ترجمة: أحمد محمد الرحبي
(عمان/موسكو)

سيرجي يسنين

سيرجي يسينيسيرجي الكسندرفيتش يسينين (1895 - 1925) ألمع شاعر روسي في القرن العشرين، وبالمقارنة مع أسماء معروفة أخرى لامست فترة حياتها أطراف الزمن الذي عاشه، مثل الشاعر الكسندر بلوك وفلاديمير مايكوفسكي، يتمتع اسم يسينين برنين خاص لا يخطئه قلب أي روسي استعذب قصائده وتعذب بها. شاعر يذكرنا عبوره الخاطف وحضوره الملتهب بشعراء من أمثال سلفه ميخائيل ليرمنتوف. وبدون صوت يسينين ستغدو خريطة الشعر الروسي القرن العشرين ناقصة النسغ الذي يمدنا قوة الشعر ويشق أمامنا قنوات إلى جمال الروح الروسي والأطياف الرافدة له. إنه شاعر لا يمكن ألا تحسده على ذلك اليُسر السيال في قصائده. وكأنه بذلك يختصر وظيفة الشاعر على قول ما تيسر لديه، وليس مطلوب منه آنذاك إلا أن يكون شاعرا فحسب. أن تكون مقولته عن الحياة ربيبة نفسه ثم يجهر بها أو ينشدها بصوته الخاص. ظل يسينين خلال حياته القصيرة يستعين بأي شيء يجده قريبا من الشعر والحياة: زوجات، عشيقات جئن في البداية يتجسسن عليه ما لبثن بعدها أن انزرعن قرب فيئه الفوار، بل أن "غاليا" وهي عميلة لجهاز المخابرات، لم تكن لتتردد في إشهار سلاحها بوجه زملائها لو أنهم حاولوا إيذاء يسينين، وغاليا العميلة هي نفسها المرأة التي لم تحتمل غياب الشاعر فأنهت حياتها فوق قبره.
ليس ثمة جسر يربط حياة يسينين بشعره يستدعي الحديث عنه، فالمدخل إليهما واحد. ترك في يفاعته قريته "كونستانتينوفا" من قضاء "ريازان" وأقبل على موسكو ثم على العاصمة القيصرية "سانت بطرسبورغ" منتشيا بالحياة وبيده قصاصات شعرية. هنا قرأ بين يدي الشاعر الكسندر بلوك الذي كان يستمع إلى الشعراء الشباب في بيته ويسدي رأيه ونصائحه. يومها رأى بلوك أنه أمام موهبة حاضرة لا تحتاج إلى نصح، ترك بعدها يسينين بيت بلوك ليجول بشعره في بطرسبورغ وموسكو ويستمع إلى رجعه الحي.
كان يمهد طريقه بالشعر. به ينشئ علاقاته بالآخرين وبه يحتدم معهم. ولأنه كان شعرا يسيرا في مُعطاه، ممتنعا في رموزه وأدواته، كذلك وسعت علاقات يسينين أطيافا متضاربة من الشخصيات والطبائع. ولم يمض وقت وجيز من مغادرته قريته حتى أخذت قصائده تتردد على ألسن الجميع: فلاحين وعمال، موظفين وجنود وضباط، شعراء وكتاب، وبذيوع صيته، طلبه القصر لرؤيته وسماعه.
لم تتبدل الحال بعد انتقال روسيا من فضاء القيصرية إلى الاشتراكية، ففي نظر الشاعر كان ذلك انتقالا دراماتيكي في فلك السلطة، وفي كلا الحالتين مطلوب منا "أن نكون عبيدا لها"... كما أسّر الشاعر ذات يوم لرفيقته وهو مستثار من لمز السلطة السوفييتية له في محاولة منها لاحتوائه. مع ذلك لم ينكر يسينين المبادئ التي بدا أن الثورة الطموحة أرادت أن تنبني بها بل أنه كان حريصا على إثارتها كلما وجدها تتهاون وتهمد قوتها، وهي المعضلة التي ظلت قائمة بينه وبين السلطة المستحوذة بالحقيقة والمتبرئة من أية وصاية عليها. وبرغم توتر المناخ السياسي الذي رافق الثورة البلشفية وما ترتب عنها من غربلة شاملة على الصعيد الاجتماعي، إلا أن يسينين ظل مشدودا إلى تربة الشعر التي خرج منها، ولم تجنح سليقته الشعرية إلا إلى شواطئ الحياة والروح. ظل مستغنيا عن معكر السياسية بمجد الروح الروسي الذي ينبض بشعر بوشكين وليرمنتوف وبلوك وبنثر تورجينيف وتشيخوف وديستويفسكي. ظل منصتا إلى أصوات أسلافه وهم يغنون في الأرض الشاسعة ويحولون أشعة الشمس إلى فراشات. كان دائما صاخب الحرية، صخب لذيذ استمال إليه الجماهير فتغنت به، ولكنه، ويا للأقدار، الصخب الذي فتح عليه بنادق الحساد.
تركت جولته القصيرة في أوروبا وأمريكا أثرا سيئا في أذهان الشعراء والجمهور الذين جاءوا للاستماع لأهم شاعر روسي في وقته: لم يستوعبوا فوضويته ولم يطيقوا قلق روحه التي ما كفت تكيل الغضب على مداهنة البرجوازية، ثم أنه سرعان ما أجبره الحنين على العودة إلى الوطن.
في روسيا كانت تنتظره حياة مضطربة توزعت بين ملاحقة رجال المخابرات له وملاحقته هو للمأوى، وذلك في ظل ظروف سياسية قاتمة كانت تخيم على البلاد، أي فترة مرض ومن ثم وفاة لينين وظهور الافتراق السلطوي في الحزب بين ترسانتي ستالين وتروتسكي، وهو الخصام الذي كسر نفوس الكثير من الحالمين بمبادئ الثورة والعدالة. في تلك الفترة سقط العديد من أصدقائه الشعراء ضحية المناخ الشرس، وسقط هو في دوامة من التوجس والخبال النفسي شدته إلى حافة الجنون.
بعد ثلاث سنوات من رحلته الأوروبية وجد الشاعر معلقا في غرفة في أحد فنادق بطرسبورغ، وما يزال الغموض يلف حادثة الوفاة حتى يومنا: هل مات يسينين منتحرا كما تثبت سجلات الحكومة فيكون الشاعر الذي مجد الحياة قد استسلم للغواية التي ما برحت تزحف إلى قصائده ومزاجه؟ فوفق نتائج التحقيق هناك قصيدة وداع سجلها يسينين قبل وفاته تحمل عنوان "وداعا صديقي وداعا"، وهي القصيدة أو رسالة الوداع التي استند إليها التحقيق لإثبات حادث الانتحار، ولكن يبقى أن العديد من قصائد يسينين لم تكن لتخلُ من نبرة الوداع والهجس بالفناء، وكان استدعائه لفكرة الموت يأتي لصالح إنعاش الحياة.. تماما كما أن البكاء يأتي في ذروة الجذل!

