خاص بجهة الشعر

حاوره : عباس يوسف

الذاهب إلى البحر بجناح فراشةباعتقادي أن الحركة التشكيلية بسلطنة عمان تتسم بميزة خاصة جدا تنفرد بها عن شقيقاتها من دول الخليج العربي الأخرى لكونها حركة شبابية وعصامية أيضا في أغلب الحالات، أرمي من هذا القول إلي أن أكثر الفنانين العمانيين نشاطا وحيوية لم يتلقوا درسهم الأكاديمي ويقيني أن هذه نقطة إيجابية تحسب لهذا المحترف الفني الفتي. ثمة أمر ما خارج إطار السيطرة، هو الشعور بالحاجة لتفريغ تلك الشحنات المدفونة بالداخل والمتمثلة ربما هيئة كلمة أو ضربة لون أو خربشة أو رسم خط، هذه المشاعر إلي جانب الإحساس بالمسئولية تجاه الذات والفن هي التي حرّضت وورطت مجموعة من الشباب العماني علي الانخراط في طرق المغامرة، طريق الوهم.. طريق الرسم.. فضاء البحث والتجريب، من هؤلاء الفنانين المهمومين بأمر وواقع المحترف التشكيلي العماني، الفنان حسين عبيد هذا المشاغب النشط رسما وكتابة.

حسين الطفل ما هي بدايات تكونه الفني ؟

فضاءات مجبولة تقف على بهجة الروح، تنمو عليها أوجاع البيوت المبنية من الطين والحجارة والسعف، تتزاحم عليها ألوان الصباح وتجاعيد الحُلم الجميل، تتفرع منها الأزقة، تنساب عليها أضواء شتى، تتداخل فيها التجاويف لتعري بعض منها، تفتح للكلاب والقطط ملاجئ، ولقاءات تمضي باتجاه غير مرتب. ألق يسطع هناك بجناحين مرسومين على المكان، يعيد حركة الناس باتجاهات مختلفة، لا يلتقون عند نقطة إلا وتبدأ منها طقس لا يتكرر، طقس يعتمد على محطات الاتصال وشروط الجمال، كأنه يستبيح منطقة عامرة بأسئلة لا تتوقف.

من منازل الطفولة إلى الشباب والسؤال المتكرر في جدوى تلك الطقوس ينحو بمناطق خصبة، يرسم على خد اللوحة مشروعاً مركزاً، يعلو على لغط النساء اللاتي كن لا يؤلن جهداً في جلب الماء، توفير قصص وحكايات مفجعة.. تؤسس ضمن ثوابتها الوقتية شهقات مفرطة.. تحاكي كل الضروريات الإنسانية والجمالية تماماً كما كانت تفعل جدتي حينما تتضوع النواح كلما شدها الحنين في الذهاب بعيداً حيث مرقد بناتها الثلاث اللاتي ذهبن في ذمة الخُلود، وتركن الأم، تنقش على أكففنا في ضحى النهار وظلمة الليل لوحات حزينة، تتقاطر من عيونها كحبات المطر، تبوح بحرقة عما أخفت تلك الأيام عنها من شوق وبكاء، عَبَرَت بها أزقة الحارة (تكية) وهي تنشد بلاغة خالصة. وفي ليلة قيضية فحمة، أوقدت الشمس نارها، وألبست الحارة من ظفرها إلى شعرها، السواد، ولم تبصر مع الغلس إلا على بقايا حلم نعت بالحارة.

