قاسم حداد

أعد الملف : سيد محمود
سجل الشهادات سمير إبراهيم
الوطن- البحرين- 24 مارس 2006

سيد محمود
خيري شلبي
أمين صالح
خليل صويلح
محمد قاسم حداد
حبيب حيدر
إبراهيم بوسعد
إبراهيم بوهندي
قاسم حداد
علي الجلاوي
أحمد الستراوي
علي الشرقاوي
طارق النعمان
فاطمة ناعوت
خالد الشيخ
أسامة الرحيمي
هدى عبدالله

المرشد الروحي

سيد محمود
(مصر/ البحرين)

ثلاث مناسبات تبرر الاحتفال بقاسم حداد والاستمرار في تكريسه رمزاً أساسياً من رموز الشعر العربي المعاصر، المناسبة الأولى هي الاحتفال بيوم الشعر العالمي، أما المناسبة الثانية فهي الاحتفال بمرور عشر سنوات على إطلاق موقع ''جهة الشعر'' الذي كان واحداً من أجمل المبادرات التي خلقها صاحب ''علاج المسافة'' للنجاة بالشعر العربي من مأزق عزلته وغيابه. أما المناسبة الثالثة، فهي صدور كتابه الجديد ''ما أجملك أيها الذئب'' الذي يبرز وجوه جديدة لصاحبه، وأتصور أن العنوان الفرعي للكتاب وهو ''جائع وتتعفف عن الجثث'' يلخص الكثير من النبل الكامن في شخصية صاحبه الذي يتمتع إلى جوار موهبته الكبيرة بروح إنسانية شفافة يندر أن تجد لها مثالاً في مبدعينا المعاصرين. وبالنسبة لي يبدو حداد بالدور الذي يلعبه في ''أيامي البحرينية'' أقرب إلى دور ''المرشد الروحي'' الذي يقودني إلى خطوات وتجارب جديدة لم أكن على استعداد لخوضها في غيابه، والحاصل أنه لعب هذا الدور منذ فترة مبكرة وبالتحديد وقت أن قرأت كتاب ''الجواشن'' الذي اشترك في كتابته مع أمين صالح، وهو كتاب يقدم درسا بليغا في تفادي ''الأنانية''، وهي صفة تبدو ملازمة لكثير من المبدعين. أما بقية دروس الإرشاد فقد تواصلت منذ ان تعرفت عليه شخصيا قبل نحو ست سنوات واطلاعي على غالبية مؤلفاته وأظن ان أكثر تلك المؤلفات أثرا في نفسي كتابه ''ورشة الأمل ''الذي قرأته في ليلة واحدة ودونما انقطاع وتعلمت منه كيف يخلص الإنسان لمدينته، وكيف بإمكانه أن يكتب عن نفسه بفيض بالغ من التواضع، لا بغرض تسول ''آهات الإعجاب'' من قرائه، وإنما بغرض أسمى وأعمق يقوم على فضيلة النظر للكتابة باعتبارها ''ضرب من الصلاة'' تستلزم الصدق، وكما يقول حداد دائما: ''وأنت إلى الكتابة كأنك إلى الله''. ليست النصيحة الكامنة في هذه الجملة وحدها التي تشدني لاستكمال التعلم منه، وإنما أشياء أخرى كثيرة نأمل في هذا الملف أن نحيط بها، فقط لكي نؤكد أن بيننا من يستحق ان نشد أزره دائما حتى وهو يري أن ''الكتابة باب النجاة الموارب''، لكنه يؤمن أنها ''الباب الأرحب من الحياة على الدوام''

****

بورتريه:

لؤلؤة الخليج

خيري شلبي
(مصر)

خيري شلبيفي مخيلتي يتشخص الشاعر العربي البحريني قاسم حداد في وحدة من المتعلقات الإنسانية الباقية أبدا على جدران كعبة الضمير الفني الحي المغامر بجرأة وشجاعة في سبيل الإنفاق من كل ما يمثل قيداً من أي نوع على حرية الإنسان، فالتجريب الواعي في الفن تحريض على التجريب في الحياة بحثاً عن آفاق وأوضاع جديدة طازجة تحرر الإنسانية من جمودها تحت نعال المستبدين.
إنه قاسم، قصيد إنساني أبدع الخالق الأعظم في نظمها على هذا النحو البديع متوازنة منسقة شكلاً ومضموناً، دفقة شعور واحدة على روي واحد يكاد من فرط تفرده وندرته وصعوبته يتنوع في قواف متعددة تجيء ترجماناً لما في قلبه من موسيقى كونية طروب باستكشاف منابع الحكمة والانتشاء باحتسائها قطرة بعد قطرة تروي تبلاته الشعرية العطرية الناضرة أبداً.
شعرياته تتمرد على الأشكال التقليدية الموروثة شأن صاحبها المهموم بالثورة على كل الأطر والقوالب المتعلقة بالحياة الساذجة للقلب الإنساني. ليس مهماً عنده أن يتقصد القصائد، أن يسكب شعوره في عبوات جماهيرية تباع على الأرصفة، إذ هو ليس صاحب بضاعة، ولا يصلح أن يكون، إنما هو فنان تنفجر فيه اللغة إلى شظايا شعورية سرعان ما تنصهر في حرارة قلبه، حتى إذا فاض بها انسكبت على الورقة صانعة شكلها الموسيقي الذي يجيء شكلاً لحركة الشعور في لحظة المخاض..
قارئ شعره لا يخطر بباله أن يسأل إن كان هذا الشعر موزوناً مقفى أم منثوراً؟ حداثي هو أم عتيق؟ منظور متقدم أم راسخ في أغلال الوجدان الصحراوي العتيق؟
اعتاد المتلقي على اقتطاف شعريات قاسم حداد باعتبارها من الأعشاب الطبية الدوائية، تشفي العديد من الأمراض العربية المزمنة، إذا نحن أجدنا فهمها وكيفية التعامل معها متحررة من السجن الزمني الأبدي، وأقصد ب ''نحن'' أولئك الدارسين ''الحدثيين'' الذين يقتلون الفن فحصاً وتأويلاً وتفكيكاً معلنين موت المؤلف لقيام مؤلف جديد فوق أنقاضه هو الفاحص المؤول المفكك الزاعم بإعادة بنائه للنص الأدبي وفق رؤى ما أنزل المؤلف الأصلي بها من سلطان! .. أما إذا ترك الفن لتلقائية التدفق والتلقي فإنه سوف يلعب دوره الحتمي في تثقيف الأفئدة.. والرأي عندي أن تلقي التلقائي لشعر قاسم حداد يحتم المتلقي بخصوبته ويجعل منه شريكاً للشاعر في بناء اللحظة الشعرية بعيداً عن التأويل الدراسي الذي يجدد إشعاعات التعبير الشعري ويؤكد معطياته في سياقات نظرية مثلجة تصيب التجربة كلها بالتجمد في وعي من يستعينون على فهم الشعر بالدراسات النقدية الأكاديمية.
إن شعر قاسم حداد مفطور على سحر الفن الذي يجعل من الشعر تميمة تبث التطامن والفأل الحسن في النفوس، وإذا لم يفهم القارئ البسيط شعر قاسم حداد فهماً يوصله إلى إدراك قاعه البعيد؛ فإنه سيشعر على الأقل بأن أشياء في أعماقه قويت، وأخرى انهزمت، أن دمامل قد انفعصت وألقت أم القيح ضاخة الألم، أن بالونات كبرياء زائف قد انفتأت واستراح الصدر من نفختها الكذابة، أن القشعريرة التي تعتري الجسد بفعل ملامسة المفردات الحية المنزة للمشاعر قد فتحت مسامه ليفرز عرقه الفاسد، أن لوامع من البروق قد أضاءت له بعض ما كان مظلماً من السكك الوعرة والمناطق الشعورية الشائكة المهجورة.
منذ أن طلع في بداية سبعينيات القرن العشرين بديوانه الأول المسمى ب ''البشارة''، وإلى اليوم، لم يكف الشاعر البحريني قاسم حداد عن إثارة الدهشة بين قراء الشعر العربي المعاصر.
كان الواضح منذ البداية أن قاسماً آتٍ من أفق شعري عربي أصيل، إلا أنه مزدوج الماهية بين الشعر والأدب، يؤدّب الشعر، بقدر ما يشعر الأدب، ينطلق من الذات ليعانق الموضوعي فوق أبسطة من نسيج لغوي ''شغل يدوي''، أو ''عمولة'' بتعبيرنا الشعبي المصري، حيث تتحول اللغة إلى ألوان تتزاوج تتمازج في فنون تشكيلية بديعة، بنفس دقة ومهارة مشغولات خان الخليلي بفنون النقش الإسلامي والنقش على النحاس وتطعيم الخشب بالأصداف وما إلى ذلك.
موهبته الشعرية استنشائية، أصلية واضحة الأنساب في شجرة العائلة الشعرية العربية منذ ما قبل عصر المعلقات، يمت بصلة قربى وثيقة إلى طرفة بن العبد وامرئ القيس وبشار ومجنون ليلى وعمر بن أبى ربيعة، والبحتري والمتنبي وغيرهم من أعمامه وأجداده وأخواله، تلك هي أصالته وعزوته التي تعطي شعره عراقة وتجذراً في القاموس العربي بقدرة فطرية على تشهير المهجور من المفردات وشحنه بحمولات شعورية معاصرة طازجة.
إذ تجوس العين في تشكيلاته اللغوية تشعر قبل ملمسها بأن المفردات سخنة ملتهبة باعتبارها أوعية موصلة للحرارة جيداً، وتستشعر مدى ما انصبت في داخلها من متاع شعوري طازج، سرعان ما تدخلنا المفردات فتنفجر في مخيلتنا صوراً بديعة التكوين قوية الألوان، وفي أحاسيسنا رحيقاً شعورياً منعشاً ما يلبث حتى يثير فيك قلق الأسئلة العصية على الجواب الشافي، لكنه قلق لذيذ في غموضه الأصيل العامر بالأسرار المثيرة، مثل قلق العشاق الواقفين على أعتاب لحطة التلاقي المرتقب.
تقاس مكانة الشعراء في تاريخ الشعر بقدر ما يتوفر في فضائلهم من شعر خالص من الحشو كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري، وفى رأيه أن نسبة الشعر الخالص عند كل شاعر تتفاوت بين شاعر وآخر تبعاً لحجم موهبته الفطرية، فأكبر شعراء العالم إذا وزنت قصائدهم بميزان الشعر الخالص وجدت أن نسبة الشعر الخالص إلى حجم القصيد محدود، وبقيته مجرد حشو لابد منه لكي يستقيم البناء، وكلما زاد الحشو في القصيد كان دليلاً على ضآلة الموهبة الشعرية، والعكس صحيح إذا زادت نسبة الشعر الخالص في القصيد، حيث يكون الشعر في هذه الموهبة كالذهب لابد من إضافة نسبة من النحاس أو أي معدن صلب وإلا عجز الجواهري عن صياغة السائل الذهبي الزخرفي في أشكال من الحلي.
وعلى هذا الضوء، أشهد أن قاسم حداد من طبقة الشعراء المفطورين من أمثال محمود درويش وشوقي وفؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وسميح القاسم وغيرهم، يخلو شعرهم من الحشو إلا بقدر ما تقتضيه ضرورة صب الشعر في أشكال موسيقية حتى وإن لم تلتزم بتفاعيل الأبحر الموروثة.

في شعرية قاسم حداد تتثأل الصور الموسيقية، تستجلي الشعور المتدفق عبر مصاف دقيقة الثقوب، تحتجز الواغش والعكار، لا تسمح إلا بتسريب المشاعر الصافية المرنة السخية المعطاءة كخيوط من الحرير الطبيعى، لا تكاد تُرى بالعين المجردة إلا بعد أن يتم نسجها في تشكيلات لغوية ذات ترددات لا تنتهي بدلالات غنية لا يخفت وقعها في النفوس... تلك المصافي هي حسه الأدبي المرهف، اليقظ، الأصيل في تكوينه الذاتي، المعني بالارتقاء بمستوى التعبير وحسن اختيار المجازات واستجلاء العاكسة لزوايا الرؤية الفنية من جميع الاتجاهات.. ذلك أن الأفق الشعري المتأدب، الذي ينبع فرعاً جديداً معاصراً في شجرة عربية عتيقة اسمه قاسم حداد كان قد قطع شوطاً عظيما في تطوير آفاق الشعور وتوسيع أبعادها أمام شعراء العربية في مختلف العصور الحديثة بجهود النفري وأبي حيان التوحيدي وابن العربي وعدد كبير من شعراء الصوفية، ومن جماعة إخوان الصفا، حيث قدموا تجارب شعورية خارج النظم الخليلي وخارج الأطر المعروفة للشعر، كانت أشبه بالتقاسيم الموسيقية غير المصبوبة في قوالب وأشكال، إنما لها شكلها الخاص ومذاقها الوجداني الخاص، ويطرب لها القارئ كما يطرب للموسيقى الخالصة، ويتأثر بها ربما أعمق مما يتأثر بالشعر التقليدي بكل تفاعيله وأوزانه. إن روح الأدب تصنع للشعر بطانة من القطيفة الشعورية وغطاءً شفافاً كطبقة إضافية من التعبير تحمي الشعر من الابتذال وتبقي على عطره وحرارته.
لغة قاسم حداد، على شدة عراقتها، عتاقتها أحياناً، تبدو مع ذلك معاصرة تماماً. إن الذين يتشوقون بمصطلح تفجير اللغة من شباننا دون فهم حقيقي دقيق لمحتواه، عليهم أن يلتمسوا إيضاحاً وافياً لمعنى تفجير اللغة في لغة قاسم حداد..
لغة تخلع خرقة الصوفية، وعباءة الصحراء، والجلباب والغترة والكوفية، مع أنها في حقيقة الأمر لم تفعل شيئاً من ذلك على الإطلاق، إنما هي - بمرونة تحسد عليها - توهم القارئ المتعجل أنها ترتدي البذلة والبالطو والقفاز والقبعة والطربوش التركي والطاقية الآسيوية واللبدة المصرية، وأحياناً تترك رأسها عارية..
إن هذه اللغة العتيقة العريقة، وهي في ثياب أهلها القديمة بدت للجهلة الأدعياء وغير الموهوبين عصية على التفجير؛ لأن أدعياء سابقين منحوا القوة والسلطة والرواج أصابوها بالجمود وحولوها إلى لعب زخرفية مفرغة من المحتوى في عصور انحطت عزائمها تحت سطوة حكام تفرغوا للرغد و''بلهنية'' العيش، مستمعين بما ورثوه عن الأجداد من سلطان وخدم وحشم وآماد فسيحة، وحكام أجانب ضربوا اللغة العربية في مقتل، ولولا القرآن الكريم لاندثرت منذ زمن بعيد، ومنذ عصر الإحياء إلى اليوم - أقل من قرنين من الزمان - استردت اللغة العربية عافيتها وفتوتها الأصلية بفضل الشعراء والأدباء المحدثين، وقد تمخضت العصور الإبداعية الحديثة عن تقدم عظيم في لغة التعبير الأدبي العربي. إلا أن قلة قليلة من شعرائنا المعاصرين هم الذين اكتشفوا سر اللغة العربية. أزعم أن قاسم حداد من بينهم، وهو سر لو تعلمون خطير: إن اللغة العربية أيها السادة جبلت على التفجير منذ مولدها وستبقى خصيصة التفجير لصيقة بها إلى ما لا نهاية، فلو رجعنا إلى أحد القواميس العربية كلسان العرب مثلاً، حيث يعني بتسجيل قصة حياة المفردة من أصل نشأتها إلى دروب المعاني التي استخدمت فيها، لأدهشنا إلى حد الذهول اكتشاف أن مفردة واحدة من المفردات المتداولة في الكتابة بجميع أصعدتها وفي الخطاب اليومي لا تتطابق مع معناها الأصلي في القاموس، فالمفردات كائنات حية يتجدد دمها وتتغير مظاهرها تبعا لما تحمله من شحنات جديدة، إن التجارب الإنسانية، والمكابدات العملية والنفسية والعاطفية تقوم بتوسيع المفردة وتحميلها من البصمات العملية والبيئية ما قد ينقلها من إطار معنوي معين إلى إطار آخر مختلف وإن تقارب مع سابقه، فمفردة (الضحك) كما نفهمها ونتداولها اليوم يختلف معناها في القاموس وإن بقيت صلة النسب بينها وبينه، فمفردة الضحك - في القاموس - معناها: فيضان الماء في البئر، يقال: ضحك البئر، أي: فاض ماؤها، وتبقى صلة النسب بين مفردة الضحك بمفردها الدارج ومعناها القاموسي هي صوت كركرة الماء حين يفيض البئر فيضحك، مثلما تقهقه القلة الفخارية عند ملئها بالماء. ولقد أطلق عباس العقاد على اللغة العربية لقب ''اللغة الشاعرة'' قياساً على هذه المرونة الفذة في مفردات قابلة للتجدد والتلون على أعلى مستوى وإلى ما لا نهاية. ولا شك أن اللغة العربية اكتسبت هذه الخصيصة الفطرية بفضل الشعراء العرب القدامى الذين ارتقوا باللغة كأنهم كانوا يؤهلونها ويهذبونها ويهندسونها نحوياً وصرفياً لكي تكون خليقة بتشرف الخطاب الإلهي الأسمى..
إن اللغة العربية محرضة للخيال الشعري، فإن كان الخيال الشعري موهوباً بحق كمحمود درويش وأحمد حجازي وأدونيس وأمل دنفل وعفيفي مطر وقاسم حداد صارت اللغة براكين تقذف باللآلئ والمعادن الثمينة.