عن شعر سيرجي يسينين

في قصائده الأولى نستمع إلى هدير الموسيقى القادمة من تيارات نهر الفولجا العظيم ومن حقول الثلج التي أنبتها الروح الروسي الملهم ذات تاريخ، شعرا وشجرا وكلاما. قصائد أنشودية هادرة وقاسية على كل مانع لجموح الحياة وما يقيد سطوة الجمال، وفي آن الوقت تتصادى مع غريزة الرفض والشك بالزمن الجارف الذي لا يجد فيه الشاعر سوى فعل إخصاء وتهافت سقيم مجرد من النبل والحشمة. يحاول أن يعيد ترتيب الكلام و "تشعيره" بتدارك الإيقاع الذاهل المستوحش من جلبة التاريخ، فيستحضر بذلك حفل طقوسي يلغي الزمن ليظفر بالحالة. في هذه الحال هي قصائد حنين لنقاوة الشعر ولكن في محاولة للارتماء في كلية الشعر وليس اقتفاء للزمن الآفل وامتهان الفقد. في هذه المنطقة تنبني اللحظة الشعرية عند يسينين فيتخلق صوت الشعر وصداه: روحه وجسمه. كما تحتشد قصائده بالإحالات والرمز والاستعارات اللفظية التي قد تستحوذ أحيانا على مقاطع بأكملها من القصيدة (اهتم يسينين بالاستعارة وكتب بحثا موّسعا عنوانه "مفاتيح ماريا" وهو بحث في جمالية الاستعارة اللغوية في الذاكرة الشعبية الروسية). من ذلك تحضر بعض الصعوبة في ترجمة شعره، إلا أنها صعوبة ممتعة ومغرية، فالعالم الشعري عند يسينين - كما أتينا على ذكره سابقا- عالم رحب ومنفتح للحياتي بتجلياته وعثراته، واللغة لديه طيعة حتى في أضيق أقبيتها، هو الذي كان يردد كثيرا بأنه صديق وتوأم روحي لبوشكين، شاعر القرن التاسع عشر الذي كانت معه اللغة الروسية، وليس الأدب الروسي وحده، على منعطف جديد.

قصيدة "الرجل الأسود"

قصيدة الرجل الأسود هي آخر قصيدة طويلة كتبها يسينين قبل وفاته (كتبها قبل ستة أسابيع من وفاته أعقبها بقصيدة قصيرة ثم قصيدة الوداع)، وهي بجانب ذلك مرحلة إبداعية منقطعة كلية عن مجمل إبداعه السابق، وربما الأجدر القول أنها حالة شعرية بالغة الخصوصية أكثر من كونها "مرحلة" يمكن استبيان ملامح تطورها واندثارها.
في الرجل الأسود يختلف يسينين عما عرفناه في شعره السابق، بل لا نكاد نتعرف عليه إطلاقا. شعر مختلف. عالم آخر انشق فجأة أمام الشاعر ما عاد معه شيء من الدنيا الماضية: عالم لا قبله ولا بعده. ولا غرابة في أننا نجد في الرجل الأسود ما يشبه مونولوجا شعريا مخنوق، فالشاعر يندفع مجبرا فوق أرض محرقة ورجراجة بعد أن خربت لديه البوصلة. الرجل الأسود هو المخلوق الغامض الذي رآه الشاعر وهو وحيد، لا متاع لديه ولا حيلة له سوى الارتطام به جسديا، ذلك لأن الجسد، جسد الشاعر، هو ما تبقي على قيد الوجود بينما انحسر ما عداه وتباعد غاربا. الجسد في الرجل الأسود إذن هو آخر رمز لقول آخر قصيدة. والرجل الأسود- بأوضح عبارة- هو يسينين يتهشم في مرآة شعره/ نفسه.
لا يحضرنا في هذه اللحظة اسم لشاعر أو كاتب روسي أو غربي عاش تجربة الموت وسك مفرداته من صلبها مثلما فعل يسينين في قصيدة الرجل الأسود. لا نعني (حتما) كتابات النفسانيين وتوصيفاتهم أو رؤاهم عن الهوس والخبال النفسي الذي قد يغرز مخالبه على فنان ما أو أي شخص يوسوس من لقاء الموت، فأن تصف الحالة شيء يختلف جذريا عن الكتابة وأنت مكتو بنارها. وبالنسبة لكتاب كغوغول وكافكا ولوتريامون (مثالا وليس حصرا بطبيعة الحال) استحوذت فكرة الموت على جانب من تفكيرهم وطبعت كتاباتهم (مثلما هو الحال لدى لوتريامون في كتابه أناشيد مالدورور حيث الموت يعوي في جسد الحياة وحيث تتشكل أشباحه العارية منها) أو أنها توارت (فكرة الموت) في مناخ الكتابة واكتسبت رؤية أو موقفا أدبيا ضمن مصهر إبداعهم، وهم بذلك، وبالمقارنة مع حالة يسينين (في قصيدة الرجل الأسود) ليسوا غرباء عن الفكرة وكان دأبهم معها دأب الصانع الصبور الذي يمزج عرق الوهج بتراب مخلوقاته.
قد يصح أن نجد في مرثية مالك بن الريب نسيبا لقصيدة يسينين!... فكلا الشاعرين مريض: الأول بجراحه النازف المحسوس والثاني بعلة في الروح، وكلا القصيدتين تثورهما "نستولجيا" إلى الحياة الآفلة المنقطعة. مع ذلك يبقى اختلاف جوهري واضح في طبيعة مرضيهما، وما انعكس عن ذلك من توترات في القصيدة وطبيعة بناءها واسترسال قول الشعر فيها. فالجراح النازفة "ببطء" في جسد ابن الريب وهو على الرابية يستشرف أجله، دفعه إلى قول قصيدته (ووصيته أيضا) وتدوين سيمفونيته الجنائزية الرائعة.. بكل روية واسترسال للشعر والفكر، وفيها فتل الصور المحسوسة ووزع الأصوات بأناة، أما في الرجل الأسود فإن "فكرة" الموت تذوي وتتقلص إلى حد تكاد فيه أن تكف لتكون فكرة. الموت هنا واقع قبل أن يقع، موجود قبل أن يسكن الجسد. وكأني بالشاعر ينفخ في روح القصيدة لتحميه وتعتني به قبل أن يعتني هو بها. وكأن الكلام يدفعنا للقول أن الدماغ وليس العقل، الأعضاء وليس الوجدان من يروي القصيد في الرجل الأسود.
قصيدة الرجل الأسود أخيرا هي جذوة الشعر وحيدة في وجه رياح المجهول.

