قيد حياته: محمد خير الدين، ولد سنة 1942. والدته عائشة بنت المحجوب. مغربي الجنسية، كاتب، مطلق. رقم بطاقته الوطنية أ240596، المسلمة إليه في 9/12/1986. يقيم في 45 شارع جان جوريس، آنفا، الدار البيضاء. انتقل إلى دار البقاء في 18 نوفمبر 1995. هل يمكن لنا أن نلخص حياة من كتب روائع الأدب المغربي بالفرنسية في غبار هذه الوثيقة الرسمية. لا أظن. فمن هو هذا «الطائر الأزرق» الذي أعاد لغة الشيخ موليير إلى صباها؟ وهل تعرفه العرب العاربة والمستعربة كما تعرفه نجوم باريس وليالي الرباط البيضاء؟
عاد محمد خير الدين من العدم بهيا، بنصين حدوديين بعد موته بعشر سنوات: «طوبياس» و«كازاس». والساحر هو عبد الرحيم حزل، صاحب دار نشر «جذور» الذي ساح في أرض المغرب، بحثا عن شجرة أنساب حقيقية ورمزية لـ«الطائر الازرق» من طنجة إلى الدار البيضاء، مرورا بمراكش والصويرة. حب لا مثيل له لكاتب قلما تجود الأمهات بمثله، شغل الناس في حياته بطابعه الصاخب، والخارج عن رتابة المألوف. لم يكن خير الدين سكيرا فقط، كما صوره أعداؤه، بل كان كاتبا عملاقا تكالبت عليه تفاهة التاريخ والجغرافيا والكائنات الورقية. طبيب أسنان فاشل ترك الضرس المريض واقتلع جزءا من الفك. فكانت هذه هي بداية نهاية أحد كبار الأدب المغربي الحديث. سرطان جعل من الجحيم رحمة أمام الآلام التي عانى منها قبل أن يصبح شبحا لم يعرفه حتى المقربون. لكن «الهدهد» حارب الألم بمبضع الكتابة. كتابة مقاتلة، ويوميات باهرة لرجل لا تحتمل خفته.
كان محمد تلميذا متمردا. رضع حليب الكلمات من أرض «سوس» العالمة التي غذت أعماله الباهرة. لغته الأصلية الأمازيغية، والثانية الفرنسية التي كان عارفا بها معرفة السحرة بسراديب الخلود في حدائق الهاديس. كان يلتهم كل حرف تقع عليه عيناه من شعر ورواية وشرائط مصورة إلى درجة أن أباه لم يكن يتوانى عن تمزيق بعضها عندما يراه يقرأها مقهقها. فالعلم عند سيد القبيلة رديف الرصانة وصمت القبور. لكن هذا الأب كان يعالج هذا الجرح القبلي، عندما يحصل الصبي على بعض الجوائز، بمنحه ما يكفي من الدراهم لشراء رامبو في طبعة «لابلياد» الرفيعة. ثم تتوالى الأحجار الكريمة في جدار الصغير المبدع، «الغثيان» لسارتر، «الجدار» و«الغريب» لكامو.
كان محمد يكتب شعر بداياته كأنه ذاهب إلى الحرب. لا يمكنني التراجع الآن، كان يقول. الشعر بركانه الشخصي حممه أتت على الأخضر واليابس في حياته العائلية. أم مطلقة وهو لم يبلغ بعد قامة الرشد. جرح شخصي مضاعف، أرق، عائلة تبتعد عن رأس تنبعث فيه أناشيد الرحيل كالحرائق. لكن المثير أيضا في لوثة الشعر انها جاءته من صوت محمد عبد الوهاب. لقد اكتشفه مراهقا وأراد أن يصير مغنيا مثله يهدهد القصائد الفصيحة كما تهدهد الأم طفلها. لكن عدم معرفته بأسرار لغة الضاد وشكه في سحر حباله الصوتية جعله يتوغل في غابة الشعر الغامضة.