****

شخصٌ يفتح باباً للغامض الدليل

أمين صالح
(البحرين)

أمس كأنه اليوم.
أراه يحرث الأرض بخطواته الواسعة، وظله الطويل يركض خلفه لاهثاً، ومن صدره المشرّع تخرج طرائد حلمه لتسرد على الأمكنة، التي يمر أمامها، جحيمه العذب.
في العام 1970 قال لي صديق مشترك: تعال معنا هذا المساء لتتعرف على قاسم حداد.. سيعجبك كثيراً.
لكنه لم يعجبني كثيراً.
في الواقع، لم يحب أحدنا الآخر.
كنت كاتباً مبتدئاً.. خجولاً، متردداً، ولا يحسن التصرف (كما أنا الآن). وكان هو معروفاً في الوسط الثقافي. كان يعطي ذلك الانطباع بالغرور، بالخشونة، بالصرامة. لكن وحدهم، أصدقاءه المقربين، كانوا يعرفون خطأ هذا الانطباع.
ذات ليلة، كنا جمعاً من الأصدقاء نسهر في بيته، الفقير إلا من رائحة الريحان وأنفاس صديقةٍ.
وفي غمرة الضحك والأحاديث الجانبية، أجهش قاسم في البكاء فجأة.
صمتنا احتراماً وحيرة، وكل منا يكبح سؤالاً يختلج في داخله. لم أحاول أبداً أن أعرف لماذا بكى تلك الليلة. لم أستفسر. لم يدفعني الفضول، حتى هذه اللحظة، لأن أعرف.
آنذاك فقط شعرت نحوه بالحب؛ فقد رأيت العذوبة والرهافة خلف مظهره الصارم، ومع بكائه الحلو انكسر السور.
كنت أحتاج إلى وقت لاختراق قناعه، وكان يحتاج إلى وقت لاختراق قناعي. ولم ننتظر طويلاً لكي تغطينا الصداقة بوميضها وبراعمها، لكي تقترن الروح بالروح، لكي يصير أحدنا للآخر ذاتاً أخرى.

***

أمس كأنه اليوم.
أراه يموّج الصور مستعيناً بمخيلة سخية، ويطحن اللغة لينشرها كالندى. يسرد لهاث القلب وهذيان اليأس الذي لا يأس فيه، ثم يرمي كل هذا أمامي مثلما يرمي المدى جهاته غير المفتوحة، قائلاً:
هذه جواشني، فماذا لديك؟
هكذا كان كل منا يحرّض الآخر، يغويه، ويهيب به أن يفتح باباً للغامض الدليل.
وكلما عبرنا معاً إقليم الكتابة، أضرمنا المرايا، وتبادلنا الحبر والرغيف. وعندما انتهينا من (الجواشن) مسّنا الالتباس ولم نعد نعرف من منا كتب هذا أو ذاك، من منا نصب الفخاخ لجذور المساء أو صاغ لكائنات الغيب لغتها ومآزقها ومصائرها.. كأن ذاتاً واحدة كتبت ذلك النص.

***

الحياة خذلته كثيراً، وما كان يطلب إلا القليل.
ومَنْ تقاسم معهم الخبز والبوح، انفضوا من حوله بعد أن شبعوا من خبزه وضجروا من بوحه.
في عينيه تترقرق الطعنات التي تأتيه من كل حدب، غير أنه يذرفها مع كل حلم، ومع كل قصيدة.
يمتشق الدعابة وقت اشتداد المحن، جذرها الألم وملحها الخيبة.
وبالسخرية اللاذعة يخيط خلواتنا أو سهراتنا. وعندما ترفو الغبطة قلبه، يدغدغ المساءات بدعاباته التي لا تنضب. وتحت مظلة المرح يحنو على أوجاعنا.
كم مرة جاء إليه صديق جريح ليضمد بأهدابه الشفيفة جرحه.
وما من مرة ضمّد أحدٌ جراحه.
ربما لأنه كتوم.
ربما لأن اليأس يحصّن روحه الرهيفة كي يستفرد به في كل هبوب.

***

لن يمسّ الحنان روحك ما لم تمسّ أصابعك صدغك.
من يعرف قاسم يعرف أنه يمضي كل ضحى إلى المياه، ويعطي ظهره إلى المدينة الشائخة، راضياً أن ترميه بالاغتياب والنميمة، فيضمّ يديه على حفيف المدّ، ثم يرنو إلى ثلاث أرجوحات تتدلى من الأفق.
أخطاؤه؟ لا تحصى. شوائبه؟ أيضاً لا تحصى.
لكنه أبداً لا يخطئ في الحب.
حسبه أن يكون نديم الكتابة، ودليل الحرف إلى جهة الشعر.

***

اليوم، يميل أحدنا نحو الآخر، قليلاً، نتهامس، ثم نطلق ضحكة صاخبة يستعصي على الآخرين تأويلها.

***

روح مليئة ببهجة مختلفة

خليل صويلح
(سوريا)

بدأت علاقتي بشبكة الإنترنت قبل نحو سبعة أعوام فقط، وكان أحد خياراتي الأولى زيارة موقع ''جهة الشعر'' بوصفه واحداً من أقدم المقترحات الثقافية العربية في الشبكة، وقد دهشت حقاً بهذا العالم الافتراضي، خصوصا أنه يجمع (بين دفتيه) معظم الأصوات الشعرية العربية، تحت عناوين جذابة ومثيرة، تعبّر عن حداثة تواكب معطيات اللحظة الشعرية وتشظيها الجمالي.
وكنت قد تعرفت إلى قاسم حداد في دمشق ببعض الارتباك، لكن هذا الرجل الوديع سرعان ما يخلخل المسافة بينه وبين الآخرين بصداقة تترك أثراً لا يُمحى. وقتها كنت أنتظر صدور مجموعتي الشعرية الثالثة والأخيرة ''اقتفاء الأثر'' (2001)، فطلب مني نماذج منها لنشرها في''جهة الشعر''. وهكذا أدرجت قصائدي في الموقع، مثلما نمت صداقة من نوع ما مع قاسم حداد، عززتها زياراته العابرة إلى دمشق، وروحه المتوثبة لصداقة الأجيال الشابة (لست شاباً تماماً)، لكن قاسم حداد الذي ينصت إلى الآخر باهتمام يؤكد فرادته الإنسانية قبل الشعرية، فهو رغم تجربته العميقة والخاصة، لا يوحي لجليسه على الإطلاق أنه في موقع آخر، متجاهلاً عن قصد منجزه الشعري، وتجربته المريرة في السجن، وعصاميته، وهو لا يتباهى بذلك أبداً، الأمر الذي يضع نصه في مقام استثنائي، هذا النص الذي تتلاقى في جهاته كل معطيات الحداثة السردية والبصرية، وهذا ما نجده في موقع ''جهة الشعر''.
فالنص الذي تتناهبه اليوم جهات افتراضية لا تحصى، حين يذهب إلى جهة الشعر تحديدا، يكلل ببهجة مختلفة، هي بعض روح قاسم حداد نفسه.

****

القامة العالية

حبيب حيدر
من أسرة الوطن

قاسم حداد قامة عالية، تحتاج إلى وقفة متأنية منك، ونظرة إلى الأعلى، بطول قامته الفارعة، فأنت إذا تبصر وجهه جيداً تشاهد ملامح متمكنة وسمرة تحمل بريقاً يفضي بأصالة اللون، وعيون قاسية التحديق؛ من شدة الإلحاح وراء الأشياء، والبحث الحثيث عن الشكل، الذي لا يشوه المعنى، بل يمنحه الحرية، في ابتسامة دافئة، وصوت جريء متهالك في همسة من حنان.
وتَطلع بعيون حادة، تمشي بخطى ثابتة في أروقة ضيقة تستشرف التعبير المفتوح، ولا تعبأ بالتأويل إلا بقدر المشاركة في الهم، ومشاطرة الأشواق بين باعث الرسالة والمتلقي، من خلال العلامات والدوال المسكونة بالمعنى، والتي تجعلهما يتراسلان بالهجس والاحتمال فيما بينهما.
هكذا دخلت إلى عالم قاسم حداد، وكم حاولت أن أميت المؤلف، لكنني لم أستطع؛ لأنه كان قامة عالية ووجها واضحاً جدا، كأنه منحوت القسمات، إذ من الصعب محوه من الذاكرة، ربما أن بحثه الدائم عن الشكل هو الذي فرض هذه الوقفة الشكلية التي استعت هذا البورتريه، هذا ما فرض نفسه عليّ عنوة من دون إذن مني أو حتى من المتلقي الذي هو قارئي الضمني والذي من غير مواربة مني جاهرت به ولم أتخلص منه.
هكذا في هذه الوقفة حاولت أن أعالج المسافة بين الشكل الماثل والشكل القادم ممهداً الطريق في الدخول لقاسم حداد.

وكذلك هي رحلة البحث عن الشكل التي ليست عند قاسم إلا علاجاً للمسافة التي ابتدأت منطلقة مع خطوات التحديث الشعري لجيل جديد كان لما يرسم خطاه بعد منذ البشارة 1970 بمولد شاعر ثائر له نظرة مختلفة، مستعد لعبور مسافة طويلة للدفاع عن أفقها، إلى الخروج من المدن الخائنة 1972م مع الشهيد (رأس الحسين) والشاهد عليها (الشاعر) إلى الدم الثاني 1975م، ثم القيامة 1980م، إلى التفجر في شظايا 1980م، وانتماءات 1982م، والنهروان 1988م، إلى تجربة التزاوج النصي عبر الجواشن 1989م، إلى رصده يمشي مخفوراً بالوعول 1990م، إلى عزلة الملكات 1992م، ونقد الأمل 1995م، إلى أخبار مجنون ليلى 1996م، في الكتابة المتناصة مع سيرة جنون العشق باستلهام مجنون ليلى من جديد ثم إلى قبر قاسم 1997م، إلى ..... إلى إلى علاج المسافة إلى .....إلى .... وسيظل الشاعر يعالج المسافة في هوس الحروف غير مستقر ولا مطمئن إلى الراحة أو الدعة في رحلة دائمة إلى الشكل القادم.
ويظل هاجس الإبداع المقاوم لكل الأشكال الثابتة أو الجاهزة على مستوى النص أو على مستوى الواقع الماثل في معاناة ومعالجة لمسافة هذه الرحلة الطويلة البعيدة باحثاً عن الأمل القادم المتخيل والشكل الحلم ليتحيز فيه وينطلق منه في رحاب حرية أوسع، لا رافضاً لشكل ما، وإنما مجربا كل الحدود المحلقة في آفاق أبعد وعوالم أجمل، فقد يوصله هذا الترحل الدائم، القلق المستمر إلى حيث يحلم هو، ويحلم معه الآخرون من خلال نصه، وقد يوصله هذا الترحل الدائم إلى حيث يحلق هو، ويكتشفه الناقد، ويقرؤه الأصدقاء، غير أن الشاعر يلوح بأنه مازال يعالج المسافة وكأنه بعد كل هذه المسيرة الأدبية الطويلة لما يصل بعد.

