجع قصائد "الفرح ليس مهنتي" الى سذاجة سابقة تمكنا من أن نصير في ما بعدها. بل اننا، في ما يتعدى الشعر الذي في كتبه الأربعة، ما زلنا نستطيع، في سمرنا مع آخرين، أن نأتي بشيء يضحكهم حين نردد ما كتبه لإحدى مسرحيات دريد لحام قبل ربع قرن ربما: "بالخطة الجديدي راح نتمكن نعالج ونعلم 10 طن ولاد". بل ما زلنا نستطيع أن نضحك نحن أنفسنا، كما ضحكنا، ذلك الضحك الماغوطي طبعاً، ونحن في صالة المسرح بدمشق.

وكان يأتي بما يشبه ذلك في ما يروى عنه او في ما يدون من أقواله (ومنها تلك التي استخلصها يوسف بزي ويحيى جابر من حوارهما معه). كأنه، في شعره وفي ما لا يسميه شعره، يصدر عن موهبة واحدة جعلت صورته، كشخص، متطابقة مع تلك الشاعرية العاتية بالعالم، الساخرة منه والساخطة عليه. شعره نفسه، يصدر عن موهبة واحدة جعلت صورته، كشخص، متطابقة مع تلك الشاعرية العابثة بالعالم، الساخرة منه والساخطة منه. شعره نفسه كان موجوداً في شخصه وكنا نحن نتهيأ لنسمع شيئاً من ذلك حين يأتي أحد يقول إنه جالسه في الشام.

حتى بدر شاكر السياب يبدو أقرب الى قرائه القدامى منه الى القراء الجدد. في إحدى جلسات قراءة الشعر في بيروت بدا لي كما لو أن "إقناع" الشعراء الشباب بالسياب يحتاج الى الكثير من الكلام، بل وربما لم يكن ذلك ليجدي كثيراً. انهم يحبون الماغوط، الناجي من تقلب الأذواق والأزمنة. ربما يجدون في شعره نبوءة بذلك الانكسار الذي بلغناه والذي ما زلنا ممعنين فيه. الانكسار الذي لم يتنبأ به قولاً بل أيضاً بطريقة القول حيث التعبير عن أي شيء لا يستطيع الخلاص من المرارة والسخرية، ليس انه نجا من تقلب الأذواق فقط بل انه، مع أجيال القراء والشعراء، يزداد قرباً وحضوراً، كنا، في سنوات السعبينات، نردد، فيما "نتسكع"، جملاً من قصائده لكننا، لسبب ما، كنا نرى ان فرادته تضعه خارج السباق، الذي لا اعرف لماذا يظل الناس يجرونه، للفوز بجائزة الشاعر الأول. محمد الماغوط، في رحيله، يبدو أكثر حضوراً وأكثر بقاء مما كأنه في سنوات السبعينات تلك. هذا في حد ذاته شيء جديد في ثقافة تنشأ في زمن، أو أزمنة لا قابلية لها ان تحفظ شيئاً مما يحدث فيها.

***

الفرح ليس مهنة أحد

وديع سعادة
(لبنان/استراليا)

أحاول أن أتحدث معك يا محمد الماغوط. غائب عن أرضه يحاول أن يتحدث مع غائب عن الأرض. لا شيء سوى حديث غياب. هذه هي اللغة يا محمد الماغوط: لا شيء سوى لغة غياب.

أردتَ أن تجعل اللغة حضوراً. لا يريد الشعراء سوى حضور اللغة: أن يحضروا في اللغة وتحضر اللغة فيهم. لكنهم جميعهم يرحلون، وتبقى اللغة غائبة.
لغة الحضور عصيّة على الشعراء يا محمد الماغوط. هي لغة أحلام لا تلبث ان تضمحل مع يقظة الشاعر. ما يحضر منها ليس إلا حلمها وكوابيسها، ليس إلا خيالها. وحين يستفيق الشاعر وينزل الى الشارع، يجد العالم، كله، بلا لغة.

حين ينتهي الشاعر من كأسه وتبغه وقصيدته وينزل الى الشارع، يصطدم بكلمات غير مفهومة، بكلمات قاسية وقاتلة كصواعق مفاجئة تضرب لغة أحلامه وتجعلها نثاراً أمام عينيه، وتجعله هو نثاراً أمام كلماته. حين ينزل الشاعر من قصيدته الى العالم يصير هو وكلماته نثاراً، يصير خراباً، ولا تعود أية كلمات ترممه. فالعالم يا محمد الماغوط، وأنت أدرى، ليس من استحقاق الشاعر.
للشاعر استحقاق واحد: فقط، كلمات، موهومة.

ولذلك لن يمشي معك بردى الى قبرك. ولن تكون صفصفاته حزينة على عدم مرور ظلك بين ظلالها. ولن تفتقد أرصفةُ دمشق خطواتك. وأشجار الشام ستبقى تورق في الربيع وترمي أوراقها في الخريف، في غيابك كما في حضورك. ولن يفجع جيرانك ولا أقاربك ولا الذين يقولون إنك مثالهم الشعري. كل هذا هراء، أو وخز حزن عابر.

وسيقيمون لك تأبيناً "حاشداً"، ويكتبون عن رحيلك في الصحف، لكن كل ذلك ابن لحظة يا محمد الماغوط. فأنت في مماتك الآن تماما كما في حياتك: عجز عن تحويل لغة الحلم الى فعل في الواقع. ومثلما عشت مغبوناً، ومشرداً، وقتيل تمرّد وحلم، ستبقى كذلك الى الأبد. . . فهل يمكن أن يتوخى المغبونون في حياتهم، المقتولون على قيد الحياة، حياة ورجاء في مماتهم؟!

أحاول أن أتحدث الآن إليك يا محمد الماغوط لأسألك: ماذا وأنت على فراش الموت قالت صرختك للفضاء، وماذا قال الفضاء لصرختك؟
وهل سمع أحد، هناك، هذه الصرخة؟
ولأسألك يا محمد الماغوط وقد اجتزت الآن تلك العتبة: ماذا علينا أن نفعل كي لا نصرخ في مماتنا، حين نكون نعرف أن لا أحد في الممات، ولا في الحياة، يسمع صراخنا؟
واسمحْ لي أن أسألك كذلك: هل كنت حاقداً حقاً، كل تلك السنوات، على أقران وزملاء؟ هل كنت حاقداً حقاً يا محمد الماغوط، والشعر ليس حقداً؟
كيف جمعتَ بين الحقد والشعر؟ أم أن الشعر كان ابن حلم، والحقد ابن يقظة؟

وهل يعني ذلك أن علينا أن نبقى دائماً حالمين، ولا نستيقظ؟
يا محمد الماغوط لم يتغير شيء، لا في الحلم ولا في اليقظة. لا يزال الشاعر ابن الاثنين، وضحيتهما معاً.
ولا يزال الحزن قابعاً تحت ضوء القمر، والغرفة هي إياها: بملايين الجدران، والفرح ليس مهنة أحد.
لا تزال الأرصفة تأكل خطوات العابرين، وبردى يجري من دون أن يأبه لأحد، والوطن إياه: تقريباً ابن خيانة!
ولا يزال يمر في الأفق خيال.
لا يزال، يا محمد الماغوط، يمر خيال عصفور أحدب.

*****

محمد الماغوط: في وقت الصمت أحبّ أن أتكلّم.. هذه غريزة!

في آذار عام 1991، ذهب يحيى جابر ويوسف بزي لمقابلة الشاعر الراحل محمد الماغوط، في منزله بدمشق ليعقدا لقاء استمر ثلاثة أيام بلياليها.
خلاصة هذا اللقاء الحواري نشرته مجلة "الناقد" في عدد حزيران من ذاك العام، بصيغة مونولوغ مطوّل.
نعيد هنا نشر المونولوغ، استرداداً لحضور الشاعر في ذاكرتنا:

***

المكان: دمشق.
الزمان: آذار 1991.
المشهد: محمد الماغوط في منزله.

* تجلس الى محمد الماغوط (مواليد السلمية، سوريا، 1934)، كأنك تجلس الى جوار جبل. لكنك لا تطمئن الى براكينه المخبأة في جيوبه، بحيث يشتم، ويصخب المكان من حوله ويتحول الى لسان من نار.
نحتسي القهوة معه في مقهى "برازيليا" ونشم كوابيسه المتصاعدة مع رائحة البن الأسود، ثم يأخذنا الى منزله لنتفرج على أحلامه وهي تطفو في بحيرة من الويسكي. وثمة جرح ملتهب في الكف اليمنى "حطمت الكأس بين أصابعي في حرب الخليج".
عندما رافقناه في الشوارع تحوّلنا الى زعران. كان الماغوط شرساً، متوتراً، ويصرخ "أحموني يا شباب... يا كلاب... أنا الماغوط "ملكي" في حزني".
تقطع اللقاء الى أكثر من عشرين ساعة، ويغادر الحوار أحياناً منادياً سلافة لتقبله أو ليحضن شام. "ابنتاي جناحاي في العاصفة...".
منفرد، كعود ثقاب متجول ليشعل الحرائق خلفه وبعده، وينحاز الى الحياة. "اكتبوا كل ما أقول".
نفتح معه ألبوم صور ويضحك على نفسه والآخرين ويسخر منا، لكننا ننهب معاً صندوق ذكرياته، ونتوسطه ليقرأ لنا في كف الأمة العربية.
محمد الماغوط، شاعر حواس خمس، رجل من منامات والورد يليق به.

