(العالم خرج من الغابة وظلّ يلتفت إليها )
هي شاعرة وعالمة نفسية شابة، صاحبة صوت شعري لافت، تحاول ان تعالج بالشعر ما لا يستطيع العلم معالجته، على ما يحلو لها ان تردّد. تعترف ان مرضاها يتركون في نفسها قدرا كبيرا من الألم والخيبة من هذا العالم الذي "خرج من الغابة لكنه ظل يتلفت إليها". اذا كنا نختار، اليوم، إلقاء الضوء العربي عليها، فبسبب مجموعتها الأولى، "عين العاصفة"، التي لم تفتأ أصداؤها الطيبة "تعصف" بالحياة الشعرية الهولندية، ولأن القارئ العربي، في الدرجة الثانية، ليس لديه فكرة حقيقية ودقيقة عن الشعر الهولندي المعاصر، باستثناء بعض الأسماء الكبيرة والراسخة. علما أن هذا الشعر يزخر بإرث تجديدي مثير للاهتمام، وانه طالع من تاريخ وتقاليد شعرية عريقة، ويستحق تشريع نوافذنا عليه.
إيقاعات الأذن والعين
ولدت فان امستل عام 1974 في مدينة هوخفين شمال هولندا لأب كاهن يعمل مدرّسا للغة الهولندية. في السادسة عشرة حصلت على أول جائزة شعرية لها ضمن مسابقات الشعر في المدارس، وعلى اثر ذلك نالت منحة لمدة سنة من اجل دراسة اللغة الانكليزية. عام 1993 انتقلت الى العاصمة أمستردام لتدرس علم النفس والأدب الانكليزي في جامعتها، وهناك نشرت العديد من النصوص الشعرية في مجلات مختلفة، الى ان صدر ديوانها الأول عام 2004 فلفت النقاد إليها على الفور.
تنحاز فان امستل الى الكتابة الحديثة وقصيدة النثر، كما ذكرنا، لكنها إذ تنحت موسيقى قصيدتها لا تفرّط بالإيقاع، بل تحاول من خلال استخدامها علامات الترقيم والوقف ضبط هذا الإيقاع والسيطرة عليه. هي أيضا تخلق لقصيدتها شكلا بصريا يساهم في ترتيب الإيقاع الداخلي للنص ويساعد في إبقائه مشدودا، عبر طريقة توزيع الجمل والأبيات الشعرية، وهذا ما لا تستطيع الترجمة العربية ان تنقله بسبب خصوصيته الشكلية. في قصائدها موضوعات الحب والموت والفقدان والإرهاب والفقر، ولكونها عالمة نفسية فإنها تستفيد من معاناة مرضاها وتحاول ان تترجم هذا الألم الإنساني عبر لغة سلسة متينة لتضعها في متناول القارئ: هو قارئ تحاول الوصول اليه من خلال تفجير هذه المعاناة ودفعها الى خارج الجسد المثقل بالكوابيس، وخارج الروح المعذبة تحت وطأة الخوف الذي لا يمكن الإفصاح عنه بالكلمات.
إذ نسألها هل تستثمر قصص مرضاها ومعاناتهم في نصوصها، تجيب: "اعمل مع أشخاص يعانون آلاما دائمة، ناتجة من تجارب مهلكة، على غرار الذين تعرضوا لحالات اغتصاب أو لزنى المحارم وما شابه. هذه المشكلات تترك جروحا لا يمكن دملها بالدواء، وموجودة في كل الثقافات والديانات. من الطبيعي أن تتحدث قصائدي عن هؤلاء الضحايا. هم لا يعرفون كيف يتعاطون مع أزماتهم ومآزقهم، أو كيف يفسرون مشاعرهم، لذا أحاول في شعري ان أترجم هذه المعاناة، أن أكون صوتهم، من دون ان أنسى معاناتي الشخصية طبعا. لذا غالبا ما تعكس نصوصي خيبة الأمل ومرارة الذكريات وهول الكوابيس".
