(اعتبروه أعظم كاتب في القرن العشرين ... والأكثر شجاعة)

مرفت عمارة
(مصر)

بيكيت(إنها كارثة)

هكذا كان أول تعليق لزوجته عندما علمت نبأ حصوله على جائزة نوبل!
أما هو فقد سمع الخبر بينما كان في رحلة إلي تونس، فقرر أن يترك تونس العاصمة إلي فندق مهجور في إحدى قراها بعيد عن ملاحقات الإعلام له.. كما رفض السفر لستوكهولم لاستلام الجائزة!
إنه صامويل بيكيت الذي يعتبره الكثير من النقاد أعظم أدباء القرن العشرين، والكاتب الأكثر شجاعة حسب وصف هارولد بنتر له، ويحتفل العالم هذه الأيام بمرور 100 عام علي ميلاده.
بدا بيكيت حياته الأدبية كناقد وأكاديمي، كتب دراسة هامة عن جيمس جويس، وأطروحة جامعية عن مارسيل بروست استطاع بعد إنجازها أن يلتحق بكلية ترينتي في أيرلندا، ولكنه لم يطق العمل الأكاديمي فقدم استقالته متفرغا للأدب فقط، فكتب مجموعة قصصية ( وخزات أكثر من ركلات)، ثم رواية ( مورفي)...ولكنه حقق شهرته في العالم كله بعد أن كتب مسرحيته الشهيرة ( في انتظار جودو) التي تدور حول شخصيات معدمة، مهمشة ومنعزلة تنتظر شخصا يدعي جودو ليغير حياتهم نحو الأفضل، وبعد فصلين من اللغو والأداء الحركي والحوار غير المتواصل لا يأت جودو أبدا. في جودو طرح بيكيت سؤال العصر، فخلف كآبة وفظاعة الوجود البشري يكمن العبث واللامعنى!
ورغم أن المسرحية كتبت في أوائل الخمسينيات إلا أن جودو لم يأت ويبدو أنه لن يأت أيضا، فعبث بيكيت أصبح الآن واقعا ، كابوسا يعيشه العالم بعد أن تحول إلي عالم من المجانين!
ولو كان بيكيت موجودا الآن لآثر الصمت، وفضل أن يعيش في إحدى دور المسنين كل حياته، وليس فقط شهوره الأخيرة حتى رحيله في 1989 مكتفيا بالتدخين ومشاهدة مباريات الكرة. كان سيدرك أن أية كتابة لن تستطيع أن تتجاوز ما نعيشه من عبث!
هذا الملف إحتفاء بالعابث الأعظم في التاريخ!

***

الإنسان لا يستطيع قول الحقيقة إلا لنفسه

ترجمة: شيماء سامي

وجدت نفسي بناء علي طلب قرائي المخلصين نيكولاس بانو وجورجي سيجال مطالبا بأداء مهمة صعبة ومستحيلة علي أي شخص عاقل. باختصار أنا مطالب بإجراء حوار مع رائد الأدب الحديث .. صامويل بيكيت . أن مجرد تفكيري أن أجري حوارا مع هذا الكاتب والشاعر الايرلندي والفرنسي في الوقت ذاته ضرب من الجنون. لقد حاولت المماطلة لبعض أسابيع قبل أن أقرر الاتصال به وأخيرا تمالكت شجاعتي وأمسكت بسماعة التليفون لتحديد ميعاد للمقابلة. ولكن التليفون كان مشغولا وظللت علي هذا الحال حتى وصلت عدد محاولتي إلي حوالي ألف مكالمة. وفي النهاية أجابني شخص صوته ساحر. أعتقد أنه المساعد الخاص للسيد بيكيت وصديقه المجهول الذي وافق علي إجرائي الحوار بشرط أن أذهب إليهما سريعا وأن أحضر معي سجائري وألا أدخنهم جميعهم. آه ! أنه علي صواب ! قلتها عندما تذكرت نتائج تدخيني الوخيمة أثناء لقائي مع مارسيل بروست عام 1922 وكنت لا زال شابا.
وتحت إصرار صديق بيكيت , كان اللقاء في مقهى قريب من منزله. وصلت مبكرا فقررت الذهاب في جولة سريعة لشراء بعضا من الجاتين من المتجر المواجهة للمقهى وبعدها ذهبت انتظر قدومه وطلبت فناجين من القهوة استعدادا لحضور بيكيت وربما لأعطي نفسي قدرا من الشجاعة. وطال انتظاري وبدأ الجميع ينظرون إلي نظرة تعجب واستغراب. وأخيرا وصل بكيت متأخرا علي غير المتوقع واحتسي القهوة ثم غادرنا المقهى دون أن يقول كلمة واحدة. وتابعته في صمت حتى وصلنا إلي فندق سوفيتل ثم عبرنا الشارع وصعدنا سلالم بدت مألوفة بشكل غريب. وبدأ بيكيت الكلام حتى ظننت أنه لن يسكت أبدا. كانت هذه مقدمة لابد منها لتهيئة الأجواء قبل الحوار المثير مع صموئيل بيكيت.

كسر الجمود

- بيكيت : نتكلم هنا
- بيكيت : يا الله ..لا
- بيكيت : ندخن
- بيكيت : ليس الآن.. لا
- بيكيت: تأكل جاتين
- بيكيت : لا.. ولكن نعم
- بيكيت : لقد ذهبت إلي السوبر ماركت من أجل ....
- بيكيت: سوف نشرب قهوة
- بيكيت: قبل اللقاء
- بيكيت: لقاء؟ لن أقوم بإجراء أي حوار. جيرار وفرانز .. كل هؤلاء العرائس المتحركة جعلوني أضيع وقني في حين أن الإنسان لا يستطيع قول الحقيقة إلا لنفسه. ولكني بالرغم من كل شي سأجري الحوار في النهاية.

الأب

- بيكيت : أهذا والدك؟
- بيكيت: والدي ؟!
- بيكيت: أنه أنا ؟
- بيكيت : أنت ! في ايرلندا بدبلن ...
- بيكيت : كما مر وقت طويلا
- بيكيت: إنني لا أتذكر! وأنت ؟
- بيكيت: أبي؟ أمي ؟ في نيويورك بكاليفورنيا
- بيكيت: أبي؟ في عام 1964 صورنا أبي عندما كنت أمثل دور القرد
- بيكيت: أتتذكر أنت ؟

أوهام كرب الأخيرة

- إنني بصدد الاستماع إلي هذا الغبي الفقير الذي تقمصته طيلة 30 عاما ولكنه لم يفهم ويستوعب إنني غبي بهذا الشأن. أو علي الأقل, انتهي كل شي. شكرا لله
- والعيون التي يمتلكها!
- كل شي كان هنا. تلك الجثة المتهالكة من الكوكب وكل الأضواء والظلم والجوع والمأدبة الضخمة.. للقرون ! نعم ! لنترك وراءنا ذلك.المسيح! فإن ذلك من الممكن أن يعكر صفو دراسته
الغالية! المسيح !
- بيكيت: والعيون التي يمتلكها !
- بيكبيت : في النهاية, قد يكون علي صواب. ليس لدس ما أقوله , لا شي علي الإطلاق . ماذا يعني اليوم كلمة سنة؟ اللعنة الدفينة. تذوق كلمة بكرة. بكرة! اللحظة الأكثر سعادة في آخر 500 ألف
سنة. لنقل أننا قد بيعنا 17 نسخة منهم 11 نسخة بسعر خرافي للمكتبات البلدية فيما وراء البحار. وربما ستصبح شخصا مهما ذات قيمة وتحصل علي 6 جنيهات استرليني وبعض البنسات وربما نصل إلي 8 جنيهات.
- بيكيت : والعيون التي يمتلكها !
- بيكيت: لقد أضاءت بصري لقراءة ايفي بالدموع , كل يوم صفحة. ايفي تري أكان سعيدا معها وهما سويا علي الكثبان الرملية وبجانبهما أشجار الصنوبر.. لا؟ وهي؟؟
- بيكيت: والعيون التي يمتلكها!

4 انتقلنا سويا ورقصنا

- بيكيت: أتتذكر عام 1953؟
- بيكيت : أترقص معي ؟
- بيكيت: كما رقصنا سويا من قبل؟
- بيكيت: أتدخل معي في مسابقة؟
- بيكيت: الأوراق علي أرض الغابة!
- بيكيت: حب مشتعل
- بيكيت: ولكنه يتجمد في شهر ديسمبر
- بيكيت: لنعود ونحترق للأبد
- بيكيت : وماذا يبقي ؟ ورود ذابلة
- بيكيت : أحلام مهجورة وحطام لأشخاص مضت
- بيكيت : كالسحاب.. ثم أين تذهب ؟
- بيكيت: إنني أفكر بالذهاب للأبد

وخز ياستك كالهون

- بيكيت : أهذه المعركة كانت في هاريسبرج؟
- بيكيتنستمر.ننا العودة ... يحب أن نستمر ... لا يمكنني الاستمرار

ذكريات...

البير شوازتر لامابرن
- بيكيت: بابا؟

كوب الرحيل

- بيكيت: أيتبقي معك نقود؟
- بيكيت : ولا قرش
- بيكيت: وماذا بعد؟ أعتقد أنها النهاية إذن.

*******

كان بيكيت يرفض دائما إجراء الحوارات الصحفية .. فازداد النقد اللاذع له فقرر أن يقطع لسان النقاد بإجراء حوار تخيلي مع نفسه ومع ذلك فشل في أن يكون محايدا فخرج الحوار بشكل كلامه غير مفهوم يحدث به نفسه فقط.