 

الرجل الأسود

صديقي.. يا صديق!
أنا مريض
مريض جدا
نفسي لا تعرف من أين يدوي هذا المرض
ساعة
تصفر الريح
في حقل قاحل معزول
وساعة
كحول يذر في الدماغ
كدغل يتساقط في أيلول.

أذناي تخفقان برأسي
مثلما تخض الأجنحة الطير
وهو مكبل بقدميّ
يتطوح ولا يطير.
رجل أسود
رجل أسود
رجل أسود
يجلس على سريري ويحرمني الرقاد.

رجل أسود
يُحرك إصبعه على الكتاب الرذيل
ويخن في رأسي
كما يفعل الرهبان للموتى
يقرئني حياة ما
لوغد طالح
رجل أسود
رجل أسود
أودعني الروع والكآبة.

"صه، صه- همهم قائلا-
في الكتاب أفكار وحياة رائعة
عاشها رجل في بلاد
حيث أشنع الكواسر
وأرعن الخبثاء.

في تلك البلاد
يهطل الثلج في ديسمبر
ناصع البياض
والعواصف تدوّم
مغزلها السعيد.
هناك عاش رجل مغامر
ولكنه الأفضل نوعا
والأسمى مقاما.

كان رجلا رفيعا
وفوق ذلك شاعرا
ليس عظيما
ولكنه قبّاض للقوة

وثمة امرأة
تخطى عمرها الأربعين
سمّاها الفتاة الفاحشة
وسمّاها العزيزة".

"السعادة - قال لي-
ما هي إلا مكر العقل واليد.
أما الأنفس الغافلة
مآلها الخيبة.
ولا ضير
لا ضير أن الإيماءات الكاذبة
رهينة العذاب
والتعاسة.

في الرعود، في العواصف
في الصقيع الدنيوي
عند الفقدان المضني
وأنت صريع
تظاهر بأنك مبتسما
مطيعا
عليك بذلك الفن الرفيع".

"يا أيها الرجل الأسود!
كيف تجرؤ؟
تراك لست غواصا
لتثير أعماقي
وعن شاعرك ذاك
اذهب وخّبِر غيري".

رجل أسود
يحدق بوجهي
وفي نظرته
غشاء قيء أزرق
يقول ملء الفم
سافرا يقول
أنني لص محتال
أنني ناهب.

***

صديقي.. يا صديق!
أنا مريض
مريض جدا
نفسي لا تعرف من أين يدوي هذا المرض
ساعة
تصفر الريح
في حقل قاحل معزول
وساعة
كحول يذر في الدماغ
كدغل يتساقط في أيلول.

ليل.. صقيع
الطريق: سكينة وصمت
وأنا أمام الشباك
لا ضيف، لا صديق أنتظر
السهل مغطى
بنثار جيري ناعم
والأشجار كأنها خيّالة
تجمعوا في روض الدار.

في مكان ما يبكي
طير الليل المشؤوم
والخيّالة الخشب
يبذرون نقع حوافرهم.
وهاهو الأسود ثانية
يجلس على أريكتي
يرفع قبعته العالية
ويزيح سترته

"صه، صه"- خار محدقا بوجهي.
كان ينحني رويدا
ويدنو مني:
"لم أر حتى بين الأوغاد
موجوعا مثلك
وعبثا
يمزقه السهاد"

آه، ليكن أنني مخطئ
الليلة مقمرة
فما عسى هذا العالم الصغير يبتغيه
ليملؤه النعاس؟
"علها ستأتي متسللة
ذات الفخذ السمين
لتقرئها
جيفة من قصائدك السوداء؟

آه، كم أحب الشعراء
ذاك القوم المضحك
لطالما وجدت فيهم
قصصا يعرفها قلبي:
كيف يُحدّث ذلك المسخ
ذو الشعر الطويل
تلميذة مراهقة
بحبوب ناعمة
عن العوالم العظيمة
والجنس يرغي في صدره".

لا أعرف، لا أذكر
في أية قرية
ربما في "كالوجا"
أو عله في "ريازان"؟
عاش طفل
في بيت فلاحين
ذهبي الشعر
أزرق العينان

ها قد غدا كبيرا
وفوق ذلك شاعرا
ليس عظيما
ولكنه قبّاض للقوة
وثمة امرأة
تخطى عمرها الأربعين
سمّاها الفتاة الفاحشة
وسمّاها العزيزة"

"أيها الرجل الأسود
ما أثقلك من ضيف
الخلق يحفظ سرك
منذ أزل الأزل"
فأراني أتميز غيظا
لتطير العصا إلى وجهه...
إلى عظمة أنفه

***

... مات القمر
وازرّق في الشباك الفجر
آه يا ليل
بماذا جنيت عليّ؟
أقف في القبعة العالية
لا أحد معي
وحدي...
والمرآة المهشمة...

ahhi2002@maktoob.com

عن ( كيكا)

********

سيرغي يسينين: الصباحات الربيعية قمطتني بقوس قزح

نضال القاسم

سيرغي يسينينSergei Yesenin ( 1895 1925 ) تعتبر قصائد سيرغي يسينين الأقرب إلى نفس كل إنسان روسي.ويسينين شاعر جمع بين الرقة والحماس الثوري،وقد كان إنساناّ ذكياً وجميلاً،كان لطيفاً و أنيقاً وعبقرياً،وتلكَ العبقريّةُ التي منحتها الطبيعةُ لهُ بكرمٍ وسخاءٍ ستُمَكّنُهُ أن يحمِلَ في شعرِهِ صوتَ الزمنِ.
وهو واحد من ألمع نجوم الأدب في سماء الإتحاد السوفيتي بعد ثورة أكتوبر،وقد ولد يسينين في 21 أيلول من عام 1895 في بلدة كونستانتينوفو الواقعة على ضفة نهر أوكا في ناحية ريازان وسط روسيا في عائلة فلاحيه،وأمضى طفولته في أحضان الطبيعة التي ظهرت ظلالها في معظم نتاجاته:

وُِلدتُ بحُضنِ الأغاني على شرشفٍ
من العشبِ
والصباحاتُ الربيعيةُ قمَّطتني بقوسِ قزح

وقد سطع نجم الشاعر يسينين في أوائل القرن العشرين على الرغم من ظهور الكثير من النجوم المتلألئة في سماء الشعر الروسي كالكسندر بلوك وفلاديمير ماياكوفسكي،والكسندر تفاردوفسكي، وآنا اخماتوفا،ومارينا تسفيتايفا.ويتميز يسينين عن جميع هؤلاء الشعراء الكبار ببساطته فهو ابن العائلة الفقيرة والقرية والطبيعة الروسية التي لم تفارق مخيلته أبدا في حين انحدر جميع الشعراء الذين عاصروه تقريبا من أسر مثقفة وعاشوا حياة العاصمة بصالوناتها الأدبية الصاخبة .وقد كان يسينين أقربهم إلى الشعب الروسي كسلفه الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين حيث حفظ وردد الجميع قصائده وأشعاره الجميلة المشبوبة بحزن روسي عميق.