للشاعر حلمٌ وأمل قادم يتجاوز واقعاً مختلفاً ولسعة المسافة بين الحلم المأمول والواقع الماثل يظل الشاعر في علاج مستمرٍ للمسافة ما بينهما، وثمة رصد لعلاج المسافة التي تختزن في دخيلتها العميقة تناصاً مع الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي إذا حضره الهم لجأ إلى ناقته مرتحلاً، فهو يبدد الهم بالارتحال ويقطع المسافة، مع الشعر ولذلك ليس غريباً أن يلتقي الشاعران طرفة الأول وطرفة الآخر ويعالجان المسافة بين الحلم والواقع بالشعر حيث يمضي الأول الهم عند احتضاره قاطعاً مسافته من خلال معلقة ''وإني لأمضي الهمّ عند احتضاره، بعرجاء مرقال تروح وتغتدي''، ويمضي الآخر الهمّ عند احتضاره بعلاج المسافة منذ الحرف الأول.

*****

الأب والابن والروح الحائرة

محمد حداد
(البحرين)

محمد حدادبدأت طفولتي في البحث الساذج عن ماهية (جاسم الذي كان غائباً) في سن مبكرة جداً - كان عمري وقتها سنة ونصف تقريباً- حين ابتدأت بالتحديق في كل رجل يمر بالقرب من شارع منزلنا بالمحرق علّه يكون هو الأب، ثم بتوجيه الأسئلة المستفزة للأم التي لم أكن واعياً تماماً لما تمر به من ظروف قاسية لا يطيقها نبي ولا يسعها إنجيل ويستعصي على الآلهة غفرانها، حيث كنت أرفض ردودها المطمئنة معززة كلامها ب(صورة ليست ملونة) وضعتها بالقرب من سريري مؤكدة لي بأن (أبوك) هو من في الصورة. لم أكن مقتنعاً بما تقول. إلى متى سيظل بهذا الشكل؟ لم أكن أعرف بأنه سيظل بهذا الشكل إلى أن يصبح سيده (الذي لا ينحني للشكل).. انحنى مرة فقط.. كي يحنو علينا. في الوقت الذي كان فيه قاسم غائباً، كانت الأم تغزل مستقبلي ومستقبل أختي بخيوط عرفت خاماتها وندرتها فيما بعد. وعندما عاد بدأ في سرد تاريخه لي فجيعة تلو الأخرى، ومازال يسرد حتى اليوم. أصبح التاريخ مستقبلاً والفجائع لم تنضب. وأظن أنها لم تنضب لأن التاريخ أصبح مستقبلاً.
لوجودي في بيت شاعر بهذا الحجم أثر يشبه بقايا النبيذ تحت اللسان، لكنني كنت أعاني منه في فترة ما، فقد كنت قليل الاطلاع على الأدب حتى منتصف المرحلة الإعدادية مما أثر على أسلوبي في الكتابة، وكنت أعيش صراعاً ضارياً مع نفسي في كوني ابناً لشاعر ولا أستطيع الكتابة، حيث الإحراج بلغ منتهاه، لكن هذا الجو القرمزي اللون جعلنا (أنا وأخوتي) نتوقف عند كثير من الأمور (على الأقل) كي لا نخدش هذا البريق الذي ألبسنا إياه قاسم، مع أنه شخص تتعبه الأضواء الكثيرة، لكن هناك ضوءان فقط يهمانه، أحدهما هو الوهج الذي ترسله له تلك المرأة التي مازالت ترمم له مخلوقات الله، والضوء الآخر هو الضوء الصغير للحياة الذي يأتي عادة بين ظلامين.
انسكب الشعر في قلبي دون أن أشعر، فقد كانت أمي توقظنا صباحاً بالشعر والغناء الفصيح، حواراتنا معاً تفوح منها رائحة الشعر، إضافة إلى أننا كنا نستقبل التوبيخ بالشعر أحياناً !! ولا أنسى اللوحة الهائلة الحجم بالنسبة لي وقتها (فقد كنت ضئيلاً بشكل يستعصي على الوصف) التي رسمها الفنان عبد الله يوسف للسياب والتي تتوسط المكتبة في البيت الأزرق، حيث ملامحه الممزوجة بالحزن القريب من حسرة الأنبياء، وكنت أحفظ مطلع قصيدة ''أبجدية القرن العشرين'' التي جاءت في ديوانه الأول حيث لم يتجاوز عمري وقتها الخمس سنوات، والتي تحفظها الآن حفيدته الأولى بنفس العشق غير المبرر لهذه الكلمات التي هي بمثابة الدرس الأول في التحريض على جحيمنا الصغير. طبعا كل هذا كان جديراً بأن يخلق بداخلي حساسية نوعية نحو هذا النوع من الأدب، وقد كنت أشعر بلذة كبيرة عندما يحضرني بيت من أبيات قاسم /وأنا منهمك معه في حوارٍ ما أشبه بالخلاف/ يفسر ما يدور في ذهني أو يوضح وجهة نظري فيما أقول أو يدخل بشكل استفزازي يفتح مرايا أخرى لهذا الحوار.
مررت بمرحلة طويلة كانت تستهويني فيها أشياء أخرى غير القراءة مثل الموسيقى بشكلها المجرد، فقد تعلمت الكلام مع موسيقى ديبوسي وفاجنر وبرامز التي لم تتوقف عن الدوران في الجرامافون المدفون بين الكتب.. لكن بما أنني أسكن في بيت هو أقرب إلى المكتبة الدافئة منه إلى البيت، شعرت بنهم غير طبيعي للقراءة، فبدأت مشوار البحث عما يستهويني من الكتب، فكنت أصادف في كل غرفة كومة من الكتب، كان هذا الشيء يستفزني ويستدرجني للتنقيب فيه إلى جانب المكتبة الرئيسية التي تحوي طقساً متفرداً لا يستطيع فكه إلا قاسم نفسه، حيث هناك مختبره الذي كتب على بابه (لطفاً الكتابة تحلم.. لا توقظها).
لي ملاذ آخر غير الموسيقى هو الحب.. وهذا من الأشياء التي علمني إياها منذ نعومة أحلامي حيث كان يشحنني حباً كل يوم ويفتح لي الأبواب ويقول: اعشق ما استطعت.. ولا تتوضح إلا في الحب.. ولا تهتم. فوجدت في الحب والموسيقى عالماً لا يمكن أن أتفاداه، فدخلت ((مرايا الأحلام وكنت سلام الماضي للحاضر.. رأيت الأشياء تعلمني)) كما كان يقول في ''قيامته''. ومازالت هذه (الأشياء) تعلمني ولن أكف عن تقمص دور التلميذ المشاكس.
لقد غبت عن أبي لمدة سبع سنوات وهو غاب عني ما يقارب الخمس سنوات، فهناك اثنا عشر عاماً مفقودة بيننا، مما كان له أثراً كبيراً في صياغة العلاقة بيننا. وكان يقول ذات بوح بأنه يشعر أن القدر يعاقبه بالسبع سنوات التي سافرت فيها إلى القاهرة على الفترة التي قضاها بعيداً عنا!! لم يعرف بأن غربتي كانت امتداداً لغرفتي، فقد وجدت فيها ورشة شحذتني كي أكون جديراً بأن أحمل اسماً كاسمه!! لقد صاغتني هذه (السنون) بشفافية لا أكاد أصدقها، فالشيء الوحيد الذي أنا متأكد منه هو أنني لا أصلح للغربة بأي شكل من أشكالها لأنني (أنا الذهاب المستمر إلى البلاد، وجدت نفسي ملء نفسي) كما قال محمود درويش في غنائية أحمد العربي.
كثيرة هي المرات التي كنت أضيع فيها بين مرايا قاسم ولا أريد العودة. لكني أعتقد (من عقيدة) كما كان يقول دائماً، أعتقد بأن قاسم حداد حين يكتب شعره فهو يخاطب النبض قبل العقل و(القلب يفطن قبل العقل أحياناً) وقال لي ذات قصيدة : (الرؤية ليست في العين، الرؤية في القلب).
أرى قاسماً في ثلاث مرايا فقاسم الأب: حاول (وأعتقد بأنه نجح) بأن يؤكد لنا أنا و(أخوتي) أن بداخل كل واحد منا (يوسفاً)، وأنه ليس هناك صديقاً ألد من الذئب، وأخبرنا بأنه قد تخلص من قمصانه كلها كي لا يكون عرضة للتأويل. علمني أن أنتقي أعدائي بعناية وثقة.
وقاسم الإنسان: رأيت فيه رجلاً (مزج الحلمة بالحلم)، يمسح الأخطاء بسهولة الكاهن. قادر على أن يحب كل شيء، لكن جسده لا يسعف روحه..
ونتيجة لكل ذلك يأتي قاسم المبدع: الذي ينثر أشياءنا ويظل يرقبنا ونحن نرى.. يكتب قصائده في دفاترنا ونحن نرى.. يقول كلامنا الذي لا نجرؤ، ونحن مازلنا (كأننا نسمع.. كأننا نرى).

*****

صور ترسمها أقلام الأحبة:
حلق بالحرف فكتب نصاً ليس له وطن

لا نستطيع أن نقول عنه إنه الشاعر الأوحد، ولكننا بالتأكيد يمكننا أن نسميه الشاعر الإنسان، وليس كأي إنسان آخر، فهو الذي أعطى للحروف كلمات مضيئة وجعل من الكلمات نصوصاً فريدة، لم يكن ابداً متهاوناً مع صراع الشعر والمعاني، حيث استطاع شاعرنا (الإنسان) أن يطوّع بين أنامله الرشيقة كل اللغات التي تستعصي على القلب أن يستوعبها، فجعل من العادي (المميز) وجعل من (المميز) أفقاً رحباً كسعة فضاءات روحه المحلقة فوق كل الجسور ، ألم يكن وحده الذي جعل من الحروف والألوان والصور إنساناً نقرؤه كل حين؟
قاسم حداد وما أدراك ما قاسم حداد...حداد الذي لا نستطيع نحن الصغار أن نتحدث عنه، إنه ذلك الكبير الذي طال اسمه جغرافية المكان والزمان فصار، علماً من أعلام الضمائر التي جفت في صحراء الأدب المعاصر من المحيط الى الخليج، وهذه ليست شهادة فيه، بل هي الحقيقة تقال كما هي، وهنا دعونا نستمع لشهادات حية في قاسم وشعره وإنسانيته من شعراء ونقاد وفنانين عاشوه فأحبوه كما هو.
رئيس أسرة الأدباء والكتاب إبراهيم بو هندي يرى بقاسم حداد قامة لا يُستهان بها، ليس على مستوى الشعر الخليجي فقط، بل على مستوى العربي والعالمي أيضاً ... ومن خلال حضوره ومشاركاته الكثيفة، فهو شاعر يُشار إليه بالبنان، فمن خلال استخدامه لتقنياته الفنية وتوظيفها استطاع أن يشكل اتجاهاً جديداً للشعر البحريني.
ويعلق بوهندي هنا بقوله: ''نحن كأسرة للأدباء والكتاب نفتخر بإمكانات قاسم الشعرية، وأرى أن الإنسان أو القارئ الذي سيحاول الاقتراب من شعره ... سيحتاج إلى قراءة متأنية لمعرفة ما يدور في هذا المجال من خلال القراءات المكثفة لمثل هذا النوع من الشعر، ولو أن شعر قاسم كان غامضاً في بعضه للقارئ، لكن وصول القارئ في نهاية الأمر سيكون أكثر تأثيراً، والشعر الحديث بطبعه لا يمكن الوصول إلى معانيه والتعمق فيها بالصورة التي يريدها الشاعر تماماً، إلا أنه يكتفي بأن يترك بك تأثيراً للدخول في عالم القصيدة ويترك للقارئ التأويل، كما أن الشاعر من حقه الاستفادة من كل الأدوات الفنية المتاحة والتي يراها الشاعر مناسبة لخدمة القصيدة، وذلك لا يقتصر فقط على قاسم لوحده، وإنما لكل الشعراء الموجودين على ساحة الشعر الحديث''.
من جهته، يوضح الشاعر عبد الرحمن بن شاهين المضحكي أنه في صدد إعداد رسالة الدكتوراه يتناول فيها تجربة الشعر الحديث في شعر قاسم حداد، وحول ذلك يعلق قائلاً: ''إن الحديث عن قاسم حداد وتجربته الشعرية حديث يحتاج إلى صفحات، بل إلى مؤلفات لا تعد ولا تحصى ... لكي تفي هذا الشاعر المبدع حقه، فقاسم يعتبر من رواد الشعر الحديث في البحرين، بل في الوطن العربي بأسره، فمن خلال قراءتي لمجموعته الشعرية بجزأيها إضافة إلى الكتب والدواوين الشعرية التي صدرت بعدها، وجدت أن هذا الشاعر قد بلغ شأناً كبيراً في مجال الشعر الحديث محلقاً في فضائه معتلياً قمته، وعندما عقدت العزم على مواصلة الدراسات العليا وتحضير رسالة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث، فكرت في أن يكون الشاعر الذي سوف يكون موضوع البحث هو الشاعر قاسم حداد، حيث تتميز تجربته بعمقها وبغزارة إنتاجها، فحداد شاعر يتحدى بشعره المتلقي ... فهو يستفزه ولذلك هناك حاجة للناقد بأن يتصدى له، وأن يتعمق في ذلك الغموض الذي يكتنف قصائده ويفهم وفقاً لذلك الأشكال الجديدة للغة الشعرية الجديدة، فشعر قاسم حداد متعدد الأشكال الشعرية رغم اتحاد المضمون في بعض الأحيان، ولقد لجأ قاسم حداد إلى استخدام الغموض والرمز لكي يتميز ويخرج عن القاعدة''.