*****

ويحاور كافكا:

لقد جعلتني أشعر كما لو كنت حشرة
يسخر كافكا من كل شي في الدنيا! كل مرة أزور فيها براج , أقابله دائما. في الحقيقة, إنني لم ألتقي به يوما وجها لوجه قبل هذا اللقاء. أراه في كل مكان حولي .. صورته علي كل مباني براج..
علي هيئة التليفونات الكبرى وعلي مبني تسجيل التأمينات التشيكية ومكتب الإحصائيات الحيوية وقسم المواليد ومبني توثيق الزواج. أجده أمامي في مبني تسجيل المهاجرين وقسم شئون اليهود
وفي مكتب البوليس المركزي وفي المواصلات العامة وفي قسم المخالفات المرورية وقسم الجنح وقسم الجنايات والتحريض والجريمة. كافكا موجود في كل شبر علي أرض براج علي حوائط المدرسة الابتدائية والثانوية.
ميعادي معه كان يوم الثلاثاء في الرابعة في مطعم صغير ولكنه مؤثث جيدا يبعد بعض دقائق من منزله. وصل فراثنز في وقته بالضبط وسأل عني ثم جاء وجلس في مواجهتي. لم يتفوه بكلمة واحدة
وبدا كما لو كان دجاجة مريضة كيفما يبدو في الصورة بأعلى. ألقي كافكا نظرة علي قائمة الطعام ثم طلب رغيف عيش وزبدة ومياه معدنية، أما أنا, فقد طلبت فرخة مشوية بالجنية والمشروم وشوربة طماطم وشوربة اليوم وسلطة خضراء وسلطة الشيف وسمك وتونة وسالمون مدخن وديك رومي وبيفي وجمبري ونبيذ أحمر وأبيض وفراولة وجزر وطماطم وفلفل وذرة فشار وهامبورجر كندي وأرز أبيض وأسمر ومياه وصودا . وعندما انتهيت من طلبي و نظر إلي كافكا من طرف خفي وقال لي بلهجة مليئة بالسخرية: أعتقد أن ذلك لن يكفيك .. فما طلبته لقمة صغيرة. وسريعا أجابته: بالفعل فقد تناولت غذائي متأخرا!.
وعندما انتهينا من الغداء , قررت إنني حقيقة لا أحب هذا الرجل. وفوجئت قلت: أقول له كل ما أعرفه عنه وكل ما قرأته عنه وكل ما أعلمه عنه من عاداته السيئة. استغرق مني ذلك وقتا طويلا حوالي 3 ساعات ونصف. وأخيرا, قام كافكا واقفا وعينيه مليئة بالدموع يبدو كما لو كان مريضا وقال لي : لابد أن أذهب الآن . لقد جعلتني أشعر كما لو كنت حشرة . وسريعا قلت : هذا شي سيئي جدا يا صديقي! وهنا أدركت أنه ليس لمجرد أنك تتشابه مع شخص أن هذا يعني بالضرورة أنه يجب أن تشعر بمثل شعوره! وعندما ذهب كافكا , جلست وحيدا أضحك علي غبائي ثم تقيأت .

*****

في عيون الأدباء والمفكرين
أعظم مسرحي في العالم

قال عنه المسرحي الكبير إدوارد البي.. أعتقد أن هناك أربعة من كتٌاب المسرح في القرن العشرين، لولاهم ما كان يمكن لنا أي انجاز وهم: شكسبير، بيرانديللو، بريخت، بيكيت، وبفضل هؤلاء الأربعة أصبح لدينا تغطية شاملة لقرن كامل.
تلك الكلمات وغيرها يمكن اعتبارها انحناءة تقدير واحترام لذلك الأديب العملاق الخجول، الذي كانت شهرته في إطالة الصمت في نص مسرحياته، تماثل الاستخدام البليغ للمواقف الدرامية غير المتوقعة ويظهر اهتمامه بلحظات الصمت من إجابته عن سؤال حول أكثر ما يحبه في مدينته المفضلة برلين فقال: 'الفراغات بين المنازل''.
وقد أصدرت دور النشر الكبرى مجموعة هائلة من أعمال بيكيت بالإضافة إلي الدراسات الهائلة عن تلك الأعمال، مثل تلك الصادرة عن دار شوميكر هاوارد والتي تحمل عنوان 'كيف كان'، تحوي ذكريات شخصية لكاتبته 'آن آتيك' وزوجها 'آفيدور ريمان' خلال صداقة استمرت عشر سنوات بباريس.
أما دار نشر 'جروف برس' والتي كانت ناشر بيكيت لسنوات طويلة، فقد نشرت أجزاء أربعة جديدة تحوي جميع مسرحيات بيكيت ورواياته، وأشعاره، وقصصه القصيرة، والمقالات التي كتبها.. بالإضافة لأول رواية كتبها وهي 'Dream of Fair To Middling Women' وأول مسرحية وهي 'Eleutheria' وكلتاهما لم تنشرا إلا بعد وفاته، لكن لايزال أبدع ما نشر لبيكيت هو الصادر عن دار نشر 'جروف' حيث أصدرت مؤخرا مسرحيته الشهيرة 'في انتظار جودو' باللغتين الفرنسية مع ترجمة بيكيت لها بالإنجليزية بتقديم لإدوارد البي الذي قال: 'إن بيكيت استحدث شكلين أدبيين جديدين تماما، هما الرواية والمسرحية، وفعل ذلك بشيء قليل من الجهد، وان امتداد عمق تأثيره علي كتابة المسرحيات في الحاضر والمستقبل لايزال محيرا، ويبدو أن له تأثيرا عمليا أكبر من أي شيء يكتبه النقاد'.
وعلي الرغم من زعم 'البي' أن أعظم مسرحيات بيكيت هي آخر أعماله الموجزة أو كما قال: 'إن الإيجاز لتلك الدرجة هو أفضل إنجاز' وأنه في مسرحيات أخري مثل جودو، و'أيام سعيدة' زاد من صعوبة الحكم علي مستوي الدراما في ذلك الوقت.
كما أن جريدة 'نيويورك تايمز' حينها أجرت استفتاء بين عدد من كتاب الدراما حول تأثير بيكيت علي كتاباتهم، جاءت إجابات كثيرين منهم ضده مثل توني كيشنر الذي قال: 'بيكيت مثل شكسبير، شديد الخطورة، لأن تأثيره مقنع باكتساح وتمكن'.. كما جاءت الإجابات بطرق عديدة مشحونة بردود أفعال متباينة تجاه والده الروحي جيمس جويس الذي ظهرت علاقته به في كتاب 'Remembring' الذي يحوي حوارات أجراها جيمس نولسون راوي سيرته الذاتية، متتبعا حياته بداية طفولته المنعمة كأحد ساكني الضواحي، متغلغلا داخل علاقاته مع أتباع جويس في باريس، وفشله في تدريس المهنة، ثم الانضمام للمقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، وقسوة الاختباء من النازي، ثم نجاحه بعد الحرب، وحياته ككاتب شهير معارض، بالإضافة إلي عشقه للرياضة، بداية من الجولف والرجبي والتنس والكريكت وحتى الشطرنج، كما يحوي كثيرا من الشهادات حول عاداته، واتساع نطاق معرفته، وقوة ذاكرته، وشغفه بقراءة الشعر، واقتباسه لمقاطع شعرية طويلة من 'دانتي' و'بترارك' بالإيطالية، وكثير من الأدب الألماني، والإنجيل بلغات متعددة، وشكسبير، وميلتون، وريمبود، وكيتس، ويتز ونيرودا وغيرهم.
كما كان أكثر من تأثر بهم 'راسين' و'بروست' وكان يحفظ عن ظهر قلب كلمات أغاني وأوبريتات جيلبرت وسوليفان، ويكن الإعجاب لصامويل جونسون، علاوة علي أن ذاكرته البصرية في حفظ تفاصيل اللوحات مدهشة بحق، كما أن انغماسه في الموسيقي منذ نعومة أظفاره يدهش الدارسين لمسرحياته، حين وصفه الممثلون بإدارة بروفات مسرحياته مثل قائد فرقة موسيقية، يحرص علي ضبط الإيقاع الصوتي للكلمات، كأنها مقطوعة موسيقية.
وقد ظهر في سيرته الذاتية عامل مهم ربما كان سببا في حفظ تراثه خالدا، وهو استمتاعه بكل ما في الحياة، الموسيقي والأدب والرياضة والصداقة، وحتى الويسكي! وربما فاجأ ذلك من يعتبرونه كاتبا صارما ويقولون ان كتاباته بعيدة حتى عن الخيال، وعلاقات أشخاصه تدور حول مدلول ما بين الحياة والموت، بينما هي في الحقيقة مشحونة بأحاسيس من الكوميديا الإنسانية.
أو كما كتب سلمان رشدي في مقدمة كتاب ضم مجموعة من رواياته عن جروف: 'أؤكد بشدة أن تلك الروايات، رغم أن موضوعها الظاهري هو الموت، إلا أنها تضج بالحياة، إنها معركة العمر ضد تأثير الحياة، رغم ظهور ندبات الحياة قرب نهايتها إلا أنها تظهرها عفنة وتافهة'.

*****

كشف أدبي:
مسرحيته التي لم تكتمل .. صفحات من الأبيض!