ويرى النقاد أن موهبة يسينين الشعرية الرائعة والأصيلة ومجازيته المتألقة تستند إلى طبيعة الحياة في روسيا وإلى الإنسان الروسي نفسه،فقد كان قريباً جداً من الفلكلور والإبداع الشعبي وتغذى إبداعه من حياة الفلاحين وأملت الركائز الأخلاقية القديمة تأثيرها فيه إلى حد كبير حيث يجتمع فيها حب العمل والغناء والجمال،وقد اكسب هذا أشعاره قوة غير عادية تذهل الخيال وجمالاً عميقاً لا تجدهما لدى الشعراء الآخرين،فالقرية أحب الأشياء إلى قلبه وينبوع شاعريته ومضمون شعره ودونها لا يستطيع الشاعر إن يعد نفسه موجوداً،ولعل هذا ما دفعه لأن يلقبَّ نفسه بـ 'آخر شعراء القرية الروسية' وحتى بعد قيام الثورة البلشفية ظل الشاعر يغني لقرية الطفولة ويقارنها بالمدينة وظلت أيضا الطبيعة تلاعب مخيلته بحس إنساني طبيعي.

ويصف بوريس باسترناك سيرغي يسينين بقوله عنه:- لم تلد الأرض الروسية مَن هو أكثر محلية و أكثر عفوية ،مَن هو أكثر وطنية و أفضل توقيتاً مما هو سيرغي يسينينôو في ذات الوقت،لقد كان يسينين مثالاً حياً ينبض بالأدب ، الذي يواصل تقاليد بوشكين ، الأدب الذي ندعوه ذروة المبدأ الموزارتي .. وأما مكسيم غوركي،الكاتب الروسي الشهير فيصفه بقوله:إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن حلق من اجل الشعر حصرا. إما يفجيني يفتشينكو فقال فيه: إن يسينين لم ينظم أشعاره بل لفظها من أعماقه.

ورغم أن الشاعر الروسي سيرغي يسينين عاش حياة قصيرة إلا أنه ترك أثراً واضحاً في الشعر الروسي والعالمي.كما يحظى هذا الشاعر بمكانة كبيرة وخاصة في روسيا المعاصرة حيث تنتشر نصبه في العديد من المدن الروسية.وتشهد قرية قسطنطينوفو التي ولد فيها يسينين في أوائل شهر أكتوبر من كل عام مهرجانا للشعر يشارك فيه الكثير من المثقفين الروس.وقد استحدثت في روسيا جائزة أدبية تحمل اسم الشاعر سيرغي يسينين.ومازال العديد من النقاد الأدبيين في روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة يخوضون في التفاصيل والجوانب الغامضة من حياة وإبداع سيرغي يسينين
وقد عمقت طبيعة الحياة الريفية الروسية الأخاذة حس الشاعر بالجمال،وحرضت روحه على التوق الأبدي للحرية،وغالباً ما كان يسينين أثناء دراسته الثانوية يفر من المدرسة التي كان يعتبرها سجناً وجحيماً،وذلك للتمتع بالأسواق الريفية الموسمية..والحرية ذاتها حرضت الشاب يسينين لمغادرة العمل مع والده الذي كان يعمل في موسكو في مؤسسة لتجارة اللحوم والذي كان يرى في كتابة الشعر مضيعة للوقت مما دفع يسينين بعد حين إلى مغادرة العمل والغرفة إثر خلافات مع والده،ليغرق في حالة تشرد ثقيلة ويعيش مرحلة فاقة حقيقية مستسلماً لقدره الذي يقوده أخيراً ليتعرف على الشاعر كاشكاروف الأب الروحي لحلقة ' سوريكوف الأدبية ' الذي يهتم به ويدعوه للعيش معه،بعد أن آمن بنضوج موهبته وانتسب إلى حلقته.

وفي موسكو،عملُ يسنين فترةً غير قصيرة في مطابع الناشر الروسي المعروف ي. د. سيتين وعاش حالةَ الحِراك السياسي الذي كانت تمورُ به روسيا في تلك الأيام،وتبنّى أهدافَ الطبقة العاملة رغم جذورِهِ الفلاحيّة،فشارك في توزيع المنشورات السريّة،وأصبحُ مُراقَباً من قبل البوليس. وفي تلك الفترةِ نفسِها بدأ الشاعِرُ بزيارة جامعة شانيافسكي الوطنيّة مما فتح أمامه المجال لتوسيع اطلاعاته وسد رغبته النهمة في المعرفة،حيث تعرف بعمق على أفكار الحرية والديمقراطية التي تلقف بواكيرها في حلقة سوريكوف،وهكذا تفتحت ذاته على آفاق أكثر قابلية واتساعاً.

وفي عام 1914 انتسب يسينين كمستمع إلى كلية التاريخ والفلسفة وشرع في قراءة أشعاره في أروقة الجامعة،وبدأ ينشر أشعاره في الصحف والمجلات،ثم أصدر مجموعته الشعرية الأولى إبان الحرب العالمية الأولى التي ناهضها فتلقتها الأوساط الأدبية في ' بيتر بورغ' بحفاوة عارمة.وعلى الرغم من أن يسينين تأثر بالجو العام المتحمس للحرب من خلال بواعث وطنية إلا أنه ظل إنساني التوجه، ونرى موقفه الرافض لها فيما بعد في قصيدة 'آنا سنيغينا :

لقد قَضَمَتْ الحربُ روحي
من أجلِ مصالحَ غريبةٍ عني
أطلقُ النارَ على جسدٍ حميم
وأجمَحُ بصدري قاصداً أخي
لقد فهمتُ أنني ألعوبة
ففي الداخلِ التجارُ .. والسادة
لذا قررتُ بعزمٍ مودعاً المدفع
أن أقاتلَ بالشعرِ وحده

