مئة وخمسون سنة على صدور "أوراق العشب" لويتمان

أمال نوّار
(لبنان / أميركا)

والت ويتمان عام 1855 وبعد محاولات عدة فاشلة، تمكن الشاعر الأميركي والت ويتمان من العثور على مطبعة صغيرة في بروكلين، وافق صاحبها على طباعة مجلد شعري صغير له، في خمس وتسعين صفحة، ويضم إثنتي عشرة قصيدة تحت عنوان "أوراق العشب". هذه المجموعة لم تحظَ آنذاك بسوى قليل من التعليق والنقد، معظمه سلبي إلى حد التسفيه والتقذيع، لكنها أضحت في ما بعد إنجيل أميركا الجديد وصاحبها نبي الأخوة والديمقراطية. انصرف ويتمان طوال حياته، عوض تأليف كتب جديدة، إلى مواصلة العمل على تلك المجموعة وتطويرها مضيفاً إليها الجديد من القصائد ومنقحاً القديم منها، لتتوالى طبعاتها على مدى سبعة وثلاثين عاماً في تسعة إصدارات مختلفة، آخرها كان عام 1892 أي عام وفاة الشاعر، ولتتجاوز صفحاتها الأربعمئة.

اليوم مع مرور قرن ونصف قرن على إصدارها الأول، من المفيد إعادة قراءة هذا العمل الخلاّق في ضوء الحاضر، والغوص من جديد في منجزات هذا الأثر الفني الذي به على قول عازرا باوند، "كسر ويتمان ظهر الوزن التقليدي" ومنه انطلق قرع الطبول الأولى ليبشر بولادة قصيدة النثر الحديثة، وليفتح الدرب أمام تجارب عدة أعقبته وزلزلت عالم الشعر شكلاً ومضموناً.

يستدعي تأمل هذا العمل أولاً، الإحاطة بالظروف الموضوعية والتاريخية التي رافقت حياة ويتمان، وساهمت في تبلور أفكاره ومفاهيمه، وصوغ تجربته الشعرية. ثانياً، الوقوف على طبيعة الرؤية النقدية له منذ صدوره حتى يومنا الحاضر، في سياق تاريخي يلقي الضوء على ما شهدته الحياة الأميركية من تغيرات وتطورات على مختلف الصعد، وعلى تأثير هذا العمل في مسار الشعر الحديث، ومدى أهميته وفاعليته في تجارب بعض شعراء الحداثة الأميركيين والعالميين. ثالثاً، محاولة نقل صورة حيّة لبعض انفعالات القارئ المعاصر ومشاعره وبعض مواقفه النقدية إزاء أشعار ويتمان اليوم.

" ما من صديق لي يرتاح في كرسيي/ ليس لي كرسي ولا كنيسة ولا فلسفة"
والت ويتمان

والت ويتمان هذا "الشاعر الأشيب الطيب" بحسب تسمية "وليام أوكانور" له، هذا البوهيمي الريفي الذي لا يخلو سلوكه من الفظاظة ولا مظهره من الخشونة، لم يكن ليخطر في باله قط وهو يخطو خطواته الأولى نحو عالم الأدب والشعر، أن أميركا لم تحظَ قبله بأي شاعر تجري في كتاباته دماء رجل عادي مثله!

أول العشب وآخر السنديان

لم يكن ثمة ما يشير في بداية حياة ويتمان إلى أنه سيحظى بمستقبل عظيم أو فريد. ولد عام 1819 في بيت خشبي متواضع في ضاحية صغيرة من ضواحي "اللونغ آيلند" في نيويورك. أبوه كان نجاراً وأمه امرأة ورعة لا تتوقف عن الدعاء والصلاة. وكان له ثمانية أشقاء. ونظراً لكبر عائلته وعوزها، لم يتسنَ لويتمان الحصول على أكثر من تعليم إبتدائي بسيط. في عمر الحادية عشر انقطع عن الدراسة ليبدأ العمل في مهن متنوعة، أولها كان منظفاً في مطبعة ثم منضداً للحروف. مابين عمر السابعة عشر والعشرين استطاع هذا الفتى شبه المتعلم أن يصبح معلماً في إحدى المدارس الريفية. في هذه الفترة بدأ بنشر قصائده الأولى، وبالإنخراط في بعض النشاطات الثقافية في مدينة نيويورك. عام 1838 انصرف ويتمان عن مهنة التعليم إلى مهنة الصحافة، واشترى بمساعدة مالية من أصدقائه مطبعة صغيرة في بلدته وبدأ بإصدار صحيفة أسبوعية أسماها "اللونغ آيلندر". غير أن مغامرته هذه لم تدم لأكثر من عام واحد بعدما قادته إلى الإفلاس. في السنوات التالية، لم يتخل ويتمان عن مهنة الصحافة، سوى أن طبيعته الحالمة وقلقه الدائم وعدم قدرته على المواظبة والإنضباط وأحيانا مواقفه السياسية، حالوا جميعهم دون استقراره في وظيفة واحدة مدة طويلة، وقادوه إلى خسارة مناصب مميزة منها منصب رئيس تحرير صحيفة "نسر بروكلين".