رشا عبدالوهاب

بعد أسابيع قليلة من الاحتفال بالذكري المئوية لمولد الكاتب المسرحي صامويل بيكيت، حلل أمناء محفوظات أوراق من ممتلكاته في باريس كشفت عن وجود مجموعة من الأوراق لمسرحية غير مكتملة ، أكد الخبراء أنها المثال الأخير لعبقرية الكاتب الايرلندي الأصل في وقت متأخر من حياته .
وأشار فينتان أودونوجو أستاذ الأدب الايرلندي بجامعة ترينتي إلي أن المسرحية تعرض لما يمكن تسميته بسهولة مشهد افتتاحي تراجيدي غير مألوف . إن الثلاث وعشرين صفحة والتي رجح الخبراء الأدبيون أنها مسرحية من فصلين كتبت في الفترة ما بين 1973 و 1975 اعتبرت بالفعل من الأعمال الطموحة لكاتب الحائز علي جائزة نوبل ومؤلف في انتظار جودو وكذلك تطور طبيعي لأعماله الأولي ومن ضمنها تنفس التي صدرت عام 1969 وهي مسرحية تستغرق ثلاثين ثانية بدون شخصيات و مسرحية لست أنا عام 1972 التي يمثل الجزء المضاء الوحيد فيها علي المسرح فما متحركا . وأكد اودونوجو أنه كان قرار متعمد من السيد بيكيت ، هذه الأوراق ملحوظة.والمنتظمة غير المسطرة والتي ترمز إلي تجريد وفراغ الحياة حيث تركها غير مجلدة أو موسومة بعلامات وغير ملموسة حتى ولو كان علي سبيل التجهيل وإغفال اسم رجل القرن العشرين ، فقد تم العثور علي هذه الأوراق بين صفحات أخري من أوراق . وأضاف أستطيع أن استنتج فقط أننا عثرنا بالصدفة علي شيء له قيمة ملحوظة .
ووفقا للناقد الأدبي ايريك ماثيسون الذي امتدح العمل كتركيب مجرد وتكرار مجرد لما يمكن وصفه ب العدم . المسرحية تصوقفة. نحو ما انتقال من أعمال الفترة الوسطي لبيكيت ، لكنها ، ربما تمثل صامويل بيكيت في أفضل أعماله .و أوضح ماثيسون أن المسرحية تميز عناصر بيكيت الكلاسيكية المحددة مثل اتجاهات المسرح المتنوعة ومنها خاصية التجهيل الملغزة والبناء البطيء للتوتر بدون وعد بالإنقاذ والتصوير القاسي للحالة الإنسانية .لكن التصريح الاعتيادي لبيكيت بالإرادة الصارمة في الحياة واحتمالية الهروب من اللامبالاة الفارغة التي تحيط بنا هو المفقود، وكون هذه رؤيته أشك في أنه استخدم ورقا مثقوبا
وتوصل الخبراء إلي أن المسرحية المكونة من ثلاثة وعشرين صفحة كان الهدف منها أن تعنون خمس محادثات والافتتللعمل. وقفة .بالإضافة أنه تم العثور علي وثيقة من 81 صفحة فارغة أيضا لكل الأغراض والأهداف ربما كانت المسودة الأولي للعمل .
قال أودونوجو إنه يشك في أنها بداية لفيض من المحاولات المتعمدة ، وقد وجدت الأوراق غير مرتبة بين أغراض بيكيت الشخصية وأخذت أربعة أيام من العمل المتواصل لترتبيها.
في مسرحيته الأخيرة وضع بيكيت علامته التجارية للحصول علي جوهر ما كان يحاول ألا يقوله . بعض المؤرخين مع ذلك اكتفوا بالقول عن المسرحية إنها ربما تكون عمل لأحد الكتاب الذين كان بيكيت يرعاهم .
من جانبه أكد كاتب السير الذاتية نيل جلياسون أنه حتى من خلال الفكرة الرئيسية والحس المفرط في الفكاهة في هذه المسرحية الذين يقودان إلي الاعتقاد بشكل متخيل بأنها مسرحية قديمة لبيكيت وفي الحقيقة ربما تكون عمل لصديق بيكيت المقرب ريك كلوشي .وأشار إلي أنه لو كان بيكيت كتب المسرحية فأنها لن تكون خارج عالم من الاحتمالية الذي يعيطه سخرية لاذعة حيث يكون المقصود منها أن تقدم كنكتة . إذا كان بيكيت حيا اليوم ربما أصر علي أنها لم تكن مسرحية علي الإطلاق وأنها ربما تكون حكاية قصيرة أو سيناريو .
المتحمسون مازالوا يؤكدون أن الفروق الضئيلة غير الملحوظة والدقة والإشارات الضمنية بالنسبة لأعماله السابقة كلها بشكل لا يقبل الخطأ هي لبيكيت ، ويصرون أيضا أنهم وجدوا ملاحظات و أفكار لهذه المسرحية في هوامش الأعمال الأولي لبيكيت وأنه كان هناك بالفعل خطط لعرض المسرحية خلال توقف في انتظار جودو .