ذهلتُ فرحاً.. حينما استقر بنا الحال أخيراً في مسقط رأسي (سداب) أولاً: قربها من قامات أنفس الأصدقاء، ثانياً: خصوبة أرضها وبحرها وتدريجياً بدأت الصورة الفنية ترتسم أمامي خطوة بخطوة صرت أسبح مع الصورة البحرية رغم جهلي أصلاً بالسباحة كباقي أبناء الحارة، كان مفتتح الأمر لا يعدو أكثر من عبور في اختيار ما يمكن أن يدفع هذا الطفل الصغير أن يختزل.. يكرر رسومات ترابية أو فحمية على تلك الجدران، والأزقة، والصخور، والأبواب ثم الكراسات المدرسية.
وبما أن مساحات الرسم كانت متوفرة، كنت لا أتردد في أخذ دوري الطفولي عليها مرات ومرات، أستجيب لفعل الداخل بإعادة ما يمكن أن يستقيم عليه رموز اللون والخط، في تشكيل تحولات حفرية، تمهد الطريق لرؤية الآتي الذي قد يغفر بتسكين الذات وراء تلك الخطوط الفاصلة بين الذات والخارج.

يفترض أن تلعب المدرسة دوراً ريادياً في تأهيلي، غير أن ذلك لم يكن وارداً باستثناء مدرساً لا تزال صورته مختزلة في ذاكرتي منذ الإبتدائية، كم كان جميلاً ذلك المدرس في هيئته وخطوطه الفنية وهو يصرخ في وجه الطلاب بضرورة الاهتمام بمادة التربية الفنية، وتلك الأنامل التي تمتلك تلك القدرة العاقلة بأدواتها العالقة في أذهانها، صرخة جعلتني أفكر ملياً على ضرورة الدوام في استنباط ما يمكن أن يجعل هذا البصر حاضراً في مخاطبة الصورة بتحليلات تتجاوب مع هذا المحيط الغارق داخل الصوت والصورة عشرات التساؤلات حيث بدأت تمطر في معرفة نشأة التلقي، وإدراك الأشياء التي عملت على إحداث دهشة بصرية، ومثالية غريزية في الرسم، أقبلت لتقيم وصلة ممكنة، تصور لي عبر حلقاتها المتسلسلة جغرافيات كأنها ماثلة في كشف/حجب اللامرئي بمتغيرات متتالية، تساهم في تنظيم الإطار باستخدامات تؤرخ الموضوع كهم نصي يضرب بتخطيطاته الساذجة كل التنظيرات عرض الحائط.

يلوح أنه ثمة علاقة سرمدية تربطك والبحر .. أين البحر منك؟ وأين أنت فيه؟

ثمة غرف هوائية ترسم لنا دون أدنى معرفة مسّبقة ما يجعلنا نسعى إليها بخطوات سريعة أو بطيئة ربما اللون بشكله الأولي جزئية غير متطابقة منها، لكنه يترك أثراً يلازم البقاء على الهواء والنور، يجعلنا نقف عليهما ولو بإشارتين متضادتين، نبوح ما عرض من الواقع علينا من انتشاء يحقق لغة، أو مسلكاً لغاية ممكنة، تذكرنا بما وقع في فترة الطوفان من تصدع للذاكرة، ذات التي بحثت من تشويهاتها عن إطار يسعد في استعادة ما فقد منها من تحولات.. انتماءات برمجت في زمن بيولوجي.

إن هذه المفردات الصغيرة التي تنمو هنا وهناك، إنما تنخرط في نهايتها في زمن كوني، تعيد الحوار إلى مناطق تتبدد في تحولاتها الزمنية إلى مجموعة من الفسيفساءات، كل جزئية منها بحاجة إلى واقع جديد حتى يمكننا احتماله، اكتشاف مساحات زرقاء، تحمل تعبيراً فردياً لحدس ذاتي، قد تبدو للآخرين ضرباً من المستحيل الممكن، لكنها بالنسبة لي مكملات غير مستحيلة، ترمي قوة ألمها لذتها على السطح لتضّمد الداخل بطهارة عينائية، قادرة على تفجير الداخل بداخل يسمح قراءة المحيط ومجاورة الواقع ولأن "الاختبار معلم أخرس" كما قال أفلاطون، كان لازماً تجريب اختبارات مسرفة على الرسم والتصوير، وفهم المكان من الداخل، باتجاه منظم يساعد على تطوير الإطار بما يستلزم ذلك نوعاً من المقاربة الفعلية.

هل تعتقد الفن بالفعل كحقيقة؟

المتعارف عليه أن الفن هو الصنعة والمهارة والإتقان في جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان للتعبير عن الجمال، كالكتابة والسينما، والرقص، والغناء، والمسرح، والرسم، والنحت والعمارة، والتصميم، وإعداد الطعام، والسياسة، والحرب، وتنسيق الزهور.. الخ والفنان هو من مهر في تذوق الجمال أو تحصيله أو إبداعه كالشاعر، والكاتب، والموسيقي، والمصور، والممثل ..الخ . وإذا اعتبرنا أن الفنون بأنواعها علوم قائمة بذاتها أو بمجموعها.. تحمل مجموعة من الحقائق .. تؤدي منفعة خالصة أو لذة جمالية، فهـي تؤكد في نفس الوقت على حقيقة تنبعث في جوهرها على اللغة السحرية/الانفعالية، التي لا تنتظم على الوظيفة الأفلاطونية ولا على التكرارية، بل على النشاط التركيبي/الإبداعي/التطهيري، مجاوزاً كل الفرضيات نحو علاقة جديدة علاقة تجتمع فيها جميع لغات العالم في لحظة ما، تبكى.. تضحك.. تلطم.. تغني.. تبحث عن "كل جميل غريب" كما نظر إليه بودلير.
وما نقف عليه اليوم من تقّول للحقيقة، قد يبدو آجلاً ليس إلاّ جزئية صغيرة، لكنها لا تتعارض مع المهم والأهم في فهم الحرية/الجمال/الأنا والآخر، كحركة تقود إلى ضروريات التلاقي البصري وبلغات تمهد لتوابيت الكلمات أن تختار من نفسها مناطق تنتسب إلى الحقيقة أكثر ربما من انتسابها إلى الجمال، تجعلنا نحيل هذا الإحساس الممكن ضمن أصول نولج ذواتنا في قعر ما، نستكشف الممكن من الحقيقة، نتعامل معها بنية خالصة في اختيار لغة ما تعكس الصورة الحقيقية عن معتقدات العصر الذي ننتمي إليه زمنياً

أنت الحالم بالفردوس.. جنان الإبداع، هل حلمت بتأثير المشهد العام عليك، أقصد جو المحترف العماني؟

تتأكد ظاهرة هذا المحترف من خلال هذا التعامل الذي تشكل بعد عام 1970م، في حين كانت باقي المحترفات العربية في نفس العام تحديداً قد قطعت أشواطاً جاوزت حدود جغرافياتها ورغم أن هذا العام قد أنقل سلطنة عُمان إلى مصاف الدول المتحضرة، إلا أن الفن التشكيلي فيها كان متقوقعاً ضمن إطارات لم تجاوز حينئذ حرمة التصوير، فبقت الصورة متخطرة من موقع لآخر، رغم توارد احتمالات المفاجأة، خصوصاً مع توافر عدد من الفنانين الذين التفوا لخلق بواعث الصورة وحساسيتها على المكانز.
وفي السنة التي تم فيها إشهار جمعية الأمارات عام 1980م، كانت مسقط أيضاً تحتفي بإنشاء مرسم الشباب، كتجربة استثنائية رائدة لم تنفصم في أدواره عن دور أي جمعية فنية من حيث الحضور والإمكانيات المتوفرة لجميع الأعضاء رغم قلتهم، انحدرت رسومات غالبية الفنانين في رحلتها الأولى على العمارة والحرف والعادات والتقاليد ودراسة المحيط، ضمن مواقف واهتمامات أكدت على استمرارية دعوة المحيط لتلقيح الأفكار المتعطشة .
إن التداخل الزمني القياسي للتجربة التشكيلية العمانية خلال عقدين (1980م - 2000م) قد أعطى للفنان العماني نقلة نوعية، صحيح إنها لم تكن عالية لكنها لم تكن أيضا سهلة مقارنة بعدد العاملين والأدوار التي قاموا بها. ولعل إشهار الجمعية العمانية للفنون التشكيلية عام 1993م كانت بداية تطور الخطاب الفعلي الحقيقي للحركة التشكيلية العمانية، ومنها أصبح لهذا الموقف البصري توازن آخر، أخذ يتماشى على كل الأصعدة في توصيل رسالة الفنان وهذا الانتماء الذي بدأ يتشكل عبر تظافر جهود المؤسسة والفنان.

علاقتك بالكتابة، هل هي مرتبطة بممارستك الرسم؟ أم هي حقيقة واقعة في الفراغ؟

أعتقد أن العلاقة بين الخطين، الكتابة والرسم، تفرض حقائق لا تتناقض بلسانين مختلفين في الإنسان وذاته، فإذا ما لزم الفنان امتلاك نَـفَس الكتابة كلذة والتزام ثم وظيفة، لا تنفصل كجسد واحد في التقاط نقطة التلاقي بحرية واختيار، فإن الصورة الظاهرية من ثبج المعايشة لها تكون واضحة في ترك الأثر على الواقع بلا سخط أو خوف، ولا أتصور أن هنالك كتابة في الفراغ، طالما إنها تتعامل بتوجيه داخلي سليم، مبنية على تراكمات جمالية وثقافية، تبحث في الحقيقة عن الإنسان وعلاقته ما تحت أديم السماء والمنطق والذات، تفتح بلسان الحاضر مدلولات خارج نطاق النص المحدد، تذهب بالزمن خارج دائرته الآنية في إقامة توازن بين المبدع ومجتمعه.

يجرنا الحديث هذا إلى ما يسمي بالنقد.. هذا الكيان الواهم الذي يحوم بيننا ويتخطرف بخوف واستحياء أمام أعيننا، في موقع هو الآن ترى، سيما في ساحتنا الخليجية؟

الفعل التشكيلي حراك ثقافي بحاجة إلى موقف نقدي متصل بغايته إلى التبصر المبتكر، يعي من داخله تلك الضروريات المنهجية التي يمكن أن تضيء فكرة وفق قواعد تنقيبية تحليلية، تترك أثرها على الفنان ومجتمعه.
والرائي للمشهد التشكيلي في مجتمعاتنا سيجد أن النقد مهمشاً، وإن وجدت قراءات نقدية فهي إما شللية أو خطابات شكلانية مبتذلة، لا تحقق تقويم للحالة البصرية ولا نشر للمعرفة النقدية بحيث يتم عليها فتح نوافذ/محاور يمكن منها تحريك الساكن باتجاهات تثير أسئلة ومواقف شتى، تجعل من هذا وذاك الصوت مفتتحاً في خلق بحث ذات خصوصية ما، يفيض، يوسع من نوعية المسافات التنظيرات لتحقق في النهاية متعة خلاقة تتفاعل في تفنيد معطيات الهوية الخليجية والعربية بعيداً عن التشويش والتقليد في ملء الجُب والحوض بنظيرات تبدأ بكلمة مهجنة وتنهي بجمل إنشائية.

ما هو الحب؟ وما مدى حضوره في تجربتك الفنية والحياتية؟

كل قلب لديه تصور فطري وغريزي عن الحب، قد نتفق أو لا نتفق على مضمون ما عليه، لكننا في دواخلنا مكبلين به ولا نستطيع التنازل عنه رغم أنه يجلب لنا أحياناً أعباء وأوجاعا والتزامات نحن في غنى عنها. غير أن البحث عن بديل عنه وبنفس مقدار اللذة المحسوسة يبدو مستحيلاً على الصعيدين الإنساني والفني.

فنان عماني
مواليد مسقط 1968
أقام العديد من لمعارض الشخصية في سلطنة عمان وخارجها
شارك في العديد من المعارض والفعاليات الفنية الداخلية والخارجية
يكتب في مجال الفنون التشكيلية في الصحافة العمانية