هل أصبح ناظم حكمت جزءاً من التراث الشعري العالمي أم أنّ شعره لا يزال حاضراً مثلما كان حاضراً في مرحلة الثورة الأممية التي وسمت عقوداً بكاملها ثم ما لبثت ان تراجعت بعد سقوط المعسكر الاشتراكي؟
لعلّ الظلم الذي لحق بحياة رائد الشعر التركي الحرّ ورائد الحداثة التركية في مفهومها الشامل، يماثل الظلم الذي ما برح يلحق به كشاعر وليس كإنسان فحسب ويتمثل في القراءة الأحادية التي أخضعه لها النقاد الأمميون والاشتراكيون والملتزمون. تلك القراءة التي قدّمت هذا الشاعر العالمي أو الإنساني بالأحرى ساهمت في عزله عالمياً (وعربياً أيضاً) وفي حصره ضمن الإرث الاشتراكي الذي جعلته التحولات الأخيرة من صنيع الماضي. لكنّ ناظم حكمت هو أبعد بل أعمق من ان يُحصر في سياق الأدب الذي سمّي واقعياً أو اشتراكياً أو أممياً. وقد يكون صديقه الرسام التركي عابدين دينو أصاب تماماً حين قال: حياة ناظم حكمت في نظر كلّ الذين عرفوه، لا تستطيع إلا ان تكون في صيغة الحاضر المستمر.
لعلّ السؤال الأساس الذي يواجه قراء ناظم حكمت في العالم اليوم هو: كيف تتم قراءة شاعر كبير لم ينثنِ لحظة عن وصف نفسه بالشاعر المناضل والملتزم والأممي؟ بل كيف تتم قراءة شاعر أصرّ علي أن الواقع لا يمكن ان يُدرك إلا من خلال العين الماركسية - اللينينية كما يعبّر؟ هذه الرؤية الى الواقع هي من المعطيات القليلة الثابتة في نظره بينما قواعد الشعر وشروطه أو مقاييسه عرضة جميعاً للتبدل والتحوّل.
غير ان قراءة ناظم حكمت المحايدة أو الشعريّة الصرف تؤكد ان الشاعر ارتقي بالمفهوم الأمميّ أو الاشتراكي أو الواقعي الى مراتب المعني الإنساني الشامل. ولعلّ ما كتبه قبيل منفاه الروسي يمثل ذروة شعريته لا في الثورة اللغوية والشكلية التي أحدثها ولا في المضمون الذي استوحاه من الوجدان العام والذاكرة العامة فقط بل في المفهوم الشعري الذي أرساه جامعاً بين الشعر والحياة كما لم يُجمَعْ بينهما سابقاً وجاعلاً من القصيدة مرآة لـ الشعب في أمانيه وآلامه. هذا الشعب سيصبح شعوباً فيما بعد والشاعر التركيّ الذي خاطب المزارعين والعمّال الفقراء والمهمّشين سيصبح شاعر الأمم وسيخاطب شعوب الأرض قاطبة: أيتها الشعوب العزيزة/ من كل الأجناس والجنسيات/ أيها الأندونيسيون، أيها الألمان، أيها الإسكيمو/ يا من جئتم من السودان، من الصين، من تركيا، من أرمينيا/ أيها اليهود، أيها العرب، أيها البولونيون، أيها الروس/ يا من أتيتم من المكسيك، من النرويج، من قرغيزيا... أيها الهنود أيها الأكراد، أيها الفرنسيون... أيها الأميركيون: بيضاً، زنوجاً، جمراً... أحييكم جميعاً... . هكذا كتب الشاعر حين كان مقيماً في فرصوفيا.
لم تكن أممية ناظم حكمت سياسية صرفاً ولا بولشيفية صرفاً مقدار ما كانت إنسانية وطوباوية ومثالية. فهذا الشاعر الذي اقتُلع من أرضه الأولي وعاش منفياً شعر انه ينتمي الى العالم علي غرار المنفيين والمقتلعين جميعاً. وحفزته أحوال القهر والبؤس والحنين الى أن يكون مواطناً من العالم ولكن بجذور تضرب في أديم الوجدان التركي. وها هو يقول في قصيدة موجهة الى كتّاب آسيا وأفريقيا: إخوتي/ لا تنظروا الى شعري الأشقر/ فأنا آسيوي/ لا تنظروا الى عينيّ الزرقاوين/ فأنا أفريقي. هذه ا لنبرة الطوباوية سرعان ما شاعت في قصائد عالمية كثيرة كتبها شعراء اميركيون هامشيون وغنتها فرق من أميركا اللاتينية وأدّاها مغنّون كثر في ساحات أوروبا. وقد تمثّل طوباوية ناظم حكمت الوجه الإنساني المفترض لمّا يمكن أن يُسمي الآن العولمة الإنسانية ولكن في معناها الحقيقي لا الأميركي المعلّب. أما صفة المسافر التي يطلقها ناظم حكمت علي الشاعر (قصيدة الرحلة مثلاً) فهي تستدعي بعض استدعاء أسطورة عوليس ومدينة ايثاكا في التراث الإغريقي وتسبغ علي الطابع الأممي بعداً شعرياً تتقاطع فيه حال الغربة او الترحال ومقام الانتظار وحلم العودة.
