بداياته في القرن الثامن عشر

عمران القيسي
(لبنان)

(بول غاراغوسيان.لبنان)تتمثل النشأة الأولى للتصوير اللبناني بما تبقى من جداريات في بعض الكنائس والأديرة المنتشرة في مختلف أنحاء لبنان. ففي بلدات، مثل بحديدات وحدشيت وادة ومعاد ودير قنوبين وغيرها، ثمة جداريات تصور مواضيع دينية مختلفة، ووجوه رسل وقديسين إضافة إلى صور للسيد المسيح وأمه العذراء مريم. لكن على الرغم من التشويه الزمني الذي طاول هذه الجداريات المصورة، فإننا نستطيع ان نكتشف الأمور التالية: أولا: الأمانة التاريخية في صياغة النص التصويري للحدث، حتى لكأن الرسام المنفذ كان يصر على سرد الحدث ودلالته الروحية وآثاره التاريخية بكل ما يحمل من تفاصيل تسجيلية.
ثانيا: مخاطبة المتلقي وتلقينه بصريا مواعظ دينية تحاول ان تجيب عن العديد من أسئلة الإنسان المدني.
ثالثا: صحيح ان هذه الأعمال الجدرانية ليست من نتائج فنانين نهضويين كبار، لكن عفوية الصياغة طغت على جوانب كثيرة من النقص التأليفي، إذ نلمس سيطرة التأليف المتجانس لونيا وخطيا على العمل برمته.
رابعا: هناك من يرى أن بعض هذه الجدرانيات، وربما اغلبها، هي نتاج فنانين غير لبنانين. لكن لو راجعنا الأزمنة الصليبية وما أنتجته من كنائس وعمارات مدنية، لوجدنا انها امتازت بضخامة البناء مقابل التقشف الفني بداخلها، الأمر الذي يؤكد ان فنانا لبنانيا مارس عمله الإبداعي في إنتاج وصياغة الأعمال الجدرانية التي أنجزت في الكنائس غير الصليبية.
خامسا: يعرز ذلك ما ورد في تاريخ الدويهي "في سنة 1587 ميلادي (699 هحري) عن الخوري انطون من بيت الجميل ببناء كنيسة مار عبدا في قرية بكفيا وصورها على يد الشدياق الياس الحصروني..". وهذا يثبت ان التصوير الديني الكنسي وفنون الجدرانيات كانت مألوفة ومتوارثة في لبنان.
سادسا: ان اغلب الأعمال الجدرانية لم تكن تحمل الطابع الغربي بل تشير إلى انها صيغت ضمن سياق التأليف الايقونوغرافي الشرقي، وذلك رغم ما يراه البعض بأن الجزء العلوي من جدرانية قنوبين، الذي يمثل العذراء مريم، يقترب كثيرا من الفنون الغربية.
من الطبيعي بعد هذا كله، أن التطور المنطقي للفنون الدينية في لبنان، وفي ضوء العلاقات التي ازدادت متانة بين روما ولبنان ابتداء من القرن الخامس عشر، كان لا بد ان يشهد تأثرا بالاتجاهات الغربية، وبخاصة تلك التي كانت سائدة في ايطاليا. يؤكد عمق هذا التأثر ما جاء في تاريخ فيليب حتى من ان الراهب الفرانسيسكاني غريفون الذي عاش في لبنان ما بين 1450 و1474 أرسل تلميذين إلى روما كان احدهما جبرائيل القلاعي اللحفدي (توفي سنة 1516)، وعن ان الكلية المارونية في روما (دشنت سنة 1584) قد لعبت دورها الأكبر في نقل الفنون الايطالية خاصة، والغربية عامة، إلى لبنان. كما لا يمكننا ان نستثني الدور الذي لعبته أيضا المدرسة المارونية في رافينا والتي كان قد أوقف لها العاقوري أوقافا ساعدتها على الاستمرار.