وسرعان ما يغادر يسينين موسكو التي لم يتواءم مع الحياة فيها إلى بطرسبورغ،وذلك في ربيع عام 1915 حيث يلتقي هناك الشاعر الكبير الكسندر بلوك الذي كان في أوج شهرته،والذي استقبله بالترحاب واستمع إليه،واختار بنفسه بعض القصائد وساعده في نشرها في أفضل دور النشر في العاصمة وذلك بعد أن وضع عليها بلوك تعليقاته وأثنى عليها،حيث يصفُ بلوك شعرَ يسينين قائلاً: 'شعرُه طازج،نظيف،موسيقي،غزير'.ولابد أن لقاء الشاعر الشاب بالشاعر الكبير ' الكسندر بلوك' الذي كان أنذاك يتربع على عرش من المجد والشهرة كان حدثاً جليلاً في حياة 'يسينين'.كان اللقاء إثر رسالة بعثها 'يسينين' إلى الشاعر الكبير يقول فيها :' ألكسندر الكساندروفيتش! أرغب في الحديث معكم.الأمر هام بالنسبة لي كونكم لا تعرفونني،لكن ربما طالعتم اسمي في المجلات. أود أن أزوركم في الساعة الرابعة ' سيرغي يسينين'.

كان لقاء الشاعر الكبير بشاعر الريف الشاب كما أطلق عليه طيباً توج بأن اختار 'ألكسندر بلوك' مجموعة من قصائد ' يسينين ' وقدمها للنشر.وهكذا فتحت الصحف والمجلات الشهيرة صفحاتها له،واهتمت دور النشر والصالونات الأدبية بأشعاره وآرائه وشخصه المحبب،فازداد نجمه تالقاً،وروحه إشعاعاً وقلقاً إبداعياً.وتتوالى قصائد يسينين في الظهور بعد ذلك،وتعيره الصالونات الأدبية اهتمامها،وتظهر مجموعته 'رادونيتسا ' والتي يحشد فيها الشاعر قيم الحاسة الانسانية ونظافة الروح وصفاءها وتوقها الخالد إلى الاندغام بهناءة الطبيعة الريفية الأخاذة ومناخاتها السلمية البديعة.وتلقى المجموعة ترحيباً حاراً ،ويتعرف 'يسينين' في هذه الفترة على الشاعر كلويف الذي يؤثر عليه تأثيراً كبيراً،وينتقل معه من تجمع 'كراسا' (الجمال ) إلى تجمع 'الموسم'،وكان يسينين يرى في الشاعر كلويف معلماً رغم اختلاف النهج الفني بينهما.

وفي أثناء خدمته العسكرية أيام الحرب عمل يسينين في التمريض،وسعى بلاط القيصر لاستمالته لكنه رفض مديح القيصر فأصدر البلاط' قراراً بإرساله إلى الجبهة،لكن تصاعد الأجواء الثورية والفوضى ساعده على ترك الخدمة العسكرية،ورغم تعاطفه العام مع أجواء الثورة إلا أنه بقي تحت تأثير كلويف،وانخرط معه في تجمع أدبي آخر هو 'سكيفي' الذي كان يدعو إلى الاشتراكية الأبوية وإحياء الروح السلافية.ومع اندلاع ثورة اكتوبر تحمس يسينين لأفكارها الطامحة إلى تحرير الانسان والتقى ' بلينين' في الكريملين بمناسبة تخليد شهداء الثورة الذين مجدهم ' يسينين' لحظة تدشين اللوح التذكاري لهم في عام 1918.

ناموا يا أحبتي يا أخوتي ناموا
هاكم ِمن جديدٍ أرضُكمُ الحميمة
ناموا يا أحِبَّتي يا أخوتي
فقُربكم يعبُرُ الشعب
خائضاً الحِمامَ نحوَ فجرِ الكون

ويبدو أن عوامل غير مفهومة تماما أعاقت انخراط يسينين في أجواء الثورة كماياكوفسكي مثلاً، فعلى الرغم من أنه كان قد تفاعل بما فيه الكفاية مع حركة الجماهير المتصاعدة،إلا أن النفور غير المفهوم في تلك المرحلة من البعض تجاهه حال دون ذاك،حتى أن بعض المعطيات تشير إلى أنه أعد طلباً للانتماء للحزب الشيوعي،وكانت قصيدته 'قارع الطبل السماوي' بمثابة عربون لهذه الخطوة، على أن القصيدة لم ترق لبعض المتنفذين ورفضوا نشرها في البرافدا،وكان التعليق على مسودتها بأنها مجرد هراء،هذه المواقف كما يبدو عمقت من إحساسه بأنه غير مرغوب فيه،وأن الآخرين مسؤولون عن تشتته هذا وجعله بين بين:

إنني اتهِمُ السلطةَ السوفييتية
لأنني لم أرَ شبابيَ في صراعِ الآخرينَ المضيء
ما الذي رأيتُه أنا
أنا رأيتُ المعاركَ فقط
وبدلَ الأغاني سمعتُ المدافع

ولم يعايش يسينين أحداث الثورة والتحولات الكبرى كشاعر ناضج تخمرت تجربته،بل كان ينضج عبرها يتعثر حيناً وتتشتت مشاعره ثم تتجدد،لقد كان تلميذاً فطرياً سريع التلقي لمعطيات الحياة، سهل الانقياد للآخرين عبر مشاعره التي تعايش الأحداث الكبرى واليومية بتفاعل يحولها أحياناً من جهة إلى أخرى،حتى أنه يعترف بهذه الحالة مقراً بأن هناك تأثيرات عديدة مرت عليه،ومن هنا يوضح أنه بات يعرف ما هو من نتاجه وما هو ليس له وأنه يقدر الأول بالطبع ..واللافت أن حزناً خفياً يفوح من بين سطور العديد من القصائد حتى لو كانت ترصد حالة سعيدة،ربما نتيجة إحساس عميق بأن هذه السعادة التي تمثلها الطبيعة زائلة،وكثيراً ما ظهرت في قصائده صور الجنازات والقداديس والدفن،ومن الأمثلة على ذلك:- (إلى جانب نافذتي حملوك ليدفنوك)..أو (فهيا لندفن شبابي معاً) أو (رنين الرياح مثل قداس يغني)، ومع ذلك فإن هذه الأمثلة لا تكفي لاعتبار يسينين متشائماً فهو يواجه حتى مثل هذه النزعات الطارئة بالانغماس في خضم الحياة ولذاتها،ويلجأ إلى الحلم مع مسحة رقيقة من الحنان الإنساني الطاغي والاقتراب من الناس ولغتهم وحياتهم ،لأنه في الواقع لم ينسلخ عنهم في عمق أحاسيسه لدرجة أنه في موضوعة الريف التي كان يعشقها لا يرسم لوحة جامدة بقدر ما يدفع القارئ إلى معايشة الاحساس بهذه اللوحة الأثيرة لديه وكأنه يعيشها معه-:

