هاشم صالح

ريلكهكان يشعر بأنه فارغ من الداخل وعاجز عن كتابة اي شيء. ربما انه ليس كالشعراء العرب الذين يتحفونك بأشعارهم حتى بعد ان يكون الشعر قد هجرهم منذ زمن طويل، فإنه لم يكتب شيئا. كان ينتظر نهاية الحرب لكي يرى شيئا ما وسط هذا الضجيج، ثم جاءته دعوة سويسرا لكي تثير فيه الرغبة القديمة للسفر، وتذكر عندئذ انه كان مسافرا عريقا في كل انحاء اوروبا، بل ووصل به السفر الى افريقيا الشمالية ومصر بعد الاندلس وجنوب اسبانيا.

في الواقع ان ريلكه كان شخصا تائها، بلا منزل ثابت، وبلا علائق او روابط. كان يعيش نوعا من «الحرية الحرة» اي الحرية المطلقة التي تحدث عنها ذلك المجنون الآخر: آرثر رامبو. وهي الحالة الوحيدة المناسبة للكتابة الشعرية، وربما لكل كتابة.

وصل ريلكه الى محطة القطار مبكرا كعادته لكي يجد مقعدا مناسبا يطل على النافذة ويتيح له ان يرى المناظر الطبيعية ـ وهي خلابة ـ على طول الطريق. أكثر شيء كان يصعب على ريلكه هو ان يجد نفسه محصورا بين شخصين في رحلة سفر! عندئذ كان يشعر بالاختناق، وربما بالهلع الشديد. لا. افضل شيء هو ان تكون حرا داخل القطار وخارجه: اي جسدك في الداخل وعيناك وروحك كلها في الخارج.

وابتسم الحظ لريلكه فاذا بامرأة حسناء شابة تجيء لكي تجلس الى جانبه. لنتخيل، ولو للحظة، ان موظفا كبيرا بكرش كبير هو الذي جاء وجلس بدلا من هذه المرأة.. ما الذي كان سيحصل؟ كان ريلكه سيختنق حتما وينغص عيشه طيلة الرحلة. وربما رمى نفسه من الشباك.

وفجأة تدخل امرأة مريضة وتقف في الممر الى جانبهما بعد ان امتلأ القطار، فاذا بالشابة الحسناء، جارة ريلكه، تنهض مباشرة لكي تعطيها مكانها. للوهلة الاولى لم ينتبه الشاعر للأمر. ولكن عندما ادرك ما يحصل اذا به يقفز من مكانه قفزة واحدة ويقترح مقعده للمريضة، ويعتذر لأنه تأخر في عرضه عليها.

واتفق ريلكه مع الشابة الحسناء على تبادل الجلوس في المقعد المتبقي. فعندما تكون هي جالسة يكون هو واقفا، والعكس بالعكس.. ولحسن الحظ فإن هذه الحالة لم تطل، فقد وجدوا مقعدا للمريضة.. وهكذا عاد ريلكه للجلوس الى جانب جارته. وابتدأ الحوار الذي يحصل عادة بين مسافرين في رحلة طويلة.

قال لها ريلكه بأنه يشعر بالفرح والاثارة لامكانية السفر من جديد بعد ان جمدته الحرب طيلة خمس سنوات في ميونيخ، ثم انتقل الحديث من موضوع الى آخر حتى وصل الى الأدب. وقالت له المرأة بأنها تقرأ حاليا رواية «رومان رولان» التي ظهرت للتو. فأجابها ريلكه بأنه يعرف رومان رولان الذي كتب نصا عام 1912 في اسبانيا. وفيه وردت هذه العبارة المهمة التي تتحدث عن «الاحاسيس القصوى للوجود»: اي عن الحالات الحديّة المتطرفة، التي لا يعرفها الا «المجانين» تقريبا.
ثم تشعب الحديث وطال دون ان ترد فيه كلمة واحدة عن اعمال ريلكه. والواقع انه كان يشعر بالمتعة الداخلية لأنه شخص مجهول بالنسبة لها، لأنه شخص عادي كبقية الاشخاص الذين يمكن ان نلتقيهم صدفة في السفر، ولكن فجأة راح يطرح عليها هذا السؤال:

ـ هل تهتمين بالشعر يا سيدتي؟

فأجابته بعد تردد وتلعثم: اهتم «بأصدقائي» القدامى من امثال غوته و«موريك»، وهو شاعر مشهور في المانيا، ولكن غير معروف كثيرا في الخارج. واما من المحدثين فلا يعجبني الا رينيه ماريا ريلكه!..

على المقعد اهتز ريلكه وانفعل، ولكن دون ان يكشف عن هويته حتى الآن. فهو يريد ان يظل مجهولا بالنسبة لها لكي تظل المحادثة طبيعية، عفوية، على طول الخط.

