غداً تحل الذكرى الأولى لرحيله. تحيّة فلسطينيّة، من غزّة، للشاعر الذي كان دليل الآخرين إلى القصيدة... اهتدوا به كلما زاد تورّطهم في مفاهيم الحداثة الشعرية
كلّ شاعر نتجاوزه كشعراء نشعر بأنّنا أشعر منه. وكلّ شاعر يتجاوزنا نعاود قراءته مراراً زاهدين أمامَه. وهذا الشقّ الأخير من الكلام ينطبق، مثلاً، على شعراء عرب أمثال أبو العلاء المعري والمتنبي وأبو تمام. نعاود قراءتهما بحبّ عميق وغبطة عالية، مسافرين في وجدان كل منهما بمتعة، وبحرص على تعميق انتمائنا إليهما. وهذا الأمر يجعلنا نتساءل كم من شاعر وسط هذا التدفق الحداثي للشعراء بالمعنى الزمني، نعاود قراءته بانتماء وجداني إلى شرف المعنى وعبوره الشامل المستغرق زمنَ الإنسان بجميع حواسّه ونضج قضاياه الجمالية والإنسانية؟
في هذه اللحظة، نتذكّر الشاعر سركون بولص (رحل في 23 من تشرين الأول/ أكتوبر2007)؛ فهو من طراز أولئك الشعراء الذين يتركون بصمة لا تمّحى. إنه الشاعر الذي يتجاوز سياج امتداحنا لمواهبنا، تاركاً فينا القمح بخفّة الخَجول المتواضع بدلاً من النرجس. فلا تغادرنا بهجةُ بقائه مستغرقاً فينا كشعراء نعاود قراءته، مِراراً بشغف وانتماء إلى شعره الذي بلا بلاغةٍ؛ لكنّه يسطع بالتراجيديا العراقية والإنسانية الشاملة. نعاود قراءته من باب الشغف والانتماء، لا من باب الإعجاب اللحظيّ.
سركون بولص (1944 ــــ 2007) يليق به اسم «البوصلة» بكلّ ما في الكلمة من معنى. فهو لم يكن دليل ذاته إلى القصيدة وحسب؛ بل دليل الآخرين إليها. ويليق به وصفُ «الأيقونة» لكن الحرّة خارج الحماية الزجاجية أو الرخاميّة. لا أيقونة المؤسّسة والكنيسة والحزب والسلطة، بل أيقونة الرصيف والطريق إلى القصيدة والحياة بالروح المتواضعة ذاتها، لا الطريق إلى الأبراج العاجية. كانَ كثيراً من اليقين الشعري الشفاف للأجيال التي بحثت عنه، وراحت تهتدي بـ«البوصلة»؛ كلما زاد التورّط والتوهان في مفاهيم الحداثة الشعرية، والكمّ الكثير.
إضافة إلى مجموعات سركون بولص التي قرأتها في السنوات الأخيرة، اعتادتْ سهام داوود، محررة فصليّة «مشارف» الحيفاوية، إرسال أعداد الفصلية بانتظام، من حيفا إلى غزة. كانت «مشارف» ذات هوى عراقيّ، تحوي - بل تركّز على - ملفات وقصائد لسركون بولص، وفاضل العزاوي، ومؤيد الراوي (من «جماعة كركوك») ولشعراء عراقيين كثر؛ إضافة إلى أدونيس وشعراء عرب آخرين، شيباً وشباناً. وفي ظل هذا التواصل الذي اقترحته المجلّة بين القارئ والشعراء، لم أكن أرغب في وضع الشعراء موقع المقارنة، لأنّ لكلّ شاعر نفَسَه وطريقته، بل متابعة ما يكتبون. لكنّني ما أن أفرغ من القراءة في ملفات كبيرة للشعراء؛ حتى أجد نفسي بلا حرَج أو تردّد أقول أولاً: دائماً سركون يتميّز عن غيره بشعره الحيويّ. إنّه الطفل والشابّ وشيخ الطريق الخاصة إلى القصيدة. إنّه يرهبنا بجمال قصائده، إذ يتحرّك ويتدفق تحت طبقة سميكة من رهبة الليل والسكون السحيق، لتمييز الذئاب وتقدير الخوف ــــ شعرياً ــــ من المجهول... مناجياً الله والخليقة وتربة العراق والموتى والأسلاف والجثث.
عند مطلع الفجر، كنتُ بيقين السهران ونشوتهِ أرى سركون. إنّ شعره لغذاء كامل الدسم للذائقة... وفي المساء، أقول انطباعاتي لشاعر صديق يكبرني بنحو عشرين عاماً، ذي خبرة وتجربة في تتبع التحولات والبطولات الجمالية التي أحدثها شعراء اللحظة المعاصرة.
نعم، سركون بطل من أمهر أبطال اللحظة الشعرية العربية المعاصرة. قد يكون هذا الرأي صادراً تحت تأثير الاندفاع العاطفي الذي يحدثه فينا الشعور بفقدان الأحباء؛ لكنني أراه رأياً ينتمي إلى تلك الذائقة المتفقة القائلة ببساطة سركون السحرية وعفويته المفارقة للتركيبة العراقية القاسية. عفوية طفل يفعل بالقارئ ما تفعله الغبطة في نفس المحبّ لشاعره الجميل، لا المريد لشيخه الجليل!
الاخبار
22 اكتوبر 2008