بعد محمود درويش يتم برحيل سميح القاسم غياب الثنائي الذي أشرف على العالم العربي والشعر المعاصر من قلب فلسطين المحجوبة حتى ذلك الوقت. وكان صوت درويش ـ القاسم أكثر من قصيدة، كان صوتاً مجروحاً ومعذباً وصارخاً بقدر ما كان استذكاراً وهوية واسماً آخر وعنواناً لفلسطين. لقد ظهر ذلك الصوت قبل السلاح وكان بالتأكيد يحمل في طياته كل الكثافة وكل الزخم اللذين تكدست فيهما لا الذكريات فحسب، ولكن أيضاً الرعف والحنين والتواريخ الدامية والمضيئة وسلسلة الثورات والمعارك والبطولات المكسورة والحروب الخاسرة.
درويش والقاسم لا نظلم أياً منهما حين نقرنهما ببعضهما بعضاً فقد تواصل الاسمان كما تواصل الشخصان وكانا معاً وجهاً مزدوجاً ومتفارقاً لفلسطين التي غدت بدءاً من أواسط القرن الماضي ضميرنا وسرنا وجرحنا في آن معاً. لقد بدأ هذا التاريخ بخسارة مدوّية ومأساة وسيبقى هذا طابعه وستبقى هكذا دمغته وسيبقى ينزف ويكون نزفه وتكون تنهداته إيقاعنا ولحننا، ربما لهذا ظهر المغني قبل المحارب، ربما لهذا بدأت المرثية قبل الأهزوجة، ربما لذلك ورثنا هذا الجرح وأورثناه وتركناه ينطق ويتكلم عنا.
سميح القاسم الذي اهتدى من شيوعيته إلى فلسطينيته أو كانتا في الأصل واحداً، لقد بقي له وللعرب الباقين هذا الركن وذلك المعزل، وكان ينبغي أن يمر وقت كاف حتى يتحول هذا المعزل إلى دوامة وذلك الركن إلى معترك، وبالتأكيد كان لسميح القاسم وبقية الشعراء والكتاب الفلسطينيين الذين صدحوا من فلسطين الصيحة الأولى التي وصلتنا مدماة متقطعة وكان ينبغي أن يمرّ وقت قبل أن تمتلئ وتتّسق وتمور بالنياعة والنضارة وتغدو كونية وملحمية وتستعيض عن منفاها في وطنها بمنفى عالمي وتغدو الأرض بكليتها بلدها ومنفاها ويغدو الشتات أسطورتها وسِفرها وتغدو فلسطين معها ومعهم ايتاكا الجديدة ويغدو الشاعر عوليسها الجديد.
بقي سميح القاسم في فلسطين وهاجر محمود درويش قبل أن يرجع في عودة ثانية إليها. لكن الباقي ما كان له أن ينكسر وما كان لصوته أن يشحب ويخفت. لقد بقي تحت زيتونته وكان عليه أن يصدغها وأن يصرخ في وجه من يريد أن يغصبه إياها. كان عليه أن يشهر قصيدته كما لو كانت سلاحاً وأن يحارب بها ويُطلقها على المتربصين به. كان عليه أن يبدي أسنانه لا قلبه وحده، وأن يخيف ما وسعه أن يخيف، وأن يصرخ ما أمكنه أن يصرخ وحين كان وحده في الدرب، وحده في العزلة، كان يرفع صوته بنشيد المحارب، يواجه بكبريائه مَن يضعون أصابعهم في جرحه. كان يرفع رأسه من فوق مضطهديه. وظل دائماً في تخييل المعركة. كما ظل دائماً في ذكرى المواقع والأيام والحروب. تلك كانت تحييه في الذاكرة وتحييه في الخيال وتحييه في الواقع حتى لا يقتله القهر ولا تقتله العزلة.
كان له نشيد المحارب الذي يتحوّل أحياناً إلى أغنية نصر واستدعاء للمستقبل وأمل لا يشيخ وبشارة خضراء كالزيتون. بقي سميح القاسم في فلسطين حيث كان عليه أن يقاتل وأن يغني في المعركة وأن يهلل ويرتجز في وسطها. أما درويش فقد هاجر ليبحث ثانية عن ايتاكا ـ فلسطين وليغني خسارته وليحمل المرثية إلى ضفاف العالم.
كتب سميح القاسم كثيراً. ألّف ما يزيد على الستين مؤلفاً في الشعر والرواية والمسرح والمقالة والترجمة والرسائل. كان الحبر والحرف بالتأكيد حياته الثانية وكلما خط كلمة عربية كان يسترد بذلك هويته ويحيي فلسطين، يستردها بالكتابة ويستردها بالشعر ويستردها بالأغنية ويستردها بالنثر، وحين أصابه السرطان واجهه بكبرياء المحارب وشجاعة المحارب. لم يترك قلمه يسقط من يده ولم يخف من المرض بل حاول أن يخيفه هو الذي اعتاد منذ نعومة أظفاره أن يخيف ما هو أشد من السرطان وأقوى من الموت.
تاريخ المقال: 21-08-2014 01:46 AM
رحل سميح القاسم بعد حياة حافلة بالشعر والكفاح وحب الوطن وحب الحياة، وعلى خطى نبضات ودقات قلب الأرض مشى في دروب الحرية، ونثر على الطريق صرخته وناره ورسائل عشقه وصدى غضبه واشتباكه مع المحتل مقرنا الكلمة بالممارسة، رابطا القول بالعمل، والإبداع بالفعل، محملا الكلمة أكثر مما تحتمل الحروف، وكعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وغسان كنفاني ومحمود درويش ومعين بسيسو وعشرات غيرهم ضبط خطواته على خطى الفدائيين والمقاومين ولهب الكفاح المسلح والشعبي، فكان الشعر الفلسطيني جزءا من أدبيات الثورات الفلسطينية المتعاقبة، من ثورة 1936 حتى المقاومة الباسلة في غزة، وخلق مع رفاقه المبدعين في مطلع الستينيات من القرن الماضي ظاهرة فريدة في الأدب العربي هي ظاهرة أدب المقاومة، ظاهرة لم تكن موجودة بشكلها ومضمونها اللذين وصلا إلينا، فمثَل ذلك إضافة نوعية أغنت المحتوى الكفاحي والتحرري في الفكر والثقافة العربيين. تحلى سميح بسلوك اتسم بالبساطة، والخلق الكريم عبر فيه عن ثراء ثقافته، وعمق انتمائه، وصدق مشاعره، وحميمية آسرة حببت إليه قراءه وأبناء شعبه الفلسطيني والعربي، وأكد بسلوكه كمثقف أن السلوك في ذروة تجلياته هو التعريف الحقيقي للمثقف، كان سميح هو النموذج والأمثولة، توفرت في شعره كل العناصر الفنية التي حولت معظم قصائده إلى أغاني وأناشيد، وأيقونات، وصارت مسيرته الشعرية على مدى أكثر من خمسة عقود سجلا لمسيرة كفاح شعبه، ووثيقة سياسية واجتماعية ونضالية لكل المحطات التاريخية التي مر بها الشعب الفلسطيني. من الصعب الإحاطة بسيرة ومسيرة سميح في هذه العجالة، فإبداع سميح الشعري يحتاج إلى دراسات وكتب وليس مقالة مقتضبة، ولعلي اختم كلامي بما هو شخصي، فقد رافقت فترة مرضه التي امتدت ثلاث سنوات ونصف، وكنت شاهدا على صراعه الشجاع مع المرض، وقدرته على الصمود، وقوة الحياة في روحه، فقد ظل يتحلى بمعنويات عالية، وكان لديه تصميم على الانتصار في هذا الصراع، فمنذ أن اخبرنا البروفسور جمال زيدان الذي اشرف على علاجه قبل ما يزيد على ثلاث سنوات أن حالته خطيرة، وان أمامه ثلاثة شهور فقط قبل أن يودع الحياة، حاولت أيامها مع عدد من الأصدقاء إقناعه بسرعة إقامة حفل زفاف ابنه عمر التي تم تأخيرها بسبب مرضه، إلا انه رفض وأصر على أن يكون الحفل في نهاية الصيف القادم، أي بعد تسعة شهور، كنا نود إدخال الفرح إلى قلبه، لكنه أراد أن يوحي لنا انه سيعيش وينتصر على المرض، وبالفعل جاء الصيف، وأقيم حفل الزفاف، وتزوج ابنه عمر، وأنجب له بعد عام حفيدا وهو ينحاز إلى الحياة في مواجهة الموت، وخلال تدهور حالته في الآونة الأخيرة كنت أزوره، وكانت آخر زيارة في مستشفى صفد قبل ثلاثة أيام، وكان يومها في وضع مقبول، وعندما دخلت المستشفى وضعت على أنفي الكمامة التي يتعين وضعها لدى زيارة مريض يفتقر إلى المناعة، دخلت عليه وانحنيت لكي اقبل جبينه، فمد يده وانزل الكمامة عن وجهي، وأصر على أن يقبلني. كنت اشعر في داخلي بأن هذا اللقاء ربما يكون الأخير، وان حلاوة روحه هذه ناجمة عن مقاومته للموت، وفي جو مفعم بالحميمية سألني عن عائلتي وعن روايتي الجديدة التي سبق أن أخبرته إنها قيد الإعداد، وعن العدوان في غزة، وتحدثنا عن أولادنا وأحفادنا، وفوجئت به يطلب من ابنه وطن الذي كان موجودا، فوجئت بأنه يطلب من وطن أن يريني على هاتفه الذكي مقطع فيديو يظهر فيه وهو يداعب حفيده. (سميح الصغير) ابن ولده عمر، في مشهد رائع يعيد سميح الجد إلى فرح طفولي ما مر بذاكرة شاعر. رحل سميح ولكنه ظل (باق في الرامة) كما ظل أميل حبيبي، الذي أوصى أن يكتب على شاهد قبره (باق في حيفا)، الرامة التي عاش بها مع عائلته، كما عاش بها آباؤه وأجداده، سميح اختار منذ أكثر من عشرة أعوام مكان دفنه وضريحه. اختار أرضا على تلة قريبة من بيته، وأعدها لتكون قبره وحديقته، يطل منها على سهول وتلال فلسطين وطبيعتها الساحرة التي خلقها الله منذ الأزل، سميح يذهب هناك ليموت كما تموت الغزلان، لينام هناك مثل حبة قمح تغفو في باطن الأرض الطيبة والحنونة المجبولة بمسك الشهداء.
كاتب وروائي من فلسطين
تاريخ المقال تاريخ المقال: 21-08-2014 01:46 AM
آب شهر رحيل الشعراء، آخر الصيف وطلائع الخـريف يذهـب الشـعراء إلى حيث يكتبون قصائد للرياح الآتية من جهة النسيان، وهكذا رحل سميح القاسم شاعر المقاومة الذي وظََّف كل شـعره من أجل القضية الفلسطينية وكتب من أجلها أقوى البيانات والمقالات والتصريحات. أيضا كان سميح القاسم مناضلا حقيقيا مؤمنا بالقضية الفلسطينية إيمانه بحقيقة وجوده كائنا يستحق الحياة، لذلك لم يترك أرض فلسطين، وظل يناضل في صلب الحزب الشيوعي، وقد كانت له نقاشات مطولة في هذا الصدد مع الراحل الكبير محمود درويش، الأخ الذي لم تلده أمي كما يحلو لسميح أن يناديه.
كانت هذه النقاشات حول النضـال من الداخـل أو الخـارج، وكـانت هذه الرسائل عبارة عن نصـوص أدبية بين الشاعـرين، بل أكاد أجزم أنها كانت أشعر وأبلغ من الكثـير من شعر سمـيح القـاسم الـذي لم تكن علاقته بالشعر جـمالية مهمـومة بالبحـث في تطـوير تقنيات الكتابة، بقدر ما كان الشعر وسيلة تعبيرية بالنسبة له وخادم قضية فقط.
لقد كانت هناك محاولات للراحل بحثا في ماهية الشعر وفي جماليته من مثل مجموعتيه ’’PERSONNA NONA GRATA’’ ومجموعة ’’كولاج’’ غير أنها تبقـى ضمـن مدونتـه التي بلغـت أكـثر مـن سبـعين مجمـوعة شـعرية مـحاولات لا ترقى إلى مستوى البحث الحقيقي في الشعرية وتقنياتها، فهـو عـكس فـدوى طـوقان وتوفـيق زيـاد ومحمـود درويـش وعـكس مريد البرغوثي الذين بقدر ما كان همهم القضية الفلسطينية بقدر ما حاولوا النظأي بالشظعر عن التوظيف الإيديولوجي الآني، وكانت علاقتهم بالشعر علاقة جمالية إبداعية.
جاءت مقارباتهم ذات بعد كوني مركزه الإنسـان الفلسـطيني والإنسـان عموما، بينما جاء شعر سميح القاسـم الذي خـلا من التجـريب ومن البحث اللغوي صدى لهمّ المناضل السياسي داخله، مناضل ملتزم حد العظم بقضية شعبه، وما الشعر بالنسبة له إلا وسيلة للتعبئة والتجييش وفضح أساليب المستعمر وكشف معاناة الشعب الفلسطيني.
لقد رحل الآن سميح القاسم في نفس الشهر الذي رحل فيه محمود درويش، في نفس الوقت الذي تعودت فيه إسرائيل صبّ قنابلها على الشعب الأعزل، في نفس الوقت الذي يتراجع فيه دور المثقفين العرب على حساب الانتهازيين السياسيين.
كان سميح فلسطينيا حقيقيا، قال حين رحل درويش ’’تخـليت عـن وزر حزني ووزر حياتي وحملتني وزر موتـك أنـت تركـت الحـصان وحيدا لماذا؟’’. رحلوا كلهـم الآن، رحلوا إلى حـيث لـن يكـتبوا ولن يغنوا ولن يرفعوا معنويات الحجر والشجر ولن يزرعوا الأمل في الطريق المعتمة.
رحل سميح القاسم بعد كل هذا التعب غير أنه لم يسلم سلاحه ولم ينحن لأحد غير شعبه.
هكذا رحل أنيقا كما سبق وعبر عن ذلك قائلا: ’’وليأت الموت وأنا مستح مرتد ملابسَ جميلة ومرتبة، أنا أحب الأناقة حتى في الموت، أحبه أن يكون أنيقا ومرتبا وجميلا ونظيفا’’. رحل أنيقا من دون أن يتلوث بأي شيء ورحل كبيرا وهو يدافع عن شعبه.
شاعر من تونس
تاريخ المقال: 21-08-2014 01:46 AM
أول مرة سمعت باسم سميح القاسم، كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حين بدأت أتلمس طريقي في سكة القراءة الحقيقية، معتمدا على نفسي في ذلك بعيدا عن تلك الكتب التي كانت تنتقيها الأسرة وتوفرها لنا. كنت طالبا صغيرا، لكن يتملكني شغف القراءة بشدة. وكانت ثمة أسماء براقة مكتوبة على كل أغلفة الكتب التي كانت تنشرها دار العودة بيروت، تحت عنوان: هؤلاء تفخر الدار بوقوفهم على عتبتها الصغيرة الخضراء.