ترك محمد إرث العائلة الرمزية وهاجر إلى فرنسا. كان المغرب مرجلا يغلي سنة 1965. المنفى الاختياري باب الحرية. قرأ «الطائر الأزرق» خريطة باريس السرية، كما يقرأ هندي أحمر آثار الريح على ذرات البسيطة الشاسعة. البوصلة اللامرئية في يد ومطرقة الكتابة في اليد الأخرى. توالت زلازله تباعا في جبال اللغة الفرنسية. «أغادير» رواية شعرية خلخلت أعمدة لغة بودلير ووجدت في حينها احتفاء لا مثيل له. سبقت هذه الباكورة، قصائد غريبة بلغة لوت عنق كل ما كان يكتب آنذاك في المغرب وفرنسا. لما نقرأ «غثيان أسود» القصيدة التي نشرت في لندن سنة 1964، نتلمس جحيم هذا الكاتب الذي جاءنا حاملا كفنه/ كتبه على يديه. شاعر جاء من المستقبل بالتأكيد. رأى بأم عينه جسده يتحلل إلى كلمات ويأكله دود أرض أخرى. ألم يكن خير الدين مفتونا بامرئ القيس؟ قفا نبكي العدم المطلق. سنة قبل هذا النص الجحيمي، قرر محمد الشاب أن يموت. رأى سماء سوداء كالحبر. نام على سريره كأنه يغمض عينيه إلى الأبد. في الصباح، استيقظ، لم يمت! في المساء، حينما خرج من غرفته تغير العالم فجأة. الجدران اقتلعتها ريح صرصر عاتية ونور عجيب يغمر الأرض. وقف مشدوها أمام هول ما تراه عينه: عند قدميه جثة تشبهه. منذ ذلك الحين سكنت خير الدين زلازل كتابة توغلت بعيدا في غياهب أراض مجهولة تسكنها الملائكة والغربان. فتوالت درره شعرا ورواية. «أجسام سالبة»، «شمس عنكبوتية»، «أنا الحامض»، «النباش»، «هذا المغرب»، يكتبها أينما اتفق في حانات باريس، ومقاهيها أو مطاعمها الشعبية التي كانت تعج باللصوص، والمومسات، وبائعي المخدرات حتى أن الشرطة ألفت هذا رامبو العربي الذي يكتب كالإعصار غير مبال بفساد الأمكنة. فلما سأله شرطي بعد أن أوقفوا بعض المشبوهين في هذه الحانات: كيف يمكنك أن تكتب في هذا الجحيم؟ أجابه محمد: عندما أكتب يختفي العالم من حولي. كان يكتب دفعة واحدة. خط مستقيم وقلق دون «روتوش». أو نقرات على الآلة الكاتبة التي كانت لا تفارقه.
صال محمد وجال في باريس. التقى بعمالقة الأدب الذين يعتبرونه نبيا على أرض الأدب المتوحشة. إعجاب، فتنة، أيادٍ ممدودة إلى فتى الجنوب الجديد. تبناه جان بول سارتر، نجم الوجودية الفرنسية، فتح له مجلته ودور النشر الباريسية. من يفتح الأبواب في العالم العربي؟ وجوه أخرى: أندريه مالرو، بيكيت، ميشال ليريس، بونفوا، جاك لاكان وغيرهم. كانوا يعتبرونه مع صديقه سنغور وإيمي سيزير مردة أخرجوا الفرنسية من يباب الدلالة الشرعية المتوارثة، أبا عن جد، إلى فساحة أرض لا تنتهي. مستقبل الأدب الفرنسي ليس فرنسيا يا عزيزي...
هل يمكن لجنية الكتابة أن تتعايش مع امرأة من لحم ودم؟ سؤال ماكر. لكن حياة خير الدين عرفت دائما حربا بين النساء والكتابة الزلزال التي كانت تجري في عروقه. عاش في باريس مع امرأة غريبة الأطوار، هي في الغالب زوجته الأولى آني وأم ابنه ألكسندر. كانت لونا آخر من ألوان العذاب الأرضي. لم يفلح في الكتابة معها. حاول الانتحار. عادت إليه الكتابة فوارة حارة بمجرد ما صفق باب الحياة الزوجية. وأبواب كل النساء. هل يمكن للطير الحر أن يألف ترف الأقفاص الذهبية؟ لا. خير الدين كان دائما هدهدا طليقا رغم زواجه من امرأة ثانية بعد عودته إلى المغرب. مفارقة العباقرة. لا ضير في ذلك. امرأة ودود تركت كل شيء من أجله بعدما كانت تعيش في لندن. تقيم اليوم بينها وبين الدارالبيضاء. تحرس بحب ووفاء أسطوريين أسراره، رسائله، مخطوطاته، دفاتره وحقيبته المتواضعة. امرأة مضياف تفتح بابها لكل عاشق لـ«الطائر الأزرق»: طلبة، باحثون، محتالون... الرسائل تأتي أيضا من بعيد. كان يحتفظ بها كصديقه شكري. هذه الرسائل التي لو نشرت يوما ستزلزل الأرض تحت أقدام الكثير من النصابين الذين كانوا يدعون صداقته ويسيؤون له أشد الإساءة. أدباء، صحافيون، مسؤولون أو بشر فان.