محمد حدادويضيف المضحكي: ''تبقى إزالة فكرة الغموض عند شعر قاسم حداد هي أسهل الطرق للوصول إليه وسبر أغواره، فالقاري لشعره يجد نفسه في خضم هائل من الأغراض الشعرية والمواضيع المختلفة والجمل الموسيقية واللغة الراقية، فيكتفي الناقد بأن يختار نموذجاً واحداً يشمل عمق التجربة لديه تكون كفيله بإلقاء الضوء على تنافر المعنى وليس تجاذبه، وأذكر قول سارتر في هذا (إن الكلمات والأشياء تقترب وتتجمع عند طريق التداعيات السحرية فهي كالأصوات والألوان تتجاذب وتتدافع وتحترق وتؤلف هذه التداعيات الوحدة الشعرية الحقيقية، إن هذه الأشياء في القصيدة تتجمع لتؤلف موضوعاً، ولكنه لا يخضع لأي منطق تعليمي أو سببي، وإنما منطقه الوحيد هو منطق التداعيات السحرية)، إن منطق سارتر ينفي حتى دخول الانفعالات بشكل سابق للعملية الشعرية ، أن الشاعر يدخل القصيدة عارياً من المعنى، فهل يفتقد الشاعر الالتزام في القصيدة؟ هل يملك هيكلاً سابقاً للمعنى؟ هل هو فعل إرادي أم غير إرادي ؟ فيجب وفقاً لذلك ولمن يرغب أن يدرس شعر قاسم حداد تحديد الملامح العامة في شعره''.
ويوضح المضحكي عن جملة من العناصر المهمة الواجب توفرها عند قراءة شعر قاسم حداد، وهي الأساطير ... فلا يخلو شعر قاسم حداد من الأساطير، فشعره يهيم في بحر منها والتي يتضمنها ويختزلها ويهدمها ومن ثم يعيد بناءها، العلاقات الثنائية... فيكاد شعر حداد لا يخلو من العلاقات الثنائية التي تشكل إحدى أهم العلامات المتضادة في شعره، التاريخ ... فشعر حداد لا يخلو من توظيف الأحداث التاريخية واستخدامها استخداماً يفيد المعنى الذي يرغب بتوضيحه، وأخيراً فإن الثقافة التي استسقى منها حداد تشمل بذاتها مصادر الثقافة القديمة والحديثة واستطاع أن يستفيد منها، وأن يوظفها في معجمه الشعري'' .
يشير الفنان التشكيلي إبراهيم بوسعد عن تجربته الخاصة مع الشاعر قاسم حداد قائلاً: '' قبل الحديث عن قاسم حداد الشاعر يجب الحديث عنه إنساناً، فقاسم يمتلك من الحس الإنساني والأخلاقي مما يجعله في مقدمة البشر''.
فعلاقتي معه ومعرفتي به قديمة. بقدم أحياء المحرق العريقة التي كنا نسكنها، حيث عشنا ظروفاً اجتماعية وبيئية متشابهة. لذلك أرى أن تجربة قاسم حداد الشعرية تمثل جيلاً بأكلمه ولها خصوصية إنسانية حميمة صادقة. فكثير من الحالات عندما أقرأ فيها أشعاره أشعر بأني أنا من كتب هذا الشعر. كما اعتبر حداد من التجارب الشعرية المهمة والمؤثرة على مستوى خارطة الشعر العربي المعاصر، والدليل على ذلك حضوره المتميز في المشهد الثقافي العربي''.

الشاعر الفنان

ويضيف :''أما عن تجربة (وجوه) فهي تجربة من أهم التجارب وأجملها، خاصة لمّا تكوّن مع مبدعين استثنائيين مثل قاسم حداد وخالد الشيخ''.
''وهذه التجربة أثبتت حس قاسم التشكيلي ورؤيته البصرية التشكيلية الثاقبة.
لقد ذكرت سابقاً أن قاسم من الشعراء القليلين الذين يمتلكون رؤية بصرية للمنتج التشكيلي والتعاطي معه بوعي إنساني متقدم''.
سأعطيك مثالاً:
في تجربة (وجوه) عندما أنجزت اللوحات وعلقتها في مرسمي اتصلت به لأعرض عليه المشاركة في التجربة، فجاء ورأى اللوحات وتحسسها، وقال: (كأنها جدران المحرق القديمة) وهذا شيء من الذاكرة بقي على مدى ثلاثة عقود تقريباً. وأتذكر أنه بقي في حالة صمت وذهول، وبعد نصف ساعة رفع سماعة الهاتف وقال: (اسمع : غابة أم بشر ..)
هذه الوجوه التي تؤرجح أحداقها في زجاج الفضاء بهجةً أو كدرا، وهذا مطلع النص، فلقد كتب قاسم أشعاراً حية على ضوء التجربة وأخرى من دواوينه السابقة التي تتقاطع مع التجربة، هذه الحالة لا يستطيع أن يقوم بها إلاّ شاعر متمرس وعلى علاقة وطيدة مع الفن التشكيلي. أما التجربة الثانية (إيقاظ الفراشة التي هناك)، فالنص هو البداية، فكانت لوحات صغيرة الحجم معبرة حاولت من خلالها استنزاف ذلك النص الجميل. لذلك لا أرى صعوبة في التعامل مع أشعار قاسم حداد لأنها قريبة إلى قلبي مثل صاحبها''.
''فالعمل مع بو محمد متعة .. متعة بلا حدود''.
''فقاسم حداد راية مرفوعة في جميع المحافل الثقافية العربية والعالمية، وقد شرف البحرين وشعبها. وكان من الأجدر أن يأخذ مكانته التي يستحقها هنا على أرضه لأنه أعطى الكثير وضحى بالكثير''. وهو القائل:
(أوزع أبنائي بين السم والعطش
ولا أنحني إلاّ للصلاة).
ولأنني أعرفه جيداً، فهو في نشوة دائمة باحتفاء الناس به وبتجربته، فشيء جميل أن تعيش بين أضلع البشر وفي قلوبهم. وأجزم لك باليقين أنه لايريد أكثر من ذلك''.

الشاعر أحمد الستراوي يتحدث عن حداد المبدع حديثاً شاعرياً إذ يقول: ''الحديث عن تجربة قاسم حداد هو نفسه الحديث عن تجربة الليل، والحديث عن تجربة الليل هو نفسه الحديث عن إبداع يشيع الصمت الفريد في حضرته، الصمت ذلك المخلوق الذي ما انفك يتحاور وقاسم بحميمية تجعل منه أكثر جمالاً، تُخرجه من نمطية الصنمية الجاهزة، وتعيده مخلوقاً بثوب الزمان والمكان، فالليل كما لو أنه الليل كله مقترح أعده قاسم لإلغاء العتمة منه، مراهناً عليه، فلا هو العدم المحض ولا هو اليقين البحت، صمت قاسم يؤطر خطابه للإنسان، يبتكر معاطفاً بمقاساتٍ تفوق تلك التي تعرّينا في ساعة الحاجة، يؤسس قوانينه ليتعدى الرؤى المثقلة بهاجس اليأس، يثبت الصراع الداخلي في الفرد من أجل إقامة الجسور بين الوعي بالذات وأحقيته وبين ضمور القوة الإنسانية، فلا هي متصلفة بالآخر، ولا هي منسلخة لأجله''.
ويؤكد الستراوي قائلاً:'' لم يقتصر قاسم على إبداعات شعرية ذات مقترحات أعدَّها لتكون ضمن سلسلة اقتراحات لسياق الشعر الحديث، وإنما تعدت إلى كتابات تعيد صياغة الوعي بالحركة النقدية ضمن إيقاعية المضمون للإنسان الذي غاب في ظل هيمنة اللاوعي بالإنسان، مفعلاً بالمفردة بشاعة الموقف الذي تنحدر منه هذه الرؤى الضاربة في العمق البشري منذ الإنسان الأول، حتى باتت وكأنها المرجعية الكبرى، فالدخول على تجربة تُعد فريدة في حضورها كتجربة قاسم تحتاج لنفَسٍ تمرديٍّ حتى على المسميات التي تأخذ بعداً أحادياً، لتُمنح سقفاً أرحب من حرية التعاطي معها. فقاسم امتلك زمام مفردة تمرّد بها على طبقة الصوت الواحد، وحقق بتأشيراته ضرورة الاختلاف ليخرج عن السائد من السطوة الثقافية التي تستعبد أكثر ما تستعبد أصحاب اللغة، يدرك تماماً ماذا تعني لديه المفردة، فهي سلاحه لنص يقوم عليها بصمته الفوضوي الذي يعيد تشكيل العجين بأكثر من جمالية، لا بوصفها عبثية، بل بوصفها تمرداً على أشكال ماضوية أكثر منها مفتوحة وهذا ما صدّره قاسم مع أمين صالح في موت الكورس، ولم تكن حداثة قاسم تمثل قطيعة أو تفتقد الرجوع للأصل كما وصفها البعض، إنما هي امتداد من السابق لرؤية اللاحق، فلا حداثة بلا ماضٍ يؤسّس عليها لتُتَجاوز بها. والاتصال بالماضي يشكل بعثاً جديداً دائم الاستمرار لا يؤجله طارئ''.
ويختم الستراوي حديثه بشهادة شعرية وإنسانية قائلاً: ''عرفت قاسم أكثر جمالاً حين سُئل عن الكتابة فأجاب: ليس لديّ فكرة واضحة عن مفهوم الكتابة كفعل إبداعي، لأنني كلما أكتب أكتشف تعريفاً جديداً ومختلفاً للكتابة. ربما تمثل الكتابة بالنسبة لي شكلاً من أشكال المعادل الموضوعي في داخلي، بحيث أشعر أنني قوي جداً، لأنني من دون الكتابة أشعر حقيقة أنني من أضعف الكائنات البشرية. وكلما تمر عليّ مدة من الزمن وأنا بعيد عن الكتابة أشعر بهشاشتي وضعفي وإمكانية اقتحامي. الكتابة باختصار شديد هي قلعتي الحصينة التي أدافع بها عن نفسي ومواقفي وكينونتي الأدبية.
وهذه شهادة أخرى يضيفها الشاعر علي الجلاوي في حق شاعرنا الكبير قاسم حداد حيث يقول:'' لقد قال لي التتان حين كان يتسلل صوته لقلبي ماذا ستقول عن قاسم، لا أعرف ماذا سأقول عنه، هل كانت الإجابة كافية، لكني كنت سأقول للسيدة التي عرفها قاسم: لماذا يموتون كلما حاولت أن أموت وحدي، وأفتقدهم كثيراً عندما تسقط زهرة من إحدى شُرَفِي؟ لماذا يغلقون خلفهم بهاء الغائب؟ نعم، لي غيابي الذي لا تغفره السنديانة، ولي حزنٌ يجرّني للرغبة بافتراع وحدتكِ، هل يشفع لي صدقي، لا يهم، لكني لا أطلب منك عتقي، أهيلي عليَّ الجسد، أهيلي ينتابني النضج في نوبة حزن. فمسائي حمامتان، كل مرةٍ أحاول فيها الخوخ إلى شجرته سالماً يسقط، أدركت متأخراً أنه نضج، فامشي بي أعدُّ عليكِ نجومكِ وتعدين عليَّ أخطائي، مازلتُ أتلقّفُ كتبكِ ووصاياكِ، وكلما خرجتُ من فخٍ سقطتُ في جسد، وخلفَ كلِّ سهوٍ ألفُ نصل، والقصيدة تضاعفُ لمن تشاءُ، لم أحرثكِ، فلماذا تصرِّينَ على أخذي بجريرة حبي عليك، ولم أملأ مياسمَ زهوكِ لتكيلي إليَّ بهاءك، اللهُ منكِ اللهُ، تعاتبني بدمها على قميصي، وأخبرها أن درَّاقَ جيراننا وبعض العصافيرِ في أصغرِ جيوبي، نعم .. أنا طفلكِ الذي أنكرته، وعشيقكِ الذي هجرته، وأباكِ الذي قتلته، فبأي ذنب تقابليني بنصلك؟، ولقد شففتُ لكِ وعليكِ حد التهمة''.
ويضيف ''حين تهش سيدة فادحة مثلك ينابيعها لصدري أحتاج لأكثر من فرح لأتأكد من أني لا أستطيع غلق نافذة أمامها، ومازلت أنتظرها في اليأس، تركتني أحادث نفسي بها، فالبارعون في الغياب يتأخرون في المجيء يا سيدتي، لنتألم بهم أكثر، أتدرين كم من الوقت مضى؟، لم تعد الأشجار التي أعرفها في نفس المكان، لقد خرجت من الحقل أكثر من مرة، ولكني مازلت أنتظر وصول شجرة الكستناء، يا سيدة الماء، أيتها الأنوثة، خففي غيابك عني، لست معتاداً على اليتم.
كم يشعرني فقدك بسماء أسقطت نجومها في البئر، ولم تعد ترتفع أكثر من حزنين كريمين''.
روحي تعبة، ولم أعد صالحا للعتب أو الحب أو الاشتياق/ لم أعد صالحاً للكفر أو الإيمان/ قلبي على بابك، يا بنفسج المنافي، يتها الفراشة المولعة بالنار والغربة، أي تراب يحمل خطواتك، وكلما عبرت خطواتك مسكت باب حقولي، خوفاً على أشجاري أن تتبعك.
أحس بالبرد في روحي .. اغفري ذهابي الآن، فقد وجدته على بابك، نعم كان قاسم هناك''.

******

ليس مجرد صديق

علي الشرقاوي
(البحربن)

علي الشرقاويقاسم حداد ليس مجرد صديق من أصدقاء الحياة
ليس مجرد واحد من أهم شعراء البحرين والوطن العربي، ليس مجرد رفيق درب، استبدلت معه زنازين بأخرى وسجوناً بحرية بسجونٍ برية، ولبسنا معاً الزنزانات الانفرادية، وتبادلنا معاً صور الحلم على شكل أوراق ورسائل وكتب ودراسات.
قاسم حداد بالنسبة لي أكثر من ذلك.
إنه قطعة من القلب وضوء يغمر بساتين الروح.
حينما أتكلم عنه كأنما أتكلم عن الجزء الآخر الصامت، أو الناطق في تجربتي الحياتية.
هكذا أراه هكذا أتصوره.
فتجربتي الشعرية والحياتية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتجربة قاسم، سواء كانت على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، سواء داخل سجون البحر أو سجون الحياة، سواء كنا في البحرين أو في الأسفار الكثيرة التي لبسناها مع الضلع من مثلث الحلم أمين صالح. لذلك لا يمكنني أن أتكلم عن تجربتي من دون أن يكون قاسم حداد حاضراً في هذه التجربة، تماماً مثل حرف الألف، الذي لا يمكن أن تكون هناك أبجدية بدونه، فهناك العديد من القصائد التي يحضر فيها قاسم كرفيق درب أو كاسم أو كصورة أو كرمز من الرموز الكثيرة التي تتخلل هذه القصائد.
في مدرسة الثانوية، ربما في أواخر الفصل الدراسي عام,1965 حينما كنت بشغف الباحث عن المعرفة، إذ أقرأ كل شيء، وخصوصاً في مجال الشعر، حيث كنت أمارس كتابة الشعر بصورة يومية، بالطبع لا يمكن أن نطلق عليه شعراً ، بقدر ما هو محاولات أولى لتلمس الطريق، قراءة الشعر كانت في تلك الفترة معتمدة على ما نأخذه في المدارس الابتدائية من شعر أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم، و في الإعدادية نتعرف على الشعراء الجاهليين ثم الأمويين وبعدها العباسيين، و صادفتنا بعض قصائد إيليا أبو ماضي والشاعر الكويتي أحمد السقاف، والشاعر السوداني محمد الفيتوري.
من هنا كان لقاؤنا بقصائد نزار قباني، في تصوري من المراحل الشعرية المهمة في تجاربنا اللاحقة، و كنا نحفظ العديد من القصائد و من أهمها: (خبز وحشيش وقمر)، والتي كانت تأخذ نصيب الأسد في محاولة تفسيرها الديني والسياسي والاجتماعي.
أما على مستوى البحرين، فلم نكن نرى إلا إبراهيم العريض كشاعر في الطريق أكثر من متابعتنا لتجربته الشعرية، وبعد ذلك تعرفنا على تجربة غازي القصيبي، وأحمد محمد آل خليفة ومهدي خزام.
في الثانوية، وبالصدفة قرأت وعبد الحميد القائد ، بجريدة الحائط المعلقة على أحد جدران المدرسة، قصيدة لقاسم حداد، أذكر مقطعاً منها الآن
الليل لا يخفي القمر
الليل قد يخفي جدار بيتنا
إلا القمر
سيظل قنديل الأزل
هذه القصيدة استوقفتني كثيراً، فلأول مرة في حياتي أشعر بوجود القمر، بهذه القدرة على إشاعة الضوء، لأول مرة أكتشف عذوبة رمز القمر، أكتشف أن الحرية لا تعني كتابة كلمة حرية، بقدر ما تعني أن يكون هناك معادلاً رمزياً لها!
ووجدت في قمر قاسم حداد، العديد من المفاتيح التي أدخلتني إلى بيوت الرموز المفتوحة على جملة من الاستعارات، فالقمر يعني الحرية ويعني السلام، ويعني الحب ويعني الدفْ ، ويعني علاقة السماء بالأرض، أخيراً يعني الدليل للسائرين في بحار الظلمة. لذلك أقول إنني من خلال قمر قاسم حداد عرفت أن الشعر يكون أكثر جمالاً وإشراقاً من خلال الرموز والاستعارات، عبر الضوء الذي أرسله لروحي هذا القمر القريب من قلبي، بدأت اكتشاف أقماري الخاصة.
بعد خروج الصديق الراحل عبد اللطيف راشد الغنيم من المعتقل عام ,1966 بدأت مرحلة جديدة من القراءة والاكتشاف، ومن خلال ما تعلمه في السجن، علمنا نحن التواقين إلى المعرفة على أسماء جديدة في فضاء الشعر العربي، أسماء لها دورها الكبير في رفد تجاربنا الشعرية والحياتية، بأنهار جديدة وطرية وطازجة من القصائد المعبّرة عن الأنين التواق إلى الحرية والعالم الأفضل، من خلال عبداللطيف راشد تعرفنا تجربة بدر شاكر السياب في أجمل تجاربه (أنشودة المطر) و(غريب على الخليج) وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، بالإضافة إلى تجربة محمود درويش، وسميح القاسم، وراشد حسين، وعبد الرحمن المعاودة في مجموعته الشعرية (لسان الحال)،
كنا نقرأ بنهم الراكض للتعلم من الآخرين، في هذه الفترة أيضاً بدأت الصحافة بالصدور بعد فترة توقف دامت لمدة عشر سنوات تقريباً، لذلك كانت جريدة الأضواء للراحل محمود المردي هي المنبر غير الرسمي للحركة الأدبية الشابة التي أخذت في التشكل من خلال قصائد على عبدالله خليفة وقاسم حداد، وغازي القصيبي، وعبدالرحمن رفيع، وعلوي الهاشمي، والكتابات القصصية لخلف أحمد خلف، ومحمد الماجد ومحمد عبدالملك، ثم الكتابات النقدية لمحمد جابر الأنصاري، ومحمد الماجد، وأحمد المناعي، وحسين الصباغ وحسن الجشي وبهية الجشي وغيرهم.
وإذا كان للأضواء الفضل في نشر التجارب الشعرية الأولى لقاسم وغيره من الشعراء، فإنها فتحت المجال واسعاً أمام أفكار فلسفات ونظريات أخرى أخذت تطرق مسامعنا، على سبيل وجوديو جون بول سارتر وسيمون ديفوار وكولن ويلسون، ثم بعدها الكتابات الماركسية التي فتحت لنا أبواباً جديدة للدخول في مناطق تجعلنا أكثر تركيزاً على فتح الأحداق لرؤية مناطق أبعد مما نرى في الواقع، وذلك من خلال المنهج الديالكتيكي الماركسي.
كان حداد في تلك الفترة يتألق يوماً بعد آخر، في قصائده ثم في نظراته النقدية، حيث كما أذكر أن رد على تحليل لعلوي الهاشمي لأحد قصائد نزار قباني، من زاوية جديدة مغايرة لما وصل إليه الهاشمي، وكنا نتابع هذه القراءات في الأضواء، بالإضافة إلى ما ينشر من قصائد ونناقشها فيما حسب رؤيتنا، وإمكانياتنا النقدية الأولية والبسيطة .
نهاية عام 1968 كنت أدرس في بغداد تخصصاً بعيداً عن عالم الشعر والأدب، وهو المختبر البشري، إلا أن علاقتي بالشاعر أحمد الشملان والكاتب راشد نجم، ساهمت في مد تجربتي الشعرية والحياتية بالكثير من الموارد الفكرية والنظرية، و من خلال الشملان الذي كانت تربطه علاقة قوية بحداد تعرفت على قاسم حداد، عبر الرسائل التي كان يتبادلها مع الشملان.
في إحدى رسائل حداد للشملان والتي كانت تحتوي على قصيدة (اللفافة الخمسون)، استوقفتني القصيدة والتي كان يكرر فيها الشاعر (وهذه اللفافة الخمسون)، فكتبت رداً عنيفاً على الشاعر، حيث اعتبرت ما يكتبه الشاعر يعد
ابتعاداً عن الهموم التي يجب عليه أن يتطرق إليها، وهي الهموم الوطنية، هموم الفقراء الذين يحلمون بالحياة الأكثر كرامة والأكثر إنسانية.
الظاهر إني كنت وأنا أكتب هذا الرد على قصيدة (اللفافة الخمسون) بكتاب ( دراسات في الشعر العربي الحديث) وفق النهج النقدي الديالكتيكي، للكاتب امطانيوس ميخائيل.
طبعا أرسلت الرسالة على عنوان حداد و لم أتلقَ الرد.
( الطريف أن حداد قد تلقى الرسالة بعد تخرجي من المعهد، و بعد مرور ثلاث سنوات على إرسالها، ليس عن طريق البريد، إنما عن طريق أحد الأشخاص، رأى اسم الشاعر قاسم حداد عليها، فسلمها لوالده في دكانه المعروف في سوق المحرق!)
بعد عودتي إلى البحرين في صيف 1969 بدأت علاقتي الشخصية تتشكل مع الشاعر قاسم حداد، وكانت غرفته الصغيرة الممتلئة الجدران بالكتب في بيتهم القديم (بفريج الحياج) مكاناً دافئاً بالكثير من القراءات الشعرية والقضايا الشعرية والسياسية والاجتماعية، مع هموم الأديب في مجتمع تقليدي مثل مجتمعنا، لم يتعرّف بعد إلى الثقافة المغايرة والمختلفة. ومن أجمل الذكريات التي لا يمكنني نسيانها هو عشاء البطاطس، الذي ما أن تحضر كمية منه إلا وتتلاقفها أيدي الشبان الجوعى الى المعرفة والأكل والحياة؛ ولأن أسرة الأدباء والكتاب في البحرين تشكلت أو تأسست في فترة غيابي، فقد انضممت لها في العام التالي مع كل يعقوب المحرقي وعبد الحميد القائد، لنمثل مجموعة متمردة أخرى تضاف إلى تجربة قاسم وخلف أحمد خلف، مشكلة حلقة صراع بين تجارب مختلفة و روى مغايرة، فابتعد كل من غازي القصيبي وحسين الصباغ عن الأسرة التي شكّلت بروحها الشابة بداية مرحلة الحركة الأدبية الشابة في البحرين، والتي اعتمدت على شعارها (الكلمة من أجل الإنسان).
بعد انتهاء دراستي في بغداد عام 1971 بدأت مرحلة جديدة من الصراع مع الأجهزة الأمنية في البحرين، وكانت علاقتي بالشاعر تزداد قوة ومتانة من الناحية الشعرية ومن الناحية السياسية، لذلك لم نكن نهتم كثيرا إن عدنا إلى الحورة سيراً على الأقدام بعد جلسة حوار ممتعة نقضيها في بيت قاسم حداد في شمال مدينة المحرق!
بيت حداد كان يمثل بالنسبة لنا، الصالون الأدبي غير الرسمي، فهناك كنا نناقش جميع القضايا السياسية والأدبية وقضايا أسرة الأدباء وقضايا مجلس الدولة قبل أن تتشكل في البحرين أي حكومة بمفهومها الذي نعرفه اليوم.
أعرف أن قاسم حداد قد ساهم مساهمة كبيرة في إيصال الصوت الشعري البحريني إلى خارج الحدود، من خلال مشاركاته العديدة في المهرجانات الشعرية والعربية، فقد كان حداد الأكثر تواصلاً، ومنذ بدايات السبعينات بالشعراء العرب على مساحة الخارطة العربية.
وأستطيع أن أقول إن قاسم حداد، و علوي الهاشمي بدراساته عن الشعر الحديث في البحرين، قد أوصلا وبشكل قوي ، صوت الحركة الشعرية في البحرين إلى أغلب الدول العربية من بيروت ومصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب وغيرها، إلى أن استطاع حداد أن يوصل صوته إلى المنابر الشعرية العالمية.

في عام 1972 شنّت الأجهزة الأمنية سلسلة من الاعتقالات، ولأن أسرة الأدباء والكتاب، بعناصرها وكتابها كانت تمثل قلقا للحكومة، لذلك دخل العديد من الأدباء إلى المعتقل، و في المعتقل التقينا قاسم حداد، وأنا ومجموعة من المثقفين السياسيين، من سجن القلعة إلى سجن جدة و من سجن سافرة إلى سجن جو، في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، حاولنا كأدباء أن نحوّل تجربة السجن و الإبعاد عن الأهل و الأحباب والوطن إلى تجربة مكتظة بالكثير من الأعمال الشعرية والأدبية المغايرة لما هو مطروح في الساحة الخليجية والساحة العربية، وبالفعل قمنا بكل ذلك.
في سجن سافرة عام 1977 كتبت وقاسم حداد قصيدة مشتركة، و لا أعرف إن كانت خرجت من السجن، أم مازالت هناك تنتظر الإفراج عنها في يوم من أيام هذا العالم!
تعلَّمت من قاسم حداد الكثير ومن هذا الكثير: عدم التوقف أمام صغائر الأمور، و الاعتماد على المخيلة في هدم العالم وإعادة صياغته بالكلمات، والمزيد من التوغل في المغاير والمجهول والمختلف وغير المطروق، والجسارة في دخول المغامرة والصعود بالصورة الشعرية إلى مناطق لم تصلها من قبل.
ما زلت أتعلم من قاسم الكثير أيضاً.

*****

اعرف نفسك

طارق النعمان
(مصر/البحرين)

في ''ورشة الأمل'' وفي ''أيقظتني الساحرة''، وكلاهما صادر في ,2004 يحاول قاسم لا أن يعرف نفسه فقط ولكن أيضاً أن يعرِّف بنفسه كما عرفها في هذين الكتابين وعبرهما، ومع ذلك فإنه لم ينزل النهر مرتين، ليس فقط لأنه حاول أن يعرفها عبر نوعين أدبيين مختلفين ولكن أيضاً لأنه قدم مجازين لسيرتين مختلفتين، سيرة حياة وسيرة إبداعية. لقد كانت الأولى سيرة مدينة هي مدينة المحرق التي يجدر بها أن تقيم تمثالاً لعاشقها الذي أيقنها، أو بعبارة أخرى، جعلها أيقونة في تاريخ المدن رغم صغر حجمها، وسيرة أخرى هي سيرة عشقه للقصيدة وللغة والكتابة اللائي صنع هو نفسه من خلالها جميعاً وعبرها جميعاً أيقونه خاصة له وأخرى خاصة بها. لقد كتبت المحرق ''قاسم''؛ ولذا كان عليه أن يكتبها، أو بالأحرى أن يعيد كتابتها، مثلما أن اللغة قد كتبت قاسم عبر تجلياتها النوعية المختلفة، فكان عليه وعليها أن يكتب كل منهما الآخر.
لن أقف في هذا المقام عند ''ورشة الأمل''، وإن كان لها مقام آخر يجدر بها وبمدينتها، ولكنني سأكتفي بالوقوف أمام ثريا الساحرة وبوابتها التي فرضت على قاسم الوقوف، مثلما فرضت على كثيرين سواه، إلا أن خصوصية قاسم تتمثل في أنه من دون سواه تلقى رسالة إيقافها وتوقيفها وتوفيقها فأدرك، مثلما أدرك النفرّى من قبل، أن ''الكون موقف'' فقرر ترجمة الرسالة أو بالأحرى ترجمة المسافة وعلاجها.
في دراسة سابقة لي وصفت اللغة بأنها ''حكاية إطار لا يعرف لها إطار وبأنها راوٍ عليم بكل شيء، إلا أنه في الوقت ذاته كتوم ولا يخبرنا بمصادره، مثل أم لا يعرف أبناؤها آباءهم من كثرة ما تتضارب حكاياتها عنهم، هكذا تبدو اللغة ويبدو أنها ستظل لغزاً لأم لعوب منحت أبناءها الحياة وتأبي أن يملكوها، إذ إن سرها لها وستحكي ما تشاء لمن تشاء لكن في أوقات لا تعرفها ولا يعرفها المحكي له. سيظل سرها لها ولمن تعشق بعض من حكاياها، ليست لأنها كذوب أو ضنين وإنما فقط لأنها إنسانية وتحظى بعطايا النسيان....''.
لماذا إذاً أراد قاسم أن يدون حكاية المحرق وحكاية اللغة، ربما لأنه أدرك أنه اقترب من أن يكون لغة تحظى بعطايا النسيان، فأراد أن يسجل حكاية أمومة المدينة واللغة أو أمومته للمدينة واللغة، حيث أدرك عبر المدينة أن''الكلام في الناس'' وليس في الكتب ومن ثم أن اللغة مدينة، ومدينة للمدينة، مثلما أن المدينة مدينة للغة بكلا المعنيين.
مثلما قد يكون أدرك أن المدينة لغة حارقة مثل المحرق بكل تعدد وتنوع لغاته، إلا أنها كانت بمثابة الجنة لأنها كانت دائماً قادرة على ترجمة وعلاج المسافة، مثلما كان قادراً على ترجمة الليل لكل الوجوه، أو ليلية الوجوه ووجوه الليل.
حقيقة لا أعرف من أين أبدأ مع الساحرة، لأنني إزاء ساحر تلاعب بالمدينة وباللغة وبكل ما فيهما من أشكال ووجوه، وصهرهما في بوتقة واحدة. إذ رغم أنه حاول أن يترجم المسافة في ''ورشة الأمل'' أبى أن يكلمهم إلا رمزاً مع الساحرة، لكن لماذا؟ يبدو وكأنه كان اقتراح الساحرة، إذ قالت له ''لا تكلمهم إلا رمزاً ففي ذلك نعمة لهم ورحمة عليك''. هكذا يبدأ عنوان ديوان قاسم:
(أيقظتني الساحرة)
''لا تكلمهم إلا رمزاً
ففي ذلك نعمة لهم ورحمة عليك''
العنوان العريض للديوان هو ''أيقظتني الساحرة''، أما العنوان الفرعي فهو ''لا تكلمهم إلا رمزاً ففي ذلك نعمة لهم و رحمة عليك'' وهو موضوع بين معقوفين، مع ملاحظة أن العنوان العريض مكتوب ببنط عريض والعنوان الفرعي مكتوب بنبط أصغر كثيراً، ناهينا عن أن العنوان الفرعي هو النص الخامس عشر من نصوص الديوان السبعة وخمسين وهي نصوص تتميز بالتكثيف والإيجاز إلا فيما ندر جداً.
وإذا كان العنوان هو الثريا، أوهو المصباح المدلَّى على مدخل البيت، فلا بد أن نتوقف إزاءه.
يحيلنا العنوان عبر جملة ''أيقظتني الساحرة'' على حالة هي حالة النوم وفعل هو فعل الإيقاظ وفاعل استثنائي أو فاعلة استثنائية هي الساحرة، هذا أول ما يحيل عليه العنوان، أما العنوان الفرعي فيحيلنا وينقلنا من هذا السياق الاستثنائي إلى وصية أو إلى صيغة الوصية التحذيرية القائمة على النهي والتقرير، ''لا تكلمهم إلا رمزاً ففي ذلك نعمة لهم ورحمة عليك''، وهو ما يصبح، إذا ما لعبنا لعبة التأويل أو ترجمة المسافة، كلمهم رمزاً وإلا شقوا وشقيت معهم وبهم، أو إذا تكلمت بالحقيقة نقموا عليك وانتقموا منك، أو كلمهم رمزاً ليسعدوا وتسعد، إلى آخر ألعاب التأويل والترجمة الممكنين، وهي أكثر مما ذكرت.
إن أول ما يشي به هذا هو إما أننا إزاء قارئ لا يفهم الرمز ومن ثم إن أردت أن تقول ما لا يقبله فعليك أن تقول ما لا يفهمه؛ لأنه قارئ جاحظ العينين ونقيض اسم القارئ، أي قارئ متربص لا بد من قمعه بالرمز على حد ما فعل الجاحظ في أحد كتبه، أو إننا إزاء قارئ مشتهي يفهم الرمز ولا يقبل بسواه.
أتصور أننا إزاء القارئين معاً وأن النص مكتوب لكلا القارئين، ولكن كيف؟ ربما لهذا قصة أخرى.