لم يصطنع ناظم حكمت نزعته الأممية ولا هو استعارها من التيار البولشفي والثقافة الاشتراكية. فهذا الشاعر الذي لم يستطع ان يُعجب بالزعيم ستالين والذي رفض صورة المتسلط مصطفي كمال (اتاتورك) كان يؤمن بالإنسان مرجعاً أولَ وأخيراً، هذا الإنسان الذي لا بد من ان يصبح العالم تحت إمرته كما يعبّر، بعيداً من نفوذ الدولة او المال. وعندما كتب ناظم حكمت عن صديقه منصور في بورسعيد او عن ضحايا هيروشيما أو عن المرأة السوفياتية أو الثورة الفرنسية أو حتى عن الحزب الشيوعي التركي فإنما كان يكتب انطلاقاً من موقف او رؤية إنسانية شاملة وعميقة. وما يصف به نفسه في إحدى مقدمات كتبه يعبّر تماماً عن هذه الأممية التي لا تنفصل عن الهوية الأولي او الانتماء الأول كأن يقول بلهجة وضيعة: إنني شاعر تركي عادي يعتزّ بأنه أعطي قلبه وعقله وقلمه وعمره كلّه لشعبه... وهذا الشاعر دأب عبر الشعر علي تمجيد كل نضالات الشعوب... في سبيل الاستقلال القومي والعدالة الاجتماعية والسلم... . وما يميّز انتماءه الاشتراكي كونه انتماء إنسانياً وثقافياً في الحين عينه. فهو يعتبر الاشتراكية وارثة كل الثقافة الإنسانية التي يستحيل حصرها في أوروبا واليونان القديمة وروما وعصر النهضة بل يجب ان تشمل العالم كله: آسيا وأفريقيا وأميركا القديمة والجديدة.
قد لا يصمد شعر ناظم حكمت كله ولا نثره كلّه أمام حكم الزمن، وقد تسقط من نتاجه قصائد كثيرة ونصوص وخصوصاً تلك التي كتبها تحت وطأة المنفي والنضال والالتزام وهي في معظمها لا تخلو من النفس التعليمي الذي يتوجّه الى الشعب. ومقولته الشهيرة (ما أريد قوله للشعب) ساعدت ربما علي جعل بعض القصائد والنصوص غاية في المباشرة وخلواً من الفنّ الشعري أو الملحمي الذي كثيراً ما برع فيه. قصيدته عن الحزب الشيوعي التركي مثلاً هي من هذا القبيل وكذلك قصيدته عن تاريخ الحركة العمالية العالمية. أما القصائد التي سعي عبرها الى بلورة النظرية الماركسية شعرياً وإلي ترجمة كتاب رأس المال شعرياً أيضاً فهي قصائد مملّة ورتيبة و تعليمية في المعني البرشتي. وإن كان من الممكن أنسنة العالم والحياة والطبيعة وبعض الرموز المسيحية (قصيدة وجوه نسائنا ) فهل يمكن شعرنة النظرية الماركسية والفلسفة المادية؟
لعلّ التركيز علي هذه الناحية غير اليسيرة من تجربة ناظم حكمت يوقعها مرة أخرى في المتاهة التي أوقعها فيها النقد الاشتراكي سابقاً. فهذا الشاعر الكبير يصعب حصره ضمن تخوم المفهوم الاشتراكي للشعر والفن، وهو أصلاً استطاع ان يتخطّاها مؤسساً شعريته الخاصة والفريدة والتي كانت حصيلة موهبته الكبيرة وثقافته الكبيرة في آن معاً. فهذا الشاعر الذي نشأ علي قصائد الديوان العثماني التي تدمج بين التركية والعربية والفارسية سرعان ما تعرّف في مقتبل حياته علي الشعر الروسي الحديث في العشرينات والمتمثل في التيار المستقبلي الذي كان الشاعر ماياكوفسكي في طليعة روّاده وفي التيار البنيوي الذي كان شائعاً حينذاك أيضا. إلا ان ناظم حكمت الذي لم يستوعب تماماً أثر هذين التيارين نجح في صهرهما ضمن نزعته الغنائية التي وسمت أعماله الأولي. وكان يصعب عليه، هو الذي نشأ علي ألوان التراث الشعري الشفوي الذي يتناقله الأتراك، ان يتخلى عن جذوره الغنائية حتى بعدما أصبح اشتراكياً. وكم أصرّ علي العنصر الغنائي في القصيدة ولكن ليس البكائي الحزين كما يعبّر. وكم آثر ان يتحدث عن الاستجابة الواقعية الجديدة عوضاً عن الواقعية الاشتراكية أو الواقعية المادية وسواهما من المقولات التي راجت في تلك الحقبة. وينبغي عدم إغفال الأثر الذي تركه الشعر الفرنسي في تجربته أيضا وهو كان قرأ عيون هذا الشعر في مطلع عمره ثمّ في المنفي حين كان يزور باريس ويلتقي شعراءها الكبار من أمثال: لويس اراغون وثريستان تزارا وبول اليوار وجاك بريفير وفيليب سوبو. واللافت جداً ان تريستان تزارا رائد الحركة الدادائية كتب مقدمة لإحدى ترجماته الفرنسية وكذلك فيليب سوبو الشاعر السوريالي بامتياز.