كان من أولئك: الطيب صالح ومحمود درويش، وعز الدين المناصرة، وأمل جراح، وسميـح القاسـم، كما أذكر، وهكذا قرأت ما تيسر من نتاج أولئك الواقفين على العتبة الصغيرة الخضراء. منذ أول كتاب قرأته للراحل الكبير سميح القاسم وهو ديوان قصائد سميح القاسم، كما أذكر، التمست حماسة تفتقد في أشعار كثيرين من شعراء تلك الفترة. كان سميح يكتب المقاومة شعرا، يتحدى شعرا، وينزف في ساحة النضال شعرا، وأي قصيدة من قصائده تعادل طلقة يطلقها جندي، وشخصيا كنت أتخيله في كثير من الأحيان جنديا يخوض الحرب وقد كان بالفعل مخلصا لقضيته ووطنه الجريح ومن الذين علموا الأجيال معنى أن تحب الوطن بصدق، ولذلك جاء بقاؤه في وطنه برغم كل الصعوبات، برهانا حقيقيا على ذلك الحب.
حقيقة تابعـت ما كتبـه سميـح فترة، وتابعـت ما كتبه العـظيم مـحمود درويش أيضا، وأرى أنهما كانا شاعرين حقيقـيين، كل يحـمل سلاحه الشعري، فقط يكمن الفارق في أي نوع من السلاح يحمله كل واحد منهما، وفي الوقت الذي اتسمت فيه قصيدة درويش بالزخرفة وكثرة الصور، والخيال المكثف، اتسمت قصيدة سميح بوضوحها، وانسيابيتها الخاصة، وتغلغلها في آفاق كل الفئات التي تقرأها أو تستمع إليها.
لقد كانت وفاة درويش من قبل صدمة كبيرة، واليوم أحس أن وفاة سميح القاسم صدمة أيضا، وخسارة كبيرة للشعر الفلسطيني والعربي، كلاهما كان ضلعا من ضلوع المقاومة الفلسطينية الهامة، بل كلاهما كان رئة تتنفس عبرها المقاومة، وطبعا نردد ما نعتقده صدقا، وهو أن الإبداع الجاد والراقي، يظل هكذا موجودا دائما، والمبدع الحقيقي لا يموت بل يظل حيا ما دامت الحياة لا تزال.
كاتب من السودان
تاريخ المقال: 21-08-2014 01:46 AM
يوم كنّا نقرأ للشعراء الفلسطينيين، وعلى رأسهم محمود درويش، كنّا نحسب أنّ سميح القاسم كان أصغر عمرا من محمود. وأنّ الثاني كان يتلمّس طريقه الى النجومية بنشر مجموعاته الشعرية في بيروت، وكان لا يزال معتصما بأرضه فلسطين. ويوم شرعنا في التمييز الدقيق بين الشعراء هؤلاء، ونمضي في إثر نتاجهم الشعري، بعد استشهادهم (كمال عدوان، على سبيل المثال)، صرنا قادرين على التمييز بين كتابة محمود درويش الشعرية، التي تسعى إلى بناء نماذج ومثالات خارج ما درج عليه الأدب الملتزم والمنتمي الى اليسار من إرث بشري وعالمي، متوكّئا على ذاتّية تستوعب الثراء القادم اليها، وبين كتابة سميح القاسم التي حسبنا، ذات يوم ـ من أيام ضيقنا بالإرث الأدبي الملتزم ـ أنها صنو البيان السياسي الشيوعي، لفرط تطابق المثالات والنماذج التي أخرجها الشاعر، ولا سيما في بداياته (مواكب الشمس، أغاني الدروب، دمي على كفّي..) مع المضامين السياسية والإيديولوجية التي يحملها انتماؤه، هو الشاعر المناضل في سبيل تحرير شعب فلسطين من المحتل، ومن مستغلّيه الطبقيين بلغة اليسار الملتزم. ولكن هذا التصوّر الخاطئ والمبتسر عن الشاعر سميح القاسم وكتابته الشعرية ما لبث أن تعدّل، الى أن تكوّن لدينا الانطباع بأنّ القاسم هو القامة الشعرية الفلسطينية التي جعلت الأرض (فلسطين) الهاجس والمحور الأوحد الذي تتكوكب حوله كلّ الأساطير الذاتية والتراثية، في وجدانية غنائية تستمدّ طاقتها الدرامية، لا من ذاتية ممزّقة الوجدان والانتماءات والخيارات، كما هي الحال مع درويش، وإنّما من إعادة صوغ لآلام الجماعة الفلسطينية التي ينطق الشاعر عنها بلسانه هو. بل إنّ الذاتية البارزة في أعمال القاسم، والغنائية الصارخة فيه، إنما هما صنيعتا ذوبان الأنا، أنا الشاعر الكائن الملتزم الموجود والناطق بلسان الآخر والآخرين المقهورين، وتصعيدٌ للغة الشعرية المتوتّرة دوما، في سبيل حرية فلسطين وشعبها وكرامتهما.
لم تكن أشعار القاسم لتتقدّم الانتفاضة الأولى (تقدّموا) عبثا، ولن تكون قصائده، المضمّخة بنبرة مأساوية تحاكي الجلجلة الفظيعة التي لا يزال الشعب الفلسطيني، والانسان الفلسطيني يمضي في شعابها، لن تعود هذه القصائد، بعد مواراة شاعرها الثّرى في ترابها العزيز، أسيرة اليدين والعينين وحزن القلب.
شاعر من لبنان
تاريخ المقال: 21-08-2014 01:46 AM
لم أنس يوما صوتك، ذات مساء ممـطر في شتـاء دمشـقي ملبد بالغيوم.
يومها عاندتُ المطر وتناسيت محاضراتي الجامعية المسائية، وفي باحة المركز الثقافي الكائن بالمزة، تحت المطر حضرتُ الأمسية الشعرية لشاعر أغرمت به لخاطر قصيدة: «تقدموا تقدموا كل سماء فوقكم جهنم، وكل ارض تحتكم جهنم، تقدموا يموت منا الطفل والشيخ ولا نستسلم...».
يومها كانت كل مقاعد المركز محجوزة، ورغم المطر الغزير اكتظت الباحة الامامية للمركز بالحضور ليسـمعوا صوتك وأنت تنشد قصائدك.
خبر رحيلك، جاء ليتواطأ مع أحزان شعوب عربية موزعة على خارطة من الدماء.
هل جاء خبر موتك ليذكرنا بآمالنا التي تشبه أعشابا يانعة، داستها الفيلة؟!
بينما، الفرح، يشبه عروسا، فجأة، امتطت جوادا طائشاً ورحلت.
يوم غنيتَ أحزان فلسطين شعراً، ربما لم يخطر في بالك أن ثمة شعوبا عربية بأكملها، ستُنحر وتُباد، من دون أدنى رفة جفن، والعالم يحمل لافتة كتب عليها «صمت الحملان». . تستغيث الضحية ويصمتُ صدى حوافر خيول «النشامى».
منذ ذلك اليوم الذي بَكَت فيه فلسطين لم يتوقف العرب عن النحيب، والتباكي. .
يموت الشاعر، لينطلق اسمه مثل الأساطير، وليشبه الحكايات القديمة.
وكل الكلمات التي نطق بها يوما، تصبح عميقة، فسيحة بلا حدود.
للكلمات وحدها مأثرة الرثاء، رثاء سميح القاسم أبهى رجالات الثقافة.
ألم يهتف يوماً أندريه مالرو قائلاً: «الثقافة هي كل أشكال الفن والحب والفكر والثقافة هي التي أتاحت للإنسان أن يكون أقل عبودية على مدى آلاف السنين؟»
لهذا الثقافة مخيفة، يهابها مسبقا كل من لديه نيات لاستعباد البشر.
وحدها الثقافة قادرة على تشييد عالم حقيقي واقعي لا ينتمي إلا إلى الإنسان.
بموت سميح القاسم خسرنا آخر الشعراء الذين تزوجوا فلسطين.
كاتبة من سورية
لم ألتق مرة بسميح القاسم وجها لوجه، لكنني عرفت صوته جيدا. التقيته مرارا عبر التلفون. كنت قرأت أشعاره وسمعت قصائده المغناة، لكن صلة الوصل نشأت عبر ولده وطن القاسم. قبل نحو سبع سنوات، جاء وطن إلى ألمانيا متدربا في الإذاعة الألمانية، وعُهد إليّ به.
اكتشفت موهبته بسرعة، ولما عرفت أنه من فلسطين، من سكان الجليل، سألته عن احتمال وجود قربى بينه والشاعر سميح القاسم، فقال: إنه أبي، فعلقت قائلا: «الآن أدركت دلالة اسمك»!
كانت المكالمات التلفونية على فترات متقطعة. أحيانا أنقل لسميح القاسم تحيات الذين يتعذر عليهم الاتصال به من بيروت. ومنهم صديق مشترك: الياس رحيّم. سألني»من وين نبشته؟ هذا شيوعي عتيق وكنا نلتقي في براغ وأحيانا بحضور محمد مهدي الجواهري». وفي مكالمة أخبرته أنني أكتب فصلا في كتابي «حكايات الأغاني» (منشورات رياض الريس) عن قصائده المغناة: «منتصب القامة أمشي (مارسيل خليفة) «ربما» (جوليا بطرس) «زنابق لمزهرية فيروز» (خالد الشيخ ورجاء بلمليح) فذكـّرني بـ «أحكي للعالم» وقد غنتها كاميليا جبران وريم بنـّا وزياد الأحمدية ودينا أورشو، وأخبرني أن عابد عازريه أول من لحن أشعاره (طائر الرماد). وكانت آخر مكالمة قبل ثلاث سنوات ولم يكن أصيب بالمرض الخطير. كان الكلام في الأدب وفي شعره. استرجعت معه ديوانه «الكتب السبعة» (دار الجديد) وموضوع الموت المتكرر في أبياته «على الماء أمشي/وأحمل نعشي».. «سائر في النوم/ يستيقظ جيراني القدامى في القبور».. «أمشي على حرير/ يستيقظ الميت في السرير» فأحالني إلى مواضع أخرى في الديوان، وها أنا أختار مقطعا منها ليكون تحية الوداع:
«وداعا/ أنا ذاهب في إجازة/ فلا تؤنسوا وحشتي أيها الفقهاء البهائم/ لا تقتلوني/ بشبه البروق الرعود وشبه الأغاني المراثي/ أنا في إجازة/ فلا تقربوني/ ولا تلمسوني/ أقرّ كما تشتهون بأن وفاتي مكافأة للضريح الجميل/ ولكنني لا أقرّ طقوس الجنازة/ أنا أنتفي/ ولا أختفي». سيظل سميح القاسم منتصب القامة، مرفوع الهامة.
كاتب من لبنان
ماذا نفعل الآن يا سميح، رشقنا محمود درويش من قبل بالحبر المضاء والمضيء، ليس سوى أن نرشقك بالزيتون الذي تعرفه تماما كنسغ أصابعك كطرفة عينك، ألست أنت من حفر اسمه على جذع شجرة لن تطوحها ريح ولن تحرقها نار.
النار لا تحرق أسماء الشعراء يا صديقي، نار العدو تحرق الأجساد والمباني والقلوب الصغيرة والشعارات لكنها لا تحرق الشارات ولا أسماء الشعراء.
كان قرارك ألا تخرج من الأرض، كتب عليك النضال، فيه ولدت وفيه كان خيارك وهكذا عشت، وعلى شاكلته وناره جاءت القصيدة، ربما الخروج يجعل الجملة أكثر إنسانية ويجعل الشعر أكثر رحابة لكن البقاء منحها ضرورة الحياة التي تستحقها وهذا فضلك، من منا يحتاج لأكثر من جعل البقاء في الأرض دلالة على وجودية القضية على حياتها وعلى حيوتيها، انها تأكل وتشرب وتغني كل صباح في وجه الأعداء، لذا كنت تغيظ الاسرائيليين بعدم تركك وطنك.
من زنزانتي الصغرى أبصر زنزانتك الكبرى. أنت سجين في زنزانة وهو سجين في وطنك. كنت تناضل بالرؤى حين تقول: عراق يا عراق، ما اللغة الفجيعة، ما سنة وشيعة؟ وأنت يا عراق، أمانة الأعناق.
مأزق الشاعر أن يظل في أرض كهذي، وقيمة الانسان والشاعر والسياسي ألا يتعتعه أحد من موضع قدمه.
كسر لك النادل الفنجان بعد أن شربته دلالة على ألا يجوز لأحد أن يشرب منه بعدك، فنجانك المكسور الآن تشرب منه أرواح الأطفال والشهداء ثم ينتهي إلى الأنبياء ليطمئنوا.
هل أنت محرض؟ المباشرة تحريض، كنا نحتاج اليها وما زلنا حتى المباشرة في الحب تحريض على الحب.
تتذكر وأنت طفل حين كنت تغني مع قرنائك «شوفوا شوفوا سعدى الزناتي راكبه الحصان وطالعه ع راس القلعة»، تصعد الآن على رأس القلعة وستطرد ريح نضالك ومفردات شعرك كل الغزاة.
لا تقلق من غيابك الجسدي ستقابل الانبياء والفقراء كل يوم في قصائدك، وستعرفك الزيتونة تماما تلك التي تعرفها كإصبعك.. كوجهك، وستأخذ الجميع اليها ذات يوم.
كاتب من مصر
سميح القاسم مات.. رحل "شاعر المقاومة الفلسطينية" كما يصفه الراحل الكبير محمد دكروب.. رحل إلا أنه أبى أن يغادر من دون أن يكحّل عيناه بانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة.. هو الذي قال، في العام 1979، في النادي الأرثوذكسي العربي في القدس، "لن يموت القسام والظلم حي/ كل طفل من شعبنا قسام".
التحق بصديق عمره محمود درويش.. هو الذي رثاه بقصيدة "خذني معك" في 10 آب 2008.
"أنا لا أحبك يا موتْ/ لكني لا أخافك./ واعلم أني تضيق عليَّ ضفافك/ واعلم أن سريري جسمي/ وروحي لحافك/ أنا لا أحبك يا موتْ/ لكني لا أخافك"، كتب القاسم أيضاً في ظل معاناته، فيما قال للمرض الذي أنهكه، "اشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان كي أقرأ بختك بالفنجان". واليوم، أطفأ آخر سجائره فالحياة بنظره "إنها مجرّد منفضة"، وفق عنوان سيرته الذاتية.
وقد أطلق الكاتب لطفي بولعابة على القاسم لقب "الشاعر القديس"، هو الذي "منتصب القامة يمشي مرفوع الهامة يمشي.. في كفه قصفة زيتون وعلى كتفي نعشه".. هو "قيثارة فلسطين"، "متنبي فلسطين"، كما تصفه الشاعرة والباحثة الدكتورة رقية زيدان.. وهو "شاعر العرب الأكبر" كما يراه الناقد الدكتور المتوكل طه.. هو "سيّد الأبجدية"، بحسب الكاتب عبد المجيد دقنيش.. هو من اعتبره الكاتب محمد علي طه "شاعر العروبة بلا منازع وبلا نقاش وبلا جدل" ورأى فيه الناقد حبيب "فرادة النبوّة".