"كيف تستخدمين آلام مرضاك وخوفهم في نصوصك؟"، أسأل الطبيبة الشاعرة، أو على الأصح الشاعرة الطبيبة، فتجيبني: "الناس الذين أقابلهم خلال عملي يعانون أوجاعا دائمة لكنها ليست من النوع الخطير، لذا يمكنني ان أتحدث معهم بهدوء تام. أنهم أشخاص مصابون بنوع من الكآبة الحادة المستمرة، سببها جروح نفسية لا تندمل. أنا استمع الى شكاواهم وأحاول ان افهم الأسباب التي تجعلهم يتألمون، واستخدم خبرتي معهم في نصوصي، واكتشف أحيانا انه لدينا بعض المخاوف المشتركة، كفوبيا الإرهاب مثلا. هم لا يعلمون إني شاعرة لأني في تواصلي معهم أصغي كثيرا وأتحدث قليلا جدا. هل تصل قصصهم هذه الى الآخرين من خلال قصائدي؟ لا اعرف، وخصوصا أن الشعر في هولندا ليس له عدد كبير من القراء. لا اعرف ايضا هل يستطيع الشعر ان يوقف الألم، أعني ألم مرضاي وألم الناس عموما. لكني اعرف ان قراءة قصيدة جميلة تجعلني اشعر بالاعتزاز وبالعزاء. أحيانا أحفظ قصيدة عن ظهر قلب لأني أحبها، ولأن هذا يشعرني بأني لست وحيدة. الشعر يغني الحياة ويعطيها عمقا، لكني لا انتظر منه ان يجعل الناس سعداء". أما عن اهتمامها بالطبيعة فتردّ فان امستل أسبابه الى أنها ولدت في الريف، في مكان يضم عددا قليلا من الناس والكثير من الأشجار والورود والحيوانات والطيور، "وحتى الضفادع"، تضيف. هي لا تزال تغادر أمستردام بانتظام لتزور والديها اللذين يعيشان في البيت نفسه، بيت طفولتها: "عندما امشي في حقل اشعر كأني في إجازة. لا استطيع ان أبقى في المدينة كثيرا، لذلك أحاول ان أرى الطبيعة كل أسبوع. إنها لكارثة اننا نخسر يوميا الكثير من الأماكن الطبيعية ونعتدي على الطبيعة بسبب جشعنا. جنون الثراء لا يوفّر بقعة على هذه الأرض".
أيها الجشع البشري
وللطبيعة حصة كبيرة في قصائد آنا فان امستل، على غرار أسلافها المؤسسين، وتحديدا موضوع حماية الطبيعة والمحافظة عليها، فهي تحذر من تحويل الجمال حقلا للخراب بسبب "الجشع البشري الذي يكاد يقضي على كل شيء جميل". تحض الناس على استخدام الطاقة النظيفة التي لا تساهم في تدمير الطبيعة وتسميمها. ومن خلال جدية الموضوعات التي تتناولها، تحضر القيم الإنسانية النبيلة بصورتها الكونية، لا المحلية فحسب. فالشاعرة لا تكتب من اجل الكتابة لذاتها، فهي، على قولها، صاحبة رسالة فكرية وإنسانية، رسالة تريد إيصالها الى الجميع بغية "تقليل حجم الألم الذي ينخر جسد هذا العالم". وربما تكون صورة الأب الكاهن ومبادئه قد أثرت الى حد ما في مسيرتها ورؤيتها وأفكارها، وخصوصا انه لا يخفى على القارئ حضور الرموز الدينية المسيحية في نصوصها التي تعرض لطبيعة الوجود وماهية الإنسان. صحيح أنها رموز تراوح بين الأسطوري والتاريخي، إلا أن فان امستل تستثمرها بتكثيف حاد وتجردها من قيمتها الدينية لمصلحة القيمة الإنسانية الخالصة، فضلا عن قيمتها الشعرية "المجانية" في طبيعة الحال.
تؤكد فان امستل ان الشعراء الكبار بالنسبة إليها هم أولئك الذين يمتلكون إحساسا عاليا باللغة ويستطيعون سبر أغوار النفس البشرية والكشف عن المشاعر الداخلية الأكثر التباسا. من الأمثلة على ذلك، تذكر أسماء الشعراء هانس اندرو وماريا فسالس وهيرمان دي كوننك واليزابيث ايبرز. "هؤلاء يعرّون مشاعرهم الداخلية ويضعونها على الورق بكل ما يمتلكون من جرأة وطاقة بوح"، تشرح، "والشعر الجيد في اعتقادي هو ذاك الذي يعبّر عن المشاعر السلبية من دون ان ينكرها أو يتنصل منها أو يخجل بها، وهي مشاعر نتقاسمها كلنا".