عندما اقترب القطار من الحدود السويسرية اخذ ريلكه يشعر بالقلق لأن الشرطة سوف تفحص اوراق المسافرين. وبما انه مشهور بهلعه الداخلي بسبب وبدون سبب، بما انه مسكون بشيء لا يستطيع ان يسيطر عليه، فإنه خاف من ان يكون جواز سفره ناقصا او لاغيا مثلا.
عندئذ استدارت المرأة نحوه ونظرت اليه بنوع من الثقة والاستعلاء وقالت اتبعني فقط، ولا تهتم.. ثم ذهبت كي تأكل شيئا تاركة ريلكه وراءها. وعندما عادت، او في طريق العودة، اعترضها شخص وسألها:

من اين تعرفين رينيه ماريا ريلكه؟ فأجابته مندهشة: ولكن لا اعرفه على الاطلاق! بحياتي لم أره..

فرد عليها الرجل: مستحيل. كنت جالسة معه طيلة الرحلة، وقد رأيتكما منخرطين في حديث طويل.. عندئذ فهمت المرأة من هو هذا الشخص الذي يجلس الى جانبها، فهرعت الى مقعدها ووجدته يستقبلها واقفا بالابتسامة بعد ان شعر بأن أمره قد انكشف وانفجرا بالضحك معا.

هذه هي باختصار قصة الرسائل الموجهة الى رفيقة في السفر. وقد ترجمها الفرنسيون مؤخرا ونشروها لأول مرة. وقدم لها الناقد «مارك بيتي» بدراسة ممتعة تحت عنوان: «شاعرية اللقاء». وهل هناك اجمل من لقاء الصدفة، اللقاء غير المتوقع؟

كان ريلكه، مثل هولدرلين، يسكن العالم شعريا. كان يحوّل كل شيء الى شعر، الى لحظة متوترة، كثيفة. هل كان يحلم بعلاقة جنسية او غرامية مع تلك المرأة؟ أم بعلاقة عاطفية روحية فقط؟ أم بالكل دفعة واحدة؟ لا يهّم. المهم انه كان يحلم بعلاقة حرة تصل الى حد «اللاعلاقة» اذا جاز التعبير، علاقة قائمة على الدهشة والمفاجأة، علاقة قادرة على ان تخرجه من نثرية العالم. والواقع ان العلاقة انتهت بعد وصول القطار الى محطته الاخيرة. او قل انها استمرت بعد ذلك لفترة قصيرة وبشكل روحاني خالص، ثم توقفت نهائيا. ولم يبق منها الا تلك الرسائل التي تبادلاها عن بعد، وربما كان هذا كل ما يطلبه ريلكه. كان يريد ان يظل نقطة او فاصلة في حياة تلك المرأة المجهولة التي لن يراها بعد الآن ابدا. فقط الرسائل سوف تكون صلة الوصل بينه وبينها.

فهذه هي الحالة الشعرية ايضا. الشعر لا يزدهر الا بالفراق. بحياته الوصال لم ينتج شعرا له معنى. انظروا الى ابن زيدون: أضحى التنائي بديلا عن تدانينا..

لقد كانت تلك المرأة اشراقة خاطفة او لمعة في حياة ذلك الشاعر الذي لم يعرف الا الكوابيس والدهاليز الداخلية. وهذا يكفي. ينبغي عدم تعقيد العلاقة اكثر من ذلك او تطويرها، ينبغي تحويلها الى «لا علاقة»: اي الى ذكرى، الى قصيدة.. كل العلاقات تتحول يوما ما الى علاقات:
تتفكك، تنحلّ، تذوب، ولا يبقى منها الا بقايا في اعماق القلب المهجور.
الشاعر، بهذا المعنى، هو اكبر «انتهازي» على وجه الارض. انه يحول كل شيء الى شعر، او قل انه يستثمر كل شيء من اجل توظيفه كوقود للقصيدة الشعرية.

يقول «مارك بيتي» في المقدمة العامة للكتاب بما معناه: الشاعر بحاجة الى مُعاش، وتكدّسات المعاش. ثم يتخمر هذا المعاش ويتكثف في اعماق الذاكرة، او اعماق اللاوعي. وبعدئذ، وكأنما بقدرة قادر، ينفجر فجأة على هيئة قصيدة. لهذا السبب تبدو لنا القصيدة وكأنها معجزة عندما تحصل، عندما يقذف بها الشاعر على الورق. القصيدة بهذا المعنى حظ نادر، انها غلطة، او فلتة لا يجود بها الزمان الا قليلا.
انها عبارة عن تفاعلات كيميائية تصهر الحياة المعاشة والذكريات عن طريق النسيان، ثم تحولها فيما بعد الى حقيقة شعرية في لحظة ما لا نعرف متى تحصل، بهذا المعنى فليس الشاعر هو الذي يكتب القصيدة، وانما هي التي تكتب نفسها من خلاله، او تملي نفسها عليه.