جيل الانبعاث

في ضوء العلاقات التي اشرنا إليها بين لبنان والغرب، يمكننا ان نتناول المرحلة التي نلمس نتاجها الإبداعي، وذلك ابتداء من القرن السابع عشر وما يليه. على أيدي رهبان فنانين، عصاميين في الغالب، مارسوا الفنون التصويرية واشتغلوا بالفنون التزيينية، أمثال يوسف الباني (1602 جدارية فريسكو دير سيدة قنوبين) وعبدالله زاخر (1675 1748) عبر رسوم ومحفورات دينية في دير مار يوحنا الصايغ في الخنشارة).
آما أبرز الأسماء التي تركت أعمالا في القرن الثامن عشر، فمنها فرنسيس الكفاعي (أعمال مؤرخة 1704) وإبراهيم كرباج (رسم بين 1705 و1746) وبطرس قبرص (رسم بين 1703 و1744) واسطفان ضو (1724 1814) ويوحنا الارمني (أعمال مؤرخة 1745) ونسطور مدلج النصف الثاني من القرن الثامن ومنصور كامل (أعمال مؤرخة 1793) ويوسف صقر (أعمال مؤرخة 1797) وموسى ديب المتوفى سنة 1826 وغيرهم. يجب ان نعترف بالنقص التدويني الحاصل على مستوى التراجم والأسماء لفناني تلك المرحلة بالذات. ولكن حين نصادق الأثر الفني ونبدأ بدراسته فسوف يكشف لنا هذا العمل الفني عن تاريه إنجازه وهويته الأساسية، والى حد ما عن شخصية الفنان الذي أنجزه، وان كانت هذه الشخصية سوف تظل في الغالب مجهولة بمعزل عن الترجمة الكاملة للحياة والسيرة.
مع ذلك فإن مرحلة التكوين والانبعاث التلقائي فرضت ذاتها بقوة من خلال اجتهادات فنانين بدأوا يؤكدون خيارهم الإبداعي عبر التصوير، ويمارسون زمانهم الفني منطلقين من معطيات كثيرة استجدت لتتبلور في القرن التاسع عشر عن رعيل من الفنانين التسجيليين الذين درسوا في الأساس التصوير لأسباب طبوغرافية، أو لخدمات استطلاعية عسكرية عثمانية، ليتحول الكثير منهم إلى فنانين مصورين مفتونين بأسرار العلاقة ما بين البحر والجبل، ومدونين لأبرز الأحداث التي حفل بها الساحل المزدحم بالأساطيل والبوارج.
ان الاتساع الشامل لحركة التصوير اللبناني خلال القرن التاسع عشر له مبرراته الموضوعية. وربما كان من أبرزها ازدياد الروابط بين لبنان والغرب الأوروبي، وكثافة حركة الفنانين المستشرقين الذين وصلوا إلى لبنان، ناهيك عن بدء تكوّن الشخصية السياسية والمدنية في لبنان، علما ان الشخصية السياسة المتمتعة بالاستقلال عن السلطنة العثمانية كانت موجودة وقائمة منذ القرن السابع عشر في بعض مناطق جبل لبنان.
ان أسماء كثيرة سوف تحفل بها المرحلة هذه، أمثال: كنعان ديب (؟ 1873)، وعبده بطرس المصور (أنجز بعض الجدرانيات الخشبية في قصر بيت الدين سنة 1831)، وشكري المصور (1865 1935)، وإبراهيم سربيه (1865 ؟) الذي اشتهر بلوحات تؤرخ زيارة الإمبراطور غليوم الثاني لبيروت سنة ،1899 ونجيب قيقانو (1867 1927)، ونجيب شكري (1872 1922) وإبراهيم الجر (1873 1936)، وحسن التنير (أعمال معروفة بين 1890 و1898)، ونجيب بخعازي (؟ 1914)، ودمشقية (أعمال مؤرخة 1893)، ورئيف شدودي (1872 1914) وعلي الجمال، إضافة إلى العديد من الذين عاشوا وأنتجوا داخل وخارج الوطن وبقيت أعمالهم مجهولة التي اليوم نتيجة عدم وجود مؤسسات ومتاحف متخصصة تقوم بحفظ هذا التراث من التلف والضياع والنسيان.

