النبي التائه يأخذ وردة الثلج ورايته الحمراء
إنّه صديق السيّاب الذي رافقت قصيدته نصوص الريادة الأولى. وشاعر التفعيلة الأكثر تأثيراً في قصيدة النثر. في مجموعته الجديدة عن «دار المدى»، يسترسل سعدي يوسف في توثيق اليومي، ورصد التفاصيل العابرة. «الشيوعي الأخير» يضرب من جديد!
اهتدى سعدي يوسف مبكراً إلى كتابة مستقبلية. اختطّ لنبرته مسالك منحرفة وشقّ دروباً بدا أنّها لا تُتجاور مع معظم الشعر العربي الذي كان يُكتب في الخمسينيات وما بعدها. سعدي الذي رافقت قصيدته السيّاب ونصوص الريادة الأولى، سرعان ما راح يتخفّف من إرهاصات الحداثة التي كانت نبوّة الشاعر والقصص الأسطورية والعوالم الكلية، رهانات أساسية فيها. سعدي - ولا ننسى نزار قباني والماغوط وعبد الصبور قبله - آثر الابتعاد عن التجريد اللغوي، مفضّلاً مشهديات الحياة اليومية وتفاصيلها الحقيقية كخيار شعري وأسلوبي.
قصيدة سعدي هي كتابة من إنتاج الحواسّ والعلاقات المادية والمرئيات العابرة. إنها قصيدة التواضع والإنسانيات العادية، مقارنة بالغلوّ الميتافيزيقي الذي طبع تجارب ريادية عدّة، بعضها لا يزال يراهن على الأفكار الكبرى والتفلسف الرؤيوي. سعدي، بهذا المعنى، كان ضرورة شعرية استراتيجية لمعادلة ذلك النزوع الأسطوري والميتافيزيقي الذي ساد أكثر من غيره، إلى درجة أن الكثير من ترجمات تلك الفترة كانت تتحالف مع هذا النزوع وتقوّيه وتقوده أحياناً. وأبرز مثال على ذلك أنّ جبرا إبراهيم جبرا دعا الشعراء العرب صراحة إلى استثمار العوالم الأسطورية حين ترجم كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر.
لو نظرنا إلى ما كُتب من شعر عربي منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم، لوجدنا أن الكثير من التجارب تدين، بشكل مباشر أو غير مباشر، لقصيدة سعدي يوسف. والأرجح أنّ الصفة المستقبلية التي حملها في طيات مشروعه الشعري أثمرت لاحقاً في تجربته هو، وفي تجارب شعراء آخرين. ولعلنا لا نبالغ كثيراً لو عزونا جزءاً كبيراً من إنتاج محمود درويش الأخير إلى استثمارات شديدة الذكاء والابتكار في تجربة سعدي يوسف! كما أنّنا نجد آثاراً مماثلة ومتنوعة لشعر سعدي في نتاج عدد من أهم شعراء السبعينيات العرب. ويمكن اقتفاء هذه الآثار بسهولة في أعمال أمجد ناصر، زكريا محمد، غسان زقطان، هاشم شفيق، رياض الصالح الحسين وغيرهم. صحيح أنّ هؤلاء حوّلوا تأثيرات سعدي إلى إنجازات فردية وخاصة، إلا أن بصمات صاحب «قصائد مرئية» واضحة في أصواتهم ونبراتهم. علاوة على ذلك، فإن معظم ما كُتب ويُكتب مما سُميّ بالشعر الشفوي، أو اليومي، أو قصيدة التفاصيل... يجد جذوراً ومذاقات وروائح في لغة سعدي التي تميل إلى الدقة والتوثيق الواقعي، والإيماءات الفوتوغرافية، والتفاصيل العابرة... لكنها، في الوقت عينه، تحافظ على وشائج قوية وحرة، مع سلفٍ شعري عربي تمتد جذوره حتى امرئ القيس.
سعدي، في النهاية، يكتب قصيدتة الشفافة والهشة التي لا تتوانى عن استثمار الجمادات والطبيعة الميتة، لكنها قصيدة فصيحة أيضاً. إنها ابنة كلاسيكيات شعرية عريقة، سوى أنّ فصاحتها تتأتّى من اقتراحاتها اللغوية والبلاغية المتينة والمبتكرة لا من سلفيتها وبلاغتها التقليدية فقط.
وإذا انتبهنا إلى أنّ سعدي يوسف هو شاعر تفعيلة وإيقاع في الأساس، وأن أغلب الشعر اليومي يكتبه شعراء قصيدة النثر، فسنعرف حينها تأثيره المضاعف على هذا النوع من الكتابة. ليس لدى سعدي اعتراض على شعرية النثر. لقد كتب بنفسه قصائد نثر خاصة في مجموعته «يوميات الجنوب / يوميات الجنون». كما أنّ خفة تفعيلته، ومرونته الإيقاعية، الهائلة تتكفلان بهدم الحواجز بين شعره الموقّع وقصيدة النثر. الأرجح أنّ مقاربة الشاعر للواقع هي رؤية نثرية يُتاح لها لاحقاً أن تُنجز في إهاب إيقاعي. الإيقاع هنا يمتلك قيمةً نثريةً أعلى وأبلغ من القيمة الوزنية. المراس والتجريب المتواصل دفنا إيقاعية قصيدته في أحشاء جملته التي راحت تبدو أقرب إلى النثر والسردالعاديين.
لعل خصوصيّة صاحب «خذ وردة الثلج خذ القيروانية» وميزته الأهم تكمن في أنّه شاعر التفعيلة الأشد تأثيراً في قصيدة النثر. بوسعنا أن نتفهم تأثير الماغوط وأنسي الحاج في قصيدة النثر العربية باعتبارهما رائدين مؤسسين لها. تجربة سعدي تسلك طريقاً منحرفاً إلى النثر. كأنّها، لفرط خفوت نبرتها ورهافة أوزانها، في طريقها إلى أن تكون قصيدة نثر فعلاً. قد لا يكون هذا المسعى مقصوداً، إلا أن فكرة أن يمتلك شاعر إيقاع نبرة نثرية تبدو جديرة بدراسة ليس هنا مجالها.
لكن صاحب «النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث»، حسب عنوان كتاب الناقدة العراقية فاطمة المحسن، يجافي الخفوت، ويعلو صوته حين يتعلق الأمر بالموقف السياسي والفكري. لقد دفع الشاعر أثماناً باهظة بسبب أفكاره وانتمائه الشيوعي. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، صار شيوعياً على طريقته الخاصة. إنه «الشيوعي الأخير» بحسب عنوان آخر دواوينه. وهو، بعد احتلال العراق، عراقي على طريقته أيضاً. ولهذا كتب ذات يوم: «لستَ النادم عما أحببتَ / النخلَ، ورايتكَ الحمراء».
الطريف أنّ سعدي يوسف لم يفصل يوماً بين ممارسته الشعرية وممارسته «الحزبية». بل إنّه كثيراً ما يشير في مقالاته وحواراته، إلى أنّ الكتاب الأكثر تأثيراً على شعره هو «رأس المال» لكارل ماركس! وهذا يعني أنّ جهداً أسلوبياً وفكرياً كبيراً يُبذل في قصيدة هذا الشاعر، لكي تصل إلينا خافتة وشفافة، ومشبعة في الوقت نفسه بالأفكار والموقف السياسي.
***
سعدي يوسف، في السنوات الأخيرة، يعيش ليكتب... إنه الانتقام (الوجودي) الوحيد الممكن لهذا العراقي الجريح. لذا تراه يتحرّش بالواقع، يستفزّه أحياناً. يبحث عما يداري به يأسه الفظيع. يقتنص كل لحظة، كل انفعال، كل وجع، كل تفصيل عابر، ليصنع منه شعراً. ربّما صحّ القول إنّه يعيش بشكل متواصل داخل القصيدة. من أجلها فقط. يعيش معتكفاً في الشعر... الوطن الوحيد الممكن، الملاذ الأخير.
سعدي يوسف آخر الشعراء الكبار، اعتاد لغة المنفى وطقوسه. ثلاثون عاماً أجّل موعده مع بغداد، في انتظار أن يسقط الطاغية. لكن التاريخ - تاريخ هذه المنطقة الملعونة من العالم تحديداً - لا يشبه قصص الأخوين غريم. لا مكان هنا للنهايات السعيدة. والشيوعيّ القديم لم يفعل مثل بعض رفاقه... لم يبارك الاحتلال، ولم يرشّ الورد على طريق الدبابة الأميركية! أحد مواقع الانترنت أعاد نشر بعض «قصائد العاصمة القديمة» (1999) التي يستنجد فيها بالغرب لخلع صدام حسين. لكن الزمن تغيّر والشاعر أيضاً.
كأننا به يعيش اليوم، في إسرافه الوجودي، ما يعادل «جنون أوريست» في التراجيديا القديمة. لم ينفع قتل بيروس، ما دام قد «أخذ» معه الحبيبة المشتهاة، هيرميون. هيرميون سعدي هي العراق... وها هو يزرع السماء صراخاً، والأرض رفضاً وغضباً. يقاوم الاحتلال بكل جوارحه، فيزداد الآخرون شحوباً أمام شجاعته وعناده. إنّه «شاعر الأقلية النبيلة» أو «الأقليّة الغامضة»، كما لقّبه الناقد العراقي فاروق يوسف. وإذا كان لا بدّ للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي من صوت، فهو قطعاً صوت سعدي يوسف.
****
لم تكن قصائد سعدي يوسف في سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد صدور ديوانه «الأخضر بن يوسف ومشاغله» (1972)، تمثّل شعراً مجرداً. جيل سنوات الانفتاح النسبي الذي «مهّد لحروب ومآس ونكسات»، أخذ يتداولها في السر والعلن، يحتفي بها، يعدّها منشورات غير رسمية من شاعر هجر الالتزام الحزبي كما كان يصرح دائماً... لكن «شبهة» الشيوعي لم تهجره. كانت تلك القصائد تعبّر إلى حدٍّ ما عما يريده كل قارئ، ببساطتها ووضوحها وموسيقاها الخفية، ورموزها التي لا يتطلب تفسيرها مشقة كبيرة... رموز ذلك الشعر، تكمن مباشرة تحت سطح مخادع، كأن الشاعر يستعير لإيصالها طريقة شعراء العامية الذين يتلاعبون بالألفاظ، لإخفاء سر يتواطأ القارئ أيضاً على إخفائه: ما الذي قد صنعت بنفسك؟ هكذا كان سعدي يوسف يسأل نفسه في إحدى قصائده، كأنه يسأل الحزب عن المشكلة التي ورّط أنصاره فيها.
صاحب «قصائد مرئية» (1965) و«نهايات الشمال الأفريقي» (1972) و«حانة القرد المفكر» (1997)، كان شعره مناسباً لتلك المرحلة، إذ يعبّر بشحنات متقطعة عن حالة الشك التي تراود الجميع، سياسياً واجتماعياً. نموذجه الشعري الذي وصل آنذاك إلى أوج اكتماله لغوياً ورؤيوياً وفنياً، كان على تناقض مع ما يحيط به. فبينما كان اليسار التقليدي يتخبّط في مآزقه، وكانت أساطيره على وشك الانهيار، كان سعدي مضطراً إلى مناجاة الآخرين، وإعادة صياغة أحلامهم، ومواساة وجدان وطني يعيش أخطر لحظات وجوده، وقد أعيد تكرار مقاطعه الشعرية في قصائد الآخرين، كما لم يحدث لشاعر عراقي من قبل. ربما لأن قصيدته ذهبت بعيداً عن البنية التقليدية للقصيدة الحرّة التي أوجدها السياب ونازك والبياتي، ببلاغتها الموروثة عن العمود الكلاسيكي، ورومانسيتها ومحاولاتها لمقاربة الأسطورة. كان قد توصل منذ بداياته إلى تأليف نموذج جديد، يستعير لغة الحياة اليومية ومشاغلها وتفاصيلها، ويعيد سرد حكايات منها، تبدو ظاهراً بلا معنى، لكنّها تخفي الكثير. محاورات، أو رسوم لأشخاص، أو صور لأماكن، أو استعادات من الذاكرة، تبدو كأنها لا تنمو، بل تتهدج كالكلام، وصولاً إلى الجملة الأخيرة التي تختزن مفارقة، وقد لا تختزن أيضاً.
لكن تلك القصيدة لم تتطوّر. القصيدة التي ابتكرها سعدي يوسف، وأعاد من خلالها تأسيس عالمه الشعري، ظلت كما هي. كلما قرأتَ قصيدة كتبها بعد السبعينيات تساءلتَ: أين قرأتُها من قبل؟ قصائده تبدأ وتنتهي في نقطة الاكتشاف الأولى ذاتها، حتى كأنه أسير لها. ظل سعدي حكواتياً، تروي قصيدته حدثاً ما، لم يقترب من الميتافيزيقيا كما فعل مجايلوه، ومن جاء بعدهم. أكثر من ذلك: لقد ظهر مراراً في قصيدته شبح القصيدة الكلاسيكية الموروثة الذي حاول الخمسينيون - بلا جدوى - طرده من قصائدهم. ثمة رصانة أسلوبية فيها، ونحت للغة على طريقة أبي تمام والبحتري، وجرس موسيقي خفي تفضحه الأسطر المقفاة، أو شكل القصيدة المدورة الذي اعتُبر من مكتشفات الحقبة الستينية: «نهاري نهار الناس حتى إذا دجا الليل بي هبت تنهب السهب منهبا عواصف شتى».
أخيراً قال سعدي في حديث ل«أخبار الأدب» القاهريّة: «أستطيع أن أحذف كل ما كتبت وأكتفي بعشر قصائد، أقول إنّها هي كل ما كتبت. لكن كي أصل إلى هذه القصائد، لا بدَّ من أن أكتب ألف قصيدة». لهذا السبب ربما كان يصر على تكرار تجربته بلا تنويع. ومجموعة «الشيوعي الأخير يدخل إلى الجنة» («دار المدى» - 2007)، لا تخرج عن هذا الإطار. قصائدها تلخّص بدقة كل ما فعله الشاعر من قبل، قد يختلف ما ترويه القصيدة جزئياً، لكنّ ملامحها الشكلية واحدة. نتوقع بالضبط من السطر الأول ما سيحدث بعد قليل، ليس عبر استقراء الحدث نفسه، بل من خلال التركيبة المألوفة للقصيدة التي نعرفها مسبقاً... وذلك لا ينفي تألّق الجملة الشعرية، إذا أُخِذَتْ بمعزل عن سياق القصيدة: «صديقي لم يقل لي عن جواد الريح شيئاً، هل تراه ألحق الأشياء بالشعراء؟/ كم ساءلتني امرأة هل استمتعت بالميلاد؟/ عيناي متعبتان... أسبوعين أحفر دون منقطع وأحفر».
الشاعر الذي يتخفى خلف قناع الشيوعي الأخير، حين يُسأل من أي حزب أنت؟ لا يعرف ماذا يجيب! فأحزاب المدينة كلها وقعت في قبضة الاحتلال، مرحبة بجنوده وبنوده... لكنه يقول أخيراً: «إني حزب نفسي». يلوذ الشاعر هنا بماضيه الذي أنكره مرة، ماضيه الملتبس، بل ماضينا، يعطي للكتابة مبرراً: آخر أنبياء اليسار المخدوعين يعترف بأخطائه، ليعوض عن خراب الحاضر.
وسعدي يوسف، بإصراره شبه اليومي على كتابة الشعر كما يبدو من تواريخ قصائده، لا ينطلق من حالة شعرية ذهنية بذاتها، كما يفعل معظم الشعراء الآخرين، بل ينطلق من حدث أو من تفصيل يومي، ويعيد تأليف ما تأثر به شعرياً. هناك دائماً مرجعية واقعية لقصيدته. في قصيدة «الشيوعي الأخير يذهب إلى السينما»، يورد ما يسميه «ملحوظة مهمّة جداً» تتضمن شرحاً لعناصر كتابة الخبر الصحافي تبدو كأنها مقحمة على النص. وهناك دائماً تشابه ظاهر بين ما يكتبه نثراً (جمع بعضه في «يوميات الأذى»، دار نينوى - 2005) وقصائده. كلاهما يستعير من الآخر، لكن بينما تنتزع القصيدة نفسها من الأرضي، وتكتفي بذاتها. تهبط المقالة الموجزة التي يكتبها بلغتها الحادة، وطابعها الهجائي، إلى العالم السفلي لتعبّر عن مشاغل الشاعر، وتلقي الضوء إلى حد ما على طريقته في العمل.
***
غادر سعدي يوسف العراق للمرة الأخيرة قبل ثلاثين عاماً، هذا الشاعر المولود في البصرة عام 1934، ظل يتنقل قبل ذلك بين الشرق والغرب بحثاً عن مستقرّ. وكان سُجن بعد انقلاب البعثيين الأول في شباط (فبراير) 1963 وأطلق قبل ليلة واحدة من انقلاب القوميين عليهم أواخر العام نفسه. ذهب إلى طهران ودمشق ثم الجزائر حيث أقام لسنوات قبل أن يعود الى وطنه بعد انقلاب البعثيين الثاني في تموز (يوليو) 1968 وبعدما حاصره سؤال يشبه الكابوس: «هل أعود أم لا؟»، ولم تطل اقامته هذه المرة، إذ كان الوضع يتردّى وكانت هناك حملة قمع متصاعدة ضد الشيوعيين وضد كل من يشتبه في معارضتهم للنظام وإن كانوا بعثيين. بعد رحيله، تنقّل سعدي بين مدن كثيرة: بلغراد، نيقوسيا، باريس، بيروت، دمشق، عدن... ليستقر أخيراً في لندن، ويحصل على الجنسية البريطانية.
سعدي في حله وترحاله لا يخرج عن مصير عاشه معظم الشعراء العراقيين الكبار: الجواهري، السياب، البياتي، نازك... يأخذهم المنفى اليه فجأة ثم يتركهم معلّقين حتى الموت. بينما تظل فكرة الوطن البعيد مصدراً شعرياً، يتجدّد مع هموم أخرى، وطن بحاجة الى معجزة ليعود الى رشده.
الأخبار
٢٤ تموز 2007