أثناء عمله الصحافي، كتب ويتمان في موضوعات متنوعة، تراوحت بين التعليم والموسيقى والأخلاق ومحاربة الإدمان والإرشاد. قصائده وقصصه في تلك الفترة كانت وعظية، تقليدية، عاطفية، تعكس المفاهيم الدينية والأخلاقية والفكرية لعصره. ورغم أنه كان ناشطاً سياسياً من مؤيدي الحزب الديمقراطي، غير أنه لم يسع قط إلى تحقيق أية مكانة أو مستقبل خارج إطار الصحافة الأدبية والشعر. وبعيداً عن السياسة، انتقل ويتمان إلى مدينة "نيو أورلينز" في ولاية لويزيانا للعمل في صحيفة حديثة التأسيس، لكن صاحبها لم ترقَ له كتابات ويتمان التي تناولت شؤون الطبقات الدنيا، وتعاطفت مع البحارة وعمال الموانئ والعاطلين عن العمل وغيرهم، فطرده من صحيفته، مما اضطره إلى العودة إلى نيويورك في رحلة بحرية طويلة سيظل يتذكرها طيلة حياته.

عام 1850، بعد فشله الذريع في تحقيق بعض الإستقرار المادي أو النفسي، وإخفاقه في بناء شهرة في مجالي الشعر والصحافة، انكفأ ويتمان عن العمل في الصحافة متفرغاً كلياً للكتابة الشعرية. ثمة من يعتبر المرحلة من حياة ويتمان ما بين 1850 و1855 الأهم له فكرياً وروحياً وإن بدت الأكثر فشلاً مهنياً، إذ أنه في مرحلة انطوائه هذه كان غزير الإنتاج الشعري، إضافة إلى أنه بدأ بكتابة قصائد مختلفة في جوهرها وتطلعاتها وأسلوبها عما سبقها من قصائده الركيكة. وكان أبرز تقنياته الشعرية الجديدة تخليه عن القافية والوزن. تجمعت لدى ويتمان في هذه الفترة من الكتابات ما تراوح بين الشعر والنثر، فألف منها مجموعة أسماها "أوراق العشب" نسبةً إلى العشب الشائع الذي ينبت في كل مكان.

لم يتعاط النقد برأفة أو لين مع هذه المجموعة التي جاءت منافية لنماذج آداب اللغة الإنكليزية، الرصينة المحتوى، المثقفة النبرة، والمشذبة اللغة. اللافت أيضاً أن هذه المجموعة التي توخى منها ويتمان مخاطبة الإنسان العادي في عصره من خلال محاكاتها لمعتقداته وآمانيه ولعناته وأغانيه ولهجاته العامية، لم تفلح قط في استدراج سمعه أو لفت انتباهه، بل على العكس كان له منها موقفاً أخلاقياً متشدداً يتجاوز في تقليديته ورجعيته موقف النخبة المثقفة الأرستقراطية، وخصوصاً أن الإصدار الثالث من أوراق العشب عام 1860 اتخذ منحى إيروتيكيا ولغويا مفارقاً بلغ ذروته.

مع نشوب الحرب الأهلية عام 1860، ما كان من هذا الشاعر الشعبي الذي طالما ضجت كتاباته بالعاطفة الأخوية والقيم الإنسانية، سوى أن يثبت قوله بالفعل. فتطوع ممرضاً لمؤاساة الجرحى في المستشفيات. غير أن حالة الإجهاد التي انتابته عاطفيا وجسديا دفعته إلى العودة إلى بروكلين منتصف عام 1864 بعدما استنزفت فواجع ثلاث طرأت على محيط عائلته قواه المتبقية: فاجعة أخ قضى بالسل، وآخر وقع أسير حرب وظل مجهول المصير لمدة، وثالث أصابه الجنون مما استدعى إدخاله مصحاً للأمراض العقلية. لكن بداية عام 1865 حملت لويتمان بعض الإستقرار المادي، وذلك إثر حصوله على وظيفة حكومية في وزارة الداخلية في واشنطن. اختبارات الحرب منحت شعر ويتمان مزيداً من القوة والزخم أكثر ما تجليا في سلسلة قصائد جديدة أصدرها عام 1865 تحت عنوان "قرع الطبول". سرعة نفاد هذه الطبعة، شجّع ويتمان على إعادة إصدارها، مضيفاً إليها ملحقاً يضم مزيداً من القصائد تحت عنوان "تتمة إلى قرع الطبول"، و أهم ما تضمنته الأخيرة، قصيدتاه في رثاء الرئيس أبراهام لنكولن اللتان تعتبران من أبرز المراثي وأنبلها في اللغة الإنكليزية.

مع ظهور الإصدار الخامس من مجموعته بدأت شهرة ويتمان تذيع في كل أرجاء القارة الأميركية وعبر البحار أيضاً. لكن ما إن بدأت حياته الأدبية تتخذ مساراًَ إيجابياً حتى داهم القدر حالته الصحية، إذ أصيب بشلل نصفي نتيجة جلطة دماغية، في أوائل عام 1873، وهو العام نفسه الذي قضت فيه والدته تاركةً إياه كومة حطام ليس أكثر. مرضه أدى به إلى خسارة عمله، وعليه فإن معيشته اعتمدت في هذه الفترة حتى مماته، على النذر اليسير من المال الذي كان يصله من ريع كتبه، وتبرعات بعض الشعراء الأميركيين والإنكليز من أصدقائه. في السنوات الأخيرة من حياته، أقام ويتمان في "كامدن" في ولاية نيوجرزي. إصداره الأخير من أوراق العشب ظهر عام 1892، عام مماته، لذا لُقب بِ"طبعة فراش الاحتضار". هذا الإصدار مثل في نظر ويتمان العمل الأكثر كمالاً واكتمالاً من بين كل سابقاته. أيضاً في العام نفسه، صدرت لويتمان مجموعته النثرية الكاملة؛ كل ما أعرب الشاعر عن رغبته في تخليده.
في 26 آذار قضى ويتمان جراء إصابته بداء ذات الرئة ودفن في "كامدن". وهكذا تخلّد العشب ومات السنديان.

أكثر المسائل التي ظلت إثارة للجدال والتكهنات بعد موت ويتمان، طبيعة هويته الجنسية. طوال حياته ظلّ ويتمان متستراً عليها، ومحاذراً البوح بسرها، حتى أن بين النقاد لاحقاً، من اعتبر أنّ تلك العاطفة الأخوية بين الرجال التي تضجّ بها أشعاره، ما هي حقيقةً إلاّ غطاء عاطفي أفلاطوني لانحرافه الجنسي، لا بل منهم من قال بإمكانية استبدال كلمة "روحي" في شعره بكلمة "جنسي"! لا غرابة بعد ذلك في رثاء ويتمان لحاله بقوله:"لن تفهموني أبداً"، أو في إشارته للقارئ: "أواه، أقول، هذه ليست أعضاء أو قصائد الجسد فقط، بل والروح أيضاً".

صوت الطبيعة الباكية

ولد ويتمان في بلد بريّ، فجّ، كان لا يزال في طور البحث عن هويته. وشهد في شبابه شباب أميركا العاصف المتبجح، وهو يتخبط في طريقه نحو حرب مغامرة؛ حرب لقنت الأميركيين في ما بعد درساً إنسانياً مكلفاً، كان من نتائجه انتقال هذه الأمة من مرحلة الطيش إلى مرحلة النضج. أيضاً عايش ويتمان مرحلة نزوح هذه الأمة نحو الفكر المادي، ومرحلة عمرانها وتحول مجتمعها مجتمعاً مدينياً صناعياً مستقلاً ومستقراً. وعليه فإن ثمة علاقة حميمة نشأت بينهما، و بين إنتاجه وإنتاجها، ولذا فإن النقد الأميركي اليوم لا يني ينظر إلى "أوراق العشب" في وصفها قصيدة أميركا ألأصيلة، وإلى أميركا بوصفها قصيدتها الأصيلة. لكن مجموعة كهذه جاءت شاذة قلباّ وقالباّ عن نماذج عصرها، لم تكن لتحظى من نعمة النقد آنذاك بغير اللعنة! إنّ ليبرالية أفكار ويتمان، وعدم مجاراة شعره لما كان سائدا في عصره من مفاهيم عامة تتعلق بآداب السلوك والحس الجمالي السليم، إضافة إلى عفوية أسلوبه المتمثل بالبعد عن النموذج الفيكتوري المتسم بالتكلف والفخامة والزخرفة والرطانة اللغوية، جعلت منه أضحوكة أدبية ليس أكثر، عرضة لقدح نقاد عصره وشعراء صالوناته. ولكونه ينحدر من الطبقة العاملة في نيويورك وليس من النخبة المثقفة المتمركزة آنذاك إما في بوسطن أو فيلادلفيا أو فرجينيا، لم يكن في نظر النقاد في حينه سوى دخيل، متعد على عالم الأدب والشعر، لا بل معتوه، بحسب ما جاء في تعليق صحيفة "لندن كرتيك" "لا يفقه بأصول الفن أكثر مما يفقه الخنزير في علم الرياضيات".

ليست مستغربةً بالطبع شراسة انقضاض النقد على فريسة دسمة كهذه. فقد عاش ويتمان في زمن تقليدي، محافظ، قاس، ومزدوج المعايير إلى حد جعل شاعرة كبيرة كإميلي ديكنسون، معاصرة له ومنحرفة جنسياً مثله، تجهر بالقول أنها "لم تقرأه لأن ثمة من أخبرها أن شعره مشين"! علينا أن نتخيل فقط كيف أطبق أريستقراطيو عصره بأيديهم على أنوفهم وهم يقرأون بيته الشعري القائل:"إنّ رائحة هاتين الإبطين لهي أريج أعبق من الصلاة". وهل ثمة ما هو أفظع من أن يُشبه شعره بالقيء؟! غير أنّ ما قوّى عزيمة ويتمان على الاستمرار في إطلاق "صرخته الهمجية فوق سطوح العالم"، ما جاء على لسان الشاعر والفيلسوف الألمعي "رالف والدو إمرسون":
"كتابك هذا هدية رائعة، وهو النتاج الأدبي الأكثر ذكاء وحكمة من بين كل ما أنتجته أميركا حتى الآن...أنني أحييك وأنت تخطو خطواتك الأولى نحو حياة أدبية عظيمة". أبراهام لنكولن هو الآخر أشاد بعبقرية ويتمان وشاعريته.

الزمن وحرباء النقد

مع مرور الوقت وتوالي الإصدارات من مجموعة ويتمان، فإن النقد لم يبق على حاله، بل راح يتخذ منحى أكثر تعاطفاً مع تجربته الشعرية. وبعد موته بوقت قصير، كأنما تعويضاً عن الإهمال الذي لحق به في حياته، بدأ النقد ينكّب على دراسة أشعاره وسيرة حياته. وبدأت كتب تظهر تحت عناوين مثل:"ويتمان بوصفه هيغلي"، "ويتمان بوصفه متجاوزاً لعصره"، "ويتمان بوصفه نبي الذات و الديمقراطية و حكومة العالم"، "ويتمان بوصفه الأميركي الأكثر أصالة بين الشعراء الأميركيين، " ويتمان بوصفه مسيح جيلنا"الخ... وعموماً فإن النقد تركّز على أربعة من وجوه ويتمان: كمجدد في الكتابة الشعرية ، كمختبر للغة، كشاعر للديمقراطية، و كنبي للذات. وبدا أن ثمة إجماعاً على كون ويتمان الشاعر الأميركي الوحيد الذي استعان بأشياء وعناصر من الحياة والطبيعة، أصيلة، فطرية، شعبية، نافحاً فيها من روحه الشعرية ومن وجدانه الأصيل، إلى حد يتعذر معه الفصل بين حياته وأشعاره، فهو القائل:"يا رفيقي، هذا ليس كتاباً / من يلمسه يلمس إنساناً".

لقد بات في نظر النقد شاعر البشرية جمعاء إذ أن محبته اللامشروطة لم تستثن أحداً، حتى ولا عاهرة. وإضافة إلى اعتباره شاعر الواقعية والحقائق والديمقراطية، فإنه أيضاً بات يُنظر إليه في وصفه شاعراً رائياً، ليس لأنه يرى إلى المستقبل فحسب، بل لأنه يرى إلى الحاضر أيضاً، وإلى عمق الأشياء من حوله حتى لتتبدّى له معجزاتها الصغيرة. تبنى ويتمان في كتاباته الأفكار الفرودية في التحليل النفسي المعاصر، فهو لم يتناول الجنس كوسيلة جسدية رومانسية للتعبير عن الوجدان العاطفي، بل كموضوع حياة وكطاقة تستفز الوعي والمعرفة لدى الإنسان. وفي النظر إلى كل ما تقدم، كان من البديهي أن كتابة شعرية كهذه، مندفعة بنَفَس جديد من رئة جديدة، لا بد أن تحتاج إلى جسد لغوي جديد أيضاً، يستوعب أفقها الإنساني اللامحدود ويخرجها من حدود القافية والوزن والقوالب الشعرية الجاهزة إلى فضاء الكتابة الحرة الرحب. كان من البديهي لروح شعرية كونية شمولية، تجسّد أميركا في وصفها مزيجاً من حضارات الشعوب، أن تتشرّع على احتمالات جديدة لخلق نموذج كوزموبوليتاني للتعبير عن الذات. والواقع أنّ المنحى الراديكالي الذي اتخذه ويتمان شعرياً وفلسفياً لم يتسم بمستوى الجرأة ذاته في ما يخص الجنس. فأشعاره حين تتناول الموضوع الجنسي، تتحاشى تحديد جنس الحبيب حتى ليبدو محتواها إندروجينياً إلى حد ما. مع ذلك فإن ويتمان احتفى بالطبيعة الجنسية للإنسان وبعالم غرائزه في وقت كانت فيه حشمة ولياقة سلوك الآداب الفيكتورية تأبى مجرد الإشارة إليهما. يقول في قصيدة بعنوان"أغنية الدرب المفتوح":"سأذهب إلى الضفة لدن الغابة وأضحي بلا قناع، عارياً". العري له هو شرط الحرية، ودربه المفتوح هو الذي فتح الدرب لاحقاً، للبيتز مثلاً، في الخمسينات، في تبني فكرة حب الرجال. لم ينتمِ ويتمان طوال حياته إلى كنيسة خارج ذاته وشعره. في نظره كل ما في الطبيعة والحياة مقدس وليس الله وحده. كذلك لم يكن مسكوناً بنوستالجيا الماضي، فقصائده لم تعرف وجهة لها غير الأمام، في حركة تستدعي نهوض الإنسان من حاضره وواقعه. آدم ويتمان الجديد يبدأ من نفسه، يخلق نفسه أولاً ومن ثم موطنه، أي على النقيض تماماً من وجهة نظر إليوت القائل:"الوطن هو المكان الذي يبدأ منه الفرد".اكتشاف الماضي والعودة إلى الأصل هما في نظر ويتمان طريقان ينحدران إلى أرض الأموات. ونتساءل: هل كان آدم ويتمان المنشغل بكيفية الإرتقاء بنفسه إلى معرفة تتجاوز في عمقها معرفة الأصل والفصل، أكثر تقدمية وتحضراً من آدم اليوم التائه الذي لا يستقيم لوجوده معنى خارج حدود الهوية والجذور والإنتماء؟

أريستقراطي الروح

كان ويتمان موضع تقدير كبار شعراء القرن العشرين في انكلترا، أمثال: تنيسون، سوينبرن، وايلد، هوبكنز، إدوارد داودن، روزيتي وغيرهم. اعتبر سوينبرن أن عظمة ويتمان توازي عظمة وليم بليك، فهما في رأيه شربا من النبع العميق ذاته، و أشعارهما استمدت قوتها من تلك الطاقة الخارقة للعناصر والأشياء الخالدة. لكن ويتمان لم يحظ بالتقدير نفسه من اثنين من أكبر شعراء أميركا: ت. س. إليوت وعازرا باوند. وليس سراً أن أناشيد باوند ورباعيات إليوت لم تخل جذورهما من نسغ ويتمان الواضح، لكن مقت هذين الشاعرين للحرية الأميركية بكل أيديولوجياتها ورموزها الوطنية وصانعي أحلامها هو ما دفعهما إلى التقليل من شأن ويتمان وإنجازاته الشعرية. من جهة أخرى ثمة بين شعراء الحداثة من تأثروا بويتمان وأبرزهم: هارت كرين ود. ه. لورانس وديلان توماس. هؤلاء على رغم البون الشاسع بين أساليبهم الشعرية، شربوا جميعهم من النبع نفسه، فجمعهم بويتمان من المميزات الشعرية ما فرّق بينهم. في رأي النقد أن ما يجمع كرين بويتمان هي تلك الرؤية الشعرية الأسطورية لتجربة أميركا، وما يجمع لورانس به هو هذا الإنفعال والهذيان الروحاني الباطني لأشعاره. في حين أن أشعار توماس جاءت لتذكرنا بذاك النَفَس الملحمي الويتماني المليء بالتعاويذ والحكم البدائية.

اعتبر د. ه. لورانس أن "ويتمان أعظم شعراء الحداثة في أميركا، وأنه ليس أرستقراطي المنشأ بل أرستقراطي الروح، وأن الأميركيين لا يستحقونه". ومما قاله هنري ميللر في ويتمان:"أنا لم أفهم أبداً لماذا وجبت تسميته الشاعر الأشيب الطيب، في حين أن لون لغته، مزاجه، كيانه برمته، هو الأزرق المثير "، ويعلّق في مكان آخر أن "ويتمان لم يكن إطلاقاً شاعر الجماهير، بل كان نائيا عنهم كقديس عن أعضاء كنيسة" مضيفاً " ما من شاعر مثله تحلّى بهذه الرؤية الشمولية، حيث ما من حواجز تعيقه عن التواصل مع أي شيء حتى مع الشر". أيضاً اعتبر ميللر أن الشاعر الوحيد الذي يمكننا مقارنته بويتمان هو دانتي، إذ أن الأخير يرمز إلى القرون الوسطى، في حين أنّ ويتمان يجسد في شعره الإنسان المعاصر الذي حتى الآن لم نحظَ به ولا بالحياة العصرية التي تغنى بها! وأعلن بابلو نيرودا قائلاً:"على رغم أن لساني إسباني، غير أن والت ويتمان علّمني أكثر من ثرفانتس إسبانيا. في نتاجه لا يمكننا الوقوع على جهلاء مهانين أو أي وضع إنساني مُساء إليه بطريقة ما". بعض النقاد الأميركيين اعتبروا أن سعي ويتمان إلى إعادة تعريف الطبيعة الجنسية وماهية الجسد هما من الأسباب التي جعلته لاحقاً مثالاً أعلى يحتذيه بعض المثليين والمثليات جنسياً في عالم الأدب والفن أميركيا وعالمياً، ومنهم الشاعر الأميركي آلن غينسبرغ الذي كتب فيه قصيدته الشهيرة:"سوبرماركت في كاليفورنيا" و فيها كان يتحسر على حلم أميركا الضائع؛ حلم ويتمان الذي أضحى كابوس غينسبرغ. الكتّاب السود في أميركا أيضاً تأثروا بويتمان، وعملوا على تبني نموذجه الشعري وتوظيفه في صراعهم ضد التفرقة العنصرية والإمتيازات الإقتصادية.

من جهة أخرى لم يخلُ النقد الأميركي بتاتاً من بعض المآخذ السلبية على تجربة ويتمان. الشاعر الأميركي وليام كارلوس وليامز على سبيل المثال أشاد بعبقرية ويتمان لكونه تنبّه منذ البداية إلى أن مشكلة الشعر تكمن أساساً في الشكل وفي التقنية واللغة، غير أنه لاحظ أن جهود ويتمان لم تستمر في التركيز على اللغة والشكل والمفردات، بل انشغلت عنها لاحقاً بالتركيز على المضمون الشعري ورسالته الإنسانية عن الديمقراطية. وعليه فإن تأثير ويتمان على شعراء الحداثة، فاقت مفاعليه النظرية والفكرية تلك اللغوية. الناقد "لويس تركو" أيضاً قدّر ويتمان لأفكاره الشعرية، غير أنه في ما يخص شكل القصيدة ومساهمة ويتمان في تحرير البيت الشعري ، أصرّ على أن ويتمان لم يخترع جديداً، إذ أن الكلدانيين سبقوه إلى ذلك في ملحمة جلجامش منذ بدء التاريخ!

أكثر... أكثر...

كتب ويتمان شعراً متفائلاً يفيض ببهجة الحياة، وتتبدى فيه كل عناصر الكون والطبيعة متساوية القيمة والأهمية، ومندفعة رغم كل تناقضاتها للإلتقاء في نقطة مركزية يصدح منها اللحن الهارموني الأبدي للأمل.
شغفه اللانهائي بالحياة علّمه درساً عميقاً في القبول، لا في الإيثار ولا في الرفض، مما جعله بالغ الرضا بغموض الأشياء من حوله إلى درجة تجاهله التام للفروق في ما بينها؛ بين ما هو شخصي أو لا شخصي، غرائزي أو روحاني، ظاهري أو باطني.

لكن هل يمكننا اليوم إنكار الطبيعة الثنائية لكل ما في الوجود؟ هل يمكننا الفصل بين حياة الإنسان الداخلية والخارجية وتجاهل الصراع الذي يجعل قيمة الحياة نفسها موضع شك دائم؟ لعل ما قاله الشاعر الأميركي "بول زويغ" يجسّد تماماً طبيعة وقع أشعار ويتمان اليوم في نفس القارئ المعاصر، ومفاده أن "قارئ ويتمان اليوم لا يراه سوى في الشوارع أو في صالات الأوبرا، ونادراً ما يزوره في بيته! يسمعه في افتتاحية صحافية، لكن قلما شاركه في مناقشة أو محادثة!" خلو أشعار ويتمان من الدراما والسرد يجعلها تبدو كمتفرج أو متأمل أو عابر سبيل يكتفي بمراقبة الأشياء من الخارج من دون أن يتملكه الفضول في معرفة ما يجري خلف أبوابها الموصدة. ولأن القارئ المعاصر لا يساوم على فضوله أبداً، فهو اليوم يفتقد لدى ويتمان المتستر على حياته الجنسية، المتملص من الإجابة بالسؤال، المتخفي بجلد الحقيقة عن حقيقة جلده، تلك الحميمية في التعبير عن الذات، وتلك الخصوصية التي باتت شرطاً ضرورياً لإشباع الفضول والرغبات ليس فقط في ما يخص علاقة القارئ بالنص، بل أيضاً في ما يخص علاقة الإنسان المعاصر بمختلف مجالات الحياة.

باتت الحياة الخاصة للأديب أو الفنان سلعة إستهلاكية تضاف هي الأخرى إلى هذه السوق الهائلة الجشعة الفاغرة الفاه أبداً والتي ما عادت لتميّز في إشباع رغباتها بين سلع ضرورية وكماليات. أكثر... أكثر...هذا أقل ما يريده الإنسان المعاصر. وفي حين كان ويتمان يعبر شوارع مانهاتن كشبح، كحلم، كسراب، مسترقاً السمع إلى الطبيعة والأشياء من حوله، فإن الشاعر الأميركي المعاصر لم يعد يكتفي اليوم بمراقبة اللعبة من خلال مروره العابر أو إصاخة أذنيه فقط، بل غدا طرفاً فاعلاً فيها. وفي حين كانت المرأة مثلاً، في الأمس، في قصيدة ويتمان، تراقب عبر النافذة مجموعة رجال يسبحون عراةً،، بات اليوم في متناول خيالها وجسدها وروحها وقلمها ما يفوق متعة التلصص بكثير.

لأجل هذه الأسباب كلها، يبدو من الصعب بعد في زمننا الحاضر، لا بل من المحال، على الإنسان المعاصر موافقة ويتمان على مقولته بأنّ "ما أفترضه أنا ستفترضه أنت".

****

نصوص مختارة من شعره

إلى مومس من عامة الناس

كوني رابطة الجأش، مطمئنة، أنا والت ويتمان، متحرّر وشهواني
مثل الطبيعة.
ليس حتى تحتجب عنكِ الشمس، كيما أحتجب أنا عنكِ،
ليس حتى تأبى أن تتلألأ لكِ المياه
وتخشخش لكِ الأوراق،
كيما تأبى أن تتلألأ وتخشخش لكِ كلماتي.
يا فتاتي، ضربت معكِ موعداً،
وأوصيكِ
أن تتأهبّي، كيما تكوني جديرة بلقائي.
وأوصيكِ
أن تكوني طويلة الأناة، وفي أوج زهوكِ حتى أجيء.
وإلى ذلك الحين،
أحييكِ بنظرة جارحة كي لا تنسيني.

في ما وراء الحدود عند دفّة سفينة

في ما وراء الحدود، عند دفة سفينة،
ربّان يافع يتولى القيادة بحذر.
نفيرٌ عبر الضباب يعلو الشاطئ، يصدح بشجن؛
نفيرٌ بحري، نفيرُ إنذارٍ تهدهده الأمواج.
أنتَ يا من يجيد التحذير بحق،
أنتَ يا نفيراً عند صخور البحر
يصدح ويصدح ويصدح
ليُخطر السفينة بموقع حطامها.
ولأنكَ يقظٌ أيها الربّان،
تستجيبُ نداءَ النفير.
مقدّم السفينة ينعطف،
والسفينة المرتاعة مغيرةً اتجاهها،
تسرع بعيداً تحت أشرعتها الرمادية.
السفينة البهية والمهيبة، بكل ثرواتها النفيسة،
تسرع بعيداً بحبور وآمان.
لكن يا أيتها السفينة؛ السفينة الخالدة،
يا سفينة خارج حدود السفينة،
يا سفينة الجسد ويا سفينة الروح
الراحلة
الراحلة
الراحلة.

أغنية

1

تعالي...
سأجعل القارة يابسة أبيّة دونها الإضمحلال،
سأنشىء أعظم سلالة بشرية أشرقت عليها الشمس حتى الآن،
سأقيم أراضٍ خلاّبة سماوية
بمحبة الرفاق
بمحبة الرفاق الصامدة مدى الحياة.

2

سأنمّي العِشرة بين الرفاق كثيفةً كالأشجار
على طول أنهار أميركا كلها،
وفي محاذاة شطآن البحيرات العظمى،
وعلى أديم السهوب،
سأشيّد مدناً متواشجة
أذرعها تلتف حول أعناق بعضها البعض
بمحبة الرفاق
بمحبة الرفاق العنفوانية.

3

هذه كلها مني لكِ أيتها الديمقراطية، لتكون طوع يمينكِ يا امرأتي!
لكِ، لكِ، أنا أهزج هذه الأغاني،
بمحبة الرفاق
بمحبة الرفاق الشاهقة.

مستلقياَ ورأسي في حجركَ أيها الرفيق

مستلقياً ورأسي في حجرك أيها الرفيق،
الإعتراف الذي سبق وأدليت به أعود فأكرره؛
ما سبق وقلته لكَ على الملأ أعود وأكرره:
أعلم أني شديد القلق، وأحمل الآخرين على ذلك،
أعلم أن كلماتي أسلحة، معبأة خطراً، معبأة موتاً.
(حقاً لأني أنا نفسي الجندي الحقيقي،
وليس ذاك الذي هناك بحربته،
وليس أتحدى السلام والأمن وكل القوانين الراسخة
كيما أزعزعها.
أنا أكثر عزماً وخصوصاً أنّ الجميع أنكرني
بما يفوق ما كان ممكناً فيما لو كنت مقبولاً لديهم.
أنا لا أبالي، ولم أبالِ قط، بأي تجربة، بمبدأ أخذ الحيطة والحذر،
بصوتِ الغالبية، ولا بكل هذا الهراء.
والتهديد المُسمّى الجحيم تافه أو نكرة بالنسبة إليّ،
والإغواء المُسمّى الجنة تافه أو نكرة بالنسبة إليّ.
يا رفيقي العزيز،
أنا أعترف بأني حرضتكَ على المضي معي إلى الأمام،
ومازلت أحرضكَ من دون أدنى فكرة عن مآلنا،
أو ما إذا كان علينا أن نكون ظافرَيْن،
أو خاضعَيْن تماماً ومنهزمَيْن.

عن الأميركية/ ترجمة أمال نوار

المراجع

BOOKS "Walt Whitman" By David S. Reynolds
  "Readings on Walt Whitman" Edited by Gary Wiener
  "Walt Whitman / The Measure of his Song" Edited by Jim Perlman, Ed Folsom & Dan Campion
  "Walt Whitman" Edited by Harold Bloom
  "Whitman and Tradition / The Poet in his Century" By Kenneth M. Price
  "Whitman a Collection of Critical Essays" Edited by Roy Harvey Pearce

ARTICLES "Barbaric Yawp" By Andrew Delbanco / The New York Times.
  "Whitman and the Cult of Confusion" By Norman Foerster / The North American Review.
  "Art Review; Reflections of Whitman in a City He Loved / The New York Times.

OTHERS Dictionary of Literary Biography, Volume 3.
  James E. Miller Jr., 'Walt Whitman", In Twayne's United States Authors Series Online.

نُشر ملخص هذا البحث في جريدة النهار 14/9/2005

anawar63@yahoo.com