وقد كتب فيه رئيس تحرير جريدة "السفير" الأستاذ طلال سلمان في أيلول الماضي، "لقد سكن سميح القاسم وجدان الأمة منذ أول قصيدة، خصوصاً أنها كانت فتحاً جديداً في عالم الشعر المرتبط بالأرض وأهلها، والذي لا يتوجه إلى إثارة حماستك بقدر ما يتوجه إلى ضميرك الوطني وإلى انتمائك القومي فيزيد من شعورك بالتقصير".
والعالم العربي، "أشد من الماء حزناً" على رحيل القاسم فيما "ما زال في تاريخنا سطر..
لخاتمة الرواية!"، سطر انتصار فلسطين على الاحتلال.
سيرة القاسم:
- فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية.
- ولد في مدينة الزرقاء في الأردن في 1939/05/11 وكان والده ضابطاً في قوة الحدود الإنكليزية. وأصل عائلته من بلدة الرامة في الجليل الفلسطيني.
- والده: محمد القاسم آل حسين.
- والدته: هناء شحادة محمد فياض.
- تزوج نوال سلمان حسين في تموز 1977 ولهما من الأولاد: وطن محمد، وضاح، عمر، وياسر.
- درس المرحلة الابتدائية في مدرسة اللاتين في الرامة (1945 - 1953)، ثم درس في كلية تيرا سانطا في الناصرة (1953 - 1955)، ثم نال الثانوية في سنة 1957. ليسافر من بعدها إلى الاتحاد السوفياتي حيث درس سنة واحدة الفلسفة والاقتصاد واللغة الروسية.
- سجن مرات عدة، ووضع في الإقامة الجبرية أكثر من مرة بسبب مواقفه المناهضة للصهيونية.
- كان أول شاب درزي يتمرد على قانون التجنيد الإلزامي كما أسس حركة "الشبان الدروز الأحرار" في أواخر الخمسينات لمناهضة السياسة الإسرائيلية إزاء العرب.
- انضم إلى القائمة الشيوعية الجديدة (راكح)، وتعرض للمضايقة والسجن جراء انتمائه السياسي. وكان عضواً في "حركة الأرض" قبل انتمائه إلى "الحزب الشيوعي".
- عضو في لجنة المبادرة الدرزية، واللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية، ولجنة حقوق الإنسان، ولجنة أنصار السجين.
- عمل مدرّساً في المدارس الابتدائية العربية، لكن وزير المعارف الإسرائيلي أمر بطرده على خلفية مواقفه المناهضة لإسرائيل.
- عمل في المنطقة الصناعية في حيفا، لكن الاستخبارات الإسرائيلية ضيقت عليه، فطرد من العمل وشرع بعده بالعمل كمفتش في دائرة التنظيم المدني في الناصرة، ثم استقال احتجاجاً على التلاعب ومصادرة الأراضي العربية.
- تولى تحرير مجلة "هاعولام هازيه" (هذا العالم) اليسارية التي أصدرها في تل أبيب العم 1966 أوري أفنيري. ثم تولى تحرير مجلة "الغد" ثم مجلة "الجديد".
- أصبح سكرتيراً لتحرير جريدة "الاتحاد" في حيفا.
- أسس منشورات "عربسك" في حيفا مع الكاتب عصام خوري العام 1973.
- رئيس تحرير مجلة "كل العرب" التي تصدر في حيفا.
- رئيس اتحاد الكتاب العرب في إسرائيل.
- مدير "المؤسسة الشعبية للفنون" في إسرائيل.
- نال جائزة الإبداع في الشعر من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين في 1998/06/18.
- زار سوريا ضمن وفد من فلسطينيي 1948 في 1997/08/08 وقابل الرئيس حافظ الأسد، وألقى أمسية شعرية في مكتبة الأسد في دمشق. ثم زار سوريا مرة أخرى، والتقى الرئيس بشار الأسد في 2000/11/19.
- منعته السلطات الإسرائيلية في 2001/07/20 من زيارة لبنان لإحياء أمسيات شعرية والالتقاء مع عدد من الشخصيات من بينها وليد جنبلاط.
- مؤلفاته الشعرية:
* مواكب الشمس (1958).
* أغاني الدروب (1964).
* إرم (1965).
* دمي على كفي (1967).
* دخان البراكين (1968).
* سقوط الأقنعة (1969).
* ويكون أن يأتي طائر الرعد (1969).
* اسكندرون في رحلة الداخل ورحلة الخارج (1970).
* قرقاش - مسرحية شعرية (1970).
* قرآن الموت والياسمين (1971).
* الموت الكبير (1972).
* مراثي سميح القاسم (1973).
* إلهي إلهي لماذا قتلتني؟ (1974).
* وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (1976).
* ثالث أوكسيد الكربون (1976).
* ديوان الحماسة (1978).
* أحبك كما يشتهي الموت (1980).
* الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب (1981).
* جهات الروح (1983).
* قرابين (1983).
* كولاج (1983).
* في سربية الصحراء (1985).
* شخص غير مرغوب فيه (1988).
* لا أستأذن أحداً (1988).
* الكتب السبعة (1994).
- مؤلفاته الروائية:
* إلى الجحيم أيها الليلك (1977).
* الصورة الأخيرة في الألبوم (1979).
مؤلفات النثرية:
* عن الموقف والفن (1970).
* من فمك أدينك (1974).
* أضواء على الفكر الصهيوني (1978).
* الرسائل - مع محمود درويش (1989).
* رماد الوردة، دخان الأغنية (1990).
* مطالع من أنطولوجيا الشعر الفلسطيني (1990).
- ترجمت قصائده إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية والأسبانية واليونانية والإيطالية والفيتنامية والفارسية والعبرية واللغات الأخرى.
- حصل على جائزة "غار الشعر" من اسبانيا وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي.
- تعرض لحادث سير مروع في سنة 2003 وأمضى تسع ساعات في حال موت سريري. وخرج من هذا الحادث بكسر في كتفه وكسر في قدمه اليمنى ما أورثه العرج.
السفير – 21-20 اغسطس 2014
دافع عن مساره الشعري المباشر بقوله «هناك سوناتا سيئة ومارش جيد»
دمشق | انهار أخيراً العمود الثالث في بيت الشعر الفلسطيني المقاوم. رحل توفيق زيّاد باكراً، ثم لحق به محمود درويش، وها هو سميح القاسم (1939ــ2014) ينهي المعزوفة بضربة مؤثرة. «شعراء الأرض المحتلة»، هكذا تلقينا الحصة الأولى لدرس النشيد، بانتباه وحماسة ونشوة، فتعرّفنا عن كثب إلى صورة فلسطين من جهة البرتقال والزيتون والبرقوق. رائحة ستهبّ على الدوام مع كل قصيدة تعبر الحدود والأسوار.
في غياب توفيق زيّاد، ومغادرة محمود درويش بلاده، بقي سميح القاسم في الداخل الفلسطيني «مثل السيف فردا»، بنبرة عالية لا تقبل المساومة، مازجاً الروح الكنعانية بالنشيد العالي في سبيكة شعرية تستدعي النفير، وبلاغة الأسلاف، وروح الرفض، إذ كانت قصيدته بمثابة وثيقة في تمجيد الجغرافيا الأم التي لطالما كانت بوصلته إلى الحرية. الشيوعي الذي انتهى عروبياً صلباً في زمن الهشاشة والمقاولات الوطنية، وصداقة الأعداء، شذّب نصّه من شوائب الوهم الأممي، وذهب «منتصب القامة» إلى مشتله الأول لإعادة ابتكار الحبق في حقول البلاد المدماة، فههنا قصيدة غير مياومة، إنما تمدُّ جذورها عميقاً في التراب، على هيئة وشم لا يزول. اوركسترا تزاوج بين الكمان والناي في حداء طويل، وبشارةٍ قادمة، كأن كل الهزائم والكبوات ومراتب اليأس، لم تثر غباراً في طريقه إلى الجلجلة، ولم تخفت صوته الناري في تأصيل النشيد الفلسطيني المقاوم.
كانت قصيدته وثيقة في
تمجيد الجغرافيا الأم التي لطالما كانت بوصلته إلى الحرية
هو سليل المنابر والهتاف والإيقاع، قبل أن تخلو المنصة من شعرائها الكبار، إذ لا مسافة فاصلة بين القصيدة والأغنية، حين اختار اسم «أغاني الدروب» عنواناً لمجموعته الشعرية الأولى (1958). وسوف تزداد شحنة الغضب، تبعاً لزمهرير الشعر والرفض. لهذه الأسباب سيكتب باطمئنان «دمي على كفي»، و«لا أستأذن أحداً»، إلى نحو 60 عنواناً آخر، تمثّل مسالك حبره الموزع بين أجناس إبداعية مختلفة، في مفكرة ضخمة للأمل بترابٍ آخر لا تدنسه أحذية الأعداء، وهوية راسخة لا يلوثها حبر المنفى والحنين. وسوف يدافع عن مساره الشعري الغارق في المباشرة بقوله «هناك سوناتا سيئة ومارش جيد». في وقتٍ لاحق، سيكتب سوناتات جيدة أيضاً، فليس كل ما كتبه القاسم تحت بند «شعر المقاومة»، أو في باب المديح، كما يأخذ عليه بعضهم. التاريخ الدامي لبلاده كان بوصلته المتحوّلة في أرشفة الألم العام وشجنه الشخصي، وقبل كل ذلك علاج الجرح المفتوح بملح الكلمات. هكذا تبزغ حداثة نوعية في منجزه الشعري الشاسع، جنباً إلى جنب مع روحه الهوميروسية الهائمة بين بحر عكا وصحراء النقب، كما يتجاور «ديوان الحماسة» مع عنوان نافر مثل «أرض مراوغة. حرير كاسد. لا بأس»، أو «كولاج». وسوف نقع على جوانب أخرى من سيرته في كتاب «الرسائل»، الرسائل المتبادلة مع رفيق روحه محمود درويش في تلك الحوارية المدهشة بين الوطن والمنفى، وبين الصلابة والحنين، والضمير والجرح، وكتاب الإقامة، وكتاب الهجرة. يكتب محمود درويش في إحدى رسائله: «لم يحدث في تاريخ السطو البشريّ، يا عزيزي، ما يشبه هذا السطو، كأن يرافق الطرد من الوطن بمحاولة الطرد من الوعي والهوية. كأن نعجز عن قول ما هو مقول في الواقع بطريقة لا تخرّب توازن الكرة الأرضية. فعندما يتحوّل الاحتلال إلى «وطن وحيد» للمحتلّ، تصير مطالباً بأن تعتذر عن كلّ سليقة، وبأن تبرز أناقة قتلك بخصوصية لا تؤذي سمعة الخنجر المغروس في لحمك».
ويقول سميح القاسم في رسالةٍ أخرى: «لسنا غصناً مقطوعاً من شجرة هذه الأمة. نحن حرّاس أحلامها وسدنة نارها الطاهرة». لاحقاً، سيسأله محمود درويش بنبرة يائسة: «أين قبري يا أخي؟ أين قبري»، فيجيبه سميح: «لا تسألني أين قبرك. ما دام هذا المهد قضية معلّقة فسيظل القبر سؤالاً محرجاً يتيم الإجابة». سننتبه إلى أنّ حديث الموت اقتحم نصوص القاسم باكراً، ألم يكتب «قرآن الموت والياسمين»(1971)، و«الموت الكبير» (1972)، و«إلهي إلهي لماذا قتلتني؟» (1974)، و«سأخرج من صورتي ذات يوم»(2000(.
كأن حياة هذا الشاعر منذورة للنكبات، فمن الاعتقال في سجون الاحتلال، إلى الإقامة الجبرية، كان على وحش السرطان أن يداهمه في مبارزة طويلة. يسأله علاء حليحل في مقابلةٍ شاملة «ألم يكسرك مرض السرطان؟»، فيجيب: «لم انكسر ولكن التوى فيّ شيء ما، بلا شك، ولكن داخلي لم ينكسر». بهذه الإرادة الصلبة، عاش سميح القاسم حياته المتشظيّة بين برازخ كثيرة، وعبرت قصيدته الحدود بكامل غضبها وبلاغتها وروحها المتمرّدة. وسنتذكر ذلك المشهد الاستثنائي خلال زيارته دمشق قبل سنوات، حين وطأت قدماه مخيم اليرموك قبل نكبته الأخيرة، فعبرَ المخيّم محمولاً على الأكتاف مسافة سبعة كيلومترات، كأن أهالي المخيم كانوا يودون ردّ الدين له بقصيدة مماثلة. وربما في مثالٍ آخر، علينا أن نستعيد ما خاطبه به محمود درويش: «لو كان قلبي معك، وأودعته خشب السنديان، لكنت قطعت الطريق بموتٍ أقل». لكن هل هي المصادفة وحدها أن يرحل صاحب «كتاب القدس» في اليوم نفسه الذي رحل فيه الشاعر الأندلسي فريدريكو غارسيا لورك
عكّا | عند التاسعة والنصف من ليل الثلاثاء 19 آب (أغسطس)، رحل سميح القاسم في «مستشفى صفد» عن عمر ناهز 75 عاماً بعد صراع طويل مع السرطان. كنّا نعرف أنّ صحته تدهورت خلال الأيام الماضية، إذ نشر الكاتب الفلسطيني وصديقه عصام خوري الذي أسس معه منشورات «عربسك» عام 1973، عبر صفحته على فايسبوك تدوينة مفادها أنّ الشاعر يمرّ في أوضاع صحية صعبة، ويعيش بين الغفو والصحو.
بعد الدقائق الأولى على تأكّد الخبر، امتلأت صفحات فايسبوك وتويتر بنعي وتعازي محبّيه في فلسطين والعالم العربي، من أبيات قصائده، ومشاركة روابط لأغنيات من كلماته، وصوره وقصائده مسجّلة بصوته، منها تلك التي تتشابه في مشاهدها مع ما تعيشه غزّة في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر عليها.
حزن على رحيل شاعرٍ آخر من شعراء المقاومة، ومشاركة قصيدته «خذني معك» التي رثى بها رفيق دربه محمود درويش الذي تزامنت ذكرى وفاته في التاسع من آب (أغسطس)، أي في الشهر نفسه الذي رحل فيه القاسم. تدوينات حزن خاصة لكاتبيها، وتغريدة: «الناس نيامٌ.. فإذا مات الشعراء انتبهوا!».
صباح أمس الأربعاء، نعى «الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين» الشاعر «أبو وطن»، وجاء في بيانه: «لقد ترك سميح القاسم إرثاً ثقافياً نعتزّ به، ونعلن انحيازنا التام له. كما ترك سيرة نضالية نفتخر بها، ونتعلم منها، وفي هذه المناسبة يتطلع الاتحاد، بل يطالب الجهات الرسمية في السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي منظمة التحرير، بأن لا تلتفت فقط لتراث الراحل الكبير، وإنما لوصاياه التي سنجدها في كل جملة شعرية كتبها، وأن تولي ثقافتنا الوطنية المقاتلة ما يمكنها من الصمود، ويشحذها بمقومات الصمود والمزيد من المقاومة».