قد تكون قراءة ناظم حكمت في سياق الحركة الشعرية التركية مختلفة عن قراءته عالمياً، وكذلك قراءته باللغة التركية تختلف عن قراءته مترجماً. فالناقد نعمت ارزيك يضعه في مستهل تيار الشعر التركي الحر في الأنطولوجيا التي صدرت بالفرنسية عن دار غاليمار ويسمّيه للفور واحداً من رواد القصيدة الحرة، مشيراً الى أن أعماله الأولي أثرت في جيل كامل من الشعراء. ويجمع النقاد الأتراك والأجانب علي أن ناظم حكمت نجح في توسيع آفاق الشعر التركي وفي تجديده او تثويره بعدما رزح ردحاً طويلاً في ظلال شعر الديوان الكلاسيكي والشعر الموزون والمقفى. استطاع ناظم حكمت، كما يقول الناقد غوزين دينو ان يكسر القواعد العروضية وأن يتخطى الموضوعات الثابتة والجماليات اللغوية والشكلية التي رسّخها الشعراء الذين سبقوه عبر إذكائه نار التحديث في الهشيم الشعري. وساعده تأثره بالشعر المستقبلي الروسي وسواه في ان يكتسب مواصفات جديدة تجمع بين الطرافة والأصالة كونها تنطلق من التراث الشعري الشعبي المكتوب والمحكيّ. وتمكن ناظم حكمت انطلاقاً من مرجعيته المحلية او التراثية ومرجعيته الثقافية ان ينشئ جدلية شعرية فريدة جعلته في مصاف الشعراء الثوريين في العالم. ولعلّ هذا ما عبّر عنه تريستان تزارا حين قال في تقديمه ناظم حكمت: اهتدي ناظم حكمت وخصوصاً من خلال تعميقه المنابت التي كانت تمده بها تقاليد بلاده وأساليبها وقد تبنّي بعض صيغها في التعبير بُعيد منحها طابعها الحاضر والحديث، اهتدي الى احتواء مضمون هذا الشعر الذي تعصف فيه تلك الحرارة الإنسانية وحيث النداءات الى العدالة والي الانتفاض علي الاستبداد تحمل نكهة الحياة نفسها.
أحدث ناظم حكمت ثورة في الشعر التركي منذ ديوانه المدينة التي فقدت صوتها وهو يعتبر بمثابة الديوان الأول (1391) علي رغم ان الشاعر كان أصدر قبله كتيباً شعرياً في العام 9291 عنوانه 538 سطراً. أسس الشاعر الشاب حينذاك شعراً جديداً قائماً علي تقنية شعرية جديدة وروح جديدة (لئلا أقول مضموناً جديداً) منفتحة علي الإيديولوجيا الثورية والوعي الاشتراكي. حملت قصائده هذه رؤية مختلفة الى العالم انطلاقاً من الصدمة التي أحدثتها الحياة المدينية الحديثة والمجتمع الصناعي. وحملت القصائد أيضا رؤية مأسوية الى الناس أفرادا وجماعات، رؤية لا تخلو من الأمل او الرجاء الذي أذكته الثورة الاشتراكية.
لم يكن ناظم حكمت يميل كثيراً الى بناء نظرية شعرية كما يعبّر الناقد الروسي اكبر باباييف. لكنه لم يتوان عن كتابة بعض النصوص التي تعبّر عن رؤيته الى الشعر وعن فنّه الشعري. فالشاعر كما يعبّر كان يحس ان ثمة حاجة في قرارته للتعبير شعراً عن أمور لم تكن قيلت قبلاً. وبعدما عاش هموم الناس عن كثب وخصوصاً في الأرياف والمناطق وبعد إطلاعه علي مجريات الثورة الروسية بدأت تشغله مسألة البحث عن شكل شعري جديد يلائم المضمون الجديد. ويشير ناظم حكمت الى أنه بدأ العمل علي القافية ثم حاول ان يضع القوافي في ختام الأبيات مرة ومرة في بدايتها. ويعترف هو نفسه بالأثر الذي تركه فيه شكل القصيدة التي كان يكتبها ماياكوفسكي موزّعاً أبياتها علي الصفحة البيضاء وكأن الأبيات موجات إيقاعية تنسرح وتتردد. إلا ان ثورة ناظم حكمت الشعرية لن تقتصر علي الشعر الحر فهو دعا انطلاقاً من وعيه الثوري، الى حرية التعبير اياً يكن شكل هذا التعبير.
في هذا الصدد يقول: الشعر يمكن ان يكتب بالقافية ومن دونها، بالوزن ومن دونه، ويمكن ان يكون مفعماً بالصور أو من دون صور إطلاقاً، صارخاً بصوت مرتفع حيناً أو عبر الهمس حيناً. أما أبرز ما سعي إليه ناظم حكمت فهو ان يجعل الشعر شاهداً علي المراحل التاريخية المتعاقبة شكلاً ومضموناً. فالشعر بحسبه يجب ان يكتسب الشكل المنسجم مع هذه المرحلة التاريخية او تلك وعليه تالياً أن يأخذ بأكثر الأساليب مهارة.
لا يخلو شعر ناظم حكمت في معظم مراحله من مبدأ الصنعة. حتى قصائده المباشرة و التعليمية التي كتبها في أوج نضاله لم تخل من الصنعة او المتانة. لكن الصنعة هنا يجب ألا تكون بمثابة المأخذ علي الشعر بل هي التي تتيح للشاعر ان يحقق ما يسمّيه ولعاً بجعل الشكل متطابقاً مع المضمون. فالشكل في نظره ينبغي له ان يمنح المضمون مزيداً من الوضوح شرط ألا يطفو هو علي السطح كما يقول. وليس من المستهجن ان ينأى ناظم حكمت عن إغراءات الزخرف (او الباروك) والحذلقة والافتعال وأن يمعن في الإيجاز والاختصار حتى وإن كتب الكثير من الشعر الدرامي والملحمي.
قد يبدو الكلام الآن عن جدلية المضمون والشكل من إرث الماضي بعدما حررت الحداثة الشعر من مثل هذه الجدليات، جاعلة الشكل والمضمون جوهراً واحداً أو بوتقة واحدة. لكنّ ناظم حكمت لم يثر هذه الجدلية (التي كانت رائجة حينذاك) إلا ليؤكد تخطّيه إياها، فهو لم يكتب إلا ما يسمّيه شعراً حياً وعارياً. وأصرّ علي أن الشاعر الحقيقي لا يخضع لأي قاعدة فنية مطلقة وثابتة. التحول صفة أساس من صفات الشاعر، والشاعر - كل شاعر - إنما يظلّ يبحث حتى نهاية عمره. والخطأ هو من حقه فإن لم يخطئ يراوح مكانه. قد يكون في كلام ناظم حكمت هذا دليل واضح علي معني الثورة التي أحدثها لا في الشعر التركي ولا في الشعر الاشتراكي أو الأممي بل في الشعر العالمي أيضاً. ومثلما كتب عن الحبّ والحلم واليأس والأمل والشقاء والسلام والمنفي والحنين كتب ناظم حكمت قصائد قصيرة وقصائد ذات نفس ملحميّ ودراميّ. علي أن هذين النوعين اللذين خاضهما كانا مختلفين ظاهراً وليس في جوهرهما. علماً أن بعض قصائده القصيرة كانت تكتفي بأسطر قليلة أحياناً فيما تصل قصائده الملحمية والدرامية الى آلاف الأبيات. ومن تلك القصائد - الملاحم مناظر إنسانية التي ضمت أكثر من جزء (ملحمة حرب الاستقلال، في العام 1491 هذا...) وكذلك قصيدته الملحمية: ملحمة الشيخ بدر الدين وسواها...
كم تصعب قراءة شاعر في حجم ناظم حكمت، شاعر لم يعش حياته إلا شاعراً، في الوطن كما في السجن كما في المنفي. شاعر الحداثة والشعب، شاعر الثورة والغنائية، شاعر الجدلية المادية والماوراء، شاعر التاريخ والواقع. في إحدى قصائده الأخيرة يكتب ناظم حكمت قائلاً: إنني أحلّق هذا المساء/ أحلّق في الأعالي/ إنني في مرتبة اسمي/ من مرتبة ذلك الذي يسمع اصواتاً من اللانهاية... .
تري ألا يجب علي قراء الشعر في العالم ان يعيدوا قراءة ناظم حكمت بعيداً من القراءات الموجّهة و الأممية التي عوض ان تشرّع نوافذه العالية أمعنت في إغلاقها؟