***

ليس حواراً، أو محادثة، لكن بشيء من الألفة، كان بوحاً وكلام سهر، وتسجيلاً سريعاً لكلمات تروح وتجيء، من الخمسينات الى الهزيمة الأخيرة. يروح ويجيء الى المطبخ، الى الطاولة، وبين الجملتين التفاتة الى الابنتين (شام وسلافة)، أو الى لوحة لرفيق شرف أو نذير نبعة.
محمد الماغوط يأخذنا في الشارع، بقبعة رمادية تحت مطر خفيف كما يليق "بديكتاتور"، الشعر، ودمشق مشهد يتصاعد الى قاسيون ويلتمع بالنيون. يسأل عن بيروت، عن شعراء، عن نساء. نتابع الى حي المزرعة.
سهرة مع ويسكي مهربة من شتورا. الكلام يكر، فكرة فكرة، ويستطرد: "إنتو محتالين، أنا ما بعمل مقابلة مع حدا، بس إنتوا جيتو بالوقت اللي بدي فش خلقي فيه".
يهمدر بصوته، يرتج وجهه، يقوله بسرعة قبل أن يدخل شرطي النسيان وحرارة الحكي تتدفق، كأن الماغوط ـ كعادته ـ على موعد مع المطاردة، لا يلتفت الى أسئلتنا، ينظر بحدة ثم يتابع سباحته "كسمكة سانتياغو الضخمة" ونحن كصيادين مبتدئين نلهث وراءه بأسئلة، أو بصنارة دون جدوى.
لم نكن أمينين جداً في التسجيل، أخذنا "اللمعات" من الحديث، صفوته، لحظات الغضب والتأمل، لحظات التذكر ولحظات الشعر. حذفنا أسئلتنا من الحوار لنبقي على الصيغة الأصلية لأسلوب الحديث وليبقى مونولوغاً لا يجيده أحد إلا الماغوط.

سيرة

  • كنت دائما في غرفة ضيقة. كان لدي بابور كاز وفرشة وليس معي مال لدفع الإيجار، فكنت اترك الأغراض كبدل، مرة حين قررت الهرب الى بيروت، تسللت من الغرفة، فقبضت علي صاحبة الغرفة وأعطتني الأغراض قائلة الله معك.
  • كل يوم، تقريبا، الثالثة فجراً اذهب مشيا الى مدخل دمشق، الى منطقة الربوة، من المزرعة مكان (إقامتي) الى جسر الهامة، امشي ساعتين او ثلاثا في النهار. هذا المشوار صداقة مع نهر بردى.
  • طفولتي في ضيعة السلمية، بقدر ما كانت بائسة، نمت في إحساس التمرد. طبيعتها أمراء وفلاحون، مقابر خاصة للأمراء ومدارس لأولادهم فقط. ابن الفلاح لا يدرس. من هذا الخلل أتت عزة النفس والتمرد، اذكر مرة ان أتى أمير فارس ليرمي أثناء دفن حنطة للفقراء ـ كالعادة ـ فضربته بحجر.
  • في طفولتي، أكثر ما أحببت، ذاك الدكان الذي كان يبيع دخان لف وقضامة.
  • أحب الله، لست متدينا او خائفاً، لدي جذور دينية تربوية، كنت أضع القرآن في كيس قماش حرصا عليه، ربما من هنا إلفتي للكتاب، وإلفتي للشجر والطبيعة. كنت أحس برائحة صفحات القرآن العتيقة أثناء نزهاتي.
  • أمي أعطتني الحس الساخر، الصدق والسذاجة، رؤية العالم بشاعرية... الأمور الأخرى تعلمتها من أبي. مرة كنا مسافرين الى طرطوس، طلبوا من أبي أمام الحاجز بطاقة الهوية فقدم فاتورة الكهرباء. منه أتى حس المفارقة والسذاجة ايضاً.
  • التقيت مرة بكميل شمعون، وكان قد لفت نظره زاوية كنت اكتبها في مجلة "البناء" سنة 1958 ـ واستفسر عن اسمي الحقيقي من جوزيف نصر (كنت اكتب باسم مستعار) وطلب مقابلتي، كنت نعسانا جدا. دهش وسألني عن تعبي قلت "أنا نعسان لكن انتم نائمون" فقال: "أعفوني من لسانه".
  • نعم ثمة حسد ثقافي مني، على الدوام، أحسه ولكني غير مكترث. المرحلة التي مضت هي المسؤولة عن تكويني، كانت مرحلة خصبة، وهم أتوا في فترة ضحلة. المثقفون بعيدون عني.
  • من طبيعتي ان ليس لدي أصدقاء، لا اجلس وسط المثقفين، أحب عزلتي وأحاول الحفاظ عليها "أحب الجماهير وهي بعيدة عني".
  • السجن المبكر جاء أول صحوة الشباب، فبدل رؤية السماء، رأيت الحذاء، حذاء عبد الحميد السراج، وهذا ما اثر على بقية حياتي.
  • كتبت "العصفور الأحدب" لأنني كنت مختبئاً في غرفة "نصفية" أي عندما تقف يضرب رأسك السقف، كنت فيها كالأحدب، وفي هذه الغرفة كتبت ايضا "غرفة بملايين الجدران".
  • غادرت قريتي وعمري 14 عاماً. كنت سأدرس الهندسة الزراعية، في مدرسة خرابو في الغوطة، كنت متفوقا وفجأة أحسست ان ليس اختصاصي الحشرات الزراعية بل الحشرات البشرية.
  • دخلت أصلا الى هذه المدرسة لأنها تقدم الطعام والشراب مجانا. هربت منها ومشيت 15 كيلومترا ومنذ ذلك الحين بدأت اكتب بين القصة والشعر. كنت اقرأ "الآداب" و"الأديب". محمد حيدر كان جاراً لي وكان يناديني للقراءة. كنت اقرأ في هاتين المجلتين لعبد الملك نوري وجبرا إبراهيم جبرا. ولم أكن اعرف لغات أجنبية.
    رامبو مثلا كان يقرأ لي مترجماً. أذكر ان سليمان عواد كان ينشر وقتذاك وعرفني على الأدب الحديث. كانت لي كتابات في سن 14 ـ 16 عن "الزعيم" والحزب "أنطون سعادة والحزب القومي"
  • سنة 1955 كنت في سجن المزة، اكتب على ورق دخان تركي، افتكرت هذه الكتابات عبارة عن مذكرات. لم اعرف انها شعر. هرّبتها الى الخارج عبر المحامي محمد اقبيق، وهو الذي قال لي انها شيء مهم، وأنها شعر. كتبتها على ورق المحارم ايضا ورق دخان "بافرا". قسم منها هربته فقط، قبل ان أمزق البقية بعد إخلاء سبيلي، منها، على ما اذكر، قصيدة "القتل".
  • عندما عينوني رئيس تحرير مجلة "الشرطة" بقيت يومين أقف للحاجب خوفاً.

سنية

  • لم أكن عائليا، محبا لحياة الأسرة، الآن فقط، بعد رحيل سنية (رفيقة عمره، الشاعرة سنية صالح) أصبحت محبا للمنزل وللعائلة.
  • كل ما كتبته من "العصفور الأحدب" الى قسم من "غرفة بملايين الجدران" و"الفرح ليس مهنتي"، كانت سنية هي المرأة فيها. لم اكتبها بالغزل، كانت كعروق الذهب في الأرض. سنية موجودة في كل حرف اكتبه.
  • عندما صممت قبر سنية وكتبت: "هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في التاريخ"، قلت لابنتي شام: "أليس القبر جميلا؟" فقالت "ما من قبر جميل في العالم".
  • لم أشبع من سنية في حياتها، ولا اشبع منها في الأحلام. وقليلاً ما أراها في مناماتي، وربما الأشخاص الذين نحبهم لا نراهم في الأحلام. ثمة شرطة للأحلام.
  • سنية شاعرة لم يأت على ذكرها النقاد المؤمنون، وكذلك الملحدون. هي من الجمرات الأولى في الشعر العربي الحديث.
  • الخطأ الكبير هو زواجنا من بعضنا، لأن اسمي غطى عليها، فقالوا عنها زوجة محمد الماغوط.

أنا

  • حقي مغبون
  • ليس الوقت مناسبا للـ "مهرج"
  • أحس نفسي مطارداً، انه إحساس قديم. مزقت من الخوف قصائد كثيرة.
  • لا يمكن ترويضي الا بالموت.
  • لدي أعصاب عظيمة تمنعني ان انحني.
  • انا لست عنترة، لكني صادق، لا اعرف الكذب.
  • ليس لدي القدرة على تدخين الغليون والاستماع الى الموسيقى الكلاسيكية في غرفة مرتبة ومكتب أنيق، كما يفعل أدونيس أثناء الكتابة. كل ما كتبته كان في مقهى "أبو شفيق" الشعبي، وسط الضجيج والناس.
  • أنا أجلد الجماهير لأحركها
  • اكره روح القطيع.
  • لا أتحاشى الأذى، في وقت الصمت أحب ان أتكلم هذه غريزة.
  • لم تخذلني الجماهير، مع اني كنت قاسيا.. لكنها قساوة أب مع أطفاله، نحو غوغول كان يعبد روسيا ومع ذلك قال مرة: "هذه الأمة الروسية السافلة".
  • أنا كرم على درب فليسرقوني، أنا نهر سائر في ارض عطشى فلتشرب. أعرف مثلا ان ثمة قصصا مأخوذة من مقاطع شعرية لي.
  • أنا ضباب يتوه الناس بي
  • أنا "فرويد" الشيعة
  • عالمي ويسكي ودخان وحزن، حزن ملكي وأنا الملك
  • لا أمشي على رصيفين
  • سأطوف يوماً ما، مثل بردى
  • الرضى كلمة لا أحبها
  • أحاول الدفاع عن أشيائي الخاصة، كالصدق، الكرامة، الشهامة، هذه أشرعتي، ولن أتعب.
  • ثمة "لا" أبدية رافقتني وسترافقني دائماً
  • لا أزال سمكة خارج الشبكة.
  • الصحافة لا تعني لي شيئاً، سوى تلك الدهشة البسيطة.
  • لست "رامبو" العرب.
  • ما الفائدة اذا كنت مخلصا والآخر فوقك يخونك
  • الإرهاب لم يترك لي فرصة لأحب أحدا حتى الله.
  • في كل عصر هناك حجاج للأحلام.

أصدقاء

  • الحرب قد لا تبكيني. أغنية صغيرة قد تبكيني، أو كلمة لأنسي الحاج. هو توأمي. ولو لديّ شفاه بطول ألف كيلومتر لقبلته عن مقالته "كم انت أبله أيها العظيم" (الناقد) العدد: 34 نيسان 1991) الذي أحست اني لو أردت ان اكتب لكتبت مثله.
  • كنت وانسي الحاج أكثرهم صمتاً، أيام مجلة "شعر"، أمام التنظيرات والثرثرة.
  • كان بدر شاكر السياب صديقي الحميم. مرة تلقيت رسالة منه بأربعين صفحة، خفت منها، تركها لي قبل سفره الى لندن، كتب فيها حياته كلها، كان فيها مديح لعبد الكريم قاسم، خفت فمزقتها.
  • أحب نزيه أبو عفش في الشعر السوري
  • احترم انسي الحاج لأنه بقي في بيروت تحت القصف، وأحبه شاعراً وناثراً وصامتاً.
  • أدونيس هو الذي قدمني في بيروت، واعتز بذلك، لكننا لم نتفق شعرياً. التقيت به لأول مرة عام 1955 من زنزانة الى زنزانة. كان معروفاً وأنا لا.
  • آخر مرة التقيت بأدونيس في باريس حدثني عن حنينه الى دمشق وبكى، قلت له: "لا يمكن ان تكتب عن الوطن وأنت بعيد عنه. أن تتخيل الحرب ولا تعيش في وحل الخندق".
  • نزار قباني، شاعر كبير، بقضايا صغيرة.
  • مأساة نزار قباني انه لا يحب ولا يكره، لذلك تبث الإذاعات معظم أشعاره.
  • كنت التهم مطبخ يوسف الخال، وأجلس قرب البراد المفتوح، وأتركهم في الصالون يتحدثون عن الشعر وقضاياه.
  • كان يوسف الخال يحاول ان يجد لنا عملا في الصحف ويرسلنا انا وقواد رفقه، حيث نبدأ عملنا بالتعرف الى السكرتيرة، ونعرض عليها الزواج فيتصل أصحاب العمل بيوسف ليقولوا: "هؤلاء شغيلة او خطيبة".
  • محمود درويش موهوب جدا، لكنني لا أحبه لأنه غير صادق.
  • دريد لحام امتهنني، استغلني كشاعر، كجواز سفر ليعبر.
  • سليم بركات كردي أكثر مما هو عربي، ثمة حقد عنصري في أعماله.
  • أحب عصام محفوظ كمسرحي وكمقامر، وفي باريس قال لي: "جيمي كارتر وأنسي الحاج يتآمران عليّ".
  • جبرا إبراهيم جبرا ليس شاعراً بل مترجماً عظيماً.
  • كمال خير بك بطل وصديق حقيقي فقتلته الشعارات.
  • انطوان سعادة شاعر أخطأ الطريق.
  • أعطيت جائزة نوبل لنجيب محفوظ لأنه اعترف بإسرائيل. أنا أرفضها.

ثقافة

  • الوضع الآن في انحطاط ثقافي عام. الدول تخاف الآن فكيف الأفراد. كان العالم مطرقة ومنجلاً. ذهب المنجل السوفياتي فبقيت المطرقة الأميركية. الدول تتحاشى هذه المطرقة. أنا لا أخافها. أنا المنجل العربي.
  • المشكلة، مع المثقفين الجدد، ان مرحلة الإرهاب النبيل في الخمسينات كان لها تأثير إيجابي على العطاء، التجربة دفعنا ثمنها. الآن النواح السائد هو تكرار دون عمق. يكتبون عن السجن دون أن يسجنوا، وعن الإرهاب دون أن يرهبوا. كلمات مثل "الشرطة"، "الأمن" تفور الآن وتملأ الصفحات دون أن تحسها. هذه هي المشكلة.
  • الرقيب كان داخلي، صادقته، مثل الألم، لتستمر عليك ان تصادقه، أجمل رفقة هي بين السجين والسجان. الرقيب هو أيضاً سجين.
  • الكاتب الأصيل، هو الذي يخرج بالقارئ، وبنفسه، من جزئيات الحياة اليومية، العادية، ودهاليزها، الى أفق القايا الكبرى كالحرية والعدالة والاحتلال والظلم والقهر. والكاتب العادي هو الذي يبدأ بالقضايا الكبرى كالحرية، والقهر الاجتماعي، ويعود به الى دهاليز الحياة اليومية التافهة، كأزمة السير، وأزمة السكن وسواها.
  • كل إضاءة إعلامية هي لإخفاء الحقائق.
  • متذوق شعر جيد أفضل من شاعر رديء.
  • متى بدأ الكاتب يخاف سمعته ومكتسباته بدأت نهايته.
  • كل كاتب له رسن، النظام الذكي يطوّل هذا الرسن، وهذا ما يوهم بالحرية، لكن إذا ذهب بعيداً خنقه الرسن، أما النظام الغبي فيضيّق الرسن.
  • أحب المسرح في الشعر. لا مسرح في التراث العربي لأن الحوار ممنوع.
  • ليس ثمة شرقي إلا وفيه شيء من الخيانة.
  • الإنسان الجدي مريض وفيه خلل.
  • الأيديولوجيا حين تضحك في قالبها، يعني ذلك أنك صرت حذاءً.
  • بيتي الشعري بلا سقف.
  • لم أكتب الشعر لأنني كنت "قومياً سورياً"، بل السجن هو الذي علمني كتابة الشعر.
  • لم أندم على قصائدي الأولى، ولم أحذف أي حرف منها حتى الأخطاء اللغوية.
  • الغيرة الأدبية مشروعة في البدايات.
  • ليس عندي محرمات أو مقدسات في لغتي العربية.
  • الحب هو أبو الشعر، والكراهية أمه.
  • أنا لست مثقفاً، أنا أعيش على الهامش.
  • المشهد الثقافي السوري لا يعني لي شيئاً على الإطلاق.

عرب

  • نحن الآن أمام كربلاء الكترونية.
  • الشعب العربي الآن يعيش مثل جحا الذي قالوا له يوماً:
       يا جحا مدينتك تعهرت.
       فقال لهم: "عليّ بحارتي".
       قالوا له: "حارتك تعهرت".
       قال لهم: "عليّ ببيتي".
       قالوا له: "بيتك تعهر".
       قال لهم: "عليّ بسريري".
       قالوا له: "سريرك تعهر".
       فقال لهم: "عليّ بمؤخرتي".
  • الغرب وضع الإنسان العربي أمام خيارين: إما البوط العسكري وإما العمامة.
  • عندما غنى فريد الأطرش للوحدة، انتهت الوحدة العربية.
  • مرحلة الإرهاب في الخمسينات، التي عانى منها جيل بكامله، اعتبرها الآن مرحلة إرهاب نبيل. كان إرهابا بدائياً يدوياً.
  • كان يجب إهانة هذه الأمة. أقول ذلك من شعور رؤية ولد يضرب شيخاً. هكذا تعامل هذه الأمة أبطالها، وذاكرتها.
  • علمونا أن الانتصارات ستقدم، هذا وهم، ليس هناك شيء جاهز.
  • أمام أفق مظلم، السجين لا يفكر بالسجن بل بالذكريات الجميلة من هنا نظرتي الدائمة الى الماضي المفقود. الحاضر العربي سجن.
  • أنا لن أعترف بإسرائيل حتى لو رأيت أطفال الحجارة يبصمون على الاعتراف بها.
  • فلسطين ليست ياسر عرفات وميكروفوناً. إنها موجودة في خلايانا.
  • الشعارات اليوم تشبه امرأة تقية تعرّى أمام أطفالها ببطء.
  • فلسطين ستحررنا، وليس نحن الذين سنحررها.
  • ان النظام العالمي الجديد لن يصادر حتى حذائي.
  • لديهم نفط؟ نفطنا دموعنا.

عواصم

  • صرت جزءاً من دمشق، ودمشق صارت جزءاً مني. إنها قصة الحب الأول والصوت الأول.
  • ليس هناك إبداع في مصر. هناك سعاد حسني.
  • بيروت مثل أم منهمكة في الغسيل وإذا بان فخذاها قالوا عنها عاهرة.

***

إلى الماغوط: قصيدة بيضاء تختلط بالمطر النازل

عابد إسماعيل
(سوريا)

في صبيحة هذا اليوم نمشي خلف جنازتك جميعاً، بعدما كنتَ قد مشيتَ في جنازتنا، وحيداً، طوال أربعين عاماً. نقول فيك المراثي السّريعة، الخاطفة، ثمّ نخلد إلى نومنا الحجري، نتابع موتنا البطيء، المكشوف أمام قصائدك الحزينة، في هذا الصباح الدمشقي المكفهر.

كان آخر كتاب أقرأه، قبل يومين من وفاتك، هو كتابك الأخير "البدوي الأحمر"، وآخر مقال أكتبه في الشّعر، قبل يومين من وفاتك، كان مقالاً عنك. لم أكن أعرف أنني كنتُ أودّعك، وأنا أقلب صفحات كتابك الأخير، قبل يومين من وفاتك.لم أكن أعرف سرّ هذا الحدس الذي قادني إليك، أنا الذي حفظت قصائدك، الخالية من الوزن والقافية، عن ظهر قلب، حين كنتُ مراهقاً، وفضّلتها على قصائد نزار قباني، الموزونة والمقفّاة. كنتُ أنجذب إلى حبرك، وأعلقُ في شبكة رموزك، متأمّلاً كاف التشبيه الشهيرة، التي استطعتَ، بموهبتكَ الكبيرة، أن تنقذها من وظيفتها العادية، المباشرة، وتجعلها أهم تقنية مجازية في شعرنا العربي الحديث.

اليوم، نودّعك، أيها الشاعر الكبير، بقصائدنا السريعة الباكية، نطردُ الموت بعيداً عنّا، ونكتب الطلاسم كي نصدّ الفناء، الذي دقّ بابك على حين غرّة.
نسطّر الوداع، وداعك، بأحرف بيضاء، ونرسلها مع الهواء البديهي، إلى حيث ترقد الآن، على أطراف الصحراء، في السلمية، بدوياً أحمر، تنام نومَ الياسمين في تناغمٍ وثني أسطوري، مع الريح والنجوم والصمت.
لا أعرف سرّ تلك الخطوات السريعة التي قادتني إلى بيتك، قبل عام، لأخذ صورة تذكارية معك، لطالما عدتُ إليها لاحقاً، فرحاً كطفل، أقرأ في ملامحك كآبة القصيدة، التي طبعت بطابعها مزاجنا جميعاً، كجيل شعري جديد. كانت الكاتبة الإنكليزية، مارغريت أوبانك، تلتقط صوراً مختلفة لغرفتك الصغيرة، التي تشبه متحفاً صغيراً، وكنتُ أترجم لها ما تقوله أنت همساً، أو حشرجةً، أو حزناً. كنتَ تشرحُ لنا، على طريقتك، تواريخ الصور واللوحات المعلقة على الحائط. أذكر أنك قلت لي بأنني أذكّرك بفاتح المدرس في شبابه، ولم أفهم تلك الإشارة إلا مديحاً، أنا الذي لم أمسك ريشةً في حياتي، ولم أصطد يوماً لوناً، أو حتى خيط شمس. لكنني أمامك تحوّلتُ إلى صياد صمت، أنسل خيوطَ حزنك، الواحد تلو الآخر، وأترجمه إلى إنكليزية هادئة وقورة، هناك، حيث مارغريت أوبانك وأنا، كنا نعدّ ملفاً خاصاً بالإنكليزية عن زوجتك، الشاعرة سنية الصالح، والذي نُشر لاحقاً في مجلة بانيبال.
لا أعرف سّر خطواتي السريعة، قبل يومين من وفاتك، وأنا أدخل مبنى دار المدى في دمشق، وأطلب من الصديق الشاعر بندر عبد الحميد أن يدلّني على كتابك الأخير "البدوي الأحمر"، الصادر منذ أسابيع، عن الدار ذاتها. أخذت الكتاب وقرأته نصاً، نصاً، وكتبتُ عنك مقالاً، وأرسلته إلى جريدة "الحياة"، قبل يومين فقط من وفاتك. عشتُ رموزك واستعاراتك وصورك على طريقتي. ولم أكن أعلم أنني كنتُ أيضاً أعيشُ موتكَ.

أيها الشاعر الكبير، علي أن أنهض الآن، وأخرج إلى وداعك، وأمشي في جنازتك تحت سماء دمشق المكفهّرة، لأودّعك من جديد، بعد يومين من وفاتك، باحثاً في الهواء الأسود حولي، عن قصيدة بيضاء لك، تختلط بالمطر الخفيف النازل، وتؤّخر موعدَ غيابكَ دقيقةً أخرى، أو دقيقتين، أو ربما أبديةً كاملة.

المستقبل - الأحد 9 نيسان 2006

الماغوط، إيليوت العرب

(ملف جردية الخليج)

(الدرجة القصوى للألم)

حكيم عنكر
(المغرب/الإمارات)

يمثل الشاعر محمد الماغوط كوناً شعرياً قائم الذات، إنه الشاعر الذي ارتبطت قصيدته بحياته وفق “التقويم” النقدي والجمالي لأصدقائه وأعدائه على حد سواء، هو الذي كان والغاً في الخصومة حد التطرف، وفادحا في حبه حد التعالي على الداء والأعداء.
لا يحتاج الماغوط إلى تقييم شعري، إنه قارة كابدت مجراتها وأكوانها، وتدافعت من خلالها الحقيقة الشعرية المؤسسة للنار المقدسة.
في الحقيقة كان الجيل الشعري الشاب وبالأخص ذلك الذي ولد من دون آباء، عاريا إلا من الانتماء العصابي للشعر، كان الماغوط في التمثل العام لهذا الجيل، شابا يتسكع في الطرقات السريعة للعالم، ومحبا كبيرا للحياة، وغير معني بكل الشعارات الكبيرة التي أسس عليها الآخرون يقينهم الإبداعي أو تلك التي استعاروا منها عكازاتهم، كي يمر شعرهم ما بين أبهاء السلطة العصابية وما بين العشيرة الفكرية المزمنة في حجريتها.
تمت قراءة الماغوط قراءات كثيرة كسيرة حياة وربما وجد فيه الكثيرون “الرفيق” الشبيه بنده الآخر “تروتسكي”، المثقف الذي سمته الأيديولوجيا الحالمة بشهيد زمن الثورة التي تأكل أبناءها.
لكن جيل قصيدة النثر المترامي الأطراف من المحيط إلى الخليج عرف كيف يبني علاقة “سوية” مع هذا الرجل الوحيد القرن، وعبر المسار الشعري للقصيدة العربية المعاصرة كان الماغوط “القدر الثقيل” الذي يزعج كل مدعي القصيدة، ظلت نبرته تمر من المناطق الصعبة قاطعة كل تلك المفازات التي غمرت رمالها الكثيرين من “أبناء الشعر” العربي.
قصيدته لم تكن أبدا طنانة، كان يعرف كيف يولد جملته الشعرية من طين الاستعمال الدارج، ولا يزاحم أحدا على مجد “مروم أو غير مروم”، ولذلك ظلت قصيدته تعيش في مائها الخالد، رهيبة وقاسية وحادة الملامح.
سيكتب الكثيرون عن الماغوط في مثل هذه المناسبات السانحة للرثاء الطويل، وسيختلق البعض قصصا وحكايات، وسيقولون: “لقد كان واحدا منا”. لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع أن هذا الشاعر رمى نفسه في شباك العزلة، منتظرا غزلانها الفاتنات، هناك حيث ينهمر الشعر من شلالات أخرى وحيث يكون للصمت كل تلك الكثافة السحرية.
قصيدة الماغوط كانت تحيا خارج الإيقاع الذي تفرضه الملزمة الشعرية العربية، ولذلك لم يكن له هذا القطيع من “الضباع” الشعرية الموجودة في هيئة ميليشيات وكانطونات “الرغوة الشعرية” الفاسدة، والتي تسرب إليها شيء غير قليل من الفساد العام الذي يملأ المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي.
جاء إليه الشعراء الشباب العرب وكتّاب قصيدة النثر كمن يجيء إلى حقل مترامي الأطراف لا يغني لأحد، ولا يهمه إلا ما تمليه عليه الطبيعة الخالقة للنوع.. أليست الكتابة نوعا من الأنواع التي لم يتحدث عنها المعلم “داروين”؟
لم يكن هذا الشاعر صاحب طريقة ولا من يحج إليه الناس، ولا من أولئك الذين يملكون السطوة الثقافية التي تفتح الباب أمام “زبناء” وأتباع الطريق الميسورة للتسلق السريع نحو الشهرة والأضواء الإعلامية.
لقد كان “شاعرا معدما” على هذا المستوى، ولذلك وجد المساحات البكر لكي يحرث في الحقول البعيدة من دون أن يتشاجر مع أصدقائه من “فلاحي القصيدة”، فإقليمه كان بلا حدود، ولم يكن يحتاج إلى مهارات إضافية كي يحدس “الداخل الشعري” أنه المقصد الجديد لشعر عربي جديد، منفتح على روح العصر وعلى الأرخبيلات الجديدة للقصيدة العربية المكبلة بقيود كثيرة من أهمها على الإطلاق سقوطها المريع في النبرة السياسية الساذجة.
هذه المساحات الجديدة هي ما يمثل الآن المستقبل الذي يلمع في أفق القصيدة العربية، ويمهرها بالخصائص الكونية التي تليق بها كقصيدة في وشم مرور هذا الكائن الذي اسمه العربي. ودون الوقوف إلى الأثر الشعري لهذا الرجل الباقي في قصيدته، هو الذي لم يغادرها قط إلا لكي يعود إليها، ولكي يقيم في أمدائها تلك الإقامة الأبدية، التي لا يضارعه فيها إلا شاعر من سلالته ويتعلق الأمر بالشاعر الآخر المحترب في صمته أنسي الحاج.
قصيدة الماغوط صارت بالنسبة لجيل قصيدة النثر الخطوات الأولى الذي تذهب بالقصيدة العربية إلى الأقاليم المجهولة للكتابة الشعرية.
في شعره ذلك التحول الذي أحدثه إيليوت في الشعر الإنجليزي، أو تلك النزعة الشديدة الخصوصية في شعر صاحب “أوراق العشب” و”أغاني الأرض التي تدور” والت وايتمان والطعنة القوية التي سددها إلى صرامة الشعر الأمريكي المعاصر.
لا تفاعيل ولا قيود، ولا أجداد إلا ما تكتبه اليد ويخطه القلب، القصيدة لا أول لها ولا آخر، ولا أسباب ولا أوتاد، ولا يدوم إلا الشعر القوي الهادر المقدام الهاطل من ارتجافة قلب الشاعر المأسور مثل نجمة في البعيد إلى ديدنه الخاص.

*****

أدباء عرب يتحدثون لـ"الخليج الثقافي" في رحيله:

محمد الماغوط ابن الوعي الشعبي والغابات الوحشية

محمد الماغوط أحد الآباء الشرعيين لقصيدة النثر العربي، شق دربها منذ الخمسينات، وتمرد على التقاليد البالية للشعر الكلاسيكي السائد آنذاك؛ تبدو قصائده مثل صرخة في البرية ضد القبح والظلم والفساد، ومقالاته مثل طلقات رصاص لا تعرف المهادنة، وأعماله المسرحية وأفلامه كانت بوابة
دخول إلى دائرة أوسع من الجمهور وضعته في مصاف “النجومية” وكسرت دائرة “النخبة” المحدودة التي عادة ما تحيط بالشعراء والأدباء العرب. هنا تحقيق ل”الخليج الثقافي” شاركت فيه نخبة من الأدباء العرب حول الماغوط شاعراً مجدداً.

***

يقول الناقد الكبير محمود أمين العالم: يحسب لمحمد الماغوط أنه كسر الرتابة الوزنية القديمة، ليصبح أحد أهم مجددي القصيدة العربية، وهو شاعر صريح وصادق في إدانة كل ما هو سلبي وسيئ، والجميل في الماغوط أن أشعاره وقصائده مملوءة بالعنفوان والقوة والجمال والغضب النبيل، لذلك كان من الطبيعي أن يتمرد على الموسيقا في القصيدة بشكلها التقليدي، لأنه كان كذلك جاداً وعنيفاً في إدانة القبح ويرفض الأحزان السطحية، ويتصالح فقط مع الأحزان الكبرى، وللأسف محمد الماغوط لم يأخذ حظه من الإنصاف النقدي لاسيما عندنا في مصر، والماغوط كان يقدم نصا يتسم ب”الوقاحة” بالمعنى الإيجابي إن صح التعبير، فرغم لغته الفصحى الرفيعة المخصبة بالبلاغة، إلا أنه كان يستلهم من البسطاء لغته، ويجعل القصيدة خنجرا يهوي به في جسم القبح والفساد. ويضيف العالم: وحين كنت ألتقي الماغوط في بيروت كنت أشعر بأنني في حضرة عملاق، فقد كان آسر الحضور، وتشعر بدفء وحميمية في وجوده، والآن أشعر بالأسف لأنني لم أكتب مقالا واحدا عنه رغم أنني شديد الامتلاء والانفعال بالنص الماغوطي الجميل، ولا أريد أن أبرر ولكنني كذلك لم أكتب عن أدونيس أو محمود درويش، ويبدو أن استغراقي في الهم المصري المحلي رغم خلفيتي العروبية القوية أنساني بعض الأشياء كالاشتغال على جمال التجربة الشعرية في الشام كما تجلت عند عدد من الشعراء على رأسهم الماغوط.

ابن الطبيعة البكر

يقول الدكتور صلاح فضل - وهو من النقاد المصريين القلائل الذين أولوا اهتماماً مبكراً لتجربة الماغوط عبر كتابه “الأساليب الشعرية المعاصرة”: محمد الماغوط طاقة شعرية متوحشة ومذهلة تفجرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وبخصوبة بكر لم تخضع للتهذيب، لأنه لم يكمل تعليمه، وتعرف إلى الشعر بفطرته التلقائية، وكان مندهشا حين قالوا له في مجلة “شعر” بأنه يشبه في نصوصه الشاعر الفرنسي رامبو. استطاع الماغوط الشاب في الخمسينات أن يكتشف بعبقرية ما في الجانب الآخر من الكون من شعرية، اعني أننا إذا تصورنا أن في الكون شقين هما الطبيعة والثقافة، فكل الشعريات التي نعرفها انبعثت من الشق الثاني، باستثناءات نادرة انبثقت من الشق الأول منها تجربة الماغوط، وأتصور أن النوازع الفطرية الدافقة والتراث الشعبي والخيال المجنح كانت نقطة انطلاق “ماغوطية” بامتياز.

النسر الغاضب

الشاعر أحمد طه ينتمي إلى جيل السبعينات ومع ذلك يرى أن قصيدة الماغوط تنطوي على مغامرة طليعية تفوق الكثير من ادعاءات ومزاعم أدعياء الحداثة. يقول طه: قصيدة النثر آفتها الكبرى الآن النمطية والتكرار والتشابه، حتى إن جيلا كاملا هو جيل التسعينات يمكنك أن تقول وأنت مطمئن تماما إنه لم يكتب سوى قصيدة واحدة كان يعزف عليها الجميع، لكن إذا عدنا إلى تجليات هذه القصيدة لدى الماغوط في الخمسينات سنجد أنه لم يكتب نصا يشبه الآخر، فالتمرد عنده كان يأخذ مستويات عديدة، فهو لم يتمرد فقط على الذائقة السائدة والتقاليد الشعرية البالية، بل كان يتمرد كذلك على نفسه من نص إلى آخر، والمشكلة أن كثيرين وقعوا تحت أسره وخضعوا لأسلوبه متصورين أنهم سيكونون مثله ناسين أن أول شروط التحقق هو أن تخلص لصوتك الخاص، لقد كان الماغوط نسيج نفسه حتى في لغته الفريدة التي نحتها من الواقع والحياة من دون تفلسف أو ادعاء.

حذر نقدي

الشاعر والناقد الدكتور حسن طلب يقول: خصوصية عالم قصيدة النثر لدى الماغوط تعتمد على استخدام تكنيكات مختلفة في الكتابة، فهو على سبيل المثال يجعل “المفارقة” الدرامية عصب القصيدة، وجعل لغة الشعر طيعة وسهلة وتتمرد على الطلاسم الذاتية التي كانت تشكل الملمح الرئيسي لكتّاب قصيدة النثر لدى شعراء مجلة “شعر”. لذا فهو رائد حقيقي من رواد الشعر العربي، لكن ريادته لا تعني فقط السبق الزمني، ولكن تعني في المقام الأول أنه استطاع أن يشق دربا لم يسر فيه أحد من قبل.

المسرح أولاً

الناقدة الكبيرة الدكتورة هدى وصفي اختارت الدخول في عالم الماغوط من بوابة المسرح. تقول الدكتورة هدى: أعتقد أن مسرح الماغوط وليس شعره هو الذي تعرض للإجحاف النقدي، فهو لديه تجربة إبداعية غير مسبوقة على خشبة المسرح، حيث إن الحوار في نصوصه مكتوب بحرفية شديدة وتحول النص المكتوب إلى عمل بصري لا يحتاج إلى جهد كبير من المخرج، فهو يكتب نصا شديد المرونة والعذوبة في آن.

الناقد والشاعر السوري خالد زغريت الذي صدر له كتاب نقدي بعنوان “الصفير في وادي الشياطين - القناع السياسي في شعر محمد الماغوط” يرى أن حالة شغب الماغوط وفوضويته التي تنطوي عليها شهرته تبدو صورة ومادة استعادة شعرية لطفولته.
ويضيف: لقد كان الماغوط - كما يقول غسان كنفاني - مصعوقاً باكتشاف اللاجدوى وبقدر ما استطاعت هذه جميعاً أن تجعل منه فناناً جعلته بالمقابل لا مسؤولاً وكان فخوراً إلى أبعد حد بغروره الشخصي، وكي يظل منتصراً وقادراً على الحياة قام بكنس العالم دفعة واحدة إلى مزبلته الخاصة ما سوَّغ لذاته حق التعالي على كل شيء، والانتهاك لكل شيء ومبرراً بعلو أناة أرضية العالم، ولقد عبَّر شعره بقوة عن هذا الموقف الفكري الذي يتجنب المرتكزات الفلسفية السياسية وإيديولوجيتها.
لقد مثلت ظاهرة الخوف في شعر الماغوط بؤرة مركزية لسيولة شعريته المبطنة بالانفعال الشعوري الطافح بالنزق والسخط المصوبين استراتيجياً باتجاه جملة قيم السلطة وسوط حاكميتها الذي يهيئ مناخاً خصباً لبناء صورة شعرية كاريكاتيرية متفردة بنسقها الفني والاشاري.كما يتيح الفرصة الرحبة لإشهار الهوية السياسية لموقفه الشعري الذي حقق علامته الفارقة فنياً وفكرياً في حركة الحداثة الشعرية العربية وتأسيسه لمنهج الفوضى واللاجدوى في العقل الإبداعي العربي.

عبودية الجسد

الكاتب والقاص عامر راشد: يقول الراحل الكبير في آخر مقابلة معه: (دائماً كنت أعامل جسدي كعدو، والجسد ينتقم من ثم، الجسد حقود كالبدوي، ولا ينسى، تخونك يدك يوماً ثم رجلك ثم جسدك كله )، لكنه ورغم ذلك يقول: “إحساسي بالحياة قوي، وذاكرتي قوية، لا أفكر في الموت بتاتاً، أعتبر الموت صديقاً..”.
هذا هو محمد الماغوط، قامة إبداعية عالية، خاض في غمار صنوف شتى من الأدب، شعراً ومسرحاً ومقالة وسيناريو، وحمل إليها قلقه وكآبته التي لم تفارقه يوماً.

حصّنَ النثرَ من بلاغةِ الشعر

الشاعر السوري محمد علاء الدين عبد المولى الذي وضع كتابا بعنوان “وهم الحداثة - مفهومات قصيدة النثر نموذجاً” خصَّص فصلاً منه للشاعر الماغوط تحت عنوان “من محمد الماغوط إلى القصيدة (الشفوية)” يقول: الآنَ برحيلِهِ، اكتملَ مشروعُ محمّد الماغوط وأُغلق. أي لم يعد هناك مجال للإضافة، وصار مشروعه تراثا يؤخذ بكليته ومجمله.
أعطى الماغوط النثر أهميته كنثرٍ يستمد جمالياته من داخله وليس من إحالته إلى الشعر وتقنيات القصيدة وخطابها الحديث، بل إنه “حصّن النثرَ” من الشعر وبلاغته، وهو لم يكن معنيا في يوم من الأيام بمشروع الحداثة تنظيرا ورؤيا وهاجساً.. تاركا تحقيق ذلك من خلال (نثره) و(كتابته) وحدهما.
حرّرَ الماغوط النثرَ من البلاغةِ الخارجيةِ، ولكنه استثمرَ بلاغة أخرى عجز عنها أتباعه، إنها بلاغة العفوية المتوحّشة المطلقة، والتي ما كان يساوم عليها وعلى كونها انتماءه الوحيد ومشروعيته الأخلاقية الأولى.
ويرى عبد المولى أن كتابة الماغوط بشكل عام كتابةٌ وحشيةٌ غابيّةٌ، لا تخضع لسلطة (النسخة الثانية). وهي صورته الحقيقية المتطابقة بامتياز. أي أن الماغوط ما هو إلا نصوصه وأسلوبه وصوره وتكراره لنفسه في الآونة الأخيرة وعدم ادعائه لأي شيء، كتابته دالّة عليه بطريقة يستحق معها كثيرا من الاعتراف بالاختلاف والتمايز.

خارج السرب

الناقد السوري محمد غازي التدمري: ما إن يُذكر الشاعر الراحل محمد الماغوط حتى تنتصب أمامك تلك القامة الشعرية الباسقة، التي عشقت السباحة ضد التيارات السيئة والمسيئة التي تخالف آراءه، ولا تتفق مع مبادئه. سلاحه الكلمة المقاتلة والمقاومة التي أعادت للقلم الحرية التي افتقدها زمناً، كما نفض عن اللغة غبار الترهل الذي أقعدها وقيَّد حريتها وفك من معصمها قيود التواكلية والاتكالية التي أراقت دماء وجهها من أجل مكسب آني.
وقال الدكتور في الأدب العربي وفيق سليطين: يبدو أن الماغوط يسطّر برحيله الموجع جملة جديدة حائرة تنضاف إلى هوة المفارقات الحادة التي اضطلع بتفجيرها وارتياد أعماقها، لم يخلّف وراءه فقط الأسئلة الصعبة في إبداع الحياة،وحياة الإبداع، وتوترات الخلق، بمناقضة الاستحالة، وهز جذوع العطب واليباس في الفن والحياة والوجود والمعنى، بل إن مغادرته في هذه الظروف تنعطف على الأسئلة السابقة وتستنفرها، وتكسبها شحنة إضافية خاصة.
تحفر قصيدة الماغوط بعيداً في طبقات عالم القسوة المتراصّة، فتعمق من مفارقات الواقع في استثمارها لها وتجلياتها فنياً، وفي صلابة العناصر المشكلّة لهذا القران، تسرّب دفقات الحلم وشاعرية الخيال، فتؤلف بين المتباعدات، وتصهر المستويات المتعارضة في قران صعب، لا يتأتّى إلا للموهبة الفذّة التي ترشّح الشعر من مناطق التوتر المجللّة بعتمة الألفة وحجاب القرب، مستثمرة تقانات من السرد والتصوير، والتكثيف والتركيز، واقتصاد الإشارة، والانحراف بمستويات اللغة وطرائق التدليل، على النحو الذي يخلخل طرائق التلقي المعتاد، ويوجّه إلى نحو جديد من فعاليات الاستقبال، وهو ما تكفّلت به مسيرة الماغوط الإبداعية في ريادته لقصيدة النثر العربية التي بدأت على يد جماعة مجلة “شعر” في بيروت عام 1957.

رحلة مؤجلة إلى المغرب

ويرى الشاعر المغربي حسن نجمي ورئيس اتحاد كتاب المغرب سابقاً أن حياة الماغوط وشعره سيرة كبيرة، ويتحدث في هذه الشهادة عن قضايا خاصة وعامة، وعن درجة حضور الماغوط في الفضاء الثقافي المغربي، يقول: لم تمر إلا أسابيع قليلة على فوزه بإحدى أرفع الجوائز العربية (جائزة سلطان العويس التي فاز بها قبله شعراء كبار من أمثال أدونيس، نزار قباني، محمود درويش..) حتى أسلم الشاعر العربي السوري الكبير محمد الماغوط الروح لباريها متأثرا، في العمق، بداء اليأس والفجيعة والحزن والوحدة.
ومنذ أن فُجع بفقدان زوجته الشاعرة الرائعة سنية صالح (وهي بالمناسبة شقيقة الناقدة خالدة سعيد زوجة الشاعر أدونيس)، لم يعد الماغوط هو هو، كأن قطعة من جسده وروحه قد بترت أو كأن شيئا تهدم في أعماقه وكيانه، ورغم صمته الشعري العميق خلال السنوات الأخيرة، عاد ليكتب أجمل قصائد حياته في رثاء رفيقة العمر والشعر وضمنها ديوانه الأخير “سياف الزهور” (دار المدى، دمشق). كان الماغوط الشاعر العربي الأكثر يأسا، والأكثر عدمية، والأكثر سخرية في مواجهة واقع السلطة والخيبة والعجز والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولفتت كتاباته الشعرية والنثرية، الإبداعية والصحافية، انتباه الملاحظين والنقاد حتى إن صحفاً بريطانية وأمريكية كانت تواكب أخباره وتستشهد بخطابه الأدبي النفاذ المتفكه المر.
وبالنسبة إلينا في المغرب، في المغرب الثقافي والأدبي، لم ننجح في استضافة المرحوم محمد الماغوط، كان يعتذر لأسباب صحية، وحين قبل مرة بفرح، دعوة من اتحاد كتاب المغرب، ومن إدارة المهرجان الدولي بالرباط، فوجئنا بكونه فضل في آخر لحظة دعوة أخرى من هولندا، وعلمنا أن وضعه الصحي لم يكن يحتمل أكثر من سفرين بعيدين، وأنه اختار أن يسافر ليقرأ شعرا وليعرض نفسه على أطباء أوربيين، ولم نيأس من أن يحضر بيننا في إحدى المناسبات، لكن حالته الصحية كانت قد بدأت تزداد سوءا، خصوصا حين آثر العزلة والشراب المسرف الفادح وترك جسده يتضخم بصورة مقلقة، وأصبحت العكازة ترافق رجفة يده. وحضر الماغوط في المتن النقدي المغربي، في كتب وأطاريح ودراسات جامعية (حسن مخافي، محمد الصالحي، عبد القادر الغزالي) وكان عبد اللطيف اللعبي أول من ترجمه للفرنسية، كما احتفت فرقة “مسرح اليوم” (برئاسة الفنانة القديرة ثريا جبران وإخراج الأخ عبد الواحد عوزري) بكتابات الماغوط الصحافية في مسرحية “بلا حدود”، أول عمل دشنت به الفرقة ذخيرتها الإبداعية، وكم كان الجمهور المغربي يردد مع الفرقة كلاماً عادياً بسيطاً كان يرتقي الى مستوى الصلاة الشعرية اليائسة: “يا إلهنا، اعطنا أرجل العنكبوت، لنتعلق بسقف الوطن، حتى تمر هذه المرحلة”.. رحم الله محمد الماغوط، لقد فقدنا برحيله شاعراً عظيماً.

نصوصه مرآة للتاريخ والواقع

في شهادة للناقد والكاتب المغربي حسن بحراوي عن الراحل يقول: “برحيل الشاعر العربي الكبير محمد الماغوط يسدل الستار الختامي على حياة رجل من زماننا عاش عمره متخماً بالمكابدة وحب الوطن، ورهَن مصيره كإنسان وكشاعر طليعي بقضية الإنسان العربي بأوسع معنى متوقع من رجل آمن حتى النخاع بحتمية النهوض بعد الكبوة والتحرر بعد العبودية. ومنذ أن قدمه أدونيس في بيروت خلال إحدى أمسيات مجلة “شعر” طيبة الذكر، لم يتوقف لحظة عن إعلان انتسابه لحركة الشعر العربي الحديث في مظهره الحداثي والانقلابي الذي مثلته قصيدة النثر الناشئة آنذاك. وقد أمكن لأجيال القراء، وهي تتأمل منجزه الشعري عبر دواوينه الأساسية الأولى “حزن في ضوء القمر”، “غرفة بملايين الجدران”، و”الفرح ليس مهنتي”، أن تقف على مقدار الأصالة والعمق والتميز الذي طبع تجربته الشعرية وجعلها تختط مسارها الاستثنائي في سياق نمو القصيدة العربية الحديثة.

امتلك عين الصقر

من جهتها ترى القاصة المغربية رجاء الطالبي أنه: “بموت الشاعر محمد الماغوط نودع آخر السلالات التي اختارت أن تقتات من خبز الحرية القفار، تلك التي تتغذى من جمر التمرد وتصلي من أجل استنشاق ريح الحرية عذابات الصلب. هو الذي لم يبحث عن أصباغ لتجميل المأساة اختار أن يكتب الواقع كما هو بخساراته، بالقبح والبشاعة اللذين يكتسحان نهاراته ألم يكن هو القائل في “سياف الأزهار”: “بلادنا غارقة في المرض والجهل والبطالة والديون والعطالة والجنس والحرمان والمهدئات والمخدرات والوصولية والأصولية والطائفية والعنف والدم والدموع، ونحن مشغولون بغرق تيتانيك”. طلق كل أوهام التصالح وتجميل المأساة ليفتح عينيه ملئهما على المسخ والتشوه اللذين طالا العالم العربي من الماء إلى الماء. حينما قال “الفرح ليس مهنتي” كان يدرك مقدار تغلغل المدية في الجرح الذي حرص دائما على أن ينكأه ويقصي كل وهم يمكنه أن يهدئه. في جل مسرحياته وأشعاره وفي روايته “الأرجوحة” لم يكن يفعل سوى أن يشعل الحرائق ويثير الزوابع والزلازل.

******

وداعاً يا صاحب الفرادة

بشير البكر
(سوريا/باريس)

رحل محمد الماغوط وهل كان مقيما في الأصل؟
كانت حياته سفرا دائما،مثل محارب اغريقي عتيق، بين أقاليم الألم الشخصي والفجائع الوطنية، التي لم تتوقف. وقد نالت منه المأساة حتى آخر لحظة من أيام عمره الحافل بالضجيج على المستويين الذاتي والإبداعي. ألقى المرساة في دمشق التي بقي صديقا وفيا لدروبها القديمة، ووري الثرى في السلمية التي كان يهددنا دائما بأنه سيعود اليها، حين ينال منه الغضب، ويبلغ ما لا طاقة له على احتماله. لو لم يذهب الماغوط بعيدا في حب دمشق لما عاد متأخرا الى السلمية.
غاب الماغوط عن المشهد الشعري منذ ثلاثة عقود على الأقل. من كان سيتذكره لو لم تسند اليه جائزة العويس الثقافية، ويأتي ليتسلمها أخيراً في الإمارات؟ لقد توقف عن الشعر، أو أن الشعر توقف عنه منذ منتصف السبعينات. كانت آخر “قصيدة ماغوطية” كتبها الماغوط سنة ،1976 بعنوان: “آخر كلاب الأثر”. ومنذ ذلك اليوم لا أذكر أننا قرأنا له قصيدة حزينة في ضوء القمر. نعم هو رثى زوجته، ورفيقة دربه الشاعرة سنية صالح، حين كانت مريضة بين الموت والموت في باريس في منتصف الثمانينات، لكنه لم يكن، وهو الذي يدين لهذه الشاعرة ذات النفس الخاص، ذلك الكاتب الذي عهدناه في دواوينه الثلاثة. الفطري، البري، العميق، المنشق، المتدفق حكمة، وشراسة بلا حدود. كان يمكن لقصيدة “آخر كلاب الأثر” ان تشكل انعطافة في تجربة هذا الشاعر المنفلت من كل القيود، وتنتقل بها من طورها العفوي والفطري إلى ما يتعدى، أو يجاور مصاف مجايليه من الشعراء الرواد.
كان الماغوط نهرا متدفقا من الشعر الصافي الرقراق، نمت على طرفه أنهار وسواقي ووديان وبساتين وقرى وحيوات شعرية كثيرة، لكنه ظل كما هو، نافرا من النبع الى المصب. يقرأه المرء فيخرج مجروحا ومسكونا بالشجن والعذوبة. نتعمد نسيانه فنتذكره رغما عنا، كان الشاعر الذي يجلس القصيدة في كل يوم على كرسي المقهى، ويخرجها من دفتر الغياب. شاعر الريف في المدينة وشاعر المدينة الخاطئة أمام الريف. رجل يسير ببطء شديد، ومع ذلك لم يتمكن أحد من اللحاق به (الجنة للعدائين وراكبي الدراجات النارية) أو الإمساك به. كثيرون حاولوا أن يصبحوا الماغوط لكنهم فشلوا. لأن النسخة الأصلية لم تكن قابلة للتقليد أو التزوير، لقد بقي وحيد روحه وحالاته وجنونه الغجري. لعب الماغوط ضمن الحدود الملغومة، ما بين العادي الهارب من القول، والممتنع الذي لا تأويل له.
ثمة ما يميز الماغوط عن غيره من الشعراء، هو انه لم يكن على ألفة مع الكتابة والكتاب. لم يعرف عنه رأي معين حيال الكتابة. اقترب منه الجميع، لكنه بقي على مسافة حتى من اقرب الأصدقاء اليه. كنا نحبه ولا نكف عن تلاوة قصائده وتداولها، نحن الشعراء الشباب في سوريا السبعينات، لكننا لم نستطع الاقتراب منه. نحييه ويحيينا بمودة، وكل يعبر في اتجاه. لم يكن يريدنا أن نختلط معه، كان يخشى الألفة. وقد أسر لبعضنا، انه يخاف من أن تتكون من حوله مجموعة، لأن بداية هذا الطريق تقود الى تكريسه وتحويله الى أيقونة ومدرسة، وربما مزار. لقد كان يتهيب من احتمال أن يضعه الآخرون في إطار، ولو على سبيل التبجيل. رفض، عن وعي وسابق إصرار، ان يصبح أبا، وان يصير له أبناء بالتبني الشعري. ليس لأنه بلا عاطفة، بل لأنه ضد المدرسية والتصنيم والنمط، وعلى قناعة بأن الكتابة مسألة ذاتية قبل كل شيء، ولا يمكن لنا أن نخضعها لأي قانون. إن الماغوط أفاد بنظرته هذه الأجيال الشعرية اللاحقة لأنه ساعدها على أن تكبر وتبلغ سن الرشد بوعيها الخاص، من دون ان تتعكز على ظهور الآباء. ولأنه لم يذهب الى الجامعات ليدرس نظرية الإبداع، ولم يسافر الى خارج سوريا إلا بهدف العمل والعلاج، فإنه بقي وفيا لحسه الصافي، ودفقته الشعورية الخاصة. لكنه لم يتكرر على هذا المستوى، ولم يضارعه أحد، لا من مجايليه، ولا من الشعراء اللاحقين، وحتى حين انضم الى مجموعة “مجلة شعر” في بيروت الستينات، فإنه كان يشكل سربا وحده. صحيح انه عايشهم سياسيا وحياتيا، لكنه لم يتأثر بهم ولا بنظريات بعضهم على مستوى الإبداع، ودور الكتابة. عاش في بيروت ودمشق، لكنه ظل أقرب الى منطقته الخاصة السلمية التي تفتح فيها وعيه على معنى التمرد والانشقاق.
أعتقد ان الماغوط توقف عن الكتابة في اللحظة التي شعر فيها، بأنه سوف يعيد إنتاج نفسه، في حالة وظرف مختلفين. لقد كان بوسعه أن يواصل الكتابة بالشكل والمضمون ذاته، لكنه من الصنف الذي تحدث عنه رونيه شار، الذي لا يقبل الكتابة إلا إذا أتته من تلقاء نفسها كحالة حب جارف.

*****

طفولة بريئة وإرهاب مسن *

سنية صالح

مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط. ومنذ مجموعته الأولى “حزن في ضوء القمر” وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية. وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع، وحيداً، لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. فبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً الى الحرية نجدها في الواقع طريقاً الى السجن. ولأنها كانت دائماً إحدى أبرز ضحايا الاضطرابات السياسية في الوطن العربي، فقد كان هذا الشاعر يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مرَّ على الوطن، وفي أحدها خرجت أبحث عنه، كان في ضائقة قد تجره الى السجن أو ما هو أمرّ منه، وساعدني انتقاله الى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار، غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن.
سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم، في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عديدة.
لنفترض أن الشرق العربي بقعة سوداء على خريطة الماضي والحاضر، فما يكون لون المستقبل؟ ولنبحث بعد ذلك عن مصير الشعر والشعراء من خلال ذلك الظلام الدامس. وإذا ما استعملنا ضوء الذاكرة وجدنا أن محمد الماغوط في وجه من الوجوه جزء من المستقبل، لذا كان لا بد من حمايته من غباء الحاضر. ألا يكون مستقبل شعرنا رماداً لو تركنا الشعراء للسلطة؟ ولأن هذا الشاعر محترق بنيران الماضي والحاضر، لجأ الى نيران المستقبل وهو جزء منها بحثاً عن وجود آخر وكينونة جديدة. بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين. ولكن لما شحب لونه ومال الى الاصفرار المرضي وبدأ مزاجه يحتد بدت لي خطورة اللعبة. كان همي الكبير أن يتلاشى الإعصار دون أن يخنق غباره “النسر”.
كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية. كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعال على ما يحيط بنا. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية. وكنت أركض في البرد القارص والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة، فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض مبقعة بالقهوة حيث ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف. كان يشعل نيرانه الخاصة في روائع أدبية بينما كانت الهتافات في الخارج تأخذ من بعيد شكلاً معادياً.
وقبل ذلك كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت. وعدما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة “شعر” المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم من دون أن يعلن عن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون (بودلير؟.. رامبو؟) لكن أدونيس لم يلبث ان أشار الى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر وقال: “هو الشاعر..” لا شك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم الى تمتمات خفيضة. أما هو، وكنت أراقبه بصمت، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه. بلغة هذه التفاصيل وفي هذا الضوء الشخصي نقرأ غربة محمد الماغوط. ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب الى عزلة الرافض.
من يدرس حياة هذا الشاعر يرى أن فترات الخصب عنده تتواقت مع الأزمات. “فالعصفور الأحدب” وأعمال أخرى ما زالت مخبأة في الأدراج، وقسم كبير من “الفرح ليس مهنتي” جاءت نتيجة انفجار بشري داخلي عنيف حدث في أواخر ذلك الشتاء في هذه الحميا أخذ يرى علائق الأشياء بعضها ببعضها الآخر. وأن هذه الارتباطات قد تنقلب الى علائق خطرة فيما اذا تضخمت من طرف واحد تاركة الطرف الآخر يرتجف دون حول أو قوة. ومحمد الماغوط يبحث عن الحماية منذ صغره. لكن كلما التجأ الى ركن رآه خانقاً كالسجن أو واهياً كالورق. أراد ان يدخل كون الشعر حيث لا سلطة إلا للمتفوقين. والبيئة المضطربة المتقلبة التي عاش في مناخها، كانت تقف كالسوط في وجهه لترده باستمرار الى الداخل فيعتصم بمخيلته. في تلك المؤامرة الكبيرة التي حاكتها البيئة ضده عظمت براءته وقوي صفاؤه. وقد أعطته تلك الإقامة السرية فرصة كبيرة للتأمل الذهني. وتحت تلك العدسات كان الوجود الإنساني يدخل سلسلة من التحولات. سكب أحماضه المأساوية على الفوضى البشرية، فبدا الوجود الواحد يحمل في أعماقه وجودات لا حصر لها. وهذا ما دفعه لأن يطرق ألواناً أخرى غير الشعر.
في الشعر يمتطي حلمه ويغيب. ليس بمعنى التخلي الشعوري عن واقعه، وإنما بمعنى الطموح الملح لخلق وجود بديل عنه. وجود آخر يهيم معه في سفره. غرفة الشعر غرفة لينة، واسعة، فضفاضة. تنتقل كلما أشار اليها الشاعر. أما الآن فلا مفر له وهو داخل تلك الجدران المتسخة من مواجهة الواقع. لذا انعكست أوضاعه على أبطال “العصفور الأحدب” سجنهم، خلقهم مشوهين، وبأمزجة حادة، متقلبة وشائكة. المسافة في المسرحية لا تنقلهم نحو أحلامهم أو نحو الأُفضل وإنما تحاصرهم. وعندما امتلكوا الحرية تغيرت مرتفعاتهم الإنسانية. دخلوا في علائق جديدة. شكلوا مرة أخرى لعبة الحاكم والمحكوم التي ما استطاعوا أن يذهبوا خارج حدودها بالرغم من الحريات التي امتلكوها فيما بعد. في “العصفور الأحدب” لم يلتق محمد الماغوط بجمهوره بمعنى المواجهة. التقى به في حالة الجذب والقيادة، ولأن الزمن بينه وبين الآخرين كان شاسعاً أنكرت كعمل مسرحي وسميت قصيدة، في الحقيقة كان في “العصفور الأحدب” قائداً يسير خلفه جيش مهترىء، منكوب أرمد. لذا ارتد القائد في “المهرج” وفضح تلك المخازي.
يعتبر محمد الماغوط من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. دخل ساحة العراك حاملاً في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادر قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث. كانت الرياح تهب حارة في ساحة الصراع، والصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر حين نشر قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري. وقد لعبت بدائيته دوراً مهماً في خلق هذا النوع من الشعر، إذ إن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي. وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود. وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر.

* نص سبق لسنية صالح، زوجة الشاعر، أن كتبته.

****

رجوع ابن السلمية إلى التراب "البلدي"

حشد من المثقفين يشيعون الماغوط إلى مثواه الأخير

شيعت الأوساط الثقافية والفكرية والفنية والشعبية في موكب مهيب أمس جثمان الأديب والشاعر الكبير محمد الماغوط الذي انطلق من أمام مستشفى دار الشفاء بدمشق الى مثواه الأخير في مدينة السلمية مسقط رأسه.
وشارك في التشييع الدكتور محسن بلال وزير الإعلام والدكتور رياض نعسان آغا وزير الثقافة وجوزيف سويد وزير الدولة لشؤون مجلس الشعب ورئيسا اتحادي الكتاب العرب والصحافيين ونقيب الفنانين وأعضاء مجلس الشعب وحشد كبير من الإعلاميين والمثقفين والكتاب والفنانين ومحبي الراحل الكبير.
وفي تصريحات للوكالة العربية السورية للأنباء “سانا” أكد الدكتور محسن بلال وزير الإعلام ان رحيل الأديب الكبير والعبقرى محمد الماغوط يشكل خسارة للأمة وللوطن وللثقافة والكلمة ولكل الإنسانية.
من جانبه أكد الدكتور رياض نعسان آغا وزير الثقافة ان فقدان الأديب الماغوط يعتبر فقدا لواحد من كبار الأدباء العرب والعالميين وأحد أدباء السخرية المرة الضاحكة والمعبرة عن الحزن الانساني الذين حققوا تفوقا في الإبداع والموهبة.
وأشار الدكتور صابر فلحوط رئيس اتحاد الصحافيين الى ان فقدان الأديب الماغوط يشكل خسارة كبيرة للأدب والفكر والرأي وللصحافة والقلم الجريء والكلمة الحرة والمسؤولة.
من ناحيته وصف إسماعيل الماغوط شقيق الراحل الكبير ان رحيل شقيقه يشكل خسارة للوطن وللجميع الذين فقدوا كاتبا بارزا على المستوى العربي.
وقال الأديب الكبير حنا مينه ان الماغوط كان كبيرا في حياته كما في مماته وكان علما من إعلام الأدب العربي في بلد هو كنز للإبداع.
بدوره قال الفنان دريد لحام: ان الماغوط لم يرحل وإنما يسافر لأن مثل هؤلاء العظام يخلدون بما تركوا من إبداعات مهمة.
يذكر ان الرئيس بشار الأسد كان قد منح الماغوط وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة كما نال الماغوط عدة جوائز عن مجمل أعماله الشعرية والمسرحية كان آخرها جائزة “سلطان العويس” التي تسلمها قبيل وفاته بأيام وتم تكريمه عام /2002/ في حفل أقيم في مكتبة الأسد بدمشق بمناسبة صدور ديوانه “حطاب الأشجار العالية” ضمن منشورات كتاب في جريدة. (سانا)

****

نال جائزة العويس ونعته فعاليات في دمشق

الماغوط يترجل بعد رحلة مع الإبداع والعذاب

الشارقة دمشق "الخليج":
رحل من قال يوما “الفرح ليس مهنتي”، لكنه قبل أن يرحل، وحين سماعه نبأ منحه جائزة العويس التي وصلته أخيرا فأسعدته، قال ل “الخليج” انه فرح بالجائزة، ولأول مرة يشعر بالفرح، لكن الجائزة التي تسلمها يوم التاسع من شهر مارس/آذار الماضي لم تكن كافية لأكثر من فترة بسيطة من الفرح لهذا الشاعر الكبير والرائد، فلم يستطع مغادرة مقولته تلك سوى أسابيع قليلة ليغادرنا الى العالم الآخر. ليغادرنا بعد رحلة عذابات طويلة مع البؤس والأمراض التي أكلت جسده وروحه. رحل الذي كان له دور كبير في بناء القسم الثقافيّ في جريدتنا هذه، وكان راعيا للشعر والشعراء في دولة الإمارات. فقد انضم الى القسم الثقافي لجريدة “الخليج” منذ يوم 30 أبريل/نيسان ،1980 أي قبل ستة وعشرين عاما من اليوم.
الماغوط الذي رحل عن 72 عاما بعد حياة حافلة بالعطاء والتجارب والمشاكسة شعريا وروائيا ومسرحيا، هو ابن بلدة السلمية الشهيرة في الشمال السوري، وقد خرج منها نخبة من الشعراء والمبدعين على مدى الخمسين عاما، وهي القرية التي غادرها الماغوط الى بيروت شاعرا مبتدئا حيث قدمه أدونيس الى جماعة “شعر” ليتفوق في قصائده الأولى “حزن في ضوء القمر”، ويعود بعد سنوات الى دمشق شاعرا مرموقا يشار اليه كأبرز من كتب قصيدة النثر البرية الشرسة وذات النبرة الحادة:
عشرون ألف ميل بين الغصن والطائر، بين السنبلة والسنبلة سأجعل كلماتي مزدحمةً كأسنان مصابة بالكزاز، وعناويني طويلةً ومتشابكةً كقرون الوعل، ولكن بعض الكلمات زرقاء أكثر مما يجب صعبةٌ وجامحةٌ.
صوت محمد الماغوط الذي بدأ حياته في الحزب السوري القومي الاجتماعي مثل عدد من الشعراء العرب، كان قد فعل ذلك- كما يقول خليل صويلح- ليس لأنه مقتنع بأفكار هذا الحزب، لكن لأن مقر الحزب كان يضم مدفأة يلجأ اليها أيام البرد هذا الشاعر ذو الأصول الفقيرة. فلم يكن الماغوط يؤمن بفكر ما ولا كان صاحب تنظيرات شعرية أو سياسية، مع أنك لا تعدم في رؤيته الشعرية وفي أعماله الروائية رؤى سياسية وفكرية عميقة. وقد رأينا في أعماله المسرحية خصوصا (كاسك يا وطن، غربة وغيرهما) قدرا هائلا من السياسة والنقد اللاذع للسياسات العربية. ولهذا فقد انتهى عبثيا ساخرا.
في بيته في دمشق، زرناه ذات يوم، وكان قد بدأ عزلته بعيدا عن العالم، وضع نفسه -يائسا ومحبطا- في ذلك المنزل ولم يعد يغادر الى مقهى فندق الشام أو يتمشى نحو ذلك المقهى البعيد. على جدران منزله لوحات وصور وبورتريهات شخصية رسمه فيها فنانون سوريون. كان يومها كثير التدخين والحديث عن الذكريات. يتلقى اتصالا من ابنته “شام” أو من ابنته الأخرى “سلاف” وغيرهما من الأهل. وإذ يتذكر الماغوط فأول ما يتذكر سنية صالح، ثم يتذكر سجن المزة وسفره الى بيروت وشلة الرفاق والشعراء. على مائدته في ذلك اليوم كومة من العقاقير والدخان. وبعض كتبه التي وصلته حديثا.
ان من يتأمل في عناوين مجموعات الماغوط الشعرية وحتى عناوين قصائده، سيلاحظ أنها تنطوي على قدر كبير من القتامة والسواد والشراسة، سواء على مستوى المعنى أو على مستوى الصورة الفنية: حزن في ضوء القمر، الفرح ليس مهنتي، سأخون وطني، جنازة النسر، الشتاء الضائع، الغرباء، جناح الكآبة، حريق الكلمات، بكاء في رحلة صيد، اصفرار العشب، الدموع، خريف الأقنعة، اليتيم، بكاء السنونو..الخ.
وهكذا يبدو أنه من الصعب- كما يقول أحد دارسي شعره- أن يبحث الدارس في شيء متعلق بالماغوط قبل هذا الحزن الطاغي على جل ما كتب من شعر، ومصدر الحزن هذا نابع من كونه متسكعا كبيرا. فالرصيف عنده حاضر في شعره بحساسية فائقة، لأنه ملجأ أمثاله المنبوذين والمتشردين.ومن آخر ما قال الشاعر بعد استلام جائزة العويس:

من يدعوني لافتتاح أي معرض منتظر
كمن يدعو الخريف لافتتاح معرض زهور
ومهما كتبت وأبدعت في أي مجال
أظل ضيفا عابرا على هذا الوطن الخالد والمفدى

وقال دريد لحام ل “الخليج” بعد سماعه خبر الرحيل: “إن الماغوط ترك تراثاً وطنياً هو أكبر من أي تعبير، لقد علمنا عشق الوطن والحرية”.
وقال الكاتب وليد إخلاصي”: “أشك أن يحل شخص آخر مكان الماغوط سواء كان في الشعر أو المسرح أو المقالة ، فهو واحد من الذين أضافوا للشعر نكهة خاصة وألبسوا المقالة رداء فنياً يعجز عنه الكثيرون”.
أما الدكتور علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب السابق فقال “رحم الله الماغوط وأحسن إليه ، لقد كان شاعراً له نهج خاص في كتابة الشعر وقصيدة النثر ، وكانت في مقالاته نكهة متميزة كانت تلقى انتشاراً عربياً كبيراً ، لقد كتب العديد من المسرحيات والمسلسلات واستمر في أدائه الغزير بالإبداع ، ويبقى إحدى المقامات العربية السورية التي اكتسبت انتشاراً كبيراً في الوطن العربي”.

***

الخارجية الأمريكية تعزي

واشنطن “الخليج”:
في بادرة غير مألوفة، أصدرت الخارجية الأمريكية بيانا تعرب فيه عن “الحزن لوفاة الشاعر والكاتب المسرحي والمثقف السوري الكبير محمد الماغوط”. وجاء في البيان ان “محمد الماغوط كان خلاقا، ومثقفاً لا يساوم وصوتا مستقلاً للحرية والعدالة في العالم العربي”. وأضاف البيان ان “عمله وحياته كانتا شهادة عن قوة الفرد وشهادة للروح الخلاقة. ونحن نقدم تعازينا المخلصة لعائلته ولمعجبيه الكثيرين”.
وهذه أول مرة تصدر فيها الحكومة الأمريكية مثل هذه التعزية في شاعر عربي.

******

الخليج- 11 ابريل 2006

يتبع...