*****

الواحدُ في كثرته، المتكثِّرُ في وحدته.

إنه قاسم حداد..... تقريبًا

فاطمة ناعوت
(مصر)

في ديوانه أو في مواقفه الصوفية "أيقظتني الساحرة" يغيّب قاسم حداد صوتَ الأنا لصالح حضور صوتِ المخاطِب الأعلى، ال "هي"، المرأةُ. الأنثى. حيث الأنثى في بعض فلسفة الإنسان وفي بعض كهنوته هي صوت الله. أليست "الأنثوية" بالمعنى الفلسفي هي الانتصار لقيم الخير والعدل والجمال في الحياة؟ نجد الشاعرَ واقفًا بين يديها، صامتًا معظم الوقت، ملبيًّا طوال الوقت، إلا قليلا. ما يذكرنا بمواقف النفريّ الكبرى في حضرة الذات العليا. وكيف لا يصمت وهو في حضرة الجمال المطلق، الذي سمّاه الشاعرُ الجنيّة الزرقاء أو الساحرة! والمرأة في جوهرها المطلق هي ساحرةٌ بمعنى من المعاني. كلُّ امرأة. أليست تحاكي الله في الخلق، إذ ينشقٌّ جسدُها عن روح أخرى، كائن آخر، ثم هي تمتلك، شأن كل خالق، مقوّمات حياته كاملةً في جسدها حتى يشب؟
تقول له ساحرته :

"لا أراك بالفيزياء/
ولا أعوّل على البصر لكي أتيقنَ أنك هنا/
ولا يحولُ علمُهم دون رؤيتي إليك/
في زهرة الوقت/
أو في حديقة المكان."

أليست هي الكائن الفوقيّ الأعلى المتجاوز سلطةَ قانون الطبيعة والحواس والزمن؟ هي الإلهة السرمدية التي ستقول له بعدما توقفه في ورقة بيضاء ثم ترسم له كوخًا وشجرة:

"... اذهبُ في التأويل لكي أقرأ لك الآية/
ففي كل بياض أضعُ فيه رسمًا تدب الحياة/
ويتدفق الأطفالُ حول الشجرة/.../
اذهب في التأويل وارجع لي/
تعرف باب الكلام/
وبيت المعنى."

سوى أن شاعرنا الصموت سوف يخرج عن صمته حينًا، فيحاججها قوةً بقوة. قوةٌ بشرية إزاء قوةٍ عُلوية. شأن العابد في الصلاة. فيحكي لها عن قانون الكائن البشريّ الذي صنعه كاستجابة لحاجاته الوجودية. يحكي الإنسانُ للكائن العلوي، الذي ما مسَّت قدماه الأرضَ، عن الأرضِ وفنونها التي ابتكرها بنو البشر في تجليّات لعبهم وجنونهم فيقول:

"لا تصدقي أن للحب تخومًا غير الجنون/
ولا تصدقي أن نبيًّا يقدر على شهوة الحلم/ ..."
فتغريه بملكوتها القدسي وتلوحّ له بالفردوس إذ توقفه في جنة الحلم وتقول:
"تحلُم في حُلمك بسلال مكتنزة بالقناديل/
فلا تخرج من النوم وحدك/
هات الأحلام معك/
يجن جنونهم في حضرة الحلم/
وتصاب بالحب فتبرأ."

سوى أن تلك الإلهة التي تمتلك مقومات السطوة الكبرى بوصفها خالقًا للحياة، لن يعوزها جمالُ الضعفِ حينا من الأحيان، الضعف النبيل، ضعف المحِّبِ أمام من يحب. فنجد في موقف "التجربة" ما يذكرنا بتجربة المسيح في البرية حين خضع لاختبارات ثلاثة إذ حاول الشيطان إغواءه فقال له: لا تجربني.
تبرح الإلهةُ العلوية عرشها في لحظة الحلول والتوحد مع الحبيب الأرضيّ لتجرّب نبالةَ الضعفِ ودعةَ الاستكانة فتقول له:

"لا أطلع إلا في ليل/
ولا أصعد إلا إلى عرش/
ولا أقف إلا على حق/
ولا أتبدى إلا لنبي/
ولا أشهد إلا على حب/
ولا أذهب إلا لعرس/
ولا أقرأ إلا آيتك/
ولا أعرف إلا اسمك/
ولا ألبس إلا لك/
ولا أخلع إلا معك/
ولا افرح إلا بك/
ولا أحزن إلا عليك/
ولا أسمع إلا صوتك/
ولا أكتب إلا بوحك/
ولا أفهم إلا نصك/
ولا أدخل إلا بيتك/
ولا أنام إلا في تختك/
ولا يدفئني إلا زندك/
ولا تسكرني إلا كأسك/
ولا يوقظ فراشتي إلاك/
ولا يأخذني سواك/
لا شريك لك فيَّ."

هكذا تتوحد الإلهة الأنثى. يتوحد شِقّاها العُلويّ والبشريّ، السمائي والأرض، في لحظة الحب. تستبدل بطبيعتها الربانية طبيعةً أخرى بشرية كي تحِلَّ في حبيبها الشاعر ابن الأرض. لكن أيُّ شاعر هو الذي اكتملت من أجله؟ فشاعرنا ليس واحدا بل هو اثنان. يقول قاسم حداد عن نفسه: "أضع المرآة على الطاولة. أحملق، وأتساءل: من يكون هذا الشخص؟ أكاد لا أعرفه. أستعين بالمزيد من المرايا. وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي، فأتخيّل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد.. تقريبا." الإنسانُ فيه مرزوء بقرينه الآخر، نصفه الشاعر، المجنون العابث المشاكس الذي يقضُّ مضجعه ويسقيه ويلات النزق. يفرُّ من صحبته ويختفي أيامًا لا يعرف أيَّ منقلب ضمَّه حتى يكاد يطمئن أنه أخيرًا تخلّص منه، فإذا به يباغته ممسكا بكتاب جديد خَطّه في سفرته، ثم يروح يتودد إليه حتى يطلعه على قصيده الأخير. فأيُّ شقٍّ من هاذين الكائنين اكتملت من أجله الربّةُ الساحرة؟ بظني أنه الشقُّ المتعِب، الشاعر، ذو الرعونة والجنون والنزق. إذ ما الذي يغري ربّةً في إنسان من صنعها؟ لابد من نديّة وتكافؤ إذا ما تعلّق الأمر بالعشق. والجنون الشعريُّ ندٌّ لنزق الآلهة، لأن الجنون تمرّد على القار المطمئن مما تعارف عليه الجمع، وفعل الألوهة في ذاته هو تمرّدٌ على العدم والسكون والدعة. لذلك لن نندهش حين يشاكسها بقولته الفذّة:

"لا تصدقي أن زهرةَ عباد الشمس/
موجودةٌ قبل فان جوخ."

وكأنه يحاول أن يضرب ألوهتها في مقتل انتصارًا لفكرة لفن، بوصفه الخالق الأوحد، ذاك أن الفنان الهولندي هو ربُّ الزهرة وصانعها الأول، وما قبله كان محض محاكاة ساذجة من الطبيعة لما سوف يرسمه الفنان فيما بعد! الله عليك يا قاسم! وطبيعيٌّ في هذا المقام أن تتوقف الأنثى العلوية عند تعدد صاحبها وتشظيه عبر أكثر من كينونة فتقول له في موقف عدد:

"يحصونك في كثير:/
واحد في الظاهر/
واثنان في الباطن/
يتناوب عليك الحرف والخط/...".

سوى أن القارئ سوف يتوقف عند دلالة لغوية بالغة الأهمية خلال تطوافه بين تضاعيف تلك المواقف. فكل المواقف أو القصائد تبدأ بالكلمة المفتاح الشهيرة "أوقفتني"، عدا موقفا واحدا فقط بدأ على نحو مغاير إذ يضيف الشاعر حرف "الفاء" فتغدو "فأوقفتني"، وذلك في موقف "الفقد": "فأوقفتني في الفقد وقالت:/اعلمْ أنها ستأخذك إلى المجرات/واعلمْ أنك لن تعود/واعلمْ أن عشقًا كهذا لا يصادفه الشخصُ مرتين./صديقك قلبُك فاتبعه/لا تسأله ولا تعصه."
لماذا زيدت "الفاء" هنا؟ كأن شيئا ما أو قولا ما أو فعلا ما قد سبقها، كأنها استمرارٌ وتالٍ ونتيجة لفكرة سبقتها، كأن الفقدَ هو الصيرورة الأخيرة وجواب الشرط لفعل الوجود. كأن الفقدَ هو المنتهى. سوى أن تلك المواقف التي يقفها الشاعر العاشق بين يدي أنثاه العلوية سوف يُعاد تأويلها لدى القارئ على أنحاء مغايرة مع القراءة الثانية والثالثة، شأنها شأن كل قطعة من الفن الجميل حين يعاد كشف مناطقَ جديدةٍ للجمال مع كل قراءة وعند كل دخول. إذ سيكتشف القارئ أن تلك الربّة لم تكن سوى الكتابة، أو هي نارُ الشعر ذاته. إذ في اللحظات القليلة التي يخرج فيها الشاعر عن صمته سيقول:

"قلت أيتها النار العاشقة/
يا قصعة اللغة وفهرس الجحيم/
آن للروح أن تشتهي/أن تذوب/
آن وقت للهبوب/
أيتها النار/
لا يخرج حرف من أبجدية /
إلا مطيّبًا بزعفران دعكته أصابعي/
ليست الحروف/
إنها حناء الشهوة/
في الغرّة والعروة وشغف العشق/
وليست اللغة إلا هي/
الجمرة، الجمرة في مهب الحروف."

ولأنها اللغةُ والحرفُ وماءُ الشِّعر والإبداع، فيجوز لها أن تتدلل شأن كل حبيبٍ عرف مكانه فتدلل، فتوقفه في بابها وتقول له: "إذا طرقت لن أفتح/وإذا فتحت لن تدخل/وإذا دخلت لن تصل/وإذا وصلت لن تعرف/وإذا عرفت لن تدرك/وإذا أدركت لن تنال/وإذا نلت لن أكون." سوى أنها، الجنية الزرقاء الساحرة، سوف تنادي على حبيبها حين يعتمرها القلق من فقدانه إذ تأخر عليها وغاب عن ديارها، فتوقفه في نهاية الطريق وتجهش به متوسلة أن يعود إليها:

"استحلفك بالنجوم/..../
استحلفك بالبكاء الجميل الذي بكيته على كتفك/...../
أستحلفك بالتهدج/
...أستحلف كَ/
لا تذهب عني/
لا تذهب عني."

إنه نداءُ الحرفِ للشاعر.

*****

إنسان حر لم أعش تجربته

خالد الشيخ
(البحرين)

خالد الشيخاشعر بأني أعرف قاسم حداد منذ يوم مولدي حتى قبل أن ألتقيه، ولكني بدأت أتعرف عليه فعليا في دولة الكويت أثناء دراستي الجامعية في أواخر السبعينات. فقد شعرت بأني منجذب له من خلال كتاباته و رؤية الآخرين له حيث كان ينتقد لشعره ولفكره. فنصوصه كانت تثير الكثير من الانتقادات والاتهام بأنها غامضة ومشوشة خصوصا لدى مجموعة الطلبة التي كانت تعتنق فكر سياسي يطالب بضرورة أن يكون الفن من أجل الجماهير، في حين كانت نصوص قاسم تنتمي لمدرسة الفن للفن و كان في نصوصه كاسرا للحدود والحواجز والأسقف.

وتجربتي مع تلحين نصوصه بدأت قبل أن ألتقية شخصيا فقد قمت بتلحين قصيدة باسم إلى س الذي يذكر فيها:

إلى س
قال لي
وانثنى
عبرت جميع المقابر
امشي وراء الضحايا أنا
وعندما عدت إلى البحرين تعرفت عليه شخصيا، ثم قمت بتلحين مجموعة نصوص من ديوان قلب الحب في بداية الثمانينات و اذكر أن احدها تحتوي عبارة : كلهم قالوا ولكن أن لا فائدة، فعندما ناقشت قاسم في العبارة ذكر لي بأنه لم يحب مفردة فائدة فيها وبأنه لا يعرف كيف كتبها ولم تعجبه هذه المفردة لما فيها من إشارة إلى بنوك واستثمار.
كما إن لي تجربة مشتركة مع قاسم حداد ومع المخرج عبد الله يوسف لنص ديوان يمشي مخفورا بالوعول، عبارة عن مقطوعات موسيقية من تأليفي على آلة البيانو ومقاطع غنائية بصوتي ترافق قراءة عبد الله يوسف للنص، ولكنها لم تخرج للنور كما إني لا امتلك أي تسجيلا لها ولا أعلم حتى الآن أين ذهبت تسجيلات هذه التجربة.

وبعدها توطدت علاقتي الشخصية بقاسم أصبح يمثل لي مرجعا مهما، فقد كنت أتحاور معه في الكثير من الموضوعات الثقافية، والسياسية، والفكرية، كما كنت أتناقش معه حول تجربة مؤلفي الكتب التي أقرأها، و كان نقاشي معه يتيح لي فرصا للتعرف على الكثير من الكتاب والمفكرين. وقد كان قاسم ومازال دائما متابع مهم لتجربتي الفنية لطالما اعتمدت عليه كثيرا ومازلت في نقد ها فهو ناقد سليط اللسان وحاد.

لوجوه النار.. الحصار.. لا للفشل
بهدوء اقتحم وجوه الآخر.. فكانت غربته والدهشة جمرته الخفية.. بصمته.. لست البريء منها أبداً.. كل الوجوه..التي أخذت استداراتها بلا منازع.. الريشة.. الكلمة..الصوت.. الصدى.. هل بقى من حضور الآخر غير نتف.. تتوازى وتصفر مع الريح.. بين أوتار العود.. ودف الكمنجة.. في أياويد الزمن الغائبين.. وفي نيرانه الملتهبة.. أهي النبض .. أهي استكانة الخوف .. الهزيع الأخير .. الوجوه التي تطايرت أبوابها ..
أفصلُ عمل وجوه عن أي عمل قمت به، صحيح، أنه في الأخير موسيقى، ووضعنا فيه غير متساوي، لكن الموسيقى هي الفن الوحيد الذي تقاطعت معه الفنون الأخرى. وجوه هي بالضبط .. هي ما وراء الحدود التي وصلتُ لها، كان قاسم حداد دائماً وراء الحدود في كتاباته وحياته وكل ما يشكله، يكفي إنه بدأ مشروعه بكلمة (لا للفشل): "لا" التي..كان يخافها قاسم، لم تكن ستصدر مني لو صدرت، لأنني لم أكن أريد أن انخرط في المشروع أو أنني لم أكن أعرف كيف اشتغل. لكنها لو صدرت فإنها ستكون من منطلق أنني لا اعرف كيفية الاشتغال بحرية. حقيقة أنا لم أتعود ذلك. كنت أتقن ممارسة مهامي من خلال نصوص مقيدة ومحددة أمامي.. يوضع أمامي نص موزون ومقفى في العادة. شغل بهذه المواصفات " أدوس فيه على طول وأطلع لك من مخبأي مليون لحن " لكن انك تعطيني نصا مثل نصوص قاسم وتطلب متى أن أجرب فهنا الخطورة، لأنني لا اعرف كيف أمارس حريتي ولذلك لاحظ الشباب أنني منذ البداية كنت محتاجا إلى " دقة وراء دقة "، وفي منتصف العكوف على العمل بدأت استمتع أكثر لأنني اكتشفت أن هذه الحرية تفسح أمامي في الإمكانيات على نحو يجعلني استعيد كلام النص بلحن جديد في كل مرة.
عندما جاءني النص و شاهدتُ اللوحات في مرسمها، أيقنتُ أن هذا العمل بحاجة إلى مؤلف موسيقى، وليس بالضرورة أكاديمي من حملة الشهادات، لكن من المحتم لديه إمكانية الخلق، والإجابة على الكيف (كيف يعمل موسيقى؟)، من غير كلام. تجربتي مع الكلمة غنائية وإن كنت دائماً ما اشتغلت ضد الكلام، لكنني أميل دوماً للصورة الذهنية أكثر منها المجردة التي تقدمها الموسيقى من غير كلام، آخذاً في اعتباري الصور الذهنية لشعر قاسم حداد غير الموجودة في الذاكرة، وجوه هي لغة جديدة، من البساطة تلبيس اللحن والموسيقى عليها، لكن المبتغى كان في خلق موسيقى من خلف ذاك النص، أن تنزع النص فتبقى لك الموسيقى، هذا هو عملي التأليفي الذي مارسته في الوجوه، فكانت عملاً لما وراء الحدود التي وصلتها والتي دائماً ما أطلق الحداد عليها "حدود المجهول..الجميل..غير المعروف"، لم أعرفه من قبل، إلا مع قاسم حداد، عندما انتهينا من العمل وسمعناه، تذكرت قول أحدهم (الله من قام بهذا العمل..) لحظتها كنتُ وصلت للمنطقة التي لا يوفرها الواقع، هي مرحلة اللاعودة للأنا ..أللا ارتباط بالواقع، الانتقال أو الانتشاء .. الصوفية .. التجلي، التوحد بعيداً عن الشعور بالواقع المعروف.
أتدركون..تجربة قاسم حداد الحياتية العريضة في الوطن، أو في العالم، كشفت لي عن إنسان آخر أنا لم أعشه، عن حلم التعرف على ذلك الإنسان، الحر من الأشياء، فما أمامك من نص لا يفرض عليك شيء..لا يقترح، لا يثقل على كاهلك، تستطيع قرأته كيفما تشاء .. أعلى إلى أسفل .. من أسفل إلى الأعلى، أي الطرق التي ترتئيها، هذا هو قاسم .. نص كل الوجوه الصغيرة التي عرفها واحداً.واحداً...، متعة الموسيقيين الذين تشاركوا في هذا العمل هي انعدام معرفتهم بالموضوع، عندما أسمع وجوه مراراً يصيبني الذهول، أنا لا أصدق أنني ساهمت بهذا العمل لماذا؟ لماذا؟ .. هل تدركون شيئاً .. اللغة العربية لها قدسيتها، تثير في الذاكرة في الذهن حالة من الانتشاء، تأخذك للمنطقة التي تبتغيها الموسيقى والكلمة، التي لا يوفرها أي فن من الفنون الأخرى، هي ذي المساحة التي لا يمتلك المرء فيها من الإمساك بذاته.،
أهم ما يميز وجوه بنظري هو أننا كلما توغلنا فيه كلما ازدادت حريتنا.
نصوص قاسم حداد ساعدتني كثيرا كما إنها أدخلتني في تحد كبير لأنني ضد عبودية النص وأحلى ما في التجربة أن قاسم حداد أضاف لي الكثير موسيقيا وجعلني أحس بطعم الحرية في ممارسة العمل الفني.

وبعد تجربة وجوه التقيت قاسم في تجربة ثانية من خلال وضع موسيقى لنص مسرحية أخبار المجنون الذي أخرجها الصديق خالد الرويعي عام2005م ، وهو من وجهة نظري عمل يعتمد على التقليدية في التناول الموسيقي للنصوص ، من حيث الوضوح و الاعتماد على تكثيف الجو الدرامي و توظيف الكورال والأصوات الفردية ، ولكن استطاع محمد حداد أن يقدمها بطعم موسيقي جميل ومميز ، وهو يعمل حاليا على إعادة تنفيذ هذه الأعمال لكي أقدمها بشكل أفضل مما قدمت به في المسرحية وذلك ضمن أعمال ألبومي القادم للعام 2007م.

15 مارس 2006م

*****

نظراته منحتني شهادة نجاحي

هدى عبدالله
(البحرين)

هدى عبداللهللأسف الجهات الإعلامية والثقافية في البحرين لا تعطي أي اعتبار لأي مبدع بحريني كقاسم حداد الذي أعتبره من أفضل مبدعينا المظلومين، فقاسم إنسان متميز جداً ومرهف الأحاسيس وراقٍ في صياغة كلماته، فهو مدرسة بحد ذاته في كتاباته التي يجب على الدولة لدينا أن تتبناها وتضع لها اعتباراً من خلال إدراجها ضمن مناهجها التعليمية، لما تتميز به من حداثة وتصور مستقبلي لوعي الإنسان. وصحيح بأن نصوصه تعتمد على الرمز كثيراً، ولكن هذا الرمز يفتح أفاقاً وأبعاداً، بحيث يترك المجال للقارئ لكي يصوغ من مفرداته أشكالاً من الخيال وهذا ما يحتاجه الجيل الحاضر لكي يستطيع التعبير بعدة أشكال .

''وأتذكر الآن كيف كنا ضمن فرقة أجراس نسمع به دائماً ونشعر بتميزه، ولكننا لاختلافنا معه في التوجه الذي يطرحه في أعماله حيث إنه ينتمي لمدرسة الفن للفن في حين إننا في فرقة أجراس كنا نؤمن بأن الفن هو للحياة لم نقدم لحناً لنصوصه، كما أن مهمة اختيار النصوص المرشحة للفرقة من قبل بعض الأعضاء كسلمان وخليفة زيمان ومحمد باقر وعبدالوهاب وإبراهيم علي تمركزت على القصيدة المباشرة والمتعلقة بموضوعات شعر المقاومة الفلسطينية، وكنت في تلك الفترة في بداية تعاملي مع القصيدة فلم يكن لدي علم بما ينتج من قصائد في الساحة المحلية، وكنت من خلال قراءتي لما ينشره قاسم عبر الصحافة أجد صعوبة في فهم نصوصه وكنت أشعر حينذاك بأنها فوق مستوى فهمي.

وفي بداية الثمانينات ومع بداية مشاركتي الفعلية في تأسيس فرقة أجراس أصبحت أهتم بضرورة الاطلاع على القصائد العربية ومتابعة ما يكتبه شعراء البحرين من نصوص وتجارب، وبدأت في متابعة نصوص قاسم حداد وكانت لدي رغبة شديدة وأمنية لغناء نص من أعماله الذي أرى بأنها بحاجة لتحدٍ لمن يتصدى لتلحينها وغنائها.
وفي العام 1997م تشرفت بأن عرض عليَّ الأستاذ خالد الشيخ فكرة مشاركته غناء عمل وجوه، فعندما عرض علي نصوص عمل وجوه انبهرت وسألت الفنان خالد الشيخ كيف استطاع تلحينها، لكنه قدم لي النصوص وقام بتوضيح فكرة العمل وأخبرني بأنه يرى بأنني أستطيع تقديم شيء مميز من خلالها، وطلب مني التفكير لاتخاذ قرار المشاركة في العمل أو عدمه. ونظراً لقناعتي وثقتي الكبيرة بتجربة خالد الشيخ لما تميز به من أعمال، ولما عرف عنه من رغبته الدائمة في تقديم تجارب متنوعة وجريئة وبأنه مجازف لا يعبأ بردود أفعال الناس على ما يقوم به، وافقت على المشاركة في تجربة وجوه، فبمجرد سماعي لبداية العمل أخبرته بأنني على استعداد لخوض هذه المغامرة معه، لأنني أحب أن أدخل في مثل هذا النوع من التجارب التي تتميز عن المألوف، وتعتبر تحدياً وامتحاناً لجميع من يتعامل معها. وفعلاً كانت التجربة كما توقعتها بأنها تجربة مميزة ونادرة، ومن خلال وجوه استطعت أن أتعرف أكثر على تجربة قاسم حداد، فهو والفنان خالد الشيخ منحاني الفرصة لأقدم عمل أعتبره بصمة في تجربتي وثروة أتباهى بها دائماً، وأتمنى أن يطلع عليها الناس بشكل أكبر، فلذلك فأنا أعتبر بأن ما يقوم به الفنان خالد الشيخ من تقديم أعمال من وجوه ضمن ألبوماته هو دليل على ما يمتاز به من ذكاء وحرص على توثيق تجربته وتقديمها بشكل موسيقي أفضل مما قدمت به سابقاً، كما أنه بذلك استطاع نشر التجربة لقطاع أكبر من الناس في العالم.
والآن أتذكر أول لقاء شخصي لي مع قاسم حداد وكيف حدث في أثناء تسجيل العمل في الأستوديو، وقد أحببت شخصيته فهو من الأشخاص قليلي الكلام بحيث يقدم لك ما يريده عبر كلمة أو اثنتين، وأذكر بأنني كنت حاملاً في أثناء التسجيل لأعمال وجوه، وطلبت منه بأن يختار لي اسما لابني القادم فقال لي: ''لا تحتاري .. كل طفل يجيء واسمه معه''، كما كان يوجه لي أحياناً ملاحظات تتعلق بكيفية تشكيل الكلمات والتعبير عن المفردة، فقد حضر معنا أغلب أوقات التسجيل، وكنت أحرص على أن أركز على عينيه لكي أرى فيهما علامات الرضا والقبول بما أقدمه، وقد كان لوجوده معنا دافعاً قوياً أشعرنا بمدى اهتمامه بنا، كما حفزنا لكي نؤدي العمل بتعبير عالٍ وصدق شديد. ومازلت أتذكر نظراته وإعجابه وهو يستمع لأدائي لعدة مقاطع من وجوه ومنه مقطع'' الهزيع الأخير'' والآهات التي أضفتها أثناء أدائه.
وأتصور أن اختيار قاسم لتمثيل البحرين في أي محفل سواء كان مهرجان ربيع الثقافة أو غيره هو اختيار موفق لأنه يمثل الجانب المشرف من ثقافة البحرين الحديثة الذي نفتخر كبحرينيين بأن يمثلنا أمام ضيوف البحرين، وأتمنى أن يكون متواجداً دائماً في جميع المحافل الثقافية العالمية.