ماذا تخبريننا عن البانوراما الشعرية الشبابية في هولندا اليوم؟: "الكثير من الشعراء الهولنديين الشباب يكتبون اليوم قصائدهم من اجل إلقائها (الشعر الصوتي). هناك أكثر من طريقة في الإلقاء مثل الراب أو طريقة الSLAM لتي ترافقها الموسيقى وقد أصبحت لدينا مسابقات في هذا الشأن. في الحقيقة لا فروق كبيرة بين الشعراء الشباب والشعراء الأكبر سنا، سوى ان الشعراء المتقدمين في السن لا يجيدون إلقاء قصائدهم ولا يستطيع الجمهور متابعة الاستماع إليهم بسهولة، ذلك أنهم يكتبون هذه القصائد لكي تُقرأ بهدوء، وهو هدوء مفقود في أيامنا. أنا ايضا اكتب نصوصا بغية الإلقاء، لكني أحاول دائما ان يكون إلقائي معبّرا وألا أتخلى عن جمالية النص المكتوب في ذاته".
ختاما، ربما يمكننا وصف عمل الشاعرة أنا فان امستل بعمل النحات، النحات الذي يحاول ان يستخرج انعكاسات النفس الداخلية وغموضها ليحفرها على الضمائر والوجوه والأجساد، حركات وانفعالات ووعيا وإحساسا: إنها نحاتة حياة نابضة لا تتوقف عن الحركة.
صلاح حسن
****
فلاشباك عن الشعر الهولندي
الشعر في هولندا جزء من تقاليد البلاد وطقوسها: إذ يعود تاريخ أول قصيدة مشهورة في اللغة الهولندية الى القرن الحادي عشر، وقد كتبها راهب. في القرن الثالث عشر كانت هناك حركة سرية تشبه التصوف الإسلامي وتحرّم الزواج، تعاهد إتباعها على التخلي عن الموبقات وقد كتبت خلالها قصائد كثيرة تمجد إعمال الزهد وتتبع درب المسيح. في القرون الوسطى ظهر في بلاد رامبرانت شعر يمجد الحب الأفلاطوني ويصور العلاقات بين امرأة ذات مقام عال ورجل من الطبقة العامة، وكانت هناك أيضاً كتابات شعرية كثيرة عن مريم العذراء وعن تاريخ هولندا، مثل قصيدة "وليموس" التي لم تزل تعدّ كنشيد وطني لهولندا. أما في القرن السابع عشر فتمحورت الموضوعات التي عالجها الشعر حول قصص الكتاب المقدس، مستلهمةً في شكل خاص المآسي الكلاسيكية اليونانية والرومانية. أعظم شاعر عاش في تلك الفترة يوست فان دن فوندل. وفي القرن الثامن عشر كان الظهور الأول للمرأة كشاعرة في هولندا. أما في القرن التاسع عشر فقد أخذت الأغراض الشعرية تتنوع وبدأت تظهر الاهتمامات بالذات والفرد وعلاقته داخل الأسرة والمجتمع، كما الاهتمام بالطبيعة التي أصبحت موضوعا يحتل حيزا كبيرا في الشعر الهولندي. بعد هذه الفترة وبالتحديد ابتداء من 1880 بدأت الفترة الرومانسية والكتابة المفتوحة وراحت الكلاسيكية تتراجع. في النصف الأول من القرن العشرين تحطم أول المحرّمات وأصبح الحديث عن موضوعات "التابوت"، على غرار الجنسية المثلية مثلا، امرأ عاديا مثل انتقاد الحكومة والمجتمع. لكن الحقيقية لم تندلع الثورة إلا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تحول الجنس مذّاك تيمة شعرية أثيرة للشعراء الذين استطاعوا ان يتخلصوا من القافية ومن الكثير من التقاليد الشعرية القديمة، وأصبحوا يكتبون بحرية كاملة.
من "عين العاصفة"
من الكبير الى الصغير
أحيانا تضع رأسك
في قوس ذراعي
وتطمئن شفتاك
بهدوء على صدري.
حبيبي الصغير
المستغرق في النعاس،
ابق هكذا ممددا براحة:
سوف اروي لك حكاية،
أمسد ظهرك، وجنتك، شَعرك،
واحزن
على ما لا يمكن تعويضه
على ما لم تعرفه في طفولتك
وعلى ما لا تستطيع تقديمه لي
بسبب ذلك.
ترجمة ص. ح.
النهار
الأربعاء 26 تشرين الأول 2005