مع جيل التأسيس

في تاريخ كل فن من الفنون مرحلة مفصلية تشكل نقلة نوعية تتأسس بعدها حقائق موضوعية جديدة ومغايرة لما كان سائدا قبلها. وغالبا ما تتكون هذه المرحلة المهمة من أسماء أو إيقاعات يشكل وجودها تحولا في المفاهيم والأعراف. ففي المسار التاريخي لحركة الفن اللبناني تتمثل هذه المرحلة المهمة في أسماء تأسيسية لعبت دورا مهما في خلق وتطوير حركة الفن اللبناني، علما بأن وجودها لم يكن مصادفة من دون ممهدات أو تحولات أنموذجية ساعدت على نموها وتطورها. ويؤكد ذلك أهميتها التي تكمن في التأثير البالغ الذي تركته على مستوى التحولات والحقائق الجديدة التي قدمت من بعدها.
من منظار أثرها الايجابي في مرحلتها والمراحل التي جاءت من بعدها، نتعامل مع ظاهرة وجود هذا المربع الذهبي الذي قوامه: داوود القرم (1852 1930)، حبيب سرور (1860 1938)، خليل الصليبي (1870 1928). فيليب مورافي (1875 1970).
فالأهمية الاستثنائية لهؤلاء الفنانين المؤسسين تكمن في كونهم أول من اتبع طريق التخصص الأكاديمي في حرفة فن الرسم. بمعنى ان كل واحد منهم كان مالكا لزمانه الفني، ومكرسا وجوده لهذه الصنعة الجمالية. وهذه مسألة لها دلالاتها الكبيرة، لا سيما خلال مراحل التأسيس، لأن الفن في هذه المرحلة بالذات، وعلى أيدي هؤلاء، خرج من دائرة الهواية والممارسة الدينية ليدخل دائرة الاحتراف. لقد فتح بعضهم محترفات للرسم ولتعليم الرسم أمام الدارسين. فمحترف حبيب سرور، الذي كان ضمن ممتلكات الوجيه ألفرد سرسق في حي السراسقة (تحول لاحقا إلى نادي الطيران)، يعتبر أول مدرسة لتعليم الرسم والتصوير. وفتح خليل الصليبي مشغلا له في شارع بلس قبالة المدخل الرئيسي للجامعة الأمريكية في بيروت، وصار بيت خليل وكاري زوجته ملتقى النخبة من الأصدقاء والمعارف.. وكان بين رواده، السياسي اللبناني والسفير الأجنبي والوجيه الفرنسي والانجليزي والأمريكي والأستاذ الجامعي وأهل الفن والاختصاص. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء درسوا الفن دراسات أكاديمية متكاملة في العديد من أكاديميات الرسم العالمية. وقد ربطوا بين هذه الأكاديميات ولبنان سواء عبر استمرارية الاتصال أو من خلال إيفاد عدد من دارسي الفن اللبنانيين إليها.
لكن الأهم من ذلك كله هو ان هذا المربع الذهبي، وأكثر من غيره ممن سبقه أو جايله، ادخل تقليدا ثقافيا جديدا على الوسط الثقافي اللبناني، إلا وهو "المعرض" الفني الذي صار مناسبة تطلع فيها مختلف المستويات والطبقات على الأعمال الفنية التي أنجزها هؤلاء الفنانون الذين يشكلون الكوكبة الأولى التي خرجت من دائرة الفنون التقوية الدينية، لتكرس ذاتها للوحة دنيوية ذات مواضيع معيشة، تتمثل في الطبيعة والإنسان، علما ان القرم وسرور أنجزا أيضا العديد من الأعمال ذات الطابع الديني.
ترى هل نحن أمام البذرة الصالحة الأولى للروح الأكاديمية في الفن اللبناني؟ وما الذي قدمه كل واحد منهم لكي يسجل في موقع الريادة التأسيسي؟

داود القرم (1852 - 1930)

إذا ما أردنا ان ندرس داود القرم عبر الالتفات صوب نتاجه الفني بالدرجة الأولى، فإننا سوف نكشف عن أكاديمي متين، درس الرسم في روما وفقا لأصوله التي تنطلق من السيطرة على التشريح داخل الشكل، وعلى العلاقة بين السكون والحركة ضمن ما نسميه بعملية ترويض اليد كي تصير مطوعة للذاكرة والبصر. انطلاقا من هذه السيطرة، تنبسط أمامنا لوحة ذات اتجاهين أساسيين، أولهما اللوحة الدينية، وهي تقترب عموما من السائد في عاصمة الكثلكة روما، اذ اللعب على الدور الانفعالي للنور ومنابعه المتعددة يحيل المسطح إلى بناء تأثيري شامل على مجموعة من المفردات التي يمكن ان تقرأ ضمن السياق العام للوحة، أو مستقلة ذات إيحاءات خاصة. ولكن هناك إضافات جديدة كجعل النص العربي المخطوط جزءا من التشكيل. نشير في هذا السياق إلى ما يحمله ملائكة لوحة "قلب يسوع" الزيتية المنفذة في كنيسة الآباء اليسوعيين ببيروت سنة ،1880 والى لوحة كنيسة "سيدة النصر" الموجودة في دير سيدة النصر في غوسطا بكسروان والمنفذة سنة ،1887 ولوحة "مار يوحنا المعمدان" الموجودة في كنيسة المعمدان في زان البترون والمنفذة سنة 1901. أما ابرز الأعمال الدينية التي حفلت بالإيقاع النيوكلاسيكي التام للعبة الضوء المتلاعب بالشكل فهو العمل المنفذ في لوحة "مار يوحنا المعمدان" الموجودة في كنيسة مار يوحنا المعمدان في عشقوت والمنفذة سنة ،1890 وكذلك لوحة "مار سركيس وباخوس" الموجودة في فتقا بكسروان، والمنفذة سنة 1891.
لقد انتقلت الخواص التصويرية التي طغت على اللوحة الدينية عند هذا الفنان إلى الأعمال الدنيوية الأخرى، والتي كان اغلبها من البورتريهات التي سجلت مرحلة ثقافية واجتماعية مهمة من مراحل لبنان. فصورة الوجيه المنفذة من قبل رسام الحقبة لا يمكن عزلها عن الدور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يتمتع به صاحب الصورة. وبالتالي فإن الفنان البارع هو الذي سينقل بذكاء، عبر التأليف، هذه المكانة الرفيعة، سواء عبر التقميش اللواني أو التركيز على الجوانب الاكسسوارية في الملبس والقيافة وحتى على صعيد البناء الخلفي للوحة.
ان صورة الحاج حسين بيهم، وهو من مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، تطرح تأليفا فريدا من ناحية اللعبة المضادة للضوء، اذ جعله يندفع من داخل الصور صوب الخارج، مانحا صورة الرجل الورع المثقف قدرا إضافيا من المهابة والجلال.
أما لو درسنا بورتريه الشيخ شاهين طالب حبيش مثلا، لوجدنا ان الفنان يستند كثيرا إلى سيرة الرجل أكثر من صورته التي أطلت عبر اللوحة وكأنها قطعة من عمل بانورامي استشراقي لرسام معجب بالسيرة الذاتية لأبطال من الشرق. ان تقاربا مذهلا في التأليف الخاص بالعينين في اغلب الصور الذاتية يدفعنا إلى الاقتناع بمدى أمانته للاتجاهات الكلاسيكية الجديدة والجذور النهضوية في فنون التصوير.
لكن البراعة المتكاملة للمصور سوف تطل من خلال عمل خلاب لصورة الشيخ "عقل شديد عقل" من بلدة المتن، احد وجهاء المتن، الذي تنطوي سيرته التصويرية على تناسق مرهف لونيا وتأليفيا للعناصر المكونة للصورة، انطلاقا من معطف الفراء ولباس الرأس الحريري والقنباز المقلم بالأحمر والأبيض، وصولا إلى مسند الكرسي الأحمر. انه التكامل المثالي للوجاهة والحضور.
ان داود القرم هو رسام استثنائي في زمن الولادة الأولى لفن الرسم اللبناني، لذلك فإن دراسته الموضوعية عبر نتاجه لا بد ان تدفعنا لأن نثبت الحقيقة التأسيسية الأولى لهذا الفنان الكبير الذي درس في روما بين 1870 و1875 ثم تنقل في عدد من البلدان كبلجيكا ومصر وسوريا وفلسطين راسما كبار شخصياتها ووجهائها.