يتأججُ الشفقُ ،ويتكثَّفُ الضباب
فيرمي فوقَ النوافذِ المزخرفةِ ستارةً قانية
وتنسجُ العناكبُ خيوطَها الذهبية
وفأرٌ ما يُخربِشُ في العنبرِ المُغلق''

ويقدم يسينين أعمالاً نوعية متماسكة ومعبرة لعل من أروعها مسرحيته الشعرية (بوجاتشوف) 1922 وهي التي يقول غوركي عنها بعد أن قرأها يسينين أمامه:جعلني أضطرب حتى التشنج وغصت حنجرتي بالبكاء،والتي تدور احداثها حول فلاح ثائر عاش في عصر كاترين الثانية،في محاولة منه للعودة إلى التاريخ محاولاً فهم ما تحمله الثورة لشعبه،وفيها يتفجر سؤال مؤلم:هل ستحمل الثورة مأساة جديدة للشعب كما جرى في ثورة بوجاتشوف ؟ وهو يتحدث في هذا العمل المتميز بنوع من تقمص روح تلك المرحلة عن الثورة الفلاحية التي قادها بوجاتشوف في الربع الأخير من القرن الثامن عشر،ويركز على عدالة النضال ضد المستغلين،ويبدو فيها نضج واضح حتى في فهم بعض جوانب عقلية الملكية الفلاحية،تلك التي تدفع حتى إلى خيانة الفلاحين لبوجاتشوف القائد الشعبي البسيط المتفاني في سبيل الآخرين،حتى أن بعض الحوارات تظهر بذكاء هذا الجانب النفسي العميق في عقلية الفلاحين،وخاصة حين تكون المفاضلة بين التضحية وتلك الملكية التي تنتظره حتى وإن كانت مجرد بيت ريفي :

كيفَ الموت..!!
هل يمكنُ أن يفكرَ القلبُ بهذا
طالما لي في بينزين دارٌ هناك

على أن هذا الولع بالريف والطبيعة يتحول إلى عقدة جدية،وذلك نتيجة تصوره بأن الثورة الصناعية ستسحق الريف وطيبته وفطريته،حتى تقترب مشاعره هذه من الإحساس بالفاجعة خوفاً على الريف من مظاهر الحضارة الآلية :-

أيتها المدينة .. أيتها المدينة
أنتِ في عراككِ القاسي
عمدتينا بالدناءَةِ كالجيفة
ويصل به الأمر إلى مواساة الحصان في هزيمته أمام القطار:-
عزيزي .. عزيزي أيَّها المضحكُ الغبي
إلى أينَ إلى أينَ يركض ؟
ليسَ من المعقولِ أنه لا يدرك
أن الحصانَ الحديديَّ قد انتصرَ
على الأحصنةِ الحيَّة

ويسينين ينتمي إلى مدرسة الشعر التي آمنت بأهمية الصورة الشعرية،وبضرورة الاستقلال الكامل للفنان والشاعر..و لأنه إنسان موهوب فقد كان لديه حس مرهف و قلب رقيق شفاف،ولهذا كله فقد عانى كثيراً مما تعرضت له روسيا من إهانات و لما أوصلوها من كفر و ابتعاد عن الرب.أما القصائد الغنائية ليسينين فقد نالت شهرة ورواجاً في أوائل الثورة التي ناصرها،لإيمانه بأنها ستخلص الفلاح من نير الاستعباد.ولكنه عارضها حينما ثبت له ما فيها من دكتاتورية .
وأما ملحمته الشعرية 'آنا سينجينا' فهي من أضخم أعماله الفنية وتقوم على أساس غنائي،الحب الأول لابن فلاح عشق شابة جميلة من فئة الأغنياء ولكن هذا التصادم بين المحبوبين يجري على قاعدة الحياة الشعبية الواسعة وصبغ هذه الملحمة بمشاكل اجتماعية حادة استقبلها معاصروه بدهشة وإعجاب.
ولأنه كان يعتبر نفسه بمثابة الناي الإلهية،التي تُنشد المجدَ لا للطبيعة الروسية و حسب بل وللخالق أيضاً فقد تعرّض الشاعر للطعنات من قبل النقاد بسبب تدينه.لكنه سرعان ما انضوى تحت جناح الاميجانيزمية مما دفعه إلى التشتت والانغماس في الشكلية رغم محافظته على خصوصيته الفنية،وخاصة عشقه للريف والطبيعة الفلاحية التي تبقى هاجسه المتألق، ومن خلال هذا الولع تتكاثر صور الطبيعة المختلفة بألوانها الزاهية وأشجارها وعصافيرها وسهوبها،حتى يكاد يستنطقها في العديد من قصائده التي كانت تعبر عن عشق حقيقي لمظاهر الطبيعة والريف-:

يَتُها النحيلةُ يابتولا
لِمَ في القناةِ تُحدِّقين
ما ذا توشوِشُكِ الرياح
والرملُ في هذا الرنين

ويمكن القول إن التشتت الفني الذي عاشه يسينين،وانغماسه في الاميجانيزمية دفعه إلى حب الشقاوة والافتعال التصويري أحياناً،وبدل الأعشاب والسهوب والبلابل ظهرت صور مغايرة تماماً، كالغيوم المنهوشة وحقول الجماجم وعواصف الثلج والسعال المنتن والمجاديف والأيادِ المقطوعة،حيث دعت الاماجينيزم إلى جعل الصورة هدفاً مطلقاً بعيداً عن المضمون وازدراء أي محتوى اجتماعي .. لكن هذا التشتت لم يمح خصوصيته وعذوبة شعره الذي كان يناوح في معظم نتاجاته،ولكنه انعكس على حياته العائلية الأمر الذي يتجلى في قصيدته الرائعة 'رسالة إلى امرأة ' كاعتراف من أعماق القلب إلى زوجته التي عانت من حياته الفوضوية الكثير:-

آهِ يا محبوبتي
إنني عذبتُ روحك
والكآباتُ تبدَّتْ وسْطَ عينيكِ الكليلةْ
وأنا كنتُ أمامك
مُظهرا شخصيتي في خصامٍ باهتٍ أنفقتُ نفسي
غير أني ما عرفتُ
أنني وسط الكثيف من الدخان
كنتُ أحيا وسط إعصار الوجود الفوضوي
زواج يسينين

إن القلق الذي كان يعم روح الشاعر ويمارس عليها ضرباً من الضياع والتشتت دفعه بعد انضمامه إلى جماعة ' الاماجينزم' الأدبية إلى الزواج من الراقصة الفنانة الأمريكية ' ايسدورا دونيكان' عام 1922 خلال زيارة فنية قامت بها إلى موسكو،وقدمت فيها عروضاً حازت على إعجاب وتقدير الأوساط الفنية والأدبية الروسية،ويقال إنها كانت معجبة برومانسية الثورة ومن شدة إعجابها قررت البقاء وتأسيس مدرسة للرقص.وقد قع يسينين الشاب في اسر ذكائها وموهبتها ومظهرها فتزوجا وخرجا في جولة حول العالم وخلال عام ونصف زارا ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وايطاليا والولايات المتحدة الأمريكية،حيث التقى هناك بمكسيم غوركي وألكسي تولستوي في ألمانيا،لكن روحه ظلت مشدودة إلى روسيا معتصمة بحبها.وقد كانت جملته الأولى للصحفيين الأوروبين بعد وصوله إلى أوروبا،أنا احب روسيا، وكتب لاحقاً،أفضل ما وقعت عليه عيني في هذه المعمورة موسكو،إنني الأن أصلي للرب كيلا تخمد روحي وعشقي للفن،وفي خاطري يحيا شيء واحد،موسكو،موسكو،لقد تغيرت آرائي في وطني بعد زيارتي لأمريكا وهذه الرحلة 'زادتني حباً لوطني'..

انتحار يسينين

لقد عاش يسينين حياة قصيرة مليئة بالأحداث الدرامية فقد عاصر ثورتين وحرباً عالمية حصدت الملايين من الأرواح البريئة وجلبت المآسي لمن بقي على قيد الحياة.وفي ظل هذه الأحداث العارمة كتب الشاعر ملحمتين 'روسيا تمتد' و'روسيا السوفييتية' وقد مد فيهما الشاعر يده إلى قرية كبيرة لم يعرفها من قبل.
وبعد عودته إلى الوطن تعمقت لديه صورة البطل الإيجابي،إلا أن حالته النفسية والصحية تردت،وخاصة حين فشل في إقناع زوجته بأنه قد تغير،وكانت قد تزوجت من مخرج مسرحي وراحت تعمل معه.ومر الشاعر في هذه الفترة بأيام قاسية مليئة بالشك والتأرجح وعدم الثقة بالمستقبل،فقد انتابته الأحزان والأفكار الكئيبة من جراء الحرب الأهلية التي دامت سنوات وكذلك الدمار الذي لحق بالبلاد وتساءل الشاعر في هذه الفترة قائلاً: 'إلى أين يحملنا قدر الأحداث' ؟

ومما لا شك فيه أن التناقضات الفكرية والروحيّة العميقة قد بدأت تعصف بالشاعر بعد انفصاله عن زوجته،وأنها قد بدأت تتعاظم مع السنين مما جعله يشعرُ بالعزلةِ والخواء.ومع أن الشاعر قد تزوج في هذه الفترة من حفيدة ليو تولستوي إلا أن حالته الصحية والنفسية كانت تستعجله على الفناء في أواخر عام 1925.ومما يروى عنه أنه وقبل انتحاره بيومين زار بيت زوجته السابقة في ' بيتر بورغ' وعانق طفليه عناقاً طويلاً ومضى، وبعد يومين انتحر وبقي موته إشكالياً.

لقد انتحر (يسينين) بعدما كتب رسالة وداع لماياكوفسكي بدمه وهذه المأساة تركت أثراً عظيماً في ماياكوفسكي وبوريس باسترناك.حيث يقول (يسينين) في قصيدته الوداعية التي كتبها بدمائه قبل موته موجهاً كلامة لفلاديمير ماياكوفسكي:-

إلى اللقاء يا صديقي،إلى اللقاء
أنتَ في القلبِ مني
إن فراقنا المقدّر
يعدُ بلقاءٍ قادم
وداعاً يا صديقي، دونَ يَدٍ،أو كلمة.
ولا تحزن، ولا تقطّب حاجبيك
فليسَ جديداً في هذهِ الحياةِ أن نموت،
وليسَ جديداً بالتأكيد أن نعيش.

ففي وقت متأخر من ليلة 27 كانون الأول من عام 1925 و في غرفة في فندق إنغليتير في مدينة لينينغراد (سانت بطرسبورغ حالياً) لقي الشاعر الشهير و الوسيم سيرغي يسينين حتفه في ظروف مأساوية وبصورة تراجيدية وهو في أوج فتوته و إبداعه،حيث كان في الثلاثين من عمره فقط ،حيث لم يستطع قلبه المفعم بالمحبة تجاه أهله و قريته بل و تجاه كل ما هو روسي،أن يتحمل ما وصلت إليه روسيا بعد الثورة البلشفية حيث:- (الرب مطرود رسمياً من البلاد،والملحدون الكفرة يتحكمون بها،و حيث يسود القتل والخراب و الجوع ô).
لقد أكدت السلطات وقتذاك أن يسينين مات انتحاراً عبر الشنق ôلكن الشهود يؤكدون أن الشاعر كان بمزاج رائع بل و كانت ثمة مخطوطات مصححة بين يديه يريد أن يدفع بها إلى الطباعة... والكل يعرف كم هي جميلة وممتعة تلك اللحظة التي تسلك فيها القصيدة طريقها إلى النشر ..
كما إنه معروف أن والدة الشاعر حضرت جنازته،وكانت ترغب في أن يتم دفن الجثة كما تتطلب ذلك التقاليد و المعتقدات المسيحية،وأن تذرو بيديها التراب على قبره على شكل صليب.كما إنها أرادت دعوة قس لكي يقيم الصلاة عن روحه.لكنهم لم يسمحوا بكل ذلك.بل أقاموا له جنازة رسمية باهرة وخالية من أية مظاهر دينية.ومع ذلك فقد أقام أهله وأقرباؤه الصلاة عن راحة روحه في مسقط رأسه غيابياً .علماً أنه:لا تجوز الصلاة على مَن قضى منتحراً ؟! .
باختصار هناك شكوك قوية في روسيا اليوم بخصوص فرضية انتحار الشاعر ..بل إن بعض الباحثين يجزمون بأنه تم اغتيال الشاعر من قبل أجهزة السلطة..و هذا ما توصل إليه أحد المحققين الجنائيين الروس حديثاً و الذي قام بالتحري حول ملابسات الجريمة..و قد صدر كتاب بهذا الخصوص يلقي الضوء على انتحار الشاعر .
وقد كتب ماياكوفسكي بعد انتحار (يسينين) في عام 1925 قصيدة بعنوان (على سيرغي يسينين) وبّخه فيها على فعلته تلك،وأشار إلى البيتين الختاميين في قصيدة الشاعر المنتحر الوداعية:-

'فليسَ جديداً في هذهِ الحياةِ أن نموت،
وليسَ جديداً بالتأكيد أن نعيش.'
فقال ماياكوفسكي في قصيدته:-
' في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت
أن تصوغ الحياة أصعب بما لا يُقاس'.