*****

من عمل مهجور

ترجمة: وائل عبدالواحد

كان الوقت مبكرا والشمس كانت ساطعة تماما في ذلك اليوم ، كنت صغير السن وقتها ، يملؤني شعور سيئ ، وكنت في الخارج ، تتدلي أمي من النافذة مرتدية قميص نومها ، تبكي وتلوٌح. صباح صحو لطيف، الشمس ساطعة قبل أوانها بكثير كما يحدث كثيرا. شعور سيئ يملؤني ، شعور عنيف جدا. سوف تظلم السماء قريبا ويهطل المطر، ويستمر في الهطول، طيلة اليوم، حتى المساء. ثم الأزرق والشمس مرة أخري لدقيقة ، ثم الليل. مستشعرا كل هذا، العنف وطبيعة اليوم، توقفت والتفت. مستديرا ورأسي محني باحثا عن قوقعة، أو يرقة، أو دودة. حب كبير يملأ قلبي لكل الأشياء الساكنة ذات الجذور ، الأدغال ، الصخور وما شابه ، أكثر عددا من أن أذكرها ، حتى أزهار الحقول ، لا يمكنني أن أمس أيا منها ، أن أقطفها من أجل العالم بأسره حتى ، إذا كنت في حالتي الطبيعية. بينما طائر الآن، أو فراشة، ترفرف حولي وتعترض طريقي، كل ما يتحرك، يقطع عليٌّ طريقي، يرقة الآن، تحت قدمي، لا، لا رحمة. ولا يعني ذلك أنني سأخرج عن مساري كي أهاجمهم، لا، فغالبا ما يبدوا ساكنين من بعيد، ثم بعد ذلك بثانية يهاجمونني. طيور رأيتها بعيني الثاقبتين تحلق عاليا جدا، بعيدا جدا، حتى بدت في راحة، ثم في اللحظة التالية تهاجمني كلها، لقد فعلت الغربان ذلك. ربما البط هو الأسوأ، أن تزل وتتعثر بين البط، أو الدجاج، أي طبقة من الدواجن، القليل من الأشياء يمكن أن يكون أسوأ. لن أخرج عن طريقي أيضا من أجل تجنب مثل هذه الأمور، حين يمكن تجنبها، لا، ببساطة لن أخرج عن طريقي، رغم أنني في حياتي لم أكن أبدا علي طريقي في أي مكان، بل ببساطة علي طريق. وعلي هذا النحو سرت عبر أدغال كثيفة ، وسال دمي ، وعميقا في المستنقعات ، والماء أيضا ، حتى البحر في بعض أطواره وججرفتج بعيدا عن مساري ، أو رجددتج علي أعقابي ، كي لا أغرق. وهذا هو ربما طريق موتي في النهاية لو لم يقبضوا عليٌّ، أعني غرقا، أو محترقا في نار، نعم، ربما هذا هو كيف سأفعلها في النهاية، أمضي قدما في نوبة غضب إلي النار وأموت محترقا إلي قطع صغيرة. ثم رفعت عينيٌّ ورأيت أمي مازالت في النافذة تلوٌح، تشير لي بأن أعود أو أن أمضي لا أدري، أو ربما تلوٌح فقط، بحب حزين بلا حيلة، وسمعت صرخاتها خافتة من بعيد. كان إطار النافذة أخضر ، باهتا ، جدار البيت رمادي وأمي بيضاء ونحيفة جدا لدرجة أستطيع معها أن أري عبرها (كان لي نظر حاد وقتها) في ظلام الحجرة ، وفي تلك الشمس الكاملة التي أشرقت منذ وقت غير بعيد ، وكل شيء صغير بسبب المسافة ، كان كل شيء جميلا جدا فعلا ، أتذكر ، الرمادي العتيق ثم الأخضر الرفيع المؤطِر والأبيض الرفيع أمام خلفية داكنة ، فقط لو كانت تستطيع الركون إلي السكون وإعطائي فرصة النظر لكل شيء. لا، لوهلة أردت أن أقف وأنظر في شيء لم أستطع تبينه مع تلويحها ورفرفتها وتمايلها دخولا وخروجا من وإلي النافذة كما لو كانت تمارس بعض التمارين الرياضية، وربما ذلك هو ما كانت تفعله فعلا، غير مكترثة بيٌّ علي الإطلاق. بلا تصميم علي هدف، ذلك كان أمرا آخر لا يروقني فيها. في أسبوع يكون شغلها الشاغل التمرينات الرياضية، ثم الصلاة وقراءة الإنجيل في الأسبوع التالي، ثم العناية بالحديقة في التالي، ثم العزف علي البيانو والغناء في التالي، كان ذلك فظيعا، ثم مجرد التمدد والاسترخاء، دائما في تغيٌر. ولا يعني ذلك أن الأمر عني أي شيء بالنسبة لي، لقد كنت في الخارج دائما. لكن دعوني الآن أكمل اليوم الذي اخترت أن أبدأ به، أي يوم آخر كان سيفي بالغرض أيضا، نعم، فلأكمله ولأخرج من طريقي إلي آخر، يكفي هذا فيما يخص أمي الآن. ثم كان كل شيء علي ما يرام لمدة، لا مشاكل، لا طيور تهاجمني، لا شيء يعبر طريقي سوي من علي بعد كبير يلوح حصان أبيض يتبعه صبي، وربما كان رجلا صغيرا أو امرأة صغيرة. هذا هو الحصان الوحيد الأبيض تماما الذي أتذكره، كان ما يسميه الألمان Schimmel، آه، لقد كنت ذكيا جدا حين كنت طفلا وجنيت الكثير من المعرفة الصعبة، Schimmel، كلمة لطيفة، بالنسبة لمتحدث باللغة الإنجليزية. كانت الشمس ساطعة فوقه ، كما كانت ساطعة فوق أمي منذ وقت قصير ، وبدا كما لو كان لديه شريط أو حزام أحمر يتدلي من جانبه ، ظننته حزام بطنه ربما ، وربما كان الحصان في طريقه لمكان ما يتم فيه عمل سرج له ، إلي كمين أو ما شابه. عّبّرّ مساري علي بعد كبير، ثم تلاشي، خلف المساحات الخضراء علي ما أعتقد، كل ما لاحظته هو الظهور المفاجئ للحصان، ثم الاختفاء. كان أبيض يضوٌي، والشمس فوقه، لم أر حصانا مثل هذا من قبل، رغم أنني سمعت عنهم، ولم أر مثيلا له بعد ذلك. يجب أن أقول أن الأبيض كان له دائما تأثير كبير عليٌّ ، كل الأشياء البيضاء ، الملاءات ، الحوائط إلي آخره ، وحتى الأزهار ، والأبيض وحده ، فكرة الأبيض ، بلا أي شيء آخر. لكن دعوني أكمل هذا اليوم وأنتهي منه. كل شيء كان علي ما يرام بعد ذلك لمدة قصيرة، فقط العنف ثم الحصان الأبيض، حين سقطت فجأة في أكثر موجات الغضب توحشا، نوبة أعمتني تماما. أما عن سببها فلا علم لي، تلك النوبات المفاجئة من الغضب الشديد، لقد جعلت حياتي بائسة. أشياء أخري كثيرة فعلت ذلك أيضا ، احتقان حلقي علي سبيل المثال ، لم أعرف أبدا كيف يكون الحال بلا حلق محتقن ، غير أن نوبات الغضب كانت هي الأسوأ ، كعاصفة عاتية تهب داخلي فجأة ، لا ، لا أستطيع وصفها. لم يكن الأمر هو ازدياد العنف سوءا علي أي حال ، لا شيء يتعلق بذلك الأمر ، في بعض الأحيان يداخلني ذلك العنف طيلة اليوم ولا تنتابني أي نوبة غضب ، وفي أيام أخري هادئة تماما بالنسبة لي تنتابني أربع أو خمس. لا، لا يمكن تفسير ذلك، لا يمكن تفسير أي شيء، بعقل مثل ذلك الذي كان لي دائما، متنبها دائما ضد نفسه، سأعود لهذا الأمر ربما حين أشعر بضعف أقل. كان ثمة وقت حاولت الحصول فيه علي الراحة بضرب رأسي في أي شيء، لكنني كففت عن ذلك. أفضل ما وجدت هو البدء في الجري. ربما عليٌّ أن أذكر هنا أنني كنت أمشي ببطء شديد، خطوات قصيرة والقدم تخطو ببطء شديد عبر الهواء. ومن ناحية أخري من المؤكد أنني كنت من أسرع العداءين الذين شهدهم العالم علي الإطلاق ، في المسافات القصيرة ، أربع أو خمس ياردات ، كنت أصل في ثانية. لكن لم يكن يمكنني الاستمرار بهذه السرعة ، ليس بسبب تقطٌع أنفاسي ، كان الأمر ذهنيا ، كل شيء ذهني ، تلفيقات. أما بالنسبة للمشي الرياضي، لا يمكنني فعل ذلك بنفس القدر الذي لا يمكنني به الطيران. لا ، كان كل شيء بطيئا بالنسبة لي ، ثم تلك الالتماعات ، أو التدفقات ، نفٌس عن المحبوس ، كانت هذه واحدة من تلك الأشياء التي اعتدت قولها ، مرارا وتكرارا ، نفس عن المحبوس ، نفس عن المحبوس. من حسن الطالع أن أبي مات حين كنت صبيا، وإلا ربما كنت قد أصبحت أستاذا جامعيا، لقد عقد عزمه علي ذلك. وكنت باحثا جيدا أيضا ، بلا تفكير ، فقط بذاكرة حادة. أخبرته يوما عن بنية الكون في أعمال ميلتون ، عاليا كنا في الجبال ساعتها ، نريح ظهرينا بالاستناد علي صخرة ضخمة تطل علي البحر ، لقد أعجبه ذلك كثيرا. والحب أيضا، غالبا في أفكاري، حين كنت صبيا، لكن ليس بقدر كبير بالمقارنة بالصبية الآخرين، ووجدت أن الأمر كان يبقيني مستيقظا. لا أظن أنني أحببت أي أحد، كنت لأتذكر ذلك. فقط في أحلامي ، وفيها كنت أحب حيوانات ، حيوانات حلمية ، لا تشبه أبدا تلك التي تراها تهيم في الريف ، لا أستطيع وصفها ، كانت حيوانات بديعة ، بيضاء غالبا. الأمر ربما كان مثيرا للشفقة علي نحو ما ، ربما كانت امرأة جيدة قد غيرت حياتي ، ربما كنت متمددا في الشمس الآن أمص الغليون وأربٌت علي مؤخرات أحفادي ، ينظر لي بإجلال واحترام ، أتساءل ما الذي سنأكله علي العشاء ، بدلا من الهيام في الطرق ذاتها في كل الظروف المناخية ، لم أكن شخصا يبحث عن طرق جديدة أبدا. لا، لا أندم علي أي شيء، كل ما أندم عليه هو أنني وجلدت، الموت عملية طويلة مضنية هذا هو ما وجدته دائما. لكن دعوني أكمل الآن من حيث توقفت، الحصان الأبيض ثم نوبة الغضب، لا أعتقد أن هنالك صلة بينهما. لكن لِمّ أخوض في كل هذا، لا أعرف، سأنتهي في يوم ما، لماذا ليس الآن. لكن هذه محض أفكار، ليست لي، لا يهم، يجب أن أخجل من نفسي. أنا الآن عجوز وضعيف ، أهمهم متألما وواهنا لماذا ثم أصمت ، وتتعالي الأفكار القديمة فيٌّ وتخرج في صوتي ، الأفكار القديمة التي ولدت وشبت معي ووضعتها تحت السيطرة ، هاكم أخري. لا ، فلأعد لذلك اليوم البعيد ، لأي يوم بعيد ، ومن الأرض الداكنة المبذولة إلي أشيائها وإلي السماء ترتفع العيون ثم تغض طرفها ثانية ، ترتفع ثانية ثم تنخفض ثانية ، والأقدام ذاهبة إلي لا - مكان ، لكن إلي البيت بشكل ما ، في الصباح تترك البيت وفي المساء تعود ثانية ، ورنة صوتي تهمهم اليوم بطوله بنفس الأشياء القديمة التي لا أستمع لها ، لم تعد حتى ملكي في نهاية اليوم ، كقرد صغير يجلس فوق كتفي بذيله كثيف الشعر ، يرافقني. كل هذا الكلام، بصوت خشن وضعيف، ليس من الغريب أن يحتقن حلقي. ربما يجب أن أذكر هنا أنني لم أتكلم أبدا مع أي شخص، أظن أن أبي كان أخر شخص تكلمت معه. أمي كانت علي نفس الشاكلة، لم تتحدث أبدا، لم تعطي ردا أبدا، منذ موت والدي. طلبت منها المال، لا أستطيع أن أتراجع عن ذلك الآن، من المؤكد أن تلك كانت كلماتي الأخيرة لها. أحيانا كانت تزعق بي ، أو تتوسل ، لكن ليس لوقت طويل أبدا ، فقط زعقات قليلة ، ثم إذا نظرت إليها تنطبق شفتاها النحيفتان العجوزان المسكينتان علي بعضهما ويلتفت الجسد بعيدا عني وتنظر لي من طرفي عينيها فقط ، لكن كان ذلك نادرا. أحيانا كنت أسمعها في الليل، أظن كانت تكلٌم نفسها، أو تصلي بصوت مرتفع، أو تقرأ بصوت مرتفع، أو ترتل أورادها، تلك المرأة المسكينة. حسنا ، بعد الحصان الأبيض ونوبة الغضب لا أعرف ، فقط سرت قدما ، ثم أظن جاءت الانحناءة البطيئة ، مائلا جهة أحد اليدين ، حتى أواجه المنزل ، ثم المنزل ذاته. آه أمي وأبي، أن أفكر أنهما ربما كانا في الجنة، لقد كانا طيبين جدا، فلأذهب أنا إلي الجحيم، هذا هو كل ما أرجوه، وهناك أواصل لعناتي لهما، وهما ينظران إلي أسفل ويسمعاني، ربما أخذ ذلك من بريق البركة التي حلت عليهما. نعم ، أصدق كل هرائهما عن الحياة الأخرى ، يدخل ذلك على نفسي السرور ، وتعاسة مثل تعاستي ، لا يمكن إبادة ذلك. لقد كنت مجنونا بالطبع ومازلت ، لكن لا ضرر مني ، اعتبرني الجميع كذلك ، هذه مزحة جيدة. وفي الحقيقة لم أكن مجنونا حقا، فقط غريبا، غريبا قليلا، وأزداد غرابة مع كل عام ينصرم، يمكن أن يكون هنالك القليل جداالبداية،نات الأكثر غرابة مني في هذا اليوم الحاضر. أبي، هل قتلته هو أيضا كما قتلت أمي، ربما فعلت ذلك بشكل ما، لكن لا أستطيع أن أخوض في هذا الآن، أكثر ضعفا وأكبر سنا من أن أستطع ذلك. يطفو السؤال بينما أمضي ويتركني مرتبكا تماما ، أنا أتفتت. فجأة تنطالشاكلة،ة ، لا ، تطفو ، من عمق قديم ، تحوم وتتلكأ قبل أن تتلاشي ، تلك الأسئلة التي لم تكن لتبقي لثانية واحدة إن كنت في حالتي الطبيعية ، لا ، كانت لتتفتت إربا ، قبل تكونٌها حتى ، تتفتت إربا. تأتي أزواجا في الغالب ، أحدهما في عقب الآخر ، هكذا ، كيف سأستمر ليوم آخر؟ ثم ، كيف واصلت حياتي ليوم آخر أبدا؟ أو ، هل قتلت أبي؟ ثم ، هل قتلت أي شخص من قبل؟ علي هذه الشاكلة ، أعتقد أنه يمكنك أن تقول أنني أخرج إلي العام من الخاص ، السؤال والجواب أيضا علي نحو ما ، مربك جدا. أصارعهم علي قدر ما أستطيع، أسرع من خطوي حين تطرح نفسها، هازا رأسي من جانب لآخر ومن أعلي لأسفل، محملقا برعب في هذا وذاك، محولا همهماتي لصرخات، تلك أمور تساعد. لكن لا يجب أن تكون ضرورية ، شيء ما خطأ هنا ، لم أكن لأهتم كثيرا لو أنها النهاية ، لكن كم مرة قلت ، في حياتي ، قبل حدث جديد فظيع ، هي النهاية ، ولم تكن النهاية ، ومع ذلك فلا يمكن أن تكون النهاية بعيدة الآن ، سأقع بينما أسير وأظل ممددا أو ألتف حول ذاتي وأقضي الليل كما العادة بين الصخور وقبل أن يحل النهار أكون قد مضيت. أعرف أنني سوف أنتهي أنا أيضا ويكون حالي كحالي قبل أن أولد ، فقط أكون قد انتهيت بدلا من أن أكون في الانتظار ، يسعدني هذا ، الآن غالبا ما تتلعثم همهماتي وتموت وأبكي من السعادة بينما أمضي وبسبب الحب الذي أكنه لهذه الأرض العجوز التي حملتني طويلا والتي سأكتسب قريبا نزوعها لعدم الشكوى. فقط تحت السطح سوف أكون، بكاملي في البداية ، ثم أنفصل وأنساب ، عبر الأرض بكلٌِيٌّتها وربما في النهاية من هاوية جبل نحو البحر ، شي ما مني. عشرات من الديدان في فدان ، هذا خاطر رائع ، عشرات من الديدان ، أصدق ذلك. من أين أتي لي ذلك الخاطر ، من حلم ، أو من كتاب قرأته في ركن خفي في طفولتي ، أم من كلمة سمعتها عرضا بينما أمضي ، أو كان داخلي طوال الوقت مختبئا حتى يأتي الوقت الذي يستطيع أن يسعدني فيه ، هذه هي صنف الأفكار المرعبة التي عليٌّ مصارعتها في طريقي كما قلت. والآن ليس ثمة شيء أضيفه لهذا النهار مع الحصان الأبيض والأم البيضاء في النافذة ، أرجوكم اقرءوا وصفي لهما من جديد ، قبل أن أنتقل ليوم آخر جاء في وقت لاحق ، لا شيء أضيفه قبل أن أعدو في الزمن مخلفا المئات بل والآلاف من الأيام علي نحو لم أكن أستطعه وقتها ، بل كان عليٌّ أن أجتازها بشكل ما حتى وصلت لذلك اليوم الذي سأبدأ في الحديث عنه الآن ، لا ، لا شيء ، كل شيء ذهب إلا أمي في النافذة ، العنف ، نوبة الغضب والمطر. لأمضي إذن إلي اليوم الثاني ولأنتهي منه وأبعده عن الطريق وأمضي لليوم التالي. ما يحدث الآن هو أنني مطارد من عائلة أو قبيلة ، لالموت،، من حيوان القاقم ، شيء غير عادي تماما ، أعتقد أنهم كانوا حيوانات قاقم. وبالتأكيد إذا كان لي أن أقول ذلك أعتقد أنني كنت محظوظا بما يكفي لأن أنجو بحياتي ، تعبير غريب ، لا يبدو صحيحا علي نحو ما. أي شخص آخر كان ليتعرض للعض وتسيل منه الدماء حتى الموت ، ربما يمتصون دمي حتى أكتسي باللون الأبيض ، مثل أرنب ، ها هي كلمة أبيض ثانية. أعرف أنني لم يكن بوسعي التفكير أبدا ، لكن لو كان باستطاعتي ذلك ، كنت قد تكومت وتركت نفسي تدمّر ، كما تفعل الأرانب. لكن دعوني أبدأ كما العادة بالصباح والخروج. حين يعود يوم ، بصرف النظر عن السبب ، يعود صباحه ومساءه أيضا ، رغم أنه لا يوجد ما يميزهما في حد ذاتهما بأي شكل ، الخروج والعودة للمنزل ، هنالك شيء أجده جديرا بالملاحظة. مستيقظا إذن وقتها في لون الفجر الرمادي ، ضعيفا جدا ومهزوزا بعد ليل قاسي أحلام قليلة تلك التي في مخزوني ، أخرج وأبتعد. أي وقت من أوقات العام ، حقا لا أعرف ، وهل ثمة فرق. لم تكن الأرض مبتلة تماما ، لكنها كانت تمطر مطرا خفيفا ، كل شيء ينز منه المطر ، ربما يبزغ النهار ، هل بزغ ، لا ، قطرات قطرات تسقط طيلة اليوم ، لا شمس ، لا تغيٌر في درجة الضوء ، مظلمة طيلة اليوم ، وساكنة ، ما من نفس ، حتى الليل ، ثم الأسود ، والقليل من الريح ، رأيت بعض النجوم ، بينما أقترب من المنزل. عصاي بطبيعة الحال ، بفعل مشيئة رحيمة ، لن أقل هذا مرة ثانية ، حين لا أذكرها فعصاي في يدي ، بينما أمضي. لكن ليس معطفي الطويل ، سترتي فقط ، لا أستطيع احتمال المعطف الطويل أبدا ، يحتك بساقيٌّ ، أو بالأحرى انقلبت ضده فجأة ذات يوم ، مججته علي نحو مفاجئ عنيف. أحيانا كثيرة حين أرتدي ملابسي كي أخرج أخرجه وأرتديه، ثم أقف في منتصف الحجرة غير قادر علي الحركة، حتى أخلعه في النهاية وأعيده إلي شماعته، لداخل دولاب الملابس. لكن كنت بالكاد قد وصلت لأخر درجات السلم وخرجت إلي الهواء الطلق حيشيء،ت عصاي من يدي انحنيت علي ركبتي مقتربا من الأرض ثم دنوت برأسي ، شيء غير عادي تماما ، ثم بعدها بقليل انقلبت علي ظهري ، ليس باستطاعتي الاستلقاء علي وجهي لأي مدة من الزمن ، علي حبي لذلك ، يجعلني ذلك أشعر بالغثيان ، ومكثت علي هذا الوضع ، ربما لنصف ساعة ، ذراعاي بجانبي ، وراحتا يدي ترتكزان عل الحصى وعيناي مفتوحتان علي اتساعهما تهيمان في السماء. هل كانت هذه أولي تجاربي من هذا النوع ، هذا هو السؤال الذي هاجمني بعد ذلك مباشرة. أما عن السقوط فقد حدث ذلك لي كثيرا ، من ذلك النوع الذي إذا لم تكن قد كسرت أحد أطرافك تجمع شتات نفسك وتنهض وتمضي ، لاعنا الله والبشر ، هذا يختلف تماما عن الحال الآن. مع انفلات معرفة جزء كبير من الحياة مني كيف لي أن أما،كيف بدأ كل شيء ، كل التنويعات علي شيء واحد ، تلك التي تبول سمها واحدا بعد الآخر واحدا فوق الآخر ، طيلة الحياة ، حتى تخضع. وعلي هذا فإن حتى أقدم الأشياء كانت جديدة علي نحو ما ، ما من نفسين متطابقان ، كل شيء يحدث مرارا وتكرارا وكل شيء يحدث مرة واحدة لا غير. لكن دعوني أنهض الآن وأمضي وأنتهي من هذا اليوم الفظيع وأنتقل إلي ما يليه. لكن ما معني أن تمضي قدما مع كل هذا، لا معني لذلك علي الإطلاق. يوم يمر بعد آخر لا يمكن تذكره حتى موت أمي، ثم في مكان آخر أشيب سريعا حتى موتي أنا الآخر. وحين أصل لهذه الليلة هنا بين الصخور ومعياليوم،ّ وضوء النجم الساطع سيكون اليوم قد انفلت مني وكذلك اليوم الذي سبقه ، كتابيٌّ ، الصغير والكبير ، كلها مضت وانصرمت ، وربما مازالت لحظات هنا وهناك فقط ، ربما هو ذلك الصوت المنخفض الذي لا أفهمه ، الصوت الذي يعني أن أجمع أشيائي وأرجع إلي حفرتي ، كي يقال لهم أنه ذهب. انتهي ، انتهي ، هنالك بقعة رقيقة في قلبي تحب كل ما ينتهي ، لا ، تحب حالة الانتهاء ، أحب الكلمة ، الكلمات كانت هي قصص حبي الوحيدة ، ولم تكن كثيرة. في أحيان كثيرة أردد ذلك بينما أمضي طيلة اليوم ، وفي بعض الأوقات أردد الحقيقة ، أوه الحقيقة. بدون هذه التقلبات التي انتابتني دائما كنت سأعيش حياتي في غرفة كبيرة ، وفارغة يتردد فيها الصدى ، بها بندول ساعة كبير وعتيق ، أنصت فقط ويتخطفني النوم ، الساعة بلا غطاء كي يمكنني رؤية حركة البندول ، محركا عيني جيئة وذهابا ، والأوزان الرصاصية تتدلي لأسفل ثم أسفل حتى أترك الكرسي وأربطها ثانية ، مرة في الأسبوع. اليوم الثالث كانت تلك النظرة التي تلقيتها من رجل علي الطريق ، أري ذلك الآن فجأة ، الجلف غير المهندم منحنيا في الخندق مرتكزا علي جاروفه أو أي ما كان ذلك وينظر لي نظرات من طرف عينيه ويرفعهما إليٌّ من تحت حافة قبعته ، الفم الأحمر ، أتعجب كيف رأيته ، هذا موقف شبيه ، اليوم الذي رأيت فيه نظرة بالف Balfe ، امتلأت رعبا منه في طفولتي. هو ميت الآن وأنا أشبهه. لكن دعونا نمضي قدما ونخلٌف تلك المشاهد القديمة وراءنا ونصل لهذه ، ولمكافآتي. وقتها لن يكون الأمر مثل الآن ، يوم وراء يوم ، دائري ، مكرر ، ممل ، مثل أوراق شجر تتقلب ، أو تقطف وتلقي بعيدا متكسرة ، بل وقت طويل لا ينقطع بلا قبل ولا بعد ، بلا ضوء بلا ظلمة ، بلا نحو أو في اتجاه أو عند ، بلا نصف المعرفة القديمة المختصة بأين ومتى ذهب كل شيء ، وعن أي شيء ، لكن صنوفا من الأشياء مازالت ، كلها في وقت واحد ، كلها تمضي ، حتى لا شيء ، لم يكن هناك أبدا أي شيء ، ليس من الممكن ذلك أبدا ، الموت والحياة لا شيء ، هذا النوع من الأشياء ، فقط صوت يحلم ويزنٌ في كل مكان ، هذا شيء ما ، الصوت الذي كان يوما في فمك. حسنا ، بمجرد أن تخرج إلي الطريق وتتحرر من الممتلكات ماذا بعد ذلك ، حقا لا أعرف ، ما تلا ذلك هو أنني وجدت نفسي في دغل من نباتات السرخس أضرب بعصاي ، وأجعل القطرات تطير وألعن ، لغة قذرة ، نفس الكلمات مرارا وتكرارا ، أتمني ألا يكون أحد قد سمعني. حلقي في حالة سيئة، يتورم من الألم، وإحدى أذنيٌ في حالة سيئة، ظللت أدس إصبعا فيها من دون أن أشعر براحة، شمع قديم ربما يضغط علي طبلتها. سكون غير عادي فوق الأرض ، وفي داخلي أيضا كل شيء ساكن ، صدفة ، لِمّ كانت اللعنات تنساب مني لا أعرف ، لا ، هذا قول ينم عن سخف ، وكذلك الضرب بالعصا ، ما الذي استولي عليٌّ أنا المعتدل الضعيف وجعلني أفعل ذلك ، بينما أقاوم وأمضي. هل هي حيوانات القاقم ، لا ، في البداية أسقط فقط في دغل نبات السرخس وأغوص مختفيا ، كانت النباتات بعلو وسطي بينما أمضي. نباتات السرخس هذه قاسية ، مثل جذع شجرة قوية ، من خشب صلب ، تقشٌر جلد ساقيك عبر بنطالك ، وهناك أيضا الحفر التي تخفيها ، من الممكن أن تكسر رجلك إن لم تكن حذرا ، هذه إنجليزية سيئة ، تسقط وتختفي من المنظر ، من الممكن أن ترتمي هنالك لأسابيع ولا يسمعك أحد ، لقد فكرت في هذا كثيرا هنالك فوق الجبال ، لا ، هذا قول ينم عن سخف ، فقط مضيت ، وجسدي يفعل كل ما في وسعه فعله بدوني.

(قصة قصيرة كتبها بيكيت بالإنجليزية
بين عامي 1954 - 1955 ونشرت عام 1957)

*****

في رسائله إلي مخرجه الأمريكي:
لا أستطيع أن أواصل يا آلان.. ولكني سوف أواصل

روبرت بروستاين

ترجمة: هالة صلاح الدين حسين

التقي المخرج الأمريكي ألان شنايدر بالمؤلف الأيرلندي صامويل بيكيت لأول مرة عام 1955 بعد أن عهد إليه إخراج العرض الأول لمسرحية في انتظار جودو بمدينة ميامي في الولايات المتحدة. أتي شنايدر إلي شقة بيكيت في باريس ليمطره بوابل من الأسئلة قبل الإنتاج ولا سيما فيما يخص هوية شخصية العنوان. ردا علي سؤال شنايدر المبدئي, ّمّن هو جودو؟ أجاب المؤلف إجابته الشهيرة المقتضبة, إن كنت أعلم, كنت سأقول في المسرحية.
كرس شنايدر من حينها فصاعدا أغلب مسيرته المهنية لتحقيق ما صاغه بيكيت من نوايا في مسرحياته. لكن برغم إخلاصه لكل حرف من حروف بيكيت وبرغم اشتراك مهرجين ذائعي الصيت مثل بيرت لار وتوم يول, أخفق عرض ميامي لمسرحية في انتظار جودو إخفاقا مدويا. إذ تخبط الجمهور في الحيرة بفعل الأصداء التجريدية لعمل أعلن عنه المعلنون أنه سلسلة من الضحك الصاخب من رجلين عفيفين, غادر ثلث الجمهور أثناء فترة الاستراحة واصطف آخرون عند شباك التذاكر, لا للشراء, إنما للحصول علي ثمن ما دفعوه.
اضطلع بيكيت بكامل المسؤولية عن الفشل الذريع معزيا شنايدر بكلمات حملت مزيجا من التواضع والرواقية, كلمات ألهمت إخلاص المخرج الأبدي. إن النجاح أو الفشل الجماهيري لا يعنيني على الإطلاق, أفضي بيكيت: الحق أن الراحة تداخلني أكثر مع الفشل, فقد تنفست عميقا من هوائه المنعش طيلة حياتي في الكتابة. أضمر شنايدر منذ تلك اللحظة افتتانا عميقا ببيكيت تصاعد ليستحيل عبادة لبطل من الأبطال, وقد استجاب بيكيت من جانبه بعاطفة تكاد تكون أبوية في طبيعتها. ما لبثا أن جعلتهما المراسلة صديقين مخلصين, إذ تبادلا زهاء خمسمائة خطاب.
علي الرغم أن بيكيت قد فرض أشد الحماية علي مراسلاته الخاصة (لا رغبة لي في أن تنشر أي من خطاباتي إلي أي شخص في أي مكان, ابتدر شنايدر بالتحذير), تم تجميع أكثرية هذه الخطابات في كتاب اهتمام غير مسبوق بمؤلف. حرره المفكر الأيرلندي موريس هارمون _ بعد أن أضاف مقدمة مفيدة _ تحريرا تعاطي مع النص بعناية بالغة (وإن عابه أحيانا إضافة حواش منقوصة تفتقر إلي الدقة). إلا أنه أظهر احتراما لرغبة بيكيت في الخصوصية وذلك بحذف أية فقرات تحوي تفاصيل عن حياته الخاصة. إن عنوان هارمون يلخص رد فعل بيكيت إزاء دقة شنايدر في إخراج مسرحية الأيام السعيدة (تجاهل بيكيت مجددا ما تلاها من استهجان النقاد وكتب أشعر أنه لم يسبق الاهتمام بمؤلف قدر الاهتمام بي). لقد أكسبه توقيره لبيكيت وترويجه لمسرحياته بالولايات المتحدة امتنان المؤلف وثقته الدائمة. (عزيزي ألان, أوجه لك شكري ثانية, كتب مرارا, علي كل ما تصنعه من أجل عملي). وفي مقابل إخلاصه, كوفئ شنايدر بإخراج خمسة عروض أولي لبيكيت في هذا البلد واستمر يقدم للجمهور ستة عروض لمسرحية جودو, وست نسخ من مسرحية شريط كراب الأخير, وخمسة عروض لمسرحية الهزهزة وعرضين لمسرحية نهاية اللعبة. (ورغم أن شنايدر أخرج مسرحيات لإدوارد ألبي وهارولد بينتر وجو أورتون وإدوارد بوند, فقد بدا وكأن بيكيت هو شغله الشاغل _ عندما لا يكون بصدد إخراج واحدة من عروضه العديدة التي أحيي بها مسرحية ثورنتون وايلدر بلدتنا.)

***

لم يشهد بيكيت أي من أعمال شنايدر علي المسرح الأمريكي. فهو لم يفد إلي هذه البلد سوي مرة واحدة وحيدة حتى يشاهد تلميذه وهو يخرج فيلمه, فيلم بيكيت القصير, الفيلم بطولة باستر كيتون. ومع ذلك فقد حاول في بداية علاقتهما علي الأقل أن يتحكم في الإنتاج عن بعد. ففي خطاب بيكيت الأول لشنايدر, حذره أنه علي الرغم أنه لا يعارض أن يبدل المخرج كلمة غريبة هنا أو هناك أو يحذف أي شئ غريب, فهو يطالب بفرصة الاعتراض أو الموافقة. لكن بمرور الوقت طفق بيكيت يمنح شنايدر حرية أكبر في تفسير مسرحياته. وبات خلال بضع سنوات يجيب علي أسئلة شنايدر بجملة افعل ما يحلو لك يا ألان, ما يحلو لك.
وبدلا من أن يستغل شنايدر ما مجنح من حرية, سعي لمشورة بيكيت في كل تفصيل من تفاصيل عروضه, بل إنه سأله عن المقاييس الدقيقة للستارة الملونة بمسرحية الأيام السعيدة (لأنك بعيد وهذا هو العرض الأول ونحن جميعا نرغب في تنفيذ ما تريد). طلب إذن المؤلف قبل أن يوشي فستان بيلي وايتلو ببعض الترتر في الهزهزة, وقبل أن يدع الممثلين يغلقون أعينهم لبرهة في مسرحية اللعبة. بل إن شنايدر قدٌم كل المقالات ومواد الدعاية قبل نشرها ليوافق عليها بيكيت أولا. أقدم علي خيانة ثقة بيكيت مرة واحدة لا غير (رغما عنه), حينما حذف دون إطلاع المؤلف إرشادات المسرح المشترط عليها من البداية بعرض اللعبة في نيويورك وذلك بغية استرضاء المنتجين. عندما تناهي إلي شنايدر جرحه لمشاعر بيكيت, كتب يقول (في سيرته الذاتية, المداخل), لا أعلم أبدا لمّا لا زلت أحظي بثقة بيكيت بعد ما جري.
غالبا من تكشف خطابات بيكيت النقاب _ ليس فقط عن إيمانه اللانهائي بشنايدر _ إنما عن تواضع جذاب يقترن بانتقاص لافت من قدر نفسه. أنا... لا يزال ثلاثة أرباع عقلي تعتريه البلادة, أنهي إليه, أي إنه يعمل بطاقة تزيد عن العادي بمعدل الربع, أردف, سوف آخذ ما تبقي من عقلي بين يديٌ المرتعشتين وسأحاول مرة ثانية. يكاد بيكيت يماثل أحيانا في طمسه لذاته الدبلوماسي الياباني, كما هو الحال عندما شكر شنايدر علي دفء الصداقة البالغ الذي أبديتّه لشخصي الكئيب وإخلاصك لعملي الرهيب. غير أن هذا التواضع راح يراكم بالتدريج طبقات من نفاذ الصبر من نفسه ومن عقله المزبلة. ساوره القلق من استخدام شنايدر لبعض المواد غير الملائمة للمسرح, فكتب يقول: أراها لم تكتمل بعد. بيد أني أري كل شئ تقريبا غير مكتمل. وفي خطاب آخر: اصفح لي كتاباتي الرديئة. فرأسي لا يضم غير اضطراب يستعصي علي الكتابة. وفي غيره, أنا أكافح مع نثر مستحيل. الإنجليزية. يا للاشمئزاز. لا أصدق أني عددت الكتابة ذات يوم متعة.
في المقابل, كان شنايدر, الذي استشهد بجمل معبأة بالكآبة من مسرحيات بيكيت, يرسل إلي صديقه تأملاته الملونة باليأس حول حال المسرح الأمريكي والثقافة الأمريكية والسياسة الأمريكية (إذ غطت خطاباتهما فترة حرب فيتنام). كان بيكيت لا يعبأ بالسياسة علي أي وجه من الأوجه وإن ظل يبدي تعاطفا مع اهتمامات شنايدر وإن كان تعاطفا يخالطه قدر من الانعزال. علي أنه كان بوسعه التعبير عن منتهي غضبه واحتقاره وخاصة فيما يتعلق بالصحافة وموقفها غير المفهوم من مسرحياته _ جيد رديء أو غير مبال, اشتكي من النقاد, إنهم يصيبونني بالاكتئاب _ وتساءل عما يحل بهؤلاء الناس كي يكتبوا عن المسرح.
طالما تبادل النوادر مع شنايدر حول الكلاب, النقاد الذين دوما يعضونك, الصحفيون الأوغاد الذين دائما وأبدا يسيئون فهم عمله, والحمقى من أمثال اللورد شامبربوت الذين يحاولون علي الدوام فرض الرقابة عليه. أقر بمعاناته من الإنهاك العقلي, وتخللت مراسلاته نبرة من اليأس المّرضي والحنين إلي الانسحاب من العالم. كما شاب طبعه سوء المزاج والعند. وجد هذا الرجل _ المهذب دائما حتى يومئذ _ خطاب هيوم كرونين خطابا كريها (الرجل الذي يمثل بجانب زوجته, جيسيكا تاندي, في أمسية لعرض أعمال بيكيت) مما صرفني عن كتابة خطابا لزوجته أمدحها فيه. بمرور الوقت اتصفت خطاباته لشنايدر بالاقتضاب والروتينية. اغفر لي صمتي الطويل, كتب معتذرا. لا عذر لي. أنا أتعوذ بالصمت ليس إلا.

***

انصرمت سنوات شهدت مرونة أقل من جانب بيكيت مع تفسيرات المعٌدلين لعمله, كما شهدت تحول شنايدر إلي ما يشبه العميل السري والواشي المتطوع بالوشاية. كان شنايدر مدركا كل الإدراك أن التعاون الإبداعي يحمل تأثيرا علي نوايا المؤلف. ففي المداخل, كتب أن حتى بيكيت نفسه اكتشف تدريجيا أن كل الممثلين يتمتعون بملكة الخيال وتجول ببالهم أفكار قد تؤثر كلية علي نوايا المؤلف بل وتشوهها. وعلي الرغم من ذلك, شعر بأنه ملزم بأن يحذر بيكيت من عرض لمسرحية نهاية اللعبة لأندريه جريجوري تروب. إن العرض ينزع إلي استخدام النص لخدمة أغراضه الخاصة, أنبأه شنايدر في خطاب طويل, فالعرض يحرف نصك تحريفا مخلا... والأمر نفسه ينطبق علي إرشاداتك المسرحية. وقد وصفه بأنه محاكاة مضحكة تنغمس في الأهواء وتصر علي أن تكون مختلفة لمجرد أن تكون مختلفة.
قال شنايدر إنه يود الحفاظ علي مشاعر بيكيت وشدد علي أنه من الضروري أن تحمي مسرحيك وتحمي نفسك. لكن كيف سيتحقق ذلك دون أن تحول دون استمرار العرض؟ كان بحلول ذلك الوقت قد بث في بيكيت عظيم السخط حتى إنه فكر في ملاحقتهم قضائيا (عملي ليس كتابا مقدسا إلا أن هذا العرض يلوح بحق مقززا ومحطما للمسرحية). سمح بيكيت بمواصلة العرض غير أنه أقسم أن يمنع أية محاولة لعرضه في جولة.
شعر شنايدر أيضا بأنه يجب أن يحذر بيكيت من منح جوردون ديفيدسون, المخرج بمسرح مارك تابر فوريم بلوس أنجلوس, حق عرض كل مسرحياته. كما وصف منتجا آخر من منتجي مسرحيات بيكيت خارج برودواي ب الداهية الذي لا يؤتمن. عبٌر عن مخاوفه بصوت عال عندما حدٌث بيكيت عمن يتسلقون مسيرة سام بيكيت. شكا إلي بيكيت عرض أندريه سيربان الشهير لمسرحية بستان الكرز (خامرني شعور وكأنه يرسم شارب سلفادور دالي فوق شفتيٌ الموناليزا), ثم قصد المسرح العام بعدها ليتجسس علي عرض سيربان لمسرحية الأيام السعيدة مع أيرين ورث, العرض الذي يقر حاقدا بأنه يتميز تقريبا بالدقة.
الحق أن شنايدر نزع إلي إطلاق الأحكام المعادية لغيره من المخرجين وعروضهم لأن ثمة عصابة من النقاد الطليعيين يشعرون وكأني قد نومتك مغناطيسيا حتى أمتلك أعمالك إلي الأبد وكانوا عاقدي العزم علي انتزاعك مني. تحدث واحد من هؤلاء النقاد حول الحاجة إلي كسر قبضة ألان شنايدر علي إخراج مسرحيات بيكيت. من الجائز أن شنايدر قد قدٌم نفسه أحيانا بوصفه الأمريكي الوحيد الذي يتحلي باجتهاد كاف لإخراج مسرحيات بيكيت. وبرغم كل صفاته الحميدة, لم يعل شنايدر فوق الغيرة الرخيصة والاغتياب التنافسي بين المسرحيين, وبرغم تنامي صيته, كان هدفا سهلا للاضطهاد من الآخرين. كتب صديقه إدوارد إلبي في مقدمة مغلفة بالود لكتاب المداخل, حتى في مكان في مثل بشاعة المسرح الأمريكي, لا عد ولا حصر لمن خانوا ألان.
لا شك أن شنايدر يتحمل بعض المسؤولية عن صرامة بيكيت المتزايدة في الحفاظ علي كل فاصلة وكل حرف بنثره. لابد أن أعترف, كتب بمداهنة خليقة بشخصه, أنتّ تقريبا المؤلف الوحيد الذي يكتب إرشادات مسرحية لا تشوبها شائبة, إذ تتبدي وكأنها جزء مما تكتب. لم يمض طويلا قبل أن يرفض بيكيت الموافقة علي عرض نهاية اللعبة بأبطال كلهم من النساء, كما أنه تميز غضبا علي أثر محاكاة مخزية لمسرحية _جودو_ علي مسرح يونج فيك. أحاول أن أقنع نفسي بأني لا آبه كثيرا. بل إنه رفض السماح لإنجمار بيرجمان بتحويل في انتظار جودو إلي فيلم لأنه لم يرغب في أن يقدّم العمل بأسلوب بيرجمان.
لم تنقض فترة طويلة علي وفاة شنايدر عام 1984 حتى تنازعت شركتي, مسرح الذخائر الأمريكي, مع بيكيت حينما قدٌمت المخرجة جوان أكيلايتس نهاية اللعبة بمحطة أنفاق مهجورة وكلفت فيليب جلاس بتأليف مقدمة موسيقية قصيرة لها. احتج بيكيت علي تحويل مسرحيته إلي مسرحية موسيقية, كما سجل اعتراضه علي الاستعانة بممثلين من أصل إفريقي مثل هام وناج. وأصر علي أن أي عرض لمسرحية _نهاية اللعبة_ يتجاهل إرشاداتي علي المسرح لن أتقبله بأي حال من الأحوال. (وعلي أنه لم ير العرض قط, فقد أردف أن أي مخلوق يعبأ بالعمل لا يسعه إلا أن يتولاه النفور لمرأي هذا.) إن ما انطلق بسبب هذا العرض من غضب والمساعي الفاشلة من جانب بيكيت ووكلاء أعماله لوقفه جعلاه في النهاية يضيف ملحقا إلي وصيته مشددا فيه علي التحكم في العروض المستقبلية وهو في قبره وإلا الوقوع تحت طائلة القانون. ومؤخرا تعرض واحد من مسارح واشنطون للتهديد بدعوي من المحكمة أقامها ورثة بيكيت بعد ورود تقارير بأن ممثلين من أصل أفريقي أقحموا موسيقي الهيب هوب إلي مسرحية في انتظار جودو. ولم يسمح للعرض بالاستمرار إلا بعد تدخل ابن أخ بيكيت, إدوارد.

ثمة الكثير من الجدل حول درجة الحرية التي ينبغي علي المؤلفين أن يمنحوها للمخرجين في العروض التالية لمسرحياتهم. سوف يجادل قليلون بأن العروض الأولي لأية مسرحية تستحق أقصي ما هو متاح من اهتمام دقيق مخلص. لذا كان ألان شنايدر المخرج المثالي لعروض بيكيت الأولي ولذا استحق بحق امتنان المؤلف. إن كتاب اهتمام غير مسبوق بمؤلف لا يؤرخ فقط للعلاقة شبه التكافلية بين كاتب عظيم ومريد وفي بل إنه يضيف إلي آثار بيكيت رسائل لا تقدر بثمن. انتهت العلاقة بموت شنايدر لكن حتى آخر لحظاته علي الأرض قضاها إجلالا لبيكيت. فقد صدمته دراجة بخارية بلندن وهو يجتاز الطريق لكي يرسل خطابا آخر إلي صديقه.

يعمل روبرت بروستاين مخرجا فنيا بمسرح الذخائر الأمريكي وأستاذا للغة الإنجليزية بجامعة هارفارد وناقدا مسرحيا بمجلة نيو ريبابليك. يحمل كتابه الأخير عنوان التمارين الثقافية.

****

كيف انتصر مطرب العواطف علي الأفنارد؟

بيكيت يدخل المسرح المصري
مع الميثاق ويخرج مع هاللو شلبي

ناصر كامل

يحتفل العالم طوال العام الحالي بمئوية صمويل بيكيت1906- 1989،بينما يعاني المسرح المصري أزمة،هي الأطول والأعمق والأقسى طوال تاريخه.لذلك تبدو لحظة اللقاء الأول للمسرح المصري بمسرح بيكيت مدخلا مناسبا للبحث عن بعض جذور وأسباب تلك الأزمة . لأن هناك ما يشبه اليقين النقدي،عند الكثيرين،أن سنوات الستينيات هي فترة الازدهار الذهبي التي أتت علي ثماره العقود الثلاثة المجدبة اللاحقة لتترك المسرح خربا.
نتحدث عن الأعوام الثلاثة الأولي من عقد الستينات،المخرج سعد اردش العائد من بعثته للدراسية من إيطاليا1961يقترح علي المسئولين تكوين مسرح وفرقة تتخصص في تقديم التجارب المسرحية الأحدث والأكثر طليعية التي يفرزها الواقع الثقافي والمسرحي في العالم،وبالتحديد أوروبا،ويختار اسم مسرح الجيب-وقتها كان هناك عدة مسارح في أوروبا بنفس الاسم،وبعضها ما زال يحمل الاسم نفسه حتى الآن - ويختار نص بيكيت لعبة النهاية- تترجم أحيانا نهاية اللعبة- وتقدم المسرحية 1962في نادي السيارات كان موجودا في أول شارع قصر النيل
إننا في السنتين الأوليتين من الخطة الخمسية الأولي-1960-1965،في عام الميثاق،و انطلاق تحالف قوي الشعب العام لزمن الحديث عن حتمية الحل الاشتراكي ،ونقد مغامرات محمد علي- أطلق الميثاق علي نتائج تجربة محمد علي تعبير النكسة الذي سيصبح الصك المتداول بعد ذلك بخمس سنوات لوصف هزيمة 5يونيو 1967- ،والحديث عن ضرورة وإمكانية تجاوز الفجوة بيننا وبين اليابان،بينما كنا بدأنا النهضة في وقت متقارب.
إننا في الحلقة الأولي من قيادة عبد القادر حاتم،الضابط العسكري،للثقافة والإرشاد القومي،ومشروعه الطموح لملأ فراغ التلفزيون العربي المنطلق للتو بإنشاء عشر فرق لمسرح التلفزيون والحديث عن كتاب كل يوم إننا في زمن التفاؤل المطلق،وحساب الزمن بالساعة والثانية،وليس اليوم.
وسط هذا المناخ ادخل اردش بيكيت للمسرح المصري. مناخ يبدو للوهلة الأولي مناقضا ومعارضا بالكامل لكل منطلقات ومفاهيم ال Absurd Theatre وكان تعريب المصطلح الدلالة الأولي علي صعوبة وخشونة اللقاء. البعض اعتبر تعريبه مسرح العبث خطأ دينيا وفكريا،واعتبروا أن تعبير اللامعقول أوفق وأسلم. وظل التعبيران يستخدمان ، وإن كان اللامعقول هو الأكثر تداولا وشيوعا بعد أن تبناه كبار الكتاب.
الكثيرون من المهاجمين للوافد الجديد رأوا في الحريق الذي طال مسرح نادي السيارات بعد انتهاء فترة العرض دليلا علي شؤم هذه المسرح . وشن عدد من النقاد والصحافيين الفنيين، بقيادة الشاعر والصحافي والسينارست صالح جودت، حملة شعواء على العبث الفني، العبث بفلوس الشعب، وطالت إحدى حلقات الحملة نقادا وكتابا كبار ساندوا دخول بيكيت ورحبوا به.فقد كتب الكاتب الساخر أحمد رجب نصا قصيرا اسماه الدخان الأسود وذهب به صحفي شاب لعدد من النقاد _ كان من بينهم الدكتور عبد القادر القط والكاتب رجاء النقاش- واستطلع الصحفي رأي هؤلاء في قيمة هذه المسرحية، مدعيا أنها مترجمة عن الفرنسية، وأنها لكاتب كبير من كتاب العبث المشهورين، وأدلي النقاد والكتاب رأيهم في النص بصورة مختصرة، ولكن مع إشادة بالمعاني العميقة والدلالات الموحية، مساندين المترجم والفنانين الذين يعملون علي تعريف القارئ العربي بالثقافة والفن الحديثين .. وكانت عناوين الموضوع الصحفي تتضمن تعابير من نوع فضيحة مسرح العبث
وكانت السخرية والاستهزاء وسيلة فرق مسرح التلفزيون الكوميدية للنيل من موافقة الدولة علي ظهور لعبة النهاية والعبث. أكثرها حدة كانت في مسرحية مطرب العواطف التي أخرجها عبد المنعم مدبولي، زميل اردش القديم في فرقة المسرح الحر 1950-1953أحد أهم التجارب المستقلة عن الدولة لتقديم المسرح الجاد وغير الكوميدي.
دخل بيكيت- الذي يعتبره الكثيرون واحد من أهم الشخصيات المؤثرة في أدب وفن القرن العشرين ، ويعتبر بعضهم مسرحيته في انتظار جودو-1952أهم نص مسرحي في القرن، ويعتبرونه الأكثر تأثيرا في تغيير أساليب ومقومات الكتابة الدرامية- للمسرح المصري في أجواء غير مواتية للتفهم والإدراك لقيمته الفكرية والفنية.دخل لمجتمع تسعي الدولة التي تقوده إلي توحيد الكلمة خلف مشروع سياسي واجتماعي أحادي التوجه- لنتذكر أن الشيوعيين والأخوان كانوا جميعا مسجونون- مشروع يتطلب من كل الشعب الانضواء تحت سقف التحالف لذلك سعت أجهزة الدولة الثقافية لدفع كل المثقفين والفنانين للدخول إلي جنتها كانت الدولة _ ربما في سابقة فريدة- تسعي لتقديم نماذج من موديلات الحداثة الفكرية والفنية،الدولة كانت تريد اللمسات الطليعية علي الوجه التقليدي.وضعت الفنانين والمثقفين الطليعيين فيصوبة زجاجية للعرض والتباهي وربما تفريغ طاقة الغضب والإبداع . واستجاب الكثيرون لذلك، بعضهم حاول بجد، لكن غاب عنه أن الاتجاهات الفنية والفكرية والثقافية الوافدة تتطلب بيئة ومناخ ووقت وجهد وهي، في البداية والنهاية، جهد فردي إبداعي لا شروط خارجية له ، لكنها لن تحيي فيصوبة إلا لفترة قصيرة، وحين تخرج منها إلي بيئة ليست مهيأة لها، أو مناسبة هي لها، ستجد صعوبة في الحياة.

***

هكذا كان علي بيكيت الذي تعرض مسرحياته قضايا ترتبط بتفاهة الوجود الإنساني،وخلوه من المعني في ظل أجواء الفراغ وهزلية الحياة التي يعيشها الأفراد ، وتتحدد مقومات مسرحه حول فكرة الانسلاخ عن الواقع الحي، وإبعاد الإنسان عن تاريخيته و اجتماعيته،أن يظل فيصوبة منعزلا عن الحتمية التي تقود المجتمع المصري باتجاه أحلام حرق مراحل التاريخ، وتجاوز التخلف في بضع سنوات، وفق منظومة سلطوية مرتجلة :القيادة الواحدة،والشعب الواحد،والفكر الواحد ،والتنظيم السياسي الواحد
مسرح بيكيت ينطلق من مفاهيم العدمية الميتافيزيقة التي تدرس ظاهرة الإنسان دراسة ذاتية بعيدة عن الموضوعية،متجاوزة بذلك الحواجز المادية للوجود البشري،وعرض هذا الوجود عرضا سلبيا عاريا،أي وضع الإنسان أمام مصيره بوصفه كائنا فريدا لا تربطه بالمجتمع أية روابط، لأن جميع الروابط مواضعات اجتماعية ينبغي عدم الاعتراف بها،فالظاهرة الإنسانية ظاهرة عشوائية غير قصدية وغير غائية.لذلك كان يستحيل أن يجد مسرح بيكيت تفهما وتفاعلا حقيقيا معه من المجتمع المصري مطلع العقد السادس،لأنها لمجتمع يساق قصرا نحو هندسة اجتماعية فوقية من دون اختيار أو مشاركة أو مسائلة.
المجتمع المصري كان في مرحلة ما قبل التحديث، مفتقدا مقومات وعلاقات الحداثة التي أفرزت في الغرب الاتجاهات الفنية والأدبية الطليعية الأفانجارد. بيكيت كان فردا نابها خلاقا يتفاعل مع مجتمع وثقافة متجانسة النمو والتقدم ، في وسط اجتماعي وثقافي حر بحق، كان أغلب كتاب العبث يعيشون في فرنسا وليس كلهم بفرنسيين، إنهم مغتربون أجانب قدموا من بلدان عدة، يونسكو من أصل بولوني،وأداموف روسي ،وأرابال أسباني ،وجورج شحاته لبناني، وبيكيت إيرلندي. هم جميعا نتاج حركات التمرد والثورة والحداثة ما بعد الحربين العالميتين، سواء أكان ذلك في ميدان الأدب والفن أو السياسة و الفلسفة.

***

مسرحيات بيكيت تستفيد من تراث مسرحي عميق ومتنوع ،يستفيد من أساليب كالفودفيل ، والكوميديا دي لارتي ، والميوزك هول (المسرحيات الموسيقية الهزلية المتضمنة غناء ورقص) وبرامج المنوعات المسرحية الساخرة والخفيفة ، والفنون الإيمائية (البانتوميم) كذلك يستفيد من نمط الأفلام الصامتة: شابلن و كيتون ولورين وهاردي.
في عالم بيكيت، تلوذ الشخصيات بالتكرار، تكرار الكلمات وتكرار الأفعال، سواء كانت تلك الكلمات والأفعال كلماتها وأفعالها أو كلمات وأفعال الآخرين. تكرار كنوع من اللعب أو التمثيل من أجل تزجية الوقت (الحياة)!. إن شخصياته مجردة من وجودها أو هويتها الشخصية، فهي لا تمتلك سوي وعي المهرٌج لذاته ، وإدراكه المٌعذِب من أن وظيفة قواه الروحية هي الحفاظ علي مواصلة اللعبة. لذلك كانت هناك صعوبة بالغة في التفاعل مع مسرحه في واقع مسرحي تتشكل بداياته،وسط واقع اجتماعي يعاني أزمات ما قبل أزمات الواقع الأوروبي الحديث والحداثي.
يبحث النقاد طويلا في موضوعة فقدان اللغة لقدرتها علي أن تكون أداة تواصل،وااللغة، الموضوعة قلب عالم بيكيت الدرامي .فالإنسان الحديث بالنسبة له لم يعد قادرا علي التعبير عن ذاته بصدق من خلال اللغة، بينما المشكلة في الواقع المصري وقتها تتعلق بالأساس بالحق في التعبير والكلام، والحق في التفكير المستقل عن جهاز الدولة ومؤسسات المجتمع القهرية.
خلال تمريناته علي إخراج مسرحيته في انتظار جودو في برلين عام 1975 كتب بيكيت في دفتر يوميات البروفات ملاحظات كان من بينها : إن أزمة تأريخ نظرية المعرفة ما بعد عصر النهضة بدأت مع نهاية القرن السابع عشر، بعد جاليلو، أي في القرن الثامن عشر، القرن الذي أطلق عليه يومها بقرن العقل...أنا شخصيا لم أفهم ذلك ولن أستطيع أن أفهمه علي الإطلاق: إنهم جميعا مجانين حقا! ..لقد منحوا العقل مسئولية هو ببساطة غير قادر علي تحملها، لأنه واهن جدا.يتحدث بيكيت عن عصر ما بعد العقل بين ما نحن لم نصل بعد لذلك العصر المهجور.
ولأن الزمن كان زمن الموضات التي توض، واقعالصوبة ليعرض المثقفون مهارتهم في النقل ظهرت مسرحيات مصرية تحاكي العبث الأوروبي ،أبرزها مسرحيات يا طالع الشجرة لتوفيق الحكيم (1962)، و الفرافير ليوسف إدريس (1964)، و المهزلة الأرضية 1966، و الوافد (1966)، و الخطاب (1967) لميخائيل رومان. لكنها كانت نبتا محكوما بظروف الواقع،واقع أن الدولمترهلا،نة علي الفضاء الاجتماعي بصورة تامة سمحت بذلك النوع من المحاكاة للموضة،لكن عندما قررت الدولة عقب تبدل زمن الميثاق والتحالف بزمن الانفتاح تبدد كل هذا النقل

***

سنوات الستينيات انتهت بجهاز الدولة الثقافي كيانا مترهلا ، وكسولا وغير مبدع، في ظل جهاز إداري ضخم. وعندما ترك الدكتور علي الراعي منصبه كرئيس لمؤسسة المسرح عام 1966 كتب تقريرا قال فيه:تسلمت تركة مثقلة بالديون إلي درجة الإفلاس الفني والمادي معا، حيث توسعت الإدارة إلي حد السفه في تعيين أعداد ضخمة لا يحتاجها العمل، وكانت النتيجة بالغة السوء علي الثقافة والفن ! فقد كانت سياسة كبح المبادرة الفردية وحشد الجميع تحت المظلة الوحيدة للدولة قد بدأت تبشر بكارثة 5 يونيو. لذلك تبدو المسرحية الكوميدية هاللو شلبي التي أخرجها سعد اردش ، عندما أصبحت أزمة مسرح الدولة عميقة للغاية ، ولعب بطولتها عبد المنعم مدبولي خير ختام لتجربة بيكيت في مصر فقد انتصر مطرب العواطف علي الأفانجارد

أخبار الأدب
20 أغسطس- 2006