يقول محمد بن عبدالجبار النفّري في موقف الحرف: "أوقفني في المحضر وقال لي الحرف حجاب، والحجاب حرف، وقال لي لا يعرفني الحرف ولا يعرِّفني ما عن الحرف، ولا يعرفني ما في الحرف، وقال لي إنما خاطبت الحرف بلسان الحرف فلا اللسان شهدني ولا الحرف عرفني، وقال لي، الحرف مكانهم بما به بدا، والحرف علمهم بما عنه بدا، والحرف موقفهم بما له بدا . ." .
إذاً هذه هي المصائر تتشابك في نهاياتها اللانهائية، فتصير مصيراً واحداً، يتعلم فيه الكائن نطق حرف واحدٍ فيضطر إلى نطق حرف آخر . . ثم آخر . . ثم كامل الأبجدية، حيث يصير بإمكانه تركيب جملة، أو فك طلاسم جملة أخرى، أنت مجبر بعد ذلك أن تقرأ ما تقع عليه عيناك، ومجبر أن تكتب بالحرف الذي أجدت رسمه، إنها جملك التي يأمر بها عقلك، فمن الحرف تبدأ جبرية القراءة، والكتابة .
ومن جودة صياغة الحرف تصير ساعياً نحو الوضوح الأكمل، لأنك تطلب الحق، ألم يقل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخط الجميل يزيد الحق وضوحاً؟ هنا المهنة الجمالية باتت تتعلق بالحق إذاً! وهنا الذي يجوِّد الحرف خطاً، والكتابة تناسقاً، هو شاهد ضروري بجانب الحق، فيما الإبداع والحق يتحوّلان إلى المبتغى الذي طالما سمعت إليه الإنسانية الباحثة عن الكمال . هذا الكمال الذي يسميه شخينا وأستاذنا الراحل شاكر حسن آل سعيد بحقيقة الوجود الحيوي، فيما الفنان القادر على إنجاز هذا الإبداع يتحول من فنان إلى شاهد .
شاهد يؤسس وجوداً حيوياً، وبشكل أدق هو مكتشف لتلك النقطة الالتقائية ما بين الذات واللاذات، حيث يتجلى اكتشاف الشكل في اللاشكل، واللاشكل في الشكل، حيث سيظل التوجه الغريزي الغامض دافعاً أساسياً لتطوير الخط الجميل والمتوازن للحروف والكلمات، لأن المسعى النهائي هنا سيصير بحثاً للوصول إلى نقطة الالتقاء ما بين العبودية والحرية، أو ما بين الكمال المحدد بسقف الاستحالة، والكمال الذي بلا سقف وبلا استحالة . إنه نوع من تخطي كل شيء، والاجتهاد وحتى الإعجاز .
لهذا وجدت مدارس الخط العربي المُجوَّد أو المخطوط وفقاً للقواعد الجمالية، أو سعياً لاكتشاف قواعد جمالية جديدة، أو تحرّراً من القواعد الموروثة وإبداع الجديد المتطور .
المشكلة أننا نخشى أن نعترف، ونحن نمارس ذلك، بأننا حين نتعلم الخط العربي، وجماليته، فإننا نضطر إلى أن ندمر الكثير من الثوابت التي نتسلمها منضبطة بنقاطها الأزلية . وبمعاييرها الهندسية الموزونة . لأننا سنجرب مضطرين إلى حالة الخروج من القاعدة باستثناءاتها المحببة، والمجهولة النتائج، أجل إنها مغامرة أو لنقل إنها المخاطرة، لكن ماذا نفعل (بالنفَّري) وهو يصرخ بنا قائلاً: "في المخاطرة جزء من النجاة"؟
لهذا التوق المتفجر بالحرية في داخل المبدع يستغل الخطاط طاقة (التمطي) في الحرف العربي، فهو قابل للتكبير وللتصغير، وقابل للرسم وللتلوين، وقابل للتركيب الآحادي، كما هو قابل للدمج .