وبالتالي فأول شيء ينبغي ان يحسنه الشاعر هو: النسيان. ينبغي ان يهضم كل العلاقات والذكريات، ويسحقها ويصهرها من خلال هذه التفاعلات الكيميائية. وبعدئذ ما عليه الا ان ينتظر لكي تجيء القصيدة، او لا تجيء..

وهذا الكلام ليس الا ترجمة شبه حرفية لما يقوله ريلكه في مقطع شهير من كتابه «دفاتر مالت لوريدز بريج»: «لكي تكتب بيتا واحدا من الشعر ينبغي ان تكون قد رأيت مدنا عديدة، وبشرا عديدين واشياء لا تحصى، وينبغي ان تعرف حتى الحيوانات. ينبغي ان تعرف (او تتحسس)
كيف تطير العصافير، وكيف تتفتح الازهار في الساعات الاولى للفجر. ينبغي ان تستطيع التفكير او اعادة التفكير بدروب في مناطق مجهولة، وبلقاءات غير متوقعة، وبرحيل كنا نراه يقترب منذ زمن طويل. ينبغي ان تستطيع التفكير بأيام الطفولة التي لم تتوضح مجاهيلها بعد.. ينبغي ان تستطيع التفكير بصباحات على شاطئ البحر، بل وبالبحر نفسه، بالبحار، بليالي السفر التي ترتعش عاليا جدا والتي تطير مع كل النجوم. ولكن لا يكفي ان تفكر في كل ذلك او تتذكره، وانما ينبغي ان تتجمع لديك ذكريات كثيرة عن ليالي حب مختلفة.. وينبغي ان تعرف كيف يحتضر الموتى وان تجلس الى جانبهم لكي تعرف كيف يموتون، وينبغي ان تكون النافذة مفتوحة مع الضجة التي تجيء من بعيد.. بل ولا يكفي ان تكون لك ذكريات. وانما ينبغي ان تعرف كيف تنساها عندما تكون عديدة. ينبغي ان تكون مقدرتك على الصبر كبيرة لكي تنتظر عودتها بعد نسيانها. وذلك لأن الذكريات لا معنى لها الا بعد ان تنصهر فينا، بعد ان تختلط بدمائنا وعروقنا، وعندما لا يعود لها اسم ولا هوية. عندما تصبح منصهرة فينا انصهارا كاملا، عندئذ، وعندئذ فقط، يمكنك ان تكتب الكلمة الاولى من بيت الشعر..».

هذا الكلام يذكرنا بالطبع بكلام ابي تمام، او ابي نواس عندما جاءه شاب يريد ان يصبح شاعرا وطلب نصيحته فقال له: احفظ مائة الف بيت من الشعر، ثم انسها، وبعدئذ اكتب الشعر.. (اقول ذلك وانا انقل من الذاكرة البعيدة)..النسيان اذن عملية اساسية: انه يعني الهضم، فالتمثل، فالاستيعاب. الشخص الحفَّّاظ الذي لا يستطيع ان ينسى لا يمكن ان يكون مبدعا. قد يصبح اكاديميا كبيرا، ولكنه لا يمكن ان يكون شاعرا عبقريا. العبقري هو شخص يسحق الاشياء في داخله سحقا ويحول الرصاص الى ذهب والقصيدة هي حصيلة لتفاعلات كيميائية معقدة لا يعرف الا الله سرها..

لكن لنستمع الى بعض المقاطع من شعر ريلكه:

  1. احيانا، في جوف الليل، يحصل ان تستيقظ الريح كطفل، ثم تنزل وحدها على طول الممر بخطى رشيقة، حتى تصل الى القرية
    * ثم تتقدم الريح او تتعثر حتى تصل الى المستنقع وهناك تقف لكي تصغي الى ما حولها دائر ما اندار:
    البيوت كلها شاحبة وأشجار السنديان خرساء ـ
  2. آه، منحلا في الريح كم من العودات الفارغة! اكثر من شيء يقذفنا، لاحقا، عندما نكون قد عَبَرنا، ويفتح ذراعيه هلعا.
    ذلك انه لا عودة في الاتجاه المعاكس، كل شيء يجرفنا، والبيت المفتوح في ساعة متأخرة، يظل فارغا.
  3. النَفَثْ العتيق للبحر، يا نسمات البحر الليلية، انتِ لا تجيئني لأجل أحد، لأجل ذلك الذي يسهر، لكي يرى كيف يتلقاك:
    يا نسمات البحر العتيقة، التي يقال بأنها لا تهبّ الا للعنصر الاول، منفجرة، من بعيد، من ذلك الفضاء الأبيض اللانهائي..
    آه، كم تحملين معك رائحة شجرة التين المليئة بالنسغ، هناك في الأعالي، تحت ضوء القمر

***

  • الكتاب: رسائل إلى رفيقة في السفر Lettres a une Compagne de Voyage
  • المؤلف: رينيه ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke
  • منشورات باريس: Paris

عن الشرق الأوسط
يونيو 2006