لما عاد محمد خير الدين سنة 1995 إلى المغرب. تسكع بما يكفي في مهنة طائرة كزبد البحر: الصحافة. عاش في مغرب لم تحركه كثيرا رياح التغيير العالية. فأدمن الشرب وجنون العظمة وحدة المزاج. كتب وأبدع، انبعاث الزهور الوحشية، أسطورة أغونشيش وحياته، ميموريال... منظرو المعارك الثورية اعتبروه مطبعا مع النظام، همشوه، سخروا منه، لكنهم نسوا أن الأسد يبقى أسدا في صحراء استأسدت فيها قردة السياسة. حتى عبد اللطيف اللعبي الذي رافقه في مغامرة مجلة «أنفاس» تحجج لناشره المغربي حينما طلب منه كتابة مقدمة لديوان «كازاس» بأنه لا يعرفه جيدا. يا ألله؟ كم تخفي عنا شجرة اليسار الثورية غابات كتاب حقيقيين لم تصنعهم أبواق الفرنكوفونية الطنانة. «الطائر الأزرق» لم يبع روحه ولا شجرة أنسابه لصانعي العبيد الجدد. تجار النضال وخدم فرنسا السيدة، هم الذين يرفلون في حرير الشهرة اليوم. بالصحة والراحة. ربما «أنفاس» التي قال عنها خير الدين أنه مؤسسها، الأصل الميتافيزيقي لا يهم الحكماء هنا، تحتاج إلى حفر عن جذورها البعيدة الممهورة بعرق النيسابوري، إيمانويل أو جاكوبياك وغيرهم. ربما الذكرى تنفع بعض المشاهير.
لحم الصداقة لا يتعفن. هذه الصداقة الطرية صاحبت خير الدين في محنته. وبما أن الكتاب لا يملكون سوى الحروف التي ليس في مستطاعها تأدية تكاليف أهل أبقراط. تكلف القصر الملكي بمصاريف علاج «الطائر الأزرق». فانتقل من فندق «فرح» حيث كان كرمه المعروف يشمل كل من هب ودب إلى فندق «باليما» المتواضع في وسط الرباط. وفي هذا الفندق كتب ضد ألم لا يطاق. ماذا تفيد المضادات الحيوية والسوائل أمام فك يتسرطن بسرعة الضوء. لحسن الحظ، كانت هناك أجنحة الصداقة التي تغمره بنورها الرحيم.
رحم الله خير الدين. أمهات كتبه لن يغمرها طمي التاريخ. سيبقى أكبر كاتب بالفرنسية في المغرب. لم تكرمه فرنسا لأنه لم يتعود كتابة قصائد الغزل في قدها وبهائها. لم ينل وسام الجمهورية الفرنسية، لأنه زلزل الأدب الفرنسي وبلاد فولتير تحتاج لتلامذة نجباء يحفظون دروس التركيب وشعرية الموتى عن ظهر قلب لينالوا الجوائز. جوائز «الطائر الأزرق» قراؤه. أما بلاده فحدث ولا حرج. كتبه لم تكن لها حرية التحليق في سماء المغرب. عادت إليها عودة خجولة. خجل عذراء تحت الخباء. والآن، رغم رياح التغيير، لم تفكر وزارة الثقافة مثلا في إصدار أعماله الكاملة بلغتها الأصلية أو مترجمة. هي التي أصدرت الأعمال الكاملة لكتاب أحياء للاحتفاء بالوجوه المغربية. يبقى الأمل معلقا على الأيدي السحرية لناشره المغربي الشاب عبد الرحيم حزل و«جذوره» لإخراج هذا الهرم الأدبي إلى النور. أعماله الكاملة مترجمة إلى العربية، إذا، في طريقها إلينا.
إفتح عينيك أيها «الطائر الأزرق» وانظر إلى بركان العدم. سيغمر أرض الدجل بعض قليل وستبقى أنت عاليا. حلق، حلق بعيدا...
الشرق الأوسط
هـ 7 يونيو 2006