*****

قاسم حداد وإبراهيم بوسعد وخالد الشيخ

وجوه أبدعت (وجوه)

أسامة الرحيمي
(مصر/البحرين)

غابة!
أم بشر؟!
هذي الوجوه التي تؤرجح أحداقها في زجاج الفضاء
بهجة!
أم كدر؟!

أربكتني أسئلة ''قاسم حداد'' هذه حين سمعتها مؤخراً ، وأثارت علامات استفهام حائرة في نفسي ، لأنه ببساطة وعمق المبدعين الكبار لامس المشترك الإنساني لدى سائر الناس . فكل من اشتبك وعيه مع الحياة ، أو ضاق صدره بها -باختلاف الأسباب- قد يردد هذه الأسئلة بعفوية وإن لم تكن بذات عذوبة قاسم حداد:
غابة
أم بشر؟!
فاجأتني تجربة ''وجوه'' كلها ، وليس ذنبي أنني رأيتها وسمعتها متأخراً تسع سنوات ، وعزائي أنها تحوي تجدّدها بداخلها، وضمنت لنفسها الحيوية والخلود لسبب بسيط : الصدق!.
أعرف ''خالد الشيخ'' ويعجبني صوته منذ بداياته تقريباً، لكنني لم أكن أدرك أبعاد تجربته، ولا ثقافته، ولا حساسيته الفنية ولم أتصور أن موسيقاه يمكنها التعاطي مع هذا النوع من الشعر، ''فقاسم حداد'' لم يكتبه للغناء، وكلماته لا تتوهج إلا في قلوب المخلصين-وخالد الشيخ أحد المخلصين الأذكياء- و''وجوه'' ''إبراهيم بوسعد'' الرقيق لم ترسم لتراقص الموسيقى والغناء ، بل لتخاطب بشفافية الحزن وحميمية الأسى مكنونات النفس في تجلياتها المتعددة.
الحالة -على بعضها- مثيرة للبهجة والشجن، ومنذ اللقطة الأولى تمسّ الروح، والموسيقى- الهامنج- التي تشبه وجيب القلب تأخذ المتلقي من نفسه إلى ذلك المزيج الفريد من الفنون :

تقدم
تقدم
تقدم
تقدم كالأعراس والمراثي

وهنا يتوقف الفنان ''إبراهيم بوسعد'' ليلفت الأنظار إلى تكراره وتمديده حرف ''الدال'' في خطوطه المصاحبة للغناء ليبرز معنى فعل التقدم والتحريض عليه وكأن الخط بدوره يريد أن ينطق ، أو يغني مع ''خالد ''.
قال ''قاسم حداد'' في ندوة بكلية الآداب جامعة البحرين -وهي الثالثة التي تقام ''لوجوه'' في الجامعة-: ''العمل في مشروع فني جماعي من هذا النوع لمدة سنوات يؤكد أن الإبداع ليس ترفاً زائداً ولكنه تصرف لازم للإنسان بشكل عام''.
صوت خالد الشيخ وموسيقاه، وتوظيفه لصوت ''هدى'' الرائع الذي يذكر ب ''أميمة الخليل''، وضبطه لصوت المجموعة في وقته الصحيح ، والتبادلية الذكية، فمرة يغني بمفرده ، ثم يترك ''هدى'' تحلق وحدها، ثم يشاطرها الغناء، أو يتركا المجال للصوت الجماعي ، لحظة ينوح بصوت ذبيح، أوتطير هي بأوبرالية ، ليتمكن من اصطياد المعاني في كلمات الشاعر، والإيحاءات من ألوان الوجوه ومسارات الخطوط:

كلما وضعت عليك عضواً
لئلاّ تصيبك الوحشة
انتابتني النصال
النصال كلها
جسدي يكاد يذهب
وأنت في الفقد

من يمتلك ذائقة فنية - ولو متواضعة - يدرك يقيناً أن ''قاسم حداد'' لم يكتب هذه الكلمات بعمدية كاملة، بل قررت هي الخروج في لحظة خاصة. هكذا كما هي، وكأن قدرية خارج أطر المنطق المعروف أرادت لها أن تتلاقى مع ''رسوم وألوان وتحليقات'' ''إبراهيم بوسعد'' الذي أبدع بدوره وجوهاً عجيبة ، فواحد منها تراه مبتسما ويفاجئك الحزن المقيم في عينيه ، وآخر تظنه متأمّلاً لوهلة فتكتشف أنه مذعور، أو مذهول من شيء ما، وهي وجوه ملتبسة، تماهت فيها الأحاسيس والملامح ، وهو ما أضفى عليها غموضاً محبباً ، وقعت في غرامه الكاميرا التي حافظت على وقار الحزن ، ببراعة الفنان ''عبدالله يوسف'' -المخرج والمصور والمونتير- الذي ضبط ''الهارموني'' الخفي ليحسّه المشاهد دون أن تعرقله الحيّل التقنية ، فراح يقترب ويبتعد بالكاميرا من ملامح الوجوه ، وحروف الخطوط ، وزوايا التصوير، وتوظيف ذلك الرجل القادم من عمق الماضي ويرتدي ثيابا كتبت عليها الأشعار ، ويكتبها في جو غامض ، بالتوافق مع صوت الغناء والموسيقى والإلقاء ، في نعومة وسرعة وبطء وفق هيولية لا تدركها الأبصار لكنها تستقر في القلب تماماً.
هل أنت هكذا دوما
في الملمات
تحسن اللهو
وتتبادل المرايا مع مريديك حتى الانتشاء
إذن ما الذي أبقيت للنادل
.....
ويدخل صوت ''أدونيس'' المذهل ليغلق دائرة الكمال ويلقي أشعار ''قاسم حداد'' من قلبه ، وكأنها تخصه وحده ، فتكبر قيمته أكثر، وترتفع هامته عاليا بذلك الحماس الواضح ، ويتداخل صوته في تتابع الوجوه ، والأصوات والألوان، والمعاني. ويفيض الأسى عن حافة القلب!!
أي فرح هذا، وأي عذاب؟!
أيمكن أن تتآمر الفنون إلى هذا الحد من الجمال. وتتحدى القبح بهذه البساطة والعمق؟!
في هذا الزمن المريض بالضجيج الذي أحاط مثل هذه التجربة بالإهمال واللامبالاة ، وتفرّغ بشراهة للاكتتابات ، وتداولات البورصة، وأسعار الأسهم؟!
يغني خالد وهدى:

كأنه يسمع
كأنه يرى

صوت خالد:

يا زهرة الناس
كلما وضعت يدي عليك
صوت هدى:
جرحك جهة تحج إليها الجيوش
تتدفق فيها الأنهار
صوت المجموعة:
ويصاب بالفقد
كل باسل
يتوهم النصر
أو يتوسم الهزيمة

قال ''قاسم حداد'' في الندوة: ''خلتنا نتوصل جماعيًّا أن التشكيل ليس زينة للنص ، ولا النص تفسيرا للوحات، ولا الغناء والموسيقى والهدير الروحي نوعا من التسلية للاثنين. الحقيقة هو تقاطع روحي ونفسي وإبداعي لثلاثة كائنات قطعت شوطاً مهماً في تجاربها الذاتية . ولم نأت لنعرض صوتاً واحداً، ولا نزاحم الأصوات الأخرى . عملنا بمثابة البحث عن صوت منصهر وجماعي ، يبحث عن أفق كلما ازداد غموضاً ازداد متعة''.
وأضاف:''السنوات الثلاث التي قضيناها في إنتاج هذا العمل واحدة من أجمل ذروات متعتنا وإبداعاتنا، ومكتشفاتنا. لم نكن نستعجل الإنجاز، كما لو أن الطريق إلى الإبداع أكثر جمالاً من الإبداع نفسه''.
يا سلام يا عم قاسم!

قد يكون أجمل ما في هذه التجربة ، هو أوجع ما فيها. أعني الصمت الذي أحاط بها منذ بداياتها وإلى الآن ، وكأنه قدرها. وإن كان الناس عرفوها هنا في البحرين، واستمتعوا بها. فإننا في القاهرة لم نحظ بالتعرف عليها ، وهذه من الإشكالات المركبة بحق ، فلا أحد يملك الحل الأمثل ، فهل إنصاف الإبداع الناضج يحتسب دعاية بطريقة الأعمال الهابطة، وهل إعادة إنتاجه وعرضه في العواصم العربية يزج به في حيز الضجيج والصخب ، والتجربة في حقيقتها ضد الفجاجة.
فهل كتب علي الصادقين دائماً أن يعيشوا في صمت ويبدعوا في الصمت ذاته ؟
صوت أدونيس ''المدهش'':

جسد يهوى (موسيقى ''هامنج'' مباغتة)
فتنهره الروح
تركت الغابة عليه العبء
كتف تنسل مخلوقات
لا يسعها كتاب
منتهى شهوة الليل
ذاكرة مزدهاة
وجسارة تزخرف الشرفة
هاتف من مكان
كلما حرك الأصدقاء خبيئة
صار له بأس
وتيقن أن أيامه ولياليه
ليست أياماً ولا ليال

صوت خالد:

لك النهر وشكله
الريح وقميصها الأخير

صوت هدى:
أخرج من النوم وأخرج عليهم
تصادف طرقاً مسقوفة بالرعب
فأحرسها بزعفران المرايا

في بداية الندوة قص ''قاسم حداد'' حكاية طريفة حدثت له قبل سنوات في مركز الفنون أثناء عرض ''وجوه'' في البدايات، وهي أن طفلا سأله بعفوية : ''ما هو زعفران المرايا''؟!.
يقول الشاعر الكبير: ''كان السؤال مذهلاً، ويثبت أن الشاعر لا يعلم معنى محدداً ومنتهياً وناجزاً لكل الصور الشعرية التي يقترحها ، أخذت الطفل من يده وطفت به في المعرض أبحث عن نجدة حقيقية، ووجدت مرآة فرفعته أمامها.. '' وجعلته يرى نفسه في المرآة.. وقلت له هذا زعفران المرايا'' بدا الطفل مبتهجاً وسألني: هل في كل منظر ممكن أشوف الزعفران، وراح، وكنت أكثر سعادة وبهجة منه، والطفل لم يعرف إلى أي حد اقترح علي معنى من سؤاله ، فالعمل الفني دائماً قابل لأي مقترح من أي مستوى معرفي، أو ذائقة، أو استيعاب''.
صوت أدونيس:

لا البحر يسعف السفن
صوت غناء جماعي:
ولسنا للنسيان
لنا دلالة الحزن
والدم درج لمرارتنا
لا النيران
لا الذئاب
تألف الجب
لا البحر

أدونيس:

ادخل في الخدر
أيها الفارس الوحيد..
ادخل بين وركيك مدينة ومهاميز
وقتل كثير
ساحاتك يهندسها روم كثيرون
لأجل القتال
تجرجر جثتك المكابرة
لأجل القتال
بين كتفيك بيت
تلعب فيه الجيوش
ويغشاه نحيب الغزاة
ادخل
ليس غير الحذر الأليف

قال خالد الشيخ في الندوة: ''كان حملاً متعباً..ما كان عندي في القاموس ولا المفردات التي تعاملت بها مع كلمات مثل شعر قاسم حداد ، فقلت في البداية لا..فكيف أقول مثلاً..الريح في قميصها الأخير..، والوجوه في مرسم ''إبراهيم بوسعد'' كانت مخيفة ، وما كانت عندي أية مرجعية يمكن أن أغترف منها شيئًا. وظل النص عندي ثلاث سنوات، وفي لحظة ما جاء اللحن، وتخلصت من كوني ملحنًا لكلمات ، وحصلت على موسيقى كان أساسها صور إبراهيم وشعر قاسم الذي كتبه إبراهيم على أجساد الوجوه . وحتى الآن أحياناً أسأل من عمل هذه الموسيقى؟ هذه تجربة تعلمت منها الكثير..وأتمنى ما أكررها ''القاعة تضحك''.
أدونيس:

جحيم يسمونه بلادًا
حينا يقال له الوطن
وغالبا يحمله الشخص مثل خيط من الأوسمة
زينة الضريح
جنازة الأهل
قيل إنه الوقت والمكان
يتراءى مثل الحلم
فيما يكون وهماً
يتمارى فلا تدركه البصيرة
ولا يطاله الكلام
لن تعرف ما إذا كنت سيدًا
في هذا الجحيم أم عبدًا

وتحدث الفنان الرقيق ''إبراهيم بوسعد'' الذي خلته معجونا من ''الحياء والألوان'' عن بداية التجربة متذكرا اختلاط دم نزف من جرح بإصبعه بالألوان التي رسم بها أول الوجوه، وقال بصدق: ''كان العمل متعبا ومضنياً، ولا أظننا سنكرر التجربة، فلا العمر يسمح ولا الصحة''.
وأكثر ما استوقفني، وأوجع قلبي أن ''إبراهيم بوسعد'' الذي يشي وجهه وكلامه بطيبة ضافية اضطر لحرق هذه الوجوه الرائعة ... في لحظة ضيق كومها وأضرم فيها النار، وأبدى قاسم حداد إعجابه بالموقف، ما أضفى على الحالة غموضاً محبباً أكثر، أو جنوناً مقبولاً. وهذا ليس ببعيد عن كراهية مبدعين كبار لأعمالهم ذائعة الصيت ويقعون أسرى لها في مخيلة الناس.
صوت خالد وهدى:

بلادك أيها المجنون
ساحة حربك الأولى
خطيئتك الجميلة
فانتخب أعداءك الفرسان
قاتل وانتظر..
واهدأ

لم أكن أدري وأنا برفقة ''قاسم حداد'' و ''إبراهيم بوسعد و''سيد محمود'' في طريقنا إلى ندوة كلية الآداب أنني سأقع في غرام العمل إلى هذه الدرجة ، بل توجست ألا يعجبني ، وخفت أن يحرجني أي سؤال عن رأيي ، ولكنني أصبحت أراهم الآن على نحو أوضح وتكشفت قيمتهم الحقيقية ، ومواهبهم الرائعة في عيني أكثر ،وأحسست أنني مدين باعتذار ما ، و المثل الشعبي الطريف يقول: ''اللي ما يعرفك يجهلك''.
صوت أدونيس:

ادخل
ليس غير الحذر الأليف
أيها الفارس في الوحشة
كم تسافر من ضريح إلى ضريح
ادخل غموضك
ولا تتوضح
ولا تهتم
صوت جماعي:
الوجوه الوجوه استعارت
حيادا من الماء
الوجوه الوجوه استدارت
لتخلع أقنعة من هواء
الوجوه الوجوه
الوجوه الوجوه

*****

أقرأ أيضاً: