سالار أوسي
(سوريا)

أحمد معلاأوركسترا زرياب، قدمت عرضاً سمعياً بصرياً بعنوان "ألواح أوغاريت"، وهو عرض ضخم تجسد على خشبة مسرح معرض دمشق الدولي، وقّع عليه كل من رعد خلف وأحمد معلا، كما عرض قبل أيام على خشبة مسرح قصر المؤتمرات في دمشق. "المستقبل" التقت الدكتور أحمد معلا، وسألته عن طبيعة هذا العمل والصيغة التي يقدّم بها كل مرة وتفصيلات أخرى عنه.

* ما بدا واضحاً أن العرض لم يرسُ على صياغة نهائية وثابتة، وهذا ما بيّنه تتالي العروض التي كان آخرها في قصر المؤتمرات، هل تقصدتم بقاء العرض مفتوحاً، ولماذا؟

ـ طبيعة دمج الفنون، تترك المجال متسعاً للانفتاح على الأفكار والطروحات المتنوعة. عندما تركنا العرض مفتوحاً، أردنا أن نفترض شروطاً مفتوحة لعملنا، ونسمح بدخول تيارات وأساليب وأشكال فنية، بالإضافة الى مواهب وخبرات متنوعة.
موسيقياً، لا يرى (رعد خلف) حرجاً في إطالة أو تقصير أو إضافة المقاطع الموسيقية بحسب الحاجات المسرحية والكورنوغرافيا، أو نتيجة لضرورات تتعلق بحركة الديكورات وظروف الحركة (التنقل) كأن نعرض على مسرح أكثر عمقاً (طولاً أو عرضاً)، أو كأن نتواصل مع أفكار جديدة تفترض شروطاً أخرى.

* ربما بدا ذلك واضحاً في العرض الأخير؟

ـ بالتأكيد، فقد تغير العديد من المفردات التي تتعلق بالخشبة، وإذا خلقنا هذا المتسع من الشروط، فإنما لرغبتنا بمشاركات أخرى، كأن نتواصل مع مصمم رقصات، أو مخرج مسرحي أو سينمائي، أو نضيف مشهدية بصرية تحمل خصائصها مما يتطلب تحولات ما في السير الزمني للموسيقى والغناء.
الفتح مرتبط أيضاً بالأمكنة، إذ لسنا مجبرين على تقديم العرض على خشبة إيطالية فقط، ولسنا مضطرين الى تحديد عدد الراقصين، ولا يتوجب علينا الإبقاء على كل شروط العرض الأولى. ما يفسح المجال واسعاً لاختبار إمكانات كثيرة نحتاج لها في مشروعنا هذا.

ثوابت ومفردات

* لكن، ألا تعتقد أن من شأن هذه الشروط المفتوحة، وبعد عروض عدة أخرى، أن تلغي ثوابت ومفردات أساسية بنيت عليها العروض الأولية؟

ـ لم لا، لا أجد حرجاً في ذلك، بل على العكس، أنها أمنية أن ينسف العرض الأول والتصور الأول، لا تسنى أنني آتٍ من عالم التشكيل، وهي قد تكون عادة في عملنا، ان التدمير يتم من أجل التقدم بحثاً عن شكل جديد وفلسفة جديدة، رغبة في الحرية، ولا بأس في التقدم وطرق أماكن مجهولة.

* تريد أن تقول إن ثمة رغبة لديكم في أن يتجدد العرض في كل مرة بشكل مختلف عن سابقه؟

ـ بل أريد أن أقول إنه ليست هناك قيم يقينية في عرضنا سوى تلك القدرة على خلق الطقس الفني في أعلى حالاته، وإذا كان النسف أسلوباً إيجابياً أو سلبياً فإننا سنبحث عن النتائج، وإذا لم يكن في مقدورنا تطوير بحثنا واكتشاف القيم الجديدة التي نحصل عليها، فلا بد أن هناك من سيتجاوزنا وصولاً الى ما لم نتمكن من وعيه، وفي هذه الحالة نكون جزءاً من دورة الخلق والابتكار والاكتشاف.
لسنا ممن يتمسك بملكية ما يفعله بقدر ما نحن في صيرورة العمل، جزء منه، جزء حيوي وفعال يبحث في إطار إبداعي عن مشاركة في مسيرة الفنون العظيمة.

غموض

* السعي نحو الاكتشاف الدائم في تجسيد هذا العمل، هل يعود الى غموض موضوعه (أوغاريت)، أقصد الغموض التاريخي الذي يكتنف تلك المرحلة؟

ـ لا يهم، الغموض هو باعث ايجابي، وهو الأوضح من الوضوح بالنسبة للفعل الفني "أوغاريت" حامل العرض، كما السيارة حاملة التطور، أنظر إليها وهي تخرج في كل سنة من المصانع في الدول الصناعية الراقية، في تنافس نوعي من أجل امتلاك تكنولوجيا أكثر تطوراً.
الأمر كذلك بالنسبة لنا، نحن نحتفي بأوغاريت كرمز حضاري وثقافي، وحامل نوعي لإمكاناتنا ومواهبنا وقدراتنا. ربما لو كانت ألواح أوغاريت أوضح لأخذ العمل شكلاً آخر. لقد ساعدتنا فكرة تجاوز الألواح على إعطاء العمل هذا الشكل الذي لا ينمو درامياً بالطريقة المألوفة في المسرح والقصة. إنه شبيه بلوحاتي التي تتجاوز فيها الصور كما تتجاوز أحلام الناس وأفكارها بتباينها واختلافها.
استحضار مختلف الأشكال الفنية من موسيقى ورقص وغناء... إلخ بالشكل الحي، في هذا العرض، هل جاء لضرورات إبداعية. أم كإشارة الى أهمية ثقافة وتراث أوغاريت وتراثها؟
ـ إنها شروط العرض بشكله الذي قدمناه، وهي فرصة لضفر جديلة فنية، بالإضافة الى اختبار إمكانات تكنولوجية وتقنية. نحن نعرف أن الكثير من الأعمال اليوم تقدم بطريقة الـ)kcab yalP( ولكننا عمدنا الى الإصرار على تقديم "الحي" لأن الفارق نوعي بين الطريقتين.
هذه الطريقة تجعلنا أكثر عرضة لامتحان إمكاناتنا والارتقاء بعازفينا وممثلينا وراقصينا وتقنيينا. وهي شروط كان يمكن التنازل عنها بسهولة لو أردنا، ولكننا نؤسس لجماعة فنية، ولحركة فنية أكثر من تقديم نشاط فني. لكن بالمقابل، فإن استغنائنا عن بعض الأشكال ممكن وهو جارٍ، ولكنه يأتي نتيجة لشروط متنوعة بعضها مادي والآخر فني. أو لشروط تتعلق بظروف المكان والزمان. ما تزال الرغبة قائمة في تقديم هذا العرض، أو غيره في أمكنة قد لا تكون مهيأة لعروض من هذا النوع. ولكن الدافع الإبداعي والتجريبي هو ما يقودنا الى البحث عن خلق طقس فني يتجدد باستمرار قدرتنا على الاستمرار في البحث.

أحمد معلا* لا بد أن ديكور العرض أستوقف كثيراً من المشاهدين لجهة ضخامته أولاً وجمالية تفصيلاته ثانياً، هل جاء تنفيذك له محض خيال وتخيل، أم أنك اعتمدت بنسب معينة بعض المراجع التي سمحت لك بمقاربة شكل المكان في مرحلة أوغاريت؟

ـ بالتأكيد، كان لا بد من مراجع، وإلا كيف أضع مكاناً أوغاريتياً بدون العودة للمصادر المعنية؟ لقد بحثت في المادة البصرية المتوفرة في الكتب الخاصة بحضارة أوغاريت، ووجدت أنها قاصرة عن إعطاء فكرة كاملة عن الشكل المعماري الخارجي والداخلي، وهي شحيحة في إمكانية إعطاء صورة واضحة عن الحياة الأوغاريتية، ولهذا لجأت الى مراجع عن الفينيقيين، وعن الحضارات التي تعاملت معها أوغاريت، ومن خلال تصور فني بشكل جديد، رأيت في الكرتون مادة هشة كالطين، استعملته لخلق الحيز المكاني الذي تجري فيه الإحداث.

الكرتون

* ألم تلقَ صعوبات في استخدامك للكرتون كمادة ديكورية في عمل ضخم كـ"ألواح أوغاريت"؟

ـ كان الكرتون بالنسبة الي فرصة لاختبار فني، تشكيلي، تجاوز نقل المرسوم الأول (المرجع) الى استغراق في البحث عن دفع المادة الكرتونية الى الإفضاء بما يتجاوزها. وهذا ما تجده واضحاً في تحريك الأيدي والأرجل التي تجتمع فوق بعضها البعض بأشكال متباينة، مقصوصة أو مجروحة أو مطواة بما يتناسب والحركة، والتعبير التشكيلي. إن الأشكال ذات الأبعاد الثلاثية كالأعمدة الكبيرة والبوابات والسفينة الأوغاريتية تحقق، ولكن ما لم أتطرق اليه هو النحت الثلاثي الأبعاد بالكرتون، والذي تركته لشروط عرض أخرى في مكان يقبل دوران المشاهد حوله.

* برأيك، هل كان ضرورياً ظهور الآلهة بالشكل المجسد على خشبة العرض، وفي فترات زمنية طويلة نسبياً مقارنة بزمن العرض؟

ـ منذ البداية قسمنا الشخوص الى أرضية وسماوية، وتكونت الآلهة (بعل/ إيل/ شمس) بألوان فضية وذهبية، وصممت لها أزياء مليئة بالجواهر والأصداف والالتماع. في حين كان (إيلي ميلكو) والعامة يرتدون الثياب التي افترضنا أوغاريتها. وقمنا بدمج العالمين في شخصية عناة وكأنما هي بين الآلهة والبشر وذلك لحساسية العلاقة مع الطبيعة.
تطورت علاقتنا بحضورات هذه الآلهة في العرض الثاني، وأخذت أشكالاً مختلفة باختلاف ظروف الوقت والمسرح والإمكانات.

* موسيقياً، ألا تعتقد بأنه كان يجب التركيز أكثر على الآلات الوترية باعتبارها من أقدم الآلات وأكثرها انسجاماً مع أجواء تلك المرحلة التاريخية؟

ـ العرض يبدأ بآلة وترية تعزف اللحن الأوغاريتي الذي تم اكتشاف نوطته.. وهو يعلن بدأ العرض، وفي أحد المقاطع معزوفة لناي من نفس الطبيعة.
ما عدا ذلك، نجد أن الموسيقى تحاول استقراء التاريخ الموسيقي لحضارتنا من خلال تواصلها مع تنويط موسيقي جاء لاحقاً: إسلامياً كان أم سريانياً أم بيزنطياً... وهو ما يعلن التواشيح القائم في التنوع الثقافي لحضارتنا. على كل حال، إننا نقدم هذا كله ليس كوثيقة بصرية أو سمعية لتلك المرحلة، وإنما محاولة منا لتقديم أنفسنا كما نحن عليه اليوم من إمكانات وقدرات ومواهب وإبداعات.

المستقبل
الاثنين 20 كانون الأول 2004