ستودعه جماهير
غفيرة اليوم في مسيرة تجوب شوارع القرية
كما نعت وزارة الثقافة الفلسطينية الشاعر من خلال بيان جاء فيه: «سميح القاسم سيبقى في ذاكرة شعبنا الوفي الصامد المرابط يردد أشعاره الخالدة ويذكر له مواقفه الوطنية المنحازة لدماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى في سجون الاحتلال». أما وزير الثقافة السابق الكاتب يحيى يخلف، فكتب عبر الفايسبوك: «رحيل شاعر فلسطين وأبرز رموزها الثقافية سميح القاسم مساء الليلة بعد صراع مع المرض، نعزي عائلته ونعزي أبناء شعبنا من محبيه وقرائه، ونعزي الحركة الثقافية الفلسطينية والعربية».
غنّى العديد من الفنانين الفلسطينيين والعرب قصائد الشاعر، منهم: مرسيل خليفة، جوليا بطرس، ريم بنّا وغيرهم، بالإضافة إلى فرق موسيقية فلسطينية، مثل «صابرين»، و«يُعاد» و«العاشقين». وكانت ريم بنّا التي لحنت قصيدتيه «أحكي للعالم» و«ذات يوم» اللتين كانتا ضمن ألبومها الثالث «الحُلم» (1993)، قد كتبت عبر فايسبوك بداية بيتاً من قصيدة «ذات يوم»: «قتلوني ذات يوم، يا أحبائيَ لكن، ظلَّ مرفوعاً إلى الغرب جبيني»، ثم كتبت: «آب، شهر موت الشعراء، محمود درويش 9/8/2008.. سميح القاسم 19/8/2014.. من 9 إلى 19.. عاش شعر المقاومة». وبعد حوالى ساعة على خبر الرحيل، كتب الفنان الفلسطيني «محبوب العرب» محمد عسّاف عبر فايسبوك مقطعاً من قصيدة «غرباء»: «وحملنا.. جرحنا الدامي حملنا.. وإلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا». وأضاف: «مع تجدد العدوان الغاشم على غزّة الحبيبة، فقد الشعب الفلسطيني شاعر الزيتون والأرض سميح القاسم، بعد صراع طويل مع المرض. نحن شعب يمضي رغم الجراح. لروحك الرحمة يا شاعرنا الكبير ولنا العزاء والسلوان».
سيبقى صاحب «أشد من الماء حزناً» حاضراً بين الناس، هو وقصيدته، كما حافظت قصيدة وأغنية «منتصب القامة أمشي» على حضورها على مرّ كلّ هذه السنين، فهي من القصائد التي تشبه الأوقات كلّها، وتشبه المكان بكامل تاريخه المستمر، كما شاعرها تماماً. فكيف يمكن أن تغيب قصيدة من قال، في ظلّ معاناته مع المرض: « أنا.. لا أُحبُّكَ يا موتُ.. لكنني لا أخافُكْ!».
وسيصل جثمان الشاعر عند العاشرة من صباح اليوم الخميس إلى «بيت الشعب» في قرية الرامة الجليلية، ثم ستشيّع جماهير غفيرة جثمانه في مسيرة تنطلق من «بيت الشعب» وتجوب شوارع القرية، عند الساعة الثانية عشرة والنصف، باتجاه الملعب البلدي حيث يُسجّى الجثمان لإلقاء نظرة الوداع. وعند الساعة الثالثة، تبدأ المراسم الرسمية للجنازة وكلمات تأبينية قصيرة. وربما عندها، سيُسمع في الصدى صوته، وهو يقول بيت القصيد، من القصيدة التي رثاه بها صديقه درويش، يوم قال له: «يُحبّونَنا مَيِّتينْ.. ولكنْ يُحبُّونَنا يا صديقي
القدس المحتلة | متشعبة هي سيرة سميح القاسم. تشبه شجرة تين تضرب جذورها في بلاد الشام، غير مبالية بالخرائط والحدود المصطنعة. تنبسط ذاكرتها بين عين الأسد وشفا عمرو وحاصبيا ودمشق ونجران. اقتلاع وترحال من أيّام «السَّفر برلك» إلى كارثة فلسطين. في سيرته «إنها مجرّد منفضة»، يمزج القاسم تاريخه الشخصي بتاريخ عائلته، ويستعيد ولادته في الزرقاء الأُردنية عام 1939. وعودة عائلته إلى بلدة الرامة إبّان الحرب العالمية الثانية. يومذاك، كان التعتيم مفروضاً على القطار العائد إلى فلسطين، خوفاً من الغارات التي قد تشنّها الطائرات الألمانية. يحكي القاسم بسخرية أن محاولة اغتياله الأولى كانت في ذلك القطار، حين حاول أحد الركّاب قتله حتى يُسكت بكاءه وصراخه. خاف الرجل أن تسمع طائرات النازيين بكاء الشاعر الطفل، فتقصف القطار! بعد «محاولة الاغتيال» هذه، سيجرّب القاسم صوته في جوقة الإنشاد المدرسية في «دير اللاتين» في الرامة، وينشد مع زملائه أناشيد «موطني» و«بلاد العرب أوطاني»، و«يا ظلام السجن خيّم».
تجارب أولى على الإلقاء، يشحذ بها صوته الذي ظهر في مجموعته الأولى «مواكب الشمس» التي صدرت عام 1958. في ذلك العام، اعتُقل للمرة الأولى تحت الحكم العسكري الإسرائيلي. كان نازيون جدد قد سمعوا صوته وأصوات شعراء ومثقفين فلسطينيين أمثال محمود درويش وتوفيق زياد وإميل حبيبي وإميل توما؛ رفضوا الخضوع للحكم العسكري. يحكي القاسم بحميمية آسرة لحظة اكتشافه «شاعراً في الصف» و«الدرس الأوّل» في النقد الأدبي من أُستاذ اللغة العربية: «لا تذهب إلى القصيدة يا بُني، دعها هي تأتي إليك، وستأتي... لا تقلق». في «دير اللاتين» القائمة في بناء روسي قديم، سيحقق القاسم أيضاً «شعبية» مرموقة بين الفتيات القليلات في المدرسة، حيث لمع نجمه في الفرقة المسرحية.
كان في التاسعة من عمره حين وقعت كارثة فلسطين، وحين صاروا ينادونه «يا شاب!». يستمع إلى الحوارات التي كانت تدور بين الرجال في ديوان بيتهم. أسماء غريبة تتقافز مثل الجنادب: «ابن غريون وموسى شرتوك وموسى ديان». يستمع إلى الأحكام المطلقة عن «الزعامة العربية التي باعت القضية»، وعن أن «المسألة مَبيُوعة». أحكام تعبّر عن أسى ومرارة، لكنّ شبحها يُخيّم على الواقع السياسي العربي. سيرحل القاسم وإسرائيل ماضية في ذبح غزة وفلسطين، وسلالات النفط والغاز تتحالف معها، والشارع العربي ينتفض على الفايسبوك وتويتر ويصمت في الشارع.
ستبقى سيرة القاسم كوّة نطلُّ منها على الذاكرة الفلسطينية بآمالها وانكساراتها وتناقضاتها. تجربته مع رفاق آخرين في «الحزب الشيوعي الإسرائيلي» الذي خرج منه بعد ملابسات اتهامه بـ«الشوفينية القومية»، ما زالت موضع جدل ونقاش لن ينتهي إلا بتحرير فلسطين وطوي صفحة الكارثة واستعادة الذاكرة. في السنوات الأخيرة، أخذ عليه كثيرون صداقته مع رجالات السلطة الفلسطينية التي صارت نسخة مقلّدة عن «الزعامة العربية» التي باعت يوماً فلسطين، ومشاركته في فعاليات ثقافية نظّمتها جهات إسرائيلية. رغم هذا، سنتذكر قصائده التي كانت زادنا في لحظات تاريخية، مثل قصيدته الأبرز «تقدّموا.. تقدّموا»، وعنوانها الأصلي «رسالة إلى غزاةٍ لا يقرأون». قصيدة استهلمها من أطفال القدس المحتلة في انتفاضة عام 1987. رآهم القاسم يصرخون على الجنود الصهاينة بالعبرية «كديما.. كديما (تقدّموا.. تقدّموا) يا أولاد الكلب.. كديما».. فجاءت قصيدة مفخخة بعنفوان أطفال الحجارة وروحهم القتالية إلى الأبد.
كانت أول مرة أسمع فيها باسم سميح القاسم بُعيد حرب حزيران 1967 مباشرة، ربما بعد شهرين أو ثلاثة من حزيرن الهزيمة. كنت في 16 أو 17 من عمري، عندما أبصرت في ظهيرة أحد الأيام ريان أبو بيح وقد وضع كوعيه على طاولة دكانه قرب الجامع، وأخذ يقرأ فقرات من كتاب بين يديه، مترنماً بصوت عال.كان الكتاب هو مجموعة «دمي على كفِّي» لسميح القاسم.
وكانت المجموعة قد صدرت عن «مطبعة الحكيم» في الناصرة في السنة نفسها، سنة الهزيمة، هزيمة عام 1967. وما زلت أذكر طراطيش الدم في اللوحة على غلاف الكتاب. ذلك أنني أخذت الكتاب من بين يدي ريان، وقرأت عدداً من قصائده. لا بد أنّ أحداً أحضر المجموعة من كفر قاسم. فمنذ أن كسرت إسرائيل باحتلالها الحدود بين الضفة ومناطق 1948، مستوليةً على ما تبقى من فلسطين، انفتحت الطريق من جديد وتعبدت بين قريتي الزاوية وقرية كفر قاسم. كانت الطريق قد اغلقت بين القريتين عام 1948. غير أننا سمعنا من بيوتنا صراخ الناس وهم يذبحون فيها عام 1956. أنا لم أسمع وقتها، لكن الناس الكبار في حينه سمعوا الصراخ المرّ لمن ذبحوا. بدأ الناس بالعبور في الطريق الذي أخذ يتعبد من جديد. كان أهل كفر قاسم المقيمون في قريتنا أول من فعل ذلك، ثم تبعهم الجميع. وأذكر أن والدي حمَّل الحمار بسحارتي لوز، وأرسلني إلى هناك كي أبيع اللوز. وقد بعته. كان عندنا حقل كبير من اللوز، لكن لم يبق شيء منه الآن. فاللوز شجر لا يعمر طويلاً. ومن هناك، من كفر قاسم، جاءت نسخة «دمي على كفي» التي سمعت في ذلك اليوم ريان يقرأ منها. قرأ ريان من المجموعة كلاماً بدا غريباً ومفاجئاً لمن تجمعوا حوله. لم يكن بالضبط مثل الشعر الذي يعرفونه أو يتوقعونه. وقد كان أيضاً غريباً بشكل ما بالنسبة لي. لم أكن بعد قد تعرّفت على الشعر الحديث، شعر التفعيلة، إلا من خلال نصوص قليلة في المنهاج الدراسي. وكانت النصوص قريبة في المزاج من النصوص القديمة. أذكر على الأقل شيئاً من نص واحد منها أظن أنّه كان للشاعر السوداني محيي الدين فارس: «وحدي هنا ما زلت أصعد، والليل تمثال مصفد، هجرته آلهة القرون، رؤى قياصره القديمة». بدا لي كلام القاسم جديداً، لكنه غير متماسك. ثمة خطأ ما فيه، ضعف ما. هذا هو الانطباع الذي في رأسي عن تلك اللحظات. ولعل الخطأ كان في ذوقي أنا. ثم صار سميح القاسم بعد ذلك بسنتين على كل لسان، بعد أن كتب غسان كنفاني عنه وعن محمود درويش في كتابه عن شعر المقاومة. والآن، وبعد هذا الزمن الطويل يرحل سميح، ويتركنا كي نتذكر، وكي نعيد ترتيب الأمور في أذهاننا. الموت فرصة مناسبة لإعادة ترتيب الأمور لإعادة الحساب. الموت هو القاضي الكبير، بل هو شيخ القضاة الذي يأمرنا بأن نعيد استجلاء الأمور والقضايا وحسابها من جديد. ولا يمكن الشك في هذه القضية، كان سميح القاسم جزءاً من وعي أمة بكاملها في نهاية الستينيات، وطوال السبعينيات على الأقل. لم يكن جزءاً من وعي فلسطين فقط، بل جزءاً من وعي امة بكاملها. ولا يمكن الاستخفاف بمن يكون هكذا أبداً. من يكون جزءاً من وعي أمة، فهو جزء من ذاتي، وجزء من وعيي لهذه الذات، مثله مثل محمود درويش. بالطبع، فتحنا نحن من جئنا بعد سميح طرقنا وآفاقنا. كانت طرقاً لا تلتقي مع طرق سميح إلا نادراً. وعلى عكس درويش الذي ظل حتى النفس الأخير يحاول أن يكتشف طرقاً جديدة، أصر سميح على طرقه. بل لعله توقف عن السير في الممرات الخاصة والواعدة التي فتحها يوماً، لكي يتمسك بالممرات الأكثر إلفة وعادية. لم تعد لديه طاقة على استكشاف طرق جديدة. رضي عن نفسه، ورضيت عنه في حين ظل درويش غير راض أبداً. كان يذهب مثل لصّ إلى نصوص اكثر الشعراء شباباً ويقرأها. كان يشعر بكل جيل يفقس من الشعراء ويحس بتهديده. أما سميح، فلم يكن يحس بأي تهديد. كان مؤمناً بذاته وراضياً عنها. لكن أنلومه على ذلك؟ أليس على كل واحد أن يرضى في لحظة من اللحظات؟ لست أدري. على كل حال، فقد رحل سميح عنا، تاركاً لنا تراثاً ضخماً مكوناً من عشرات المجموعات. وربما كان علينا الآن نحن أن ننقي هذه المجموعات. أن نستخرج ذهبها. فلن تظهر نبوءة سميح على حقيقتها إلا بجهدنا. علينا أن نصنع من كل هذه المجموعات مختارات تساوي ثلاثاً أو أربع مجموعات، ونقول: هذا هو سميح القاسم الحقيقي. هذا هو لهبه. وهذه هي ناره.
* شاعر وباحث فلسطيني
»كلنا مع فلسطين» (1971) للسوري برهان كركوتلي (تفصيل)
في ثرى الجليل الذي رفض أن يغادره، يرتاح سميح القاسم اليوم في بلدة الرامة. يرحل جسده ويبقى صدى صوته منادياً طائر الرعد «بعد انتحار القحط في صوتي.. شيءٌ روائعه بلا حدّ.. شيءٌ يسمّى في الأغاني طائر الرعد.. لا بد أن يأتي فلقد بلغناها.. بلغنا قمة الموت». سميح القاسم الذي يُجمِع كل من عرفه على تواضعه وإنسانيته وابتعاده عن «البرج العاجي» الذي يعزل فيه بعض المبدعين أنفسهم عن الناس خاطب موته قائلاً «أنا لا أحبك يا موت ولكني لا أخافك».
يعتبر سميح القاسم من الرعيل الأول لشعراء المقاومة كما سمّاهم آنذاك الأديب الشهيد غسان كنفاني. نشر مجموعته الشعرية الأولى «مواكب الشمس» عام 1958. وكان قد سبقه في إصدار ديوان للشعر المقاوم راشد حسين، وتلاه محمود درويش وتوفيق زياد، ليُشكلوا معاً ما اصطلح على تسميته «أدب المقاومة». يقول الشاعر سامي مهنا، رئيس «اتحاد الكتاب الفلسطينيين العرب» في الداخل المحتل إنّ «ظاهرة أدب المقاومة أدهشت العالم العربي في أعقاب النكسة. أفاق هذا العالم على وقع الهزيمة وسمع أصواتاً مجلجلة تقف أمام «الأسطورة الإسرائيلية» من داخل الأرض المحتلة».
ويضيف الكاتب والناقد أنطون شلحت إنّ «أهم ما في سميح القاسم أنّه كان أحد الأركان المتينة لظاهرة شعر المقاومة الذي أنتج في ظروف تعتبر الأدنى من حيث شروط الإبداع الأدبي بعد أعوام قليلة من نكبة 1948 وما ترتب عليها من مدلولات سياسية واجتماعية وثقافية بالنسبة إلى الشعب العربي الفلسطيني، وخصوصاً ذلك الجزء الذي بقي منه داخل الكيان الذي أقيم على أنقاض وطن هذا الشعب. وكان الاحتفاء بهذه الظاهرة بعدما اكتشفها العالم العربي عقب حرب حزيران 1967، احتفاءً ليس بعنصر المقاومة في هذا الشعر، بل أيضاً بالإبداع الصافي وبهاجس الحياة وبقدرتها على مخاطبة قارئ لا يساوم، ولا يرتطم بجدران ظرف عابر أو تقليد فجٍ.
أنشأ »الشبان الأحرار» المناهضة للتجنيد الإجباري للشبان العرب الدروز
سُجن سميح القاسم مراراً في السجون الإسرائيلية على خلفية كتاباته الأدبية والشعرية ورفضه الالتحاق بالخدمة العسكرية القسرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، المفروضة على الطائفة العربية الدرزية التي ينتمي إليها. أنشأ المجموعة التي أطلق عليها «الشبان الأحرار» تيمّناً بثورة الضباط الأحرار في مصر، وقد عملت على مناهضة التجنيد الإجباري للشبان العرب الدروز. ويُجمع عديدون على أن لسميح القاسم فضلاً كبيراً في ترسيخ الهوية الفلسطينية لدى الفلسطينيين في الداخل المحتل. إذ يلاحظ منذ بدايات شعره في الستينيات حين ساد الحكم العسكري الذي حاول طمس الهوية الفلسطينية ومحوها أنّ «سميح أعلن عن الهوية الفلسطينية وأسهم في ترسيخها. دور الثقافة هنا الذي ساهم فيه القاسم بشكل كبير، سبق دور السياسة والأحزاب السياسية»، كما يقول أنطون شلحت.
«لقد كانت المعركة الثقافية والأدبية جبهة وخندقاً أسهما في الثورة الفلسطينية. لقد كان شعر سميح القاسم ومحمود درويش وشعراء المقاومة الآخرون ممنوعاً خلال فترة الحكم العسكري، إذ نصبت الحواجز على مداخل البلدات العربية، وقام الناس في بعض الأحيان بتهريبهم من خلال الجرافات الزراعية إلى داخل تلك البلدات كي يتمكنوا من إلقاء الشعر لجمهورهم»، يضيف الشاعر سامي مهنا.
يعتبر أنطون شلحت أنّ ما يُميّز شعر سميح القاسم أن «جملته الشعرية عكست أكثر من أي شيء آخر غضباً ثورياً خضع لتحولات لم تَنه عن الأصل، وتحولت الى ما يشبه النبوءة الثورية. كذلك، فهي جملة تتميز بمتانة اللغة وبالنهل من التراث الشعري العربي القديم ومتمكنة من العروض الشعرية التي كان يعتبرها أهم معايير كتابة الشعر ولا تشكل قيداً عليه». ويرى الشاعر سامي مهنا أنّ «ما يميز شعره هو ارتكازه على الثقافة العربية الإسلامية، والمبنى الأوركسترالي في قصيدته. كما أنه من شعراء الحداثة القلائل الذين لم يقطعوا العلاقة مع القصيدة العمودية واستمر في كتابتها حتى آخر أيامه. لقد استطاع أن يصالح بين الحداثة والأسلوب القديم في الشعر العربي».
إضافة إلى المساهمات الأدبية والشعرية التي بلغت أكثر من 70 عملاً، فقد كانت لسميح القاسم إسهامات في المجال الصحافي والثقافي. ترأس تحرير مجلة «الجديد» التي أسهمت في إعلاء شأن القضية الفلسطينية، وخصوصاً قضية الفلسطينيين في الداخل. كما عمل في صحيفة «الاتحاد» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الذي انتمى إليه حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي وفي صحيفة «كل العرب». الصحافي سليم سلامة الذي عمل مع القاسم في صحيفتي «الاتحاد» و«كل العرب» يعتقد أنّ «سميح القاسم هو آخر عنقود الجيل القيادي الذي أسهم في ترسيخ الوعي الوطني والاجتماعي، ومحاربة التعصب الاجتماعي والطائفي، لقد ترك فراغاً سنشعر به لاحقاً».
في حضرة الغياب وفي شهر آب، سيشيع آلاف الفلسطينيين شاعر المقاومة الأخير، ملتحقاً برفيق دربه محمود درويش وصدى صوته يقول «أسَمّيكَ نرجسةً حول قلبي، لو كان قلبي معكْ، وأودعتُهُ خَشَبَ السنديان، لكنتُ قطعتُ الطريقَ بموتٍ أقلّ».
دمشق | حسناً فعلتَ يا رجُل. لقد متّ في الوقت المناسب تماماً! ذات ثلاثاء عربي عادي، في منتصف الأسبوع. ليس ثمّة عطلة، ولا تراكم في الأنباء الواجبة النشر. سيكونُ من السهلِ أن تخصص لك الصحف صفحات وصفحات في اليومين التاليين. لا أحداث خارجة عن المألوف تدعو إلى الانهماك فيها، وتقليص مساحات نعيك. كل شيءٍ على ما اعتدنا: «الخفافيشُ وراء الصحف (...) وعلى واجهة الكتب وسيقان الصبايا».
و«ملءُ مدارج التاريخِ أفواج من الشهداء». حسناً فعلت، المشهدُ مناسبٌ تماماً. دمشقُ تضحكُ علينا، إذ نُصدّق أنها بخير. و«في بغداد نازفةٌ دماء شعبي من حينٍ إلى حينِ». القاهرةُ تجمعُ المُمثلين في فصول مُكررة من مسرحية باهتة. وغزة من جديد تحت النار. حسناً فعلت، المشهد مثالي، العالمُ العربيّ كلّه كـ «خليج جونية المنفرج كفخذي قحبة تنتظر رجال البحرية الأميركية». ويمكننا هجاء واشنطن كما نشاء: «في فيتنام مذبحة وأنت تُصدّرين / كعكاً وأدوية الى القمر الحزين/ وتكنسين على دم الجرحى الزبالة». كلّ شيءٍ مُناسب، ستجدُ الشاشاتُ فائدةً إضافيّة في استعادة بعض مما قلت، فنحنُ ـ كما المعتاد ـ في أمسّ الحاجة إلى البكائيات. ستُساعدُ في ذلك قصائدكَ المغنّاة، فالغناءُ ملائمٌ لحفلات العويل العابرة. سيكونُ سهلاً علينا نحنُ الكَتبةَ أن نجترّ المراثي ذاتها، مستعينين بك. كأن يدخل أحدنا إلى نعيك من باب «الدم الصهيل»، مٌستعيراً منها: «يا رائحاً للشام سلم على الحبيب». ويوسّع آخر العَدسة، فيصطاد من «تغريبة» قولك: «لأن البلادَ – دع الشعر – ليست تفكر في النازحين». وعبرها يردد كثيرون صرختك: «ولم يبق في الأرض غير الذين يحبوننا ميتين»، وكأنّ الأرض اتسعت لسواهم يوماً ما! حسناً، علينا أن نشكرك ونعترف، لقد تركت مفاتيح كثيرة للراثين. أنا أفكرُ مثلاً في عقد مقارنةٍ بيني وبينك. سأقولُ: إنّني مثلُك، شاعرٌ اشتغل في الصحافة. الأمر سهلٌ - كما ترى – في زمانٍ باتت فيه حيازة لقب شاعر أسهل من حيازة عقب سيجارة. وباتَت فيه «سوق الصحافة» مفتوحة على مصراعيها أمامنا، نحن الطارئين. ولن يكونَ صعباً أن أختتم بجملةٍ من طراز: «هذه ليست مرثيّة يا سميح». أتسألُ عن الآخرين الذين لن يحلو لهم تمجيدُك؟ لا تقلق، لقد اخترت التوقيت المناسب لهؤلاء أيضاً: محاكم تفتيشنا تخضرمَت، والمشانقُ جاهزةٌ في كل حين. وسيكونُ سهلاً عليهم أن يجدوا في مسيرتك ما يستوجبُ ذبحك. هل قلتَ يوماً إنّ هناك «سوناتا سيئة، ومارشٌ جيد»؟. دعني أبشّركَ إذاً، سنعزفُ في وداعك عشرات السوناتات الرديئة، وعشرات المارشات الأشد رداءة. لن يفاجئكَ هذا حتماً، فأنت تعي جيداً القيمة الحقيقية للزمان العربي الذي اخترتهُ ميقاتاً لموتك. ها أنتَ تبتسمُ ساخراً إذ أكرر قولي: لقد متّ في الوقت المناسب تماماً. ويخطر لكَ أن تشدّني من أذني صارخاً: كل الأزمنة العربية مناسبةٌ لموت شاعرٍ يا ولد.
«تقدموا: لا خوذة الجندي، لا هراوة الشرطي، لا غازكم المسيل للدموع، غزة تبكينا، لأنها فينا، ضراوة الغائب في حنينه الدامي للرجوع، تقدموا، من شارع لشارع، من منزل لمنزل، من جثة لجثة، تقدموا، يصيح كل حجر مغتصب، تصرخ كل ساحة من غضب، يضج كل عصب، الموت لا الركوع، موت ولا ركوع، تقدموا».
أول من أمس، رحل سميح القاسم. لم تطفأ الأضواء في المخيّم، كما لم ترفع الأعلام السود. هكذا يرحل الشعراء بصمت في بلادٍ تحترف قتل الشعراء كما كان يقول صديقه القريب محمود درويش في إحدى قصائده. القاسم الذي عرفه الفلسطينيون العائدون في لبنان من خلال قصيدته الأقرب إلى قلوبهم «منتصب القامة أمشي» غازلهم كثيراً ولم يزرهم بسبب المنع الاسرائيلي، ومحاولته الوحيدة باءت بالفشل عام 2001. يعتبر القاسم من جيل الرواد للشارع الفلسطيني، سواء أكان ذلك شعرياً، ثقافياً، أو حتى أدبياً، وإن لم يحظَ بالشهرة نفسها التي حظي بها محمود درويش في لبنان. لكن ما يفاجئ كثيراً أنّ قصائد الشاعر الذي لم يغادر أرض فلسطين كثيراً يحفظها كثيرٌ من الأطفال، وتتردد في حناجر أطفال المخيم. قصيدة «تقدموا» مثلاً التي سُجن على إثرها ووضع بعدها في الإقامة الجبرية، تعتبر من أشهر ما يعرفه الفلسطينيون عنه ههنا. القصيدة الصاخبة الممتلئة ثوريةً، تستعمل كل عامٍ في الاحتفالات المركزية التي تقيمها معظم الفصائل الفلسطينية (حتى الإسلامية منها) داخل المخيمات في لبنان. القصيدة مباشرةٌ من دون أفعال مواربة (كالتي يستعملها درويش مثلاً). لذلك لم يكن غريباً أن يقرأها أغلب الأطفال الفلسطينيين على منصة كلما أرادوا المشاركة في إعلان موقفٍ مقاوم. في الإطار عينه، رسمت الكلمة مراراً على حوائط المخيم كشاهدٍ، رغم أن كثيرين لا يعرفون بأن صاحب القصيدة/ الكلمة هو شاعرٌ لم يأتِ يوماً إلى لبنان. لم تعرفه أزقة المخيمات إلا شاعراً، ولم يلحظه أيُ مارٍ. لكن مع هذا، فإن سألت أهل المخيمات عنه، وجدتهم يتحدثون عنه بصيغة العارف، حتى إنّ بعضهم يعتقد بإصرار أنه زار المخيّم، وقابل ياسر عرفات هنا في أحد المنازل.
القاسم الذي كتب مرثية لتل الزعتر نشرت آنذاك في إحدى الجرائد الفلسطينية، كانت شديدة الأثر على المخيمات (رفض لاحقاً إعادة نشرها والحديث عنها حتى خلال المقابلة على قناة «الجزيرة» القطرية التي تناولت حياته، ربما لأن تلك القصيدة حوت موقفاً سياسياً هاجم فيه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي عاد وقابله ورثاه عند وفاته). تناقلها الكبار ككنز دفين، وكانت قصيدته قد نشرت قبل ان يكتب محمود درويش «أحمد الزعتر». يحكى يومها أنّ القصيدة نسخت يدوياً ووزعت على سكان المخيمات الأخرى، لأن الطباعة والنسخ الطباعي كانا مرتفعي الثمن. لذا، كان أسرع الطرق وأزهدها هو النسخ. نُسخت أكثر من 1000 نسخة يدوية كتبت بخط اليد من متطوعين فلسطينيين وكان الهدف إسماعها للناجين من المذبحة، كما للعالم بأنه ما زال هناك صوتٌ حي خلف كل تلك الدماء. قد لا ترفع أعلامٌ سوداء في المخيمات الفلسطينية لرثاء سميح القاسم ربما لأن الشعراء لا يرحلون، يبقون دائماً حيثما يريدون هم. ستظل كلماتهم تتردد في حناجر الأطفال كل عامٍ وفي كل مناسبة، وستظل كثيرٌ من الحوائط دليلاً وشاهداً على أنّ: منتصب القامة يمشي، مرفوع الهامة: ينتصر!
«هناك سنلتقي في الجنة أو في الجحيم، الأكيد أننا سنلتقي». ودّع سميح القاسم الشاعر الراحل أنسي الحاج بهذه الكلمات. ولعلّه وحده كان يعرف أن اللقاء قد يكون قريباً إلى هذا الحد. تلقّى الشعر العربي ضربات كثيرة في السنوات القليلة الماضية، وها هو الحداد يلف القصيدة مجدداً مع انطفاء سميح القاسم بعد صراع مع مرض سرطان الكبد. من قرية الرامة الفلسطينية، بدأت رحلة القاسم عام 1939. أمضى مرحلة الدراسة الابتدائية في «مدرسة اللاتين» في الرامة بين 1945 و1953، قبل أن ينتقل إلى «كلية تيرا سانطا في الناصرة»، إلى أن نال شهادة الثانوية سنة 1957. بعدها سافر إلى الاتحاد السوفياتي، وهناك درس سنة واحدة الفلسفة والاقتصاد واللغة الروسية. أما المحطّة التالية، فكانت نشاطه السياسي في «الحزب الشيوعي»، قبل أن يترك الحزب ليتفرغ لعمله الأدبي كلياً، الذي سيصبح غزيراً في ما بعد، وسيجعل اسمه من بين أهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين إلى جانب محمود درويش وتوفيق زيّاد. إلى جانب العمل السياسي والأدبي المتنوّع، انخرط القاسم في العمل الصحافي أيضاً، فكان من مؤسسي صحيفة «كل العرب»، قبل أن يسهم في تحرير «الغد» و«الاتحاد»، و«هذا العالم» و«الجديد». كذلك أسّس منشورات «عربسك» في حيفا مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدار «المؤسسة الشعبية للفنون» (حيفا)، وترأس «الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين». رام الله | "أنا لا أحبك يا موت، لكني لا أخافك، وأدرك أنك سرير لجسمي وروحي لحافك.. وأدرك أنّي تضيق عليّ ضفافك.. أنا لا أحبك يا موت، لكني لا أخافك!".. كانت هذه آخر كلمات أيقونة الشعر العربي سميح القاسم التي خطها بيده قبل رحيله بأيام، ونشرت كصورة على صفحته على الفايسبوك، قبل أن يخطفه من لا يحب، مساء أول من أمس، متواطئاً مع "الخبيث الذي لا يرحم".
وتوالت ردود الفعل الفلسطينية والعربية، السياسية والثقافية والفنية، في نعي صاحب "منتصب القامة"، و"تقدموا"، وغيرها الكثير من القصائد الخالدة.. ونعى الرئيس محمود عباس، الشاعر الفلسطيني الذي غيبه الموت مساء الثلاثاء، بعد صراع مع المرض. وقال عباس في بيان له، إنّ القاسم "صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، هو الذي كرّس جلّ حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض".
وفي الإطار نفسه، نعته اللجنة التنفيذية لـ "منظمة التحرير الفلسطينية". وقالت حنان عشراوي رئيسة دائرة الثقافة والاعلام في المنظمة: "تلقينا ببالغ الحزن والأسى وعميق التأثر نبأ وفاة أحد أبرز رموز الثقافة الإنسانية المعاصرة، الشاعر الكبير سميح القاسم، شاعر الوطن والثورة، عاشق فلسطين، وأحد أهم رواد المشروع الثقافي الفلسطيني الحديث". وأضافت: "عاش القاسم مدافعاً عن الثقافة الوطنية الفلسطينية في مواجهة محاولات التبديد والطمس حيث حملت أشعاره ومؤلفاته في طياتها قضية ومعاناة وطموحات شعبه وبلاده، إلى كل أرباع الكون، وكل اللغات، لترسم صورة الإنسان الفلسطيني.
من جانبه، قال "المجلس الوطني الفلسطيني" على لسان رئيسه سليم الزعنون، إنّ رحيل سميح القاسم "خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني الذي كرس كل أعماله الشعرية في خدمة قضيته ونضاله العادل، وخسارة لا يمكن تعويضها لامتنا العربية".
وقال: "سيبقى شعبنا الفلسطيني يقاوم ويناضل حتى يتحقق حلمه في العودة إلى وطنه وهو يخلد أعمال شاعر فلسطين ويستذكر قصيدته الخالدة: تقدموا. تقدموا. يموت منا الطفل والشيخ. ولا يستسلم، وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم. تقدموا. مهما هددوا وشردوا ويتموا وهدموا. لن تكسروا أعماقنا. لن تهزموا أشواقنا. نحن القضاء المبرم. تقدموا".
وعلق "متحف محمود درويش" في مدينة رام الله نشاطاته لثلاثة أيام حداداً على روح القاسم، فيما نعت وزارة الثقافة الفلسطينية "شاعر فلسطين الكبير وأحد أبرز وجوهها الثقافية والشعرية، الشاعر المناضل سميح القاسم، الذي غيبه الموت بعد صراع طويل مع المرض".
وأعرب "الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين" عن شعوره بفداحة الخسارة للحركة الثقافية في فلسطين، وفي الوطن العربي، والعالم الحرّ، برحيل هذه القامة الثقافية العالية، واستذكر "بمزيد من الفخر الدور الذي لعبه الشاعر الكبير، إلى جانب الراحلين توفيق زيّاد ومحمود درويش، في التأسيس لمدرسة المقاومة الشعرية، التي انطلقت شرارتها الأولى من داخل الدائرة الضيّقة التي أغلقها الغاصبون بالنار والحديد على ذلك الجزء العزيز والغالي من وطننا، وليكسر الشعراء الثلاثة، ومن جايلهم من مثقفينا هناك، تلك الدائرة السوداء محلقين في الفضاءات العالية".
في حوار أجراه كاتب هذه السطور معه قبل قرابة شهرين، وبدأت "ذوات" (صحيفة ثقافية فكرية تصدر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث") بنشره على أجزاء، استهجن القاسم حديث البعض عن نظمه قصيدة لرئيس وزراء الاحتلال الراحل إسحق رابين. وقالها بوضوح: "هذه إشاعة. على حد علمي، ذكرتُ رابين في الشعر العربي مرة واحدة في قصيدتي "يوم الأرض" عام 1976. قلت حينها "هل أوقفت الشمس على أسوار أريحا. أرضيت الرب القاتل لا نعلم. لكنا نعلم أن الشمس تسير على أعناق الشهداء. من بحر البقر إلى سخنين ومن المغرب لفلسطين فاسمع يا يوشع واسمع يا رابين. ما حصل وشُوه بهذا الشكل البذيء وتم الإدعاء زوراً وبهتاناً بأنني رثيت رابين، هو باختصار أنه عقدت ندوة عن العنف السياسي والأدب، وطلب مني أن أحاور بعض الشعراء اليهود. بالمناسبة قلتها مليون مرة أنا أحاور الشيطان شخصياً في سبيل قضيتي. نحن لسنا عنصريين ولسنا معادين لليهود كونهم يهوداً، فهناك يهود تقدميون أشرف من سماسرة وعملاء عرب. أنا أحاور الجميع. لقد سبق وحاورت "كهانا". قضيتي عادلة وأنا قادر على الدفاع عنها، لذلك حين أدعى لحوار كهذا في ذكرى مقتل رابين، مكاني الطبيعي أن أكون هناك لأنقل صوتنا جميعاً. صوت شعب وأمة. لم تعينّي الجامعة العربية. وأنا، لمن أحب أو لم يحب، الناطق غير الرسمي باسم الأمة العربية كلها، وباسم الأمة الإسلامية كلها. هذه الإشاعات كلام صهيوني، فلا مصلحة لأحد بتشويه سمعتي أو سمعة محمود درويش أو غيرنا إلا الحركة الصهيونية الهادفة إلى تشويه رموز أدب المقاومة، وللأسف نجد من يكرر هذه الاتهامات وذلك لغياب "الثقة بالنفس".
وقتها قال القاسم، وكان يرتدي بيجاما من "الستان" في منزله في قريته الرامة في الجليل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948: "رحلة الاحتلال وما يرافقها من شتات فلسطيني عابرةٌ، لأن القصيدة تنبأت بذلك. تشتتنا بين رام الله والرامة في الجليل أمر طبيعي في هذه المرحلة غير الطبيعية. هذه المرحلة غير الطبيعية عابرة لأن القصيدة الفلسطينية قالت لها ستكونين لها مرحلة عابرة. هذا ما قالته القصيدة، والقصيدة لا تشتغل بالتكتيك ولا بالخرائط ولا تفاوض. القصيدة تقول حلمها وجموحها بكل حرية، ولذلك فليس هناك شيء أكثر صدقاً من "القصيدة الصادقة".
وتذكر القاسم "يوم ودعنا قيادة المنظمة في تونس. قلت لأهل تونس جايين نأخد البنت منظمة التحرير لعريسها الوطن". وأضاف: "قلت بأن الدولة الفلسطينية قادمة، فرد عليّ أحدهم بأنني أهذي وبأن ما أقوله خيال شعراء، فأكدت بأنه ليس على الأرض أكثر واقعية من خيال الشعراء. وخيال الشعراء يقول بأن الاحتلال زائل لأنه باطل. الاحتلال يتعارض مع المنطق التاريخي ومع الوعي الإنساني ومع الأديان والشرائع السماوية والأرضية، ومع مهب رياح العصر الذي يرفض الاحتلال والعنصرية ونهب الأرض وبناء البيوت عليها للوافدين من كل أنحاء الأرض، ويرفض ما يسمى "الاستيطان"، وهو استعمار كولونيالي بكل معنى الكلمة. هذا ما قالته القصيدة الفلسطينية منذ بداية الصراع
سميح القاسم خرج من عصر المناحات الشعرية العربية تماماً في اللحظة التاريخية المناسبة، وهي اكتمال الهزيمة عام 1967، إذ سيبتدئ من القاع محاولة تسلق القمة. كان ثمة جوقة من المراثي العربية تصدح بأصوات متنوعة من أعماق الجزيرة الى شاطئ المتوسط، ومن أطراف النيل الى ثلوج صنين، ولماذا؟
نسأل ونجيب: لأن التاريخ العربي الحديث والمعاصر جاء ليكلّل سقوط بغداد بأيدي التتار، وسقوط الأندلس بأيدي الإسبان، وسقوط لواء اسكندرون بأيدي الأتراك، بتاج الشوك سقوط فلسطين. وبعد عشرين عاماً، سقوط الفتى المهر الأغرّ جمال عبد الناصر عن صهوة العروبة عام 1967. لا نستطيع فهم صوت شعراء الأرض المحتلة مثل سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيّاد من دون هذه الحاشية التاريخية. هذه الحاشية التي أصبحت متن الشعر العربي الحديث بكامله، وهو شعر سياسي بالضرورة حتى ولو تكلم الشاعر عن «لن» (أنسي الحاج) أو عن الكركدن (توفيق صايغ)، فالتاريخ ضاغط على لهاة الشاعر وضاغط على اللغة. وبرغم نكهة سميح الساخرة، إلا أنه في حقيقته ومنذ دواوينه الأولى مثل «مواكب الشمس» (1958)، و«أغاني الدروب» (1964)، وهي رومانسية متأثرة بمن سبقها مثل عبد الرحيم عمر، وعلي محمود طه، حتى الأخيرة «كولاج» (2012). هو شاعر حكائي يتناول مفرداته من الفم السائر للناس ومن الفولكلور الشعبي الفلسطيني، وكثيراً ما يلجأ إلى الأساطير والكتب الدينية، وينهل من كل ذلك مادته الشعرية، فيمزج بين حدين بعيدين، حدّ الحكي اليومي القريب الذي يسمّي الأشياء بأسمائها حتى لو كانت بالأجنبية فيقول مثلاً: «ونأخذ كي يستطيع الكلام ومعناه OK» (ديوان «هواجس لطقوس الأحفاد»)، وحدّ اللغة الأسطورية أو الدينية كما يفعل في قصائده الطويلة التي سماها «سربيّات».
ابتكر سميح مصطلحاً لنمط من القصائد كتبه بصيغة مطولات شعرية سماها «سربيّات» مثل ديوان «ثالث أوكسيد الكربون»، حيث يعرف السربية بقوله «هي تسمية مجازية للقصيدة الطويلة». أما ثالث أوكسيد الكربون، فيشتمل برأيه على عنصر سيكولوجي هو من العناصر المكونة للروح، أي أن الشاعر ينفث مع نفسه جزءاً من روحه، والسربية قصيدة طويلة متشابكة مؤسسة على أسطورة أو حكاية تاريخية، أو مقاطع من الميثولوجيا الدينية. وتتميز بالسرد الروائي وتشابك الأصوات وبناء قريب من البناء المسرحي. هذا هو الشكل. أما الجوهر، فهو إسقاط موضوع السربية على الواقع الفلسطيني. في مطولات القاسم ما يشبه المسرح في المسرح الذي غالباً ما لجأ إليه شكسبير في مسرحياته، فقد أسقط في ديوانه «كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه» (2000) الأصل الشكسبيري لمسرحية «هاملت» على المسرح الفلسطيني، متخذاً من هاملت قناعاً شخصياً له، وهو يسأل: هل أنا هاملت أم سميح؟ وأحياناً يسأل: هل أنا سميح أم مسيح».
كذلك سربية «انتقام الشنفرى»، حيث يتقمص القاسم شخص أهم الشعراء الصعاليك في الجاهلية وأجمل غراب للعرب، وهو الذي انتقم من العشيرة بقتلها جميعاً. سميح القاسم هو الأقرب الى هاملت من حيث تفرّده بالدعوة الى الانتقام، وتفرّده بأنه يقول بمقايضة الموت بالموت والدم بالدم أكثر مما يدور في فلك المصالحات. إنه ينفرد في ذلك عن شعر محمود درويش، فهو شعر مصالحة «إنسانوية». ورغم النبض الإنساني في شعر سميح، إلا أنّه كموقف سياسي حاد جداً وواضح جداً، وهو أقرب الى رموزه التاريخية من أي شاعر فلسطيني آخر. وبإمساكه بأشباح هاملت وآلامه، يلعب في القصيدة تقنية المرايا: «أنا هاملت العربي اشهدوني/ أدرّب عقلي على أُحجيات الجنون/ أبي ميت لا يموت/ وأمّيَ أمي/ وملكي نهبٌ لعمي».
مات الصديق الجميل سميح القاسم حيث كان يقيم في «الرامة» من الجليل الغربي، ولم يكن الموت يخيفه. كان يكره الموت ولكنه لا يخاف منه. يقول في «كولاج 3» معاتباً السرطان: «اشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان/ كي أقرأ بختك في الفنجان». سميح كان قريباً جداً من نفسي، وقريباً شخصياً أيضاً أكثر من سواه. عفوي وطفل وحرّ. نقي ساخر وساحر، وإذا كان «القرب حجاباً» كما يقول ابن عربي، فها هو سميح القاسم يبتعد قليلاً ليتركني أقرأ شعره.