من هنا لا نستطيع اليوم أن نتحدث عن تطور الخط العربي الحديث، من دون أن ندخل عالمه التشكيلي الأوسع، لأن المسافة بين المخطوط والمرسوم أضحت غياباً وصارت اللوحة التصويرية التجريدية الحروفية، ليس مسطحاً تصويرياً (ثيمته) الحرف، بل حضوراً زمانياً ومكانياً متحرراً من افتراضات الصورة وصاعداً إلى ذاكرة التكوين الأزلية الأولى .
لقد تعوْدنا أن نلتقي ونتحاور في إدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، خلال ملتقيات فن الخط العربي، لأن الاهتمام بالخط العربي أخذ بعداً كبيراً في هذه الإمارة المجبولة على هواجس ثقافية وإبداعية، وقد وصلت الدراسات التعليمية للخط العربي إلى مستويات مهمة جداً . كما أن النتائج التي طلع بها العدد الوافر من دراسي الخط وجمالياته تشير إلى نجاحات مُرضية . مع ذلك كله فإن المطلوب الآن وبعد كل هذه الإنجازات ليس اجترار التجارب الخطية الناجحة . والوصول إلى مستويات الإجادة، وعدم خرق السقف بكل ما يمكن أن نحققه من ابتكارات جديدة .
لذلك لابد من إيجاد المنحنى الذي يربط بواسطة طرفيه ما بين لوحة الخط العربي واللوحة الحروفية التي يجب أن تتطوّر بدورها لتمارس حضورها الفاعل على مسطحات جديدة، وبخامات جديدة، بل ومن ضمن سياق المواد المتنوعة يمكن أن تصل اللوحة الحروفية إلى مستوى أعمال الفن الوظائفي (الكونسبت آرت) . ومتى دخلت لوحة الخط العربي الحديثة عالم الفنون الوظائفية، ونفذت بغير المواد الكلاسيكية، أي أنه يمكن تجسيدها بالليزر أو إطلاقها في الفضاء الليلي كمنحوتة ضوئية ثابتة أو متحركة، تمّ تحويرها لتندمج في العديد من الجدرانيات التجهيزية، فإننا نكون قد جعلنا من الحرف العربي حضوراً معمارياً ضمن حداثة مدننا، وضمن مشروعاتنا المعمارية الهادفة إلى تطوير المدينة .
ليست إجادة الخط اليوم . بضبط خطوط الثلث والرقعة والديواني، ولا بتوريق عمارة الكوفي لكي نحوّله تجويداً إلى كوفي أندلسي، بل بأن يتحرر الحرف من قوته المقروءة إلى قوته المرئية والملموسة، فهو العالم الذي يحمل قابلية الكثافة والتمدد، كما يحمل ثنائية الصوت والصدى .
في العام 2001 وعبر احتفالية المرئي والمسموع في مهرجان الفنون الإسلامية في الشارقة تحدثنا وتناقشنا كثيراً عن التوافق والتناغم والتوازن في الخط العربي . وأشدّنا بالأوائل أمثال ابن البواب وابن مقلة والآمدي وهاشم البغدادي وغيرهم . وفي العام 2008 وعبر الندوة الفكرية الموازية لملتقى الشارقة لفن الخط العربي تحدث المشاركون عن الرسومات الخطية من الحجر إلى الحاسوب . أما الآن فإن ما يجب أن نركّز عليه هو العلاقة بين ما هو خطي وما هو تشكيلي، والمدى الذي يمكن للوحة الخط العربي أن تصل إليه عند دخول لوحة الخط العربي عالم الفن المفاهيمي . فهنا سوف تتجلّى القفزة نحو الحداثة بشكلها الأكثر علاقة مع الزمن الحاضر المحكوم بالعولمة وبالتطورات المتسارعة .
الخليج
:,09/04/2012