حبيب سرور (1860 - 1938)

شكل حبيب سرور ظاهرة الفنان الذي احترف الفن وجعله مهمته اليومية، مكرسا طاقته التصويرية لإنتاج اللوحة التي تتجاوب ذوقيا مع الآخر. وشكل أيضا خطا مميزا حينما ركز تقاليد المحترف القائم على تطوير وتربية الطاقات الفنية الواعدة، فلا غرابة ان تنمو وتتفجر في محترفه بالذات الإمكانات الفنية لمصطفى فروخ وصليبا الدويهي ورشيد وهبي، لذلك سيبدو دور الأستاذ أو المعلم هو البداية التي شهدها المحترف اللبناني في أولى مراحله التأسيسية.
ولكن حبيب سرور، الأكاديمي المتمسك بالخط الكلاسيكي العريق، كان أيضا في طليعة الذين مارسوا خروجهم الحر على المألوف والمتداول، وذلك بعد ان عايش تجارب أساسية، إحداها في روما التي انتقل إليها مع أهله عند بلوغه العاشرة من العمر فأتم فيها دراسته الأكاديمية، ثم مصر التي عايش فيها مرحلة مهمة من النهضة الفنية التي عرفتها مدرسة الإسكندرية. أما عودته إلى لبنان سنة ،1890 فقد كرسته فنانا أساسيا وأستاذا يمارس التدريس في مدرسة الصنائع العثمانية.
ينقسم فن حبيب سرور إلى إيقاعات ثلاثة أساسية، ربما أبرزها ذلك الإيقاع التشخيصي لفن البورتريه الذي نجح من خلاله الفنان في خلق قيم قلما كانت مألوفة في لبنان سابقا. وإذا حاولنا ان ندرس الغالبية العظمى من لوحات البورتريه التي رسمها، لوجدناه يركز على العناصر التأليفية المباشرة في الوجه. فهو يصل إلى التشابه التام من خلال منح الحيوية التشريحية للشكل، باعثا اللون كقوة حية تتدفق باتجاه الخارج، ومثيرا حركة سرية في الأنسجة الحية للشكل، فيما سنرى الفنان يذهب صوب القتامة المتعمدة في رسم بقية الأجزاء، وكأنه يلعب على إيقاعات اللون الواحد ومشتقاته. واللوحة عند سرور ليست موضوعا محايدا، بل نقطة ارتكاز تلتقي عندها مختلف المشاعر. ولهذا نجد أن لوحة الطبيعة الصامتة، كإيقاع ثان لديه، هي مجموعة من الأجزاء المرسومة بانبعاث ذاتي مميز للشكل المرسوم، علما بان مجموعة هذه الأشكال سوف يكون نوعا من التوازن الهارموني للقوى. لكن الفنان سوق يشتغل هنا بروح شبه انطباعية مبرزا الاضاءات المركزية المهمة والجوهرية في المفردة. أما الإيقاع الثالث، فقد تجلى في رسمه لشتى المواضيع الدينية والحياتية. وهو عبر الممارسة اليومية لفن الرسم اكتسب مقدرة فذة على الإمساك بالتأليف المتوازن للمسطح التصويري، اذ قلما وجدنا في أي عمل من أعماله ذلك الجنوح لضرب التوازنات العقلانية الدقيقة.