لم يكن مستغرباً تلك العلاقة الملتبسة بين سميح القاسم (1939 ـ 2014) ومحمود درويش (1941 ـ 2008)، فهما لطالما تخاصما وتحابا، تقاتلا وتراسلا. ولا ريب في أنّ جناح البرتقالة الثاني (أو الأول) للشعر الفلسطيني، عرف ذات يوم بأنّ منافسه الأبرز فلسطينياً سيرحل بصمتٍ وهدوء ذات يوم، وستكون له (هو) غلبة وإن «زمنية» على الساحة الشعرية. لكنه مع هذا لم يكن سعيداً، فغياب المنافس لا يعني إلا أن الساحة أرضٌ بوار. هكذا صنّفها القاسم يوم رحيل درويش، فنعاه، ونعى الأرض التي استحالت بواراً بعد رحيل «شاعرٍ خاصب». عاش القاسم حياةً مليئة بكل شيء، شأنه شأن درويش. وإن لامس محمود النجوم أكثر، فلأنّه طرد من فلسطين، وتجوّل وسافر، ومارس حياةً شخصيةً صاخبةً، وسياسية أكثر صخباً، نزق الشعر ونزفه، لذلك كان طبيعياً أن يحصّل شهرةً أكبر من شاعري فلسطين المجايلين له: توفيق زيّاد وسميح القاسم. كل ذلك لم يرهق سميح كثيراً، ولم يفكّر به أكثر، فهو في رسائلهما المشتركة التي عنوناها «الرسائل»، حكى كلام «الصديق للصديق» وليس الشاعر للشاعر فحسب. كانا مجرد فلسطينيين يتبادلان اطراف الحديث بعمقٍ وعلانيةً. اعتبرت سلمى الخضراء الجيوسي بأنّه «الوحيد الذي تظهر عليه ملامح شعر ما بعد الحداثة» الشاعر المولود في الزرقاء في الأردن الذي واجه «الإسكات» منذ لحظات حياته الأولى حين كاد ركاب القطار العائد إلى فلسطين خلال الحرب العالمية أن يقتلوه ـ وهو إذ رضيع ـ لإسكاته خوفاً من طائرات الألمان، قال يومها: «حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم، سأتكلّم متى أشاء، وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي». وهو ما فعله بشكلٍ مباشر. لن يسكته أحدٌ بعد اليوم، سيرفع الصوت خفاقاً ضد الصهاينة في كل مناسبة، ما حدا بهم إلى رميه في أكثر من زنزانة ووضعه في الإقامة الجبرية مراتٍ عدة ومنعه من السفر مراراً. هذه العوامل أثّرت كثيراً في «شعريته»، وهو ما افتقده شعر محمود درويش بشكلٍ مباشر وفق ما يشير كثيرٌ من النقاد. الاحتكاك المباشر واليومي مع المحتل، يجعلك أكثر حدةً، ويقرّب شعرك من أذهان من تريد مخاطبتهم. ظلت قصائد القاسم قريبة المآخذ، وإن لامست جوهر الشعر نفسه. أما قصائد درويش التي أعقبت رحيله من فلسطين (وحتى عودته إليها لاحقاً وإن لم يدخل قريته أبداً)، فتبدو أكثر «حداثةً» حتى ليشير كثيرون إلى أنّ شعر درويش هو الأحدث بين معاصريه ولو خالفت الباحثة والكاتبة سلمى الخضراء الجيوسي هذا الأمر بوصفها سميح القاسم بأنّه «الشاعر الوحيد في الوطن العربي الذي تظهر عليه ملامح شعر ما بعد الحداثة». شعرياً، امتاز درويش بتقديره الصائب للمرحلة ربما بسبب تجواله بين العواصم سياسياً وثقافياً، وهو عنصر كان يغيب عن شعر القاسم لضلوعه في المواجهات اليومية المباشرة مع الصهاينة.
عرف القاسم الشهرة وإن بدرجةٍ أقل خارج فلسطين، فهو لم يخرج من هناك إلا مراتٍ قليلة وبصعوبةٍ بالغة، لكن من ينسى لقاءه بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (ضمن وفد من دروز الداخل الفلسطيني في 8-8-1997) الذي أسر له بأن معظم جنود الجيش السوري يحفظون قصائده، وبأنها تُدرَّس ضمن المنهاج التعليمي السوري الرسمي. في الوقت عينه، كان درويش يأخذ المجد بكامله، يزور الرؤساء ويجتمع بالقادة ويؤسس لمرحلة شعريةٍ جديدة في الشارع العربي: كان النجم الوحيد للشارع الشعري في وطنٍ عربي بأكمله. قاعات تمتلئ حتى آخرها، فتيات يتهامسن لمجرد رؤيته، وفوق كل هذا قيمةٌ سياسية مرتفعة من خلال علاقةٍ أكثر من رائعة مع «منظمة التحرير الفلسطينية». لم يعرف القاسم علاقةً مماثلةً مع منظمة التحرير، فلقاءاته مع «الختيار» (أبو عمار) كانت صاخبةً دائماً، وعرفات كان مولعاً بالاستعراض: مرةً، حمل مسدسه والشاعر يلقي قصيدةً على المنبر، اقترب منه وقال بصوتٍ مرتفع: «هذا مسدسي صوبني به إذا أنا أخطأت». الشاعر المتوثب الذكي عرف كيف يتلقف الفكرة: «أنا أصوبك بكلماتي وقصائدي»، هكذا أجاب وهكذا انتهت القصة كما العلاقة مع المنظمة. أما الجمهور، فتلك حكايةٌ أخرى مع القاسم. هي تلك العلاقة المباشرة مع المحسوس/ المسموع والمرئي/المشاهد، فالظهور الشعري المباشر يظل ذا أثرٍ كبيرٍ (خصوصاً في تلك المرحلة التي لم تكن تمتلك أياً من تكنولوجيا هذا العصر). كان وجود درويش بشكلٍ فعلي في بيروت (أو أي عاصمةٍ أخرى كعمان والقاهرة والرباط) يجعل الإقبال عليه أكثر من غيره، بسبب شعره وكاريزماه وجاذبيته، وبالتالي كان يسحب البساط من تحت أي منافسٍ مهما كانت أهمية «المُقال». لم يزر القاسم عاصمة الشعر العربي «بيروت»، ولم يقدّم أي أمسيةٍ فيها (رغم محاولات رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط لإحضاره إلى بيروت عام 2001). في الإطار عينه، كرّس غناء مرسيل خليفة لمحمود درويش الشاعر الفلسطيني كأيقونة، ذلك أمرٌ لا شك فيه، حتى إنّ كثيرين ما زالوا حتى اللحظة مقتنعين بأن «منتصب القامة» هي لدرويش لا للقاسم. خلال رحلته الأدبية الغزيرة، أنجز سميح القاسم ما يقارب 80 مؤلفاً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة. عام 1958 أصدر باكورته «مواكب الشمس» (1958) لتليها «أغاني الدروب» (1964) و «إرم» (1965)، وغيرها من الدواوين التي شكّلت هويّته الشعرية المقاومة منها: «إلهي إلهي لماذا قتلتني؟» (1974)، «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم» (1976)، و«لا أستأذن أحداً» (1988)، و«الكتب السبعة» (1994). وفي الرواية كتب «إلى الجحيم أيها الليلك» (1977)، «الصورة الأخيرة في الألبوم» (1979). أما نتاجه النثري، فقد اشتمل على مؤلّفات عدة أبرزها «عن الموقف والفن» (1970)، و«أضواء على الفكر الصهيوني» (1978)، و«الرسائل _ مع محمود درويش» (1989)، و«مطالع من أنطولوجيا الشعر الفلسطيني» (1990)، وسيرته الذاتية «إنها مجرّد منفضة» (2011). لاقت مؤلّفات القاسم رواجاً بعدما ترجمت قصائده إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية... ومن بين الجوائز العالمية والعربية التي نالها: جائزة «غار الشعر»الإسبانية، «جائزة البابطين»، واستحقّ «وسام القدس للثقافة» من الرئيس ياسر عرفات مرّتين، وجائزة «نجيب محفوظ» المصرية، وجائزة «الشعر» الفلسطينية.
صنعاء | يقول يمنيون كُثر بزهو مُعلن: ونحن أيضاً لنا من سميح القاسم ومحمود درويش نصيب. كأنه جزء من الدم الفلسطيني الذي يسري في داخلهم، وعلى وجه الخصوص في جسد اليسار اليمني، والحزب الاشتراكي منه تحديداً. كان درويش كثير الذهاب إلى شطري اليمن، شمالاً وجنوباً، في حين كان صاحب «شخص غير مرغوب فيه» مختصاً بالجنوب لكونه المنتمي الشيوعي ويريد تواصلاً في جهات اليسار كلّه. وكان الجنوب وقتها، إلى ما قبل 1990، شيوعياً أصيلاً. هو سيل من الذكريات يجمع «شطري البرتقالة»، درويش والقاسم باليمن وما زال يطلع إلى سطح الأحاديث عندما تأتي سيرة الشاعرين. في بداية عام 1993 أتى شاعر «أرى ما أريد» إلى اليمن حيث أحيا أمسيات ولقاءات في الجهتين: صنعاء وعدن حين كانت الحرب الأهلية تقترب من بدايتها التي انطلقت بعد أشهر قليلة (صيف عام 1994 وانتهت بهزيمة اليسار أمام قبائل الشمال).
وقف درويش في صالة في صنعاء وقال: «كيف أقرأ الشعر وأنا بين يدي أحفاد أمرئ القيس»، بعدها ذهب إلى عدن والتقى بقيادة الاشتراكي، كأنها محاولة لفعل خطوات باتجاه غلق صفحة المواجهة والدخول في حوار، لكن ظهر أن كل شيء كان قد انتهى واتخذ الطرفان قرارهما. وقبلها بكثير، في منتصف 1988، لم يكن لسميح القاسم نصيب في أن يأتي إلى اليمن ومحمود درويش فيها. دعوة وصلتهما للمشاركة في مؤتمر للمثقفين العرب لدعم الانتفاضة.
نشرت رسائلهما في مجلة
«اليوم السابع» التي كانت تصل إلى اليمن بانتظام
كان درويش في باريس وسميح القاسم في حيفا. بينهما مسافات وبحر ولا بد من وصل الضفتين بشيء ما. لا بد من اختراع يصنع حلقة تحيي التفاصيل القديمة التي كانت بينهما في الوطن المُحتل؛ ذكريات الأيّام الأولى وحكايا الوقوف معاً في طابور الصباح المدرسيّ. استعادة لما مضى ووصف للحال التي وصلا إليها وما فعل البُعد بينهما. التقيا في «استوكهولم الباردة» واخترعا فكرة الرسائل، لكنّ الفكرة تاهت لعامين. ويعترف درويش بتقصيره لأنه «محروم من متعة التخطيط لسبعة أيام قادمة»، الفكرة ستُنشر مباشرة على صفحات مجلة «اليوم السابع» في باريس التي كانت تصل إلى اليمن بشطريه بانتظام. سيقرأ أهل البلاد السعيدة يومها رسالة من درويش لسميح معترفاً «كم افتقدناك في صنعاء... كم تمنّينا أن تكون معنا في صنعاء». قيل إن سبب عدم المجيء هو رفض سلطات الاحتلال منح تصريح خروج للقاسم، في حين أوردت أخبار أنّ صنعاء رفضت أن يدخل أراضيها بوثيقة سفر إسرائيلية. ومهما كان السبب، فإن سميح لم يأت في الحالتين، بينما أظهر درويش في رسالته «كيف أشرح للناس ما لا يُشرَح إلا بالسخرية. كيف أشرح لهم أن قانون الغيتو الإسرائيلي سيحاكمك، لو جئت إلى أرض العرب، بتهمة الاتصال بالعدوّ؟». ومع ذلك، لم يغفل صاحب «ذاكرة للنسيان» أن يسرد لأخيه ما كان في غيابه: «لقد نشر الإخوة اليمنيّون حسرتَك... وجاءني أكثر من أب يمنيّ مُطالباً بتحقيق رغبتك بمُداعبة شِعر طفلٍ يمنيّ. وظلّوا يسألون: لماذا لم يأتِ إلى صنعاء؟». وعليه، يبدو زهو أهل اليمن بانتماء سميح ودرويش إليهم مُستحقاً وفي أيديهم ما يؤكد ذلك.
القاهرة | كيف للمذعورين من لفظ الموت أن يتداركوا أنهم أموات؟ وكيف لمن كتبوا القصائد أن يموتوا ويرحلوا؟ أو يتركوا قصائدهم تعيش بدونهم، أو يتركونا نعيش أمواتاً مذعورين من لفظ الموت الذي يقترب؟ كيف للغرباء أن يغتربوا وكيف لنا أن نغترب دونهم؟ من نحن ومن هم؟ من الذي كتب الآخر؟ أهي القصيدة التي تكتبنا أم صوت قرع الرصاص على أبوابنا وجدراننا الآمنة هو ما يكتب القصيدة ويكتبنا؟
أبى السرطان الغادر الذي نعيشه ألا ينتهي الشهر من دون أن يفقدنا توازننا، لم يتوانَ السرطان بكل أشكاله لحظة عن التمادي والتوغّل بيننا وبناء مستوطنات فوق أجسادنا الهشّة منها والصلبة.
الثلاثاء 19 أغسطس هو يوم قرع سرطان الاحتلال أبواب غزة مرة أخرى، وقرعت صواريخ المقاومة أبوابه، وظل سميح القاسم واقفاً بكتفه ملاصقاً للأبواب دافعاً إياها في الاتجاه المضاد، تلقى الضربات من الخارج إلى الأبواب ومن الأبواب إلى جسده الذي أرهقه وأعياه طول الانتظار. ولكن في هذا اليوم، كانت الضربات الخائنة أقوى من العضل والشحم والجلد والعظام. كادت الروح العنيدة أن تصمد بداخل الجسد ليس لشيء سوى العناد، ولكن استفزازات السرطان لم تثنها عن التحرر والمغادرة، لم ترجعها عن الانطلاق، لم تقنعها بالبقاء أكثر من ذلك. كأنما كُتب على سميح القاسم أن يواجه العدوان السرطان بكافة أشكاله. فقد واجهه 75 عاماً فوق أرض تُغتصب، منها ثلاثة في جسده متمركزاً في الكبد تحديداً.
المعاناة قصيدة، والقصيدة ترتيلة، والتراتيل لا تموت، وها هي معاناة القاسم تدركنا لتُخلّد نفسها بنفس الرنين العذب لكلماته، كيف نأسى لفقد مرتقب لما نعاين من جسد، وكيف للروح الرشيقة أن ترانا نبتئس؟ هل حملنا عزمنا أم أوهنتنا التجربة؟ نعلم ونعلم أنّ فقدان النظر للمعشوقين مؤلم، لكننا وقت الرثاء قد نبدو للروح عراة من الأسى، لكننا أيضاً لدينا عذرنا. واليوم لن ينعى سميح فؤاده، حيث البكاء حين يغنّى الآخرون، فاليوم قد غادر هواه من الزنازين التي بُنيت له، فاليوم يبكي الآخرون والقاسم شدا.
وابن الزرقا والناصرة وحيفا وكافة المدن اليوم طافت روحه فوق الجميع، تراقب الأهواء والنوازع التي لطالما راقبتها عيونه وتأملتها لتدوّنها في شطرات قصيدته. قصيدته التي لم تعتمد الصراخ يوماً لهجة رسمية ولم ترسم الشعارات بين حروفها لتبيعها بيعاً لمريدي الشعارات الرنانة. اليوم طارت روحه فوق الطائرات الصهيونية وقذائفها، وحلّقت ما بين غزّة وسيناء، أرض التيه التي ضرب بها الصورة في قصيدته «غرباء».
اليوم وقف سميح فوق سماء غزّة في انتظار أرواح بريئة في طريقها للانطلاق كل لحظة، يقف متأنقاً مبتسماً لكل طفل تغادر روحه الجسد ليصطحبه ويصطحبها إلى جنّات أصحاب القلوب الراسخة والوطن والتجربة.
اليوم ينتظر سميح ما فشل فيه المسعفون لينجزه. اليوم لن يدخل القاسم جنّات عدن وحده، اليوم سيصطحب العديد من الصحاب والرفاق في يده يرددون عن ماضٍ لهم:
وحملنا جرحنا الدامي حملنا
وإلى أفق وراء الغيب يدعونا، رحلنا
شرذماتٍ من يتامى
وطوينا في ضياعٍ قاتمٍ
عاماً فعاما
وبقينا غرباء
وبكينا يوم غنّى الآخرون
سميح القاسم منطقة خاصة في الشعر الفلسطيني والعربي، لم يعد ممكناً منذ نهاية السبعينيات حصرها في مصطلح «شعر المقاومة». المصطلح لم يأت من داخل الكتابة الشعرية الفلسطينية في الداخل، بقدر ما كان اقتراحاً سياسياً وصل من الخارج. ولعل إطلاقه على أيدي كتاب ثوريين مثل يوسف الخطيب وغسان كنفاني وقبل ذلك محمد البطراوي، هو ما سمح بتكريسه كهوية واصلت التصاقها بشعر الأرض المحتلة، وحددت معايير للكتابة مستمدة من مفهوم المقاومة نفسه وليس من بنية الشعر وغاياته.
هكذا تشكلت قائمة «شعراء المقاومة» التي ضمت تحديداً أسماء الشيوعيين أو الذين كانوا محسوبين على الحزب الشيوعي الإسرائيلي «راكاح» حينها مثل توفيق زياد وسالم جبران، وبالطبع القاسم ودرويش، فيما بقيت هوية شاعر مؤسس مثل راشد حسين محكومة بتلك المسافة بينه وبين الحزب، خارج الشرط «النضالي».
تغير شعر سميح وذهب الى مناطق أرحب وأسئلة وقلق جديد، بينما كان عبء المصطلح «شاعر المقاومة» يدفعه أحياناً كثيرة الى تمرد لا يخلو من الارتباك. منطقة سميح تكمن بالضبط في تلك النقطة، وفي محاولته الجمع بين احتفاظه بالصفة ورغبته في التجريب. لم تأخذه المغامرة الشعرية بعيداً. بقي محافظاً في مكان من تجربته على الصفة التي اقترحتها «السياسة» المتمثلة بالإيقاع والأداء الجسدي، ولكنه واصل التجريب. كان مجرباً بطريقته، ذلك التجريب المأمون المتكئ على قراءات كلاسيكية عميقة قادته في النهاية الى أشكال محافظة تماماً.
كان عليه أن يتحرّر من مفهوم الطائفة في إصرار معلن على عروبته التي حكمت خياراته
في النواة، كان عليه أن يتحرر من أطواق كثيرة أخرى، وأن يقطع شوطاً أبعد وأكثر تعقيداً، وهو ابن الطائفة الدرزية التي فرض عليها القانون الإسرائيلي التجنيد في الجيش، في سياق سياسته في تفكيك مكونات المجتمع الفلسطيني في الداخل. مقاومة سميح بدأت من هناك، مواجهة فردية تمس كل مكونات حياته وثقافته وذاكرته المبكرة وإصرار معلن على عروبته التي حكمت خياراته الشعرية والسياسية. كان عليه أن يواجه مفهوم الطائفة وأن يتحرر منه ويعترض عليه، وهو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، وأن يواصل ذلك ويذهب بعيداً في تلك المواجهة نحو هوية وطنية وقومية أوسع وأرحب من سياج الطائفة. هذا ما فعله سميح وحيداً وبدأب الوطني وعناد المقاتل وشجاعته، وهو أمر لم يكن مطلوباً من شعراء آخرين مثل زياد وجبران ودرويش.
كان عليه أن يتحرر أيضاً من تلك الثنائية المرهقة التي ربطته بدرويش، وهي ثنائية تم تسييجها ورعايتها سياسياً رغم الافتراق الفني واختلاف التجربتين الذي ظهر مبكراً. الرغبة العميقة بالانفصال دفعته في أحيان كثيرة نحو التمسك ببداياته في لحظات التوازي. كانت ثنائية قادمة من الستينيات ومن فترة محدودة ورافقته الى لحظة رحيله. أظن أنّ ذلك الربط بينهما كان عبئاً على الاثنين على نحو مختلف. محمود حاول التحليق بعيداً عن تلك البقعة، بينما سميح واصل الحفر في أرجائها. لكن الثنائية بقيت حية بعدما اكتسبت بُعد المقارنة، حتى بعدما لم يعد في مراحلهما اللاحقة ما يعزز أو يشي باقتراح التوأمة ذاك.
سميح لم يُقرأ جيداً، كان قراؤه قد أنجزوا قراءتهم له منذ وقت طويل وأنجزوا تنميطه، وكان هذا يؤلمه.
* شاعر فلسطيني
القاهرة | طرح رحيل سميح القاسم سؤالاً على الثقافة المصرية يخص مدى حضور شعره على الساحة الأدبية في مصر. مع انتشار نبأ الوفاة، أول من أمس، احتفت الصحف والمواقع بالشاعر الفلسطيني فجأة بعد تغييبه طوال العقد الأخير على أقل تقدير. المؤكد أنّ بقاء القاسم داخل الأرض المحتلة كان ذا تبعات، أشار هو إليها، مبدياً استعداده لدفع ثمن خياراته، وخيارات الدفاع عن أرضه ووجوده.
«الأخبار» طرحت تساؤلاتها على عدد من الشعراء والمثقفين المصريين المنتمين إلى حقب زمنية ومدارس فنية متباينة. بداية، أوضح الشاعر عبد المنعم رمضان أنّ حضور مَن سمّي «شعراء الأرض المحتلة» كان بارزاً أواخر الستينيات وبداية السبعينيات نتيجة لعقدة 67، وفي محاولة لاستعادة الروح العربية، إذ كتب رجاء النقاش وقتها كتاباً كاملاً عن درويش وسمى ابنه حينذاك سميح. وكشف صاحب ديوان «غريب على العائلة» أنّ ظاهرة شعراء الأرض المحتلة «انتهت بموت القاسم، كونها قرينة فترة تاريخية لم تعد شواغلها وهمومها مسيطرةً الآن»، معتبراً أن درويش خرج مبكراً من عباءة الأرض المحتلة ليكون شاعراً فلسطينياً إنسانياً، مشيداً بدور بيروت ومدارسها الفنية على صاحب ديوان «أثر الفراشة»، فيما بقي القاسم فلسطينياً فقط.
وتابع رمضان: «من أسباب غيابه عن الساحة المصرية، كتاباته التي تكاد تكون نتاج مرحلة فنية واحدة، ما دفعه نحو التجريب في الأشكال الفنية الأخرى ككتابة الرواية وكتابة ما سماه «السرديات» بحثاً عن شكل آخر». وعن علاقته بالقاسم، قال «لم تكن طيبة للأسف، سبق أن كتبت قصيدة عنه أصفه بالفقر والسطحية والسذاجة، كما أنّه خلال إحدى دورات «جائزة كفافيس» اليونانية، شن القاسم هجوماً على الشعراء المصريين؛ على رأسهم صلاح عبد الصبور، فكتبت رداً عليه بعنوان «هياج الدوبلير» منتقداً الثنائية في الثقافة العربية، واعتبرته دوبلير درويش». واستدرك صاحب «بعيداً عن الكائنات» «أحبه بقدر بقائه في الأرض، ولا أحب شعره بقدر ثباته عند نقطة غادرناها».
الشاعر محمود قرني يصف رحيل القاسم بالخسارة للشعر العربي والقضية الفلسطينية، فقد كان «نضال القاسم ودرويش من أهم الأسلحة المعززة للفضاء الإنساني والأخلاقي لقضية شعب مورست ضده أعلى أشكال العدوان». وأوضح صاحب «لعنات مشرقية» أنّ صوت القاسم ودرويش كان الأعلى من كل أسلحة المقاومة، ولعل حلول المقاومة ذات المرجعية الدينية لم يكن ليحدث لولا اهتزاز صورة الشاعر وتراجع قوته في الثقافة العربية. وعن سبب تراجع حضور القاسم، أجاب قرني «الشعرية الفلسطينية والعربية تواجه مأزقاً كبيراً بسبب ارتهان الشعر لشعار جذاب وأخلاقي هو شعار المقاومة. فالشعر يعتاشُ على أطر تقاوم فكرة التكيف والغرض وتقوض الذهنية المستقرة، فيما تضيف المقاومة للشعر صوتاً مجلجلاً، فأصبح لدينا نصوص كثيرة لكن خارج الشعر. وهو ما تتسم به تجربة القاسم الذي أدى مع درويش دوره المختار من قدر صعب وثورة عربية لم تكن بالت على نفسها». وذهب قرني إلى وجود جيل جديد في الشعرية الفلسطينية يدرك قيمة الأسلاف كما يدرك مأزقهم، ساعياً نحو تقديم نص مغاير يكون إضافة إلى القضية.
على صعيد آخر، رأى الشاعر الشاب عبد الرحمن مقلد أن القاسم واحد من أهم الشعراء العرب في العصر الحديث، مشيراً إلى أهمية رؤية الجانب النضالي ودور الالتزام الذي تبناه شعراء فلسطين، إذ استطاع الراحل مع بعض المبدعين مثل درويش وإميل حبيبي وغسان كنفاني وناجي العلي، أن يجعلوا القضية الفلسطينية قضية عالمية إنسانية، تكسب التعاطف الدولي. على المستوى العربي، تحولت قصائده الوطنية إلى أناشيد في التظاهرات، وخصوصاً نشيد الانتفاضة «منتصب القامة أمشي». وبالنسبة إلى تجربته الفنية، وصفها صاحب «مساكين يعملون في البحر» بالمتسعة والمتعددة، مضيفاً «من المهم أن تلقى الأضواء عليها، وعلى النقاد أن يعيدوا قراءتها». وطالب المؤسسة المصرية الرسمية بطباعة مختارات من أعماله، سواء النثرية أو الشعرية، ضمن مشروع «مكتبة الأسرة».
مواقف مثيرة للجدل
كان سميح القاسم من أوائل الشباب الدرزي الفلسطيني الذين تمرّدوا على قانون التجنيد الإلزامي الإسرائيلي، فأسس حركة «الشبان الأحرار» لمناهضة السياسات الإسرائيلية أواخر الخمسينات، إلى جانب عضويته في لجان: «المبادرة الدرزية»، و«حقوق الإنسان»، و«أنصار السجين» و«اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية». وحين عمل مدرّساً في بعض المدارس الابتدائية العربية، أمر وزير المعارف الإسرائيلي بطرده على خلفية مواقفه المناهضة للاحتلال الإسرائيلي. هذه هي المواقف نفسها التي أدّت إلى سجنه مرّات عدة، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. ومن ناحية أخرى، فإن آراءه ومواقفه الثابتة المعادية للاحتلال الإسرائيلي، عكّرتها مشاركاته في «مهرجان القدس العالمي للشعر» الإسرائيلي في السنوات الماضية. وتزامناً مع الأزمة السورية، انتقل الانقسام بين السوريين إلى شخصية سميح القاسم، فاسترجع بعضهم مقابلتيه مع حافظ الأسد عام 1997، وبشار الأسد في 2000، كما لم تغب القصيدة التي أهداها إلى حافظ الأسد عن هذا النقاش.
القاهرة | بدا التعاطي مع خبر موت سميح القاسم لافتاً في مصر. تحول إلى مناسبة للرثاء والاعتذار، ولا أحد يعلم إن كان هذا الرثاء موجهاً للشخص أو للقيمة التي كان يمثلها. تداخل الشخصي والعام في تناول الخبر، وبعضهم ربط تراجع الاهتمام بشعر القاسم وسيرته بضعف الاهتمام الرسمي بالقضية الفلسطينية التي اختزل شعره في الدفاع عنها.
ومال آخرون إلى المقارنة بين النجومية التي رافقت محمود درويش حتى مماته، والحالة الباهتة التي عاشها القاسم في سنواته الأخيرة. قلة قليلة لاحظت أنّ القاسم لم ينتج شعراً في العقدين الأخيرين، وعاش مستنداً إلى ماض لم يخضع للفحص النقدي. الجيل الذي عرف سميح من أغنيات المقاومة التي غناها مارسيل خليفة وجوليا بطرس وفرقة «صابرين» في مرحلة تالية تغير، بينما لم يتغير شاعره. وحتى الأصوات الغنائية التي حملت شعره تطورت إلى آفاق متعددة، وباتت أميل إلى المغامرة والتجريب. لذلك خلقت لنفسها حياة جديدة مكنتها من العيش بسلام مع التجارب الغنائية الجديدة التي أفرزها واقع ما بعد الربيع العربي. ثمن لم يتمكن الشاعر من دفعه ومواكبة التحولات التي عاشتها قصيدة درويش الذي تخلّص مبكراً من الصخب، ولم يقبل العيش على فاتورة ماضيه أو الاستجابة لابتزاز الجمهور.
امتلك درويش ما لم يمتلكه سميح. كان على وعي بالنجومية ورسم صورة لعلاقته مع الجمهور وظلت قصيدته «أنيقة» على عكس قصيدة القاسم التي ظلت ملتصقة بالحجارة.
حصل على
«جائزة نجيب محفوظ» عام 2006
وبالعودة إلى الماضي، سنجد أنّ سميح القاسم ـــ دون بقية شعراء المقاومة ـــ هو الشاعر الذي لم تمنحه مصر ما يستحق في بداياته، مقارنة بما أعطته لمعين بسيسو ودرويش اللذين نالا منها أوطاناً بديلةً وقوة دفع رسمية وصكوك اعتراف لم تصل إلى القاسم إلا في وقت متأخر رافق خفوت قصيدته وتراجع الشعارات الداعمة لها. وحين حصل على تكريم اتحاد الكتاب و«جائزة نجيب محفوظ» (2006)، كانت الأشياء باهتة والأصوات مختلطة، ولم يحتفَ بها إلا من قبل الصحف القومية التي كان الشعار السياسي بيانها الوحيد للبقاء على قيد الحياة. في تلك الليلة، لم ينتبه أحد إلى مهارة سميح في التسامح مع الجميع إلا عدوه. لم يورط نفسه في مقارنة مع الشطر الثاني من البرتقالة كما كان يصف رفيقه محمود درويش، بينما كان صوت ضحكته أعلى كثيراً من نبرة الإيقاع في شعره. تلك النبرة التي قيدته ولم تعطه الأجنحة اللازمة للطيران في أفق جديد. لذلك كان من النادر أن تجد على صفحة شاعر شاب إشارة تخص سميح القاسم أو تسائل شعره. فهو لدى الغالبية نص ينتمي إلى الماضي ولا يعطل عربات المستقبل. نص أليف لأنّ صاحبه لم يكن مؤذياً ولم يتورط شأن أحمد عبد المعطي حجازي في حروب مع أحد، لأنه أراد أن يبقى سميحاً ومتسامحاً.
العدد ٢٣٧٣ الخميس ٢١ آب ٢٠١٤- الاخبار