وبعد عام ألقى ماياكوفسكي محاضرة فسّر فيها لماذا كتب قصيدته تلك،ومما قاله فيها 'كان قصدي أن أشلّ بتعمد الفعل المتضمن في بيتي يسينين الأخيرين أن أجعل نهاية يسينين غير ممتعة،أن أطرح عوضاً عن الجمال السهل الذي في الموت،ضرباً آخر من الجمال ذلك لأن الطبقة العاملة تحتاج إلى القوة كيما تتابع الثورة التي تتطلب أن تمجّد الحياة،والفرح، الذي يوجد على طول أشد الطرق صعوبةً الطريق نحو الشيوعية'.

وبعد،،

لقد أنهى 'سيرغي يسينين' المدرسة الريفية من أربعة صفوف ومدرسة المعلمين الدينية.وقد توجه في أواخر عام 1912 بعد إكمال المدرسة إلى موسكو بطلب من والده .وفي عام 1913 عمل في دار نشر تدعى'الثقافة'،وانضم إلى حلقة سوريكوف الأدبية الموسيقية.وعندما وصل إلى بتروغراد (1915) نشر قصائده في المجلات وتعرف على (بلوك) والشعراء المشهورين الآخرين.وبصدور ديوانه الأول 'رادونيتسا / 1916' اكتسب شهرة ادبية واسعة.وأثارت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عند الشاعر حماسة إبداعية كبيرة،مع أنه تقبلها ' بميلان فلاحي' على حد تعبيره. واعتباراً من أذار (مارس) 1918 أقام الشاعر في موسكو من جديد،وصار واحداً من مؤسسي جماعة التصويريين.وتجلّت القطيعة بين يسينين والعالم القديم خصوصاً في محاولات رسم صورة أدبية للينين بالوسائل الشعرية 'ربان الأرض' وفي نتاجات عام 1924 ' العودة إلى الوطن' و ' روسيا السوفيتية' و ' روسيا الراحلة '. وفي ملحمتي ' أنشودة الستة والعشرين ' (1924 ) و ' آنا سنينينا' ( 1925).وقد أبدع يسينين صوراً ساطعة للمناضلين في سبيل السلطة السوفيتية.ومن النماذج الشعرية الرفيعة ديوان ' نغمات فارسية'( 1925) وقصيدة ' رسالة إلى أمي' وقصيدته الشهيرة 'إهداء إلى كلب كاتشالوف' وغيرها الكثير من الأعمال التي أتاحت لصوته أن يزدادُ بقوةٍ وسرعةٍ كبيرة،وأتاحت الفرصة لمجاله الحيوي أن يتسعُ مما جعله شاعر عالمياً.

لقد عاش سيرغي يسينين حياة قصيرة،ثلاثون عاما ولكنه ترك إرثا شعرياً غنياً منحه الخلود.إن شعره قريب لكل من يقرأه بغض النظر عن قوميته فقبل مصرعه صدرت أشعاره المترجمة في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وفي عدد من البلدان الأوروبية وقد ترجمت أعماله إلى 32 لغة وصدرت دواوينه في أوروبا والولايات المتحدة والعديد من بلدان العالم الأخرى،كما ترجمت قصائد يسينين إلى اللغة العربية،وقرأه وأحبه المثقفون العرب.ولا بد من القول إن هذا الشاعر عاش حياة قصيرة جداً مفعمة بالأحداث المهمة والخطيرة حيث عاصر ثورتين في روسيا،والحرب العالمية الأولى التي جلبت الويلات للكثير من الشعوب.

وقد كان يسينين نقيا ًبسيطاً،رقيقاً،أزرق العينين،ذهبي الشعر،لطيفاً،جميل القلب كالريف الذي أتى منه،ولم تستطع روحه التأقلم لا مع حياة المدينة ولا مع معظم معاصريه من الأدباء والشعراء،وهو ما يفسر انتقاله من تجمع إلى آخر ومن تيار أو مدرسة إبداعية إلى أخرى،كما أنه تعرض لهجوم وانتقادات حساسة وقاسية الأمر الذي أشعره بهذا الشكل أو ذاك بأنه غير مرغوب فيه،وذلك في وقت التحولات الثورية الكبرى آنذاك،والذي كان يمضي بخطى متسارعة ومدوية.كل ذلك كما يبدو دفع يسينين إلى الاندفاع نحوالحياة بكل ما فيها وكيفما اتفق،كشقي وعابث وماجن ومتقلب الأهواء وفاشل حتى في حياته العائلية،لكنه في هذا وذاك لم يستطع التخلي عن قلب الناسك الطاهر،وعن ينبوع الطفولة في روحه،من هنا تأتي اعترافاته في ملحمته الشعرية 'الشبح الأسود' صادقة حتى تمس شغاف القلب،وتشعرك بالأسى الهائل الذي عايشه الشاعر عبر التشتت والمحاولة والضياع.

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أمر نعتقد أنه بالغ الأهمية وهو أن يسينين متفائل بطبيعته محب للطبيعة والحياة وكل ما يعتبره آثاماً وأخطاء هو من هفوات الحياة العادية،هفوات عاشها وربما بشكل أخطر وأعمق الكثير الكثير من المبدعين ولم تشكل لديهم هذا الشرخ الروحي،بمعنى آخر نعتقد أن مدى صدق وعفوية وطهارة روح يسينين هو الذي دفعه للتأزم ومعاقبة الذات،ناهيك عن أن معظم هذه الخطايا في الواقع قد أثرَّت عليه وأساءت له أكثر مما أساءت لللآخرين. ولابد هنا من الإشارة أيضاً إلى أن شعور يسينين بالغربة داخلَ وطنه أو يأسه من جني ثمار ما وعدت به الاشتراكية الروسية التي آمن بها وأخلص لها ومنحها كلَّ حياته ربما كانت هي السبب الأقوى الذي دفعه للانتحار.

القدس العربي- 2012-08-16