خليل الصليبي (1870 - 1938)

ولد في ضيعة بطلون في جبل لبنان وكان تعلمه الأول بمدرسة الضيعة. انتقل عام 1886 للدراسة في الكلية السورية في بيروت، وقد سميت فيما بعد بالجامعة الأمريكية. وفي عام 1890 سافر إلى انجلترا قاصدا ادنبره، حيث تعرف هناك إلى جون سنجر سارجنت الرسام الباحث عن جمالية الشرق وأسراره. وقد اغتنى هذا الفنان الانجليزي من معارف صديقه اللبناني، وأغناه بالمقابل معرفة بأصول الفن وأسراره.
خلال تلك المرحلة تعرف إلى زوجته كاري رود الأمريكية المتحدرة من أصول جرمانية، فتنقل معها ما بين أمريكا وانجلترا وفرنسا، حيث تعمق بدراسته التقنية اللونية، ولا سيما انه التحق بمحترف بيار بوفيس دو شافان المعروف في الأوساط الفنية الباريسية، كما التقى هناك بالفنان الانطباعي بيار أوجست رينوار.
أما عودته إلى لبنان فقد فسرها العديد من الباحثين بشوق هذا الفنان إلى النور واللون الطافح في وطنه، إضافة إلى حنينه لقريته الجبلية ومواسمها المميزة. العودة إلى لبنان لم تكن انقطاعا عن الغرب ومعطياته، لكنها بداية تأسيس للمحترف اللبناني المفتوح أمام الطاقات الواعدة، وها هو يطلق من محترفه اثنين من مؤسسي التيار الانطباعي اللبناني، إلا وهما عمر الإنسي وقيصر الجميل.
تمتاز لوحة الصليبي بمتانة الضربة وجزالتها اللونية، لكنها تنطوي على وعي بحساسية التوزيع اللوني الفائق، بحيث تندفع التفاعلات الضوئية مع اللون الذي لا يمتلك حدوداً قاسية، لتشكل برمتها شكلاً متكوناً بمكنونات ذاتية تكاد توحي بأنها ألقت ذاتها بذاتها، أي من دون ان يذهب الفنان قاصداً مثل هذه النتائج. هكذا كانت الأشكال عند صديقه "رينوار" الذي اشتهر بهذه الميزة الفريدة، ولدى بيار دو شافان الذي ودع القرن التاسع عشر بكشف لوني يتعلق بلوحة الألوان المكمّلة المستندة إلى خلفية من الضربة الوحشية.
نحن حيال فنان متين يتعامل بثقة مع التأليف الذي يغدو فيه الشكل أسير العلاقات اللونية المتجددة في كل ضربة وزاوية. ولهذا نجد ان لوحة العري - رسم في الغالب زوجته كاري - تقوم أيضا على ذات المعادلة التأليفية حيث التقاء بين قوتين، أحداهما التي تكون مفردة الشكل الطافح بالقوى والعناصر الضوئية، مقابل خلفية ذات امتصاص لوني يخدم حركة وحضور الشكل.
ان لوحة خليل الصليبي هي جزء من صوت صارم ومعاند ينفذ صوب القيم التصويرية مباشرة وبلا توطئة ثانوية. لكنه كمصور واثق لن يكتفي بالصورة التماثلية للشكل، بل يذهب صوب الطاقات الإضافية للون الذي هو القيمة الأكثر أهمية وخطورة.
وهنا لا بد من التذكير بالأمور التالية: أولا: ان خليل الصليبي لم يمارس الفنون الدينية، حيث لم يكن بحاجة لأن يدخل محراب الفن عبر بوابة الفنون التقوية الدينية، ثانياً: بالنسبة للبورتريه نرى أن الصليبي لم يرسم الشخص لذاته أو كبديل للصورة الفوترغرافية، بل باعتباره موضوعا يعبّر فيه من خلال الصورة بما يتجاوز الرسم الذاتي، ثالثاً: الصليبي هو فنان مفصلي في مرحلة التأسيس، فهو كينونة إبداعية قائمة بذاتها تتعامل مع الفن كمعطى إبداعي معزول عن أية جوانب للكسب.

فيليب موراني (1875-1981)

يشكّ العالم الشرقي بالنسبة للفنان فيليب موراني مصدراً أساسياً من مصادر الوحي والإلهام. لذلك تراه يستغرق في عملية الكشف عن أسراره وجمالياته. فاللوحة عند هذا الفنان هي كشف جمالي للمكان الخالد وهي صياغة غنائية عبر التكوين البارع للعين والذوق. وليس غريبا على فنان من هذا الطراز ان يتصف بصفة الانحياز العام للاماكن الاستثنائية التي تحمل رائحة الماضي، ويشكّل وجودها شهادة انتماء إلى تأصيل ما برح العديد من فنانين العالم يسعون إليه.
الأسطورة الشرقية التي رسمها هي حدث في الذاكرة المسحورة باستثنائية الشرق كله. واللوحة التي تدخل كجزء من عملية تجميل المكان المرفه هي أكثر من وجود ديكوري. لذلك ستبدو عملية الصياغة التأليفية في لوحة هذا الفنان مزيجاً من الشاعرية والأداء الانطباعي المعتمد على الغنائية اللونية الدفينة.
إن قوة الأداء ومتانة الوعي التكويني عند فيليب موراني جعلتاه فنانا متمكّنا من الوصول إلى صلب المعادلة الرومانسية التي تقوم على صعود البراعة التكوينية مترافقة مع قوة القصد التصميمي في الرسم الذي هو القيمة التأليفية الأولى. مع ذلك فإن لوحة هذا الفنان التي امتازت بواقعها المشهدي كانت تمتاز، إلى جانب مساحتها الكبيرة، بقدر من السردية الملطّفة. ولكن هل هذه اللوحة الصالونية الكبيرة هي تدوين لذاكرة مرحلة من مراحل البحث المتقدمة في الفن اللبناني؟ أم هي الإعلان الغنائي عن المحتوى الاستشراقي الجاذب لمشرقنا الجميل؟ الآن وبعد أكثر من ثلاثين عاما على رحيل موراني، فإننا نعود لنجد القيمة التأسيسية للوحة شكّلت في عمر وجودها نمطا آخر من أنماط البحث والتأويل عن البدايات المجدية للفن اللبناني.
كان موراني كثير الترحال، واسع الاطلاع، متشعب العلاقات مع الطبقات الثرية، يشكّل حضوره جزءاً من دائرة العلاقات البرجوازية التي تنطوي على أسرار ومفارقات يبدو ان موراني كان يتقنها بشكل جيد، حتى في نظرته إلى لبنان، فهو بالنسبة له جزء من ماضٍ فانتازي جميل يكاد يكون خالياً من كل ما يشير إلى حاضره الصعب خلال تلك المراحل التأسيسية من تاريخ الوطن.
كان يرسم الآخر وفقاً لرغبته هو بالذات في صياغة العلاقة مع هذا الآخر، ووفقا لمفاهيم برجوازية تجعل من الفنان موقعا اجتماعيا يحمل امتيازاته المعترف بها. لذلك فهو الصورة الارستقراطية للفنان الناظر إلى عالمه من كوة شرقية بالغة النقش والجمال.
درس فيليب موراني في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس (1892-1895)، واستقر فيها ابتداء من ،1901 من دون ان يمنعه ذلك من العيش في حنين دائم إلى شرق متخيّل لم يبارحه قط. تميّز بأعماله البانورامية المشهدية الضخمة، ومن أشهرها لوحة إعلان لبنان الكبير في قصر الصنوبر، ولوحة أرز لبنان (400 *300سم) التي مثلت لبنان في معرض باريس العالمي سنة ،1931 ولوحة محمل الحج (300 *400سم) الموجودة في متحف دمشق.


جيل الريادة في المهجر

جبران خليل جبران (1883-1931)

شكّل جبران مداخلة أساسية في ريادة الفن اللبناني، رغم ان غالبية إنتاجه الفني كان في الغربة، وان إطلالته الأساسية الأولى والأهم في لبنان لم تكن عبر حضوره المتحفي القصي في بلدته الجبلية بشري، بل عبر استعادته الشاملة في متحف سرسق في بيروت عام 1999. لذلك أعيد اكتشاف جبران ضمن صيغة السؤال الأساسية حول اتجاهه الرمزي، والمدى الذي يمكن من خلاله التعامل مع اللوحة الجبرانية كجزء من النص الفكري الذي أنتجه. حتى ان العديد من الدارسين تعاملوا مع جبران الكاتب والمفكّر أوسع مما تعاملوا معه كفنان أنتج فنا منعزلاً عن نصه الكتابي. ولهذا السبب فإن البحث عن خصوصية في جبران خليل تتطلب أولا وقبل كل شيء دراسة منابعه الأساسية الأولى، ودراسته الفنية المبكرة.
ففي الغربة الأمريكية نضجت تجربة جبران الفنية، بمعنى ان روح الفن وبداياته، كانت كالبذرة المستكينة، موجودة في داخله. لكنه ومن خلال فلورنس بيرس، المرشدة الاجتماعية لحي الفقراء في بوسطن، المكتشفة الأولى لمقدرته في الرسم، سوف يعايش المحيط الفني المتمثل بالمصور فريد هولند داي الذي اتخذ جبران موديلا للشرقي الروحاني.
في هذه المرحلة التي اقتنع خلالها جبران بخصوصيته الشرقية، برز في وعيه أول التبلورات الرمزية، وذلك من خلال أعمال تخطيطية مبسطة أنتجها بمساعدة الفنانة الانطباعية ليلي كابود باري التي كانت قد درست الفن بدورها على يد الفنان الانطباعي الفرنسي بيسارو.
لكن معرض عام 1904 الذي أقامه جبران في استديو هولند داي، وهو معرض مشترك وليس فرديا، سوف يفتح أمامه فرصة ذهبية تجلّت في التعرّف إلى ماري هاسكل التي تركت إثرها الفكري والإبداعي في حياة وفن جبران.
وفي خلال زيارته إلى لندن وربما قبلها، وبتأثير من ماري هاسكل، يتعرف جبران إلى فن وليم بليك الذي استثار داخل جبران ذلك الجيشان الرمزي الذي تلاءم كلياً مع النص الفكري الذي بدأ يستغرق فيه. فوليم بليك يمتلك في لوحته طاقة إيمائية غير محدودة لها قابلية فذة في خرق الجانب المهم الذي يغلف الذات. انه بحث في الجوانب النفسية بطريقة تصير فيها الصورة هي الفكرة وليس مجرد إيحاء لها.
تبلور الاتجاه الرمزي عند جبران بعد انتقاله إلى باريس وعوالمها الفكرية، ولا سيما ان الحركة الرمزية الفرنسية كانت قد بدأت أوج تجلياتها ما بين 1880 و،1900 حيث قامت كثورة مستحدثة ضد الحركة البر ناسية التي أخضعت الأدب للحقائق العلمية.
لم يرسم جبران اللوحة المعزولة عن خلفيتها الفكرية، ولم ينتج فناً منتمياً لاختباريه روح المحترف، بل حتى من خلال البورتريه الذي أنتجه، نرى في لوحة جبران ذلك الجنوح صوب المحاكاة الغنائية للرمز بحس مرهف، فهو الرسام الذي نفذ العديد من أعماله بالفحم وبأقلام الرصاص مترجما أفكاره وأحاسيسه.
تعرّفنا كلبنانيين إلى جبران بشكل أساسي عبر نصه الفكري. أما كفنان، فإن نتاجه خارج الوطن وعزلة متحفه، بالإضافة إلى الاهتمام الأدبي بالنص الجبراني، كانت عوامل أدت إلى طرحه كاتبا يرسم أكثر مما هو رسام يكتب.

جورج القرم (1896 - 1981)

من مواليد بيروت وهو الابن الثاني لداود القرم الرسام الكبير وأحد الأقطاب المؤسسين، درس الرسم في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس بين 1919 و1921. دعا عام 1928 إلى إنشاء متحف الأثريات والفنون الجميلة لمدينة بيروت وعيّن عضواً في اللجنة التنفيذية المكلفة بالمشروع الذي لم يبصر النور.
أواخر عام 1928 هاجر إلى مصر حيث أسس جماعة المحترف. وفي عام 1936 اقتنى متحف انفرس البلجيكي لوحتين من أعماله، كما نال وسام الاستحقاق اللبناني. وفي عام 1955 انتخب عضواً في الجمعية الملكية للفنون في لندن، وقد عاد ليستقر في لبنان ابتداءً من عام 1956 إلى ان توفي في بيروت يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 1971.
يعتبر جورج القرم من أوائل الفنانين اللبنانيين الذين انفتحوا على المعارض الفردية خارج لبنان وداخله، بين 1935 و،1967 حيث أقام معارض في كل من الإسكندرية، القاهرة، بيروت وبحمدون.
تبدو سيرة جورج القرم مرتبطة كل الارتباط بالإرث الإبداعي والاجتماعي الذي أورثه له والده داود القرم. ويبدو ان خيارات عديدة كانت مفتوحة أمام جورج القرم. فهو بدأ شاعراً أصدر عام 1915 ديوانه الشعري تحت عنوان مع البسطاء وهو عازف على البيانو يكاد يصل إلى مرتبة الاحتراف الموسيقي، وقد أهله ذلك في المسعى الذي بذله لإنشاء المعهد الموسيقي. أما جنوحه نحو الرسم واتخاذه كخيار نهائي له فإن الضرورات المادية هي التي لعبت دورها الأكبر فيه. أسلوبه في الفن غير محدد المعالم، فهو يجنح صوب الترميز في الأعمال التي رسمها ابتداء من عام ،1950 كلوحة خليج جونية أو لوحة الإنسان في الكوكب. لكن مرحلته في الإسكندرية التي سبقت ذلك بربع قرن كانت رصدا للحركة الدائبة في واحدة من المدن المتوسطية الأكثر نشاطاً، ولا سيما ان زوجته ماري بخيت هي ابنة التاجر الاسكندراني المعروف يوسف بخيت.

****

شكل حبيب سرور ظاهرة الفنان الذي احترف الفن وجعله مهمته اليومية، مكرسا طاقته التصويرية لإنتاج اللوحة التي تتجاوب ذوقيا مع الآخر. وشكل أيضا خطا مميزا حينما ركز تقاليد المحترف القائم على تطوير وتربية الطاقات الفنية الواعدة، فلا غرابة ان تنمو وتتفجر في محترفه بالذات الإمكانات الفنية لمصطفى فروخ وصليبا الدويهي ورشيد وهبي، لذلك سيبدو دور الأستاذ أو المعلم هو البداية التي شهدها المحترف اللبناني في أولى مراحله التأسيسية.
ولكن حبيب سرور، الأكاديمي المتمسك بالخط الكلاسيكي العريق، كان أيضا في طليعة الذين مارسوا خروجهم الحر على المألوف والمتداول، وذلك بعد ان عايش تجارب أساسية، إحداها في روما التي انتقل إليها مع أهله عند بلوغه العاشرة من العمر فأتم فيها دراسته الأكاديمية، ثم مصر التي عايش فيها مرحلة مهمة من النهضة الفنية التي عرفتها مدرسة الإسكندرية. أما عودته إلى لبنان سنة ،1890 فقد كرسته فنانا أساسيا وأستاذا يمارس التدريس في مدرسة الصنائع العثمانية.
ينقسم فن حبيب سرور إلى إيقاعات ثلاثة أساسية، ربما أبرزها ذلك الإيقاع التشخيصي لفن البورتريه الذي نجح من خلاله الفنان في خلق قيم قلما كانت مألوفة في لبنان سابقا. وإذا حاولنا ان ندرس الغالبية العظمى من لوحات البورتريه التي رسمها، لوجدناه يركز على العناصر التأليفية المباشرة في الوجه. فهو يصل إلى التشابه التام من خلال منح الحيوية التشريحية للشكل، باعثا اللون كقوة حية تتدفق باتجاه الخارج، ومثيرا حركة سرية في الأنسجة الحية للشكل، فيما سنرى الفنان يذهب صوب القتامة المتعمدة في رسم بقية الأجزاء، وكأنه يلعب على إيقاعات اللون الواحد ومشتقاته. واللوحة عند سرور ليست موضوعا محايدا، بل نقطة ارتكاز تلتقي عندها مختلف المشاعر. ولهذا نجد أن لوحة الطبيعة الصامتة، كإيقاع ثان لديه، هي مجموعة من الأجزاء المرسومة بانبعاث ذاتي مميز للشكل المرسوم، علما بان مجموعة هذه الأشكال سوف يكون نوعا من التوازن الهارموني للقوى. لكن الفنان سوق يشتغل هنا بروح شبه انطباعية مبرزا الاضاءات المركزية المهمة والجوهرية في المفردة. إما الإيقاع الثالث، فقد تجلى في رسمه لشتى المواضيع الدينية والحياتية. وهو عبر الممارسة اليومية لفن الرسم اكتسب مقدرة فذة على الإمساك بالتأليف المتوازن للمسطح التصويري، اذ قلما وجدنا في أي عمل من أعماله ذلك الجنوح لضرب التوازنات العقلانية الدقيقة.

خليل الصليبي (1870 - 1938)

ولد في ضيعة بطلون في جبل لبنان وكان تعلمه الأول بمدرسة الضيعة. انتقل عام 1886 للدراسة في الكلية السورية في بيروت، وقد سميت فيما بعد بالجامعة الأمريكية. وفي عام 1890 سافر إلى انجلترا قاصدا ادنبره، حيث تعرف هناك إلى جون سنجر سارجنت الرسام الباحث عن جمالية الشرق وأسراره. وقد اغتنى هذا الفنان الانجليزي من معارف صديقه اللبناني، وأغناه بالمقابل معرفة بأصول الفن وأسراره.
خلال تلك المرحلة تعرف إلى زوجته كاري رود الأمريكية المتحدرة من أصول جرمانية، فتنقل معها ما بين أمريكا وانجلترا وفرنسا، حيث تعمق بدراسته التقنية اللونية، ولا سيما انه التحق بمحترف بيار بوفيس دو شافان المعروف في الأوساط الفنية الباريسية، كما التقى هناك بالفنان الانطباعي بيار أوجست رينوار.
أما عودته إلى لبنان فقد فسرها العديد من الباحثين بشوق هذا الفنان إلى النور واللون الطافح في وطنه، إضافة إلى حنينه لقريته الجبلية ومواسمها المميزة. العودة إلى لبنان لم تكن انقطاعا عن الغرب ومعطياته، لكنها بداية تأسيس للمحترف اللبناني المفتوح أمام الطاقات الواعدة، وها هو يطلق من محترفه اثنين من مؤسسي التيار الانطباعي اللبناني، إلا وهما عمر الإنسي وقيصر الجميل.
تمتاز لوحة الصليبي بمتانة الضربة وجزالتها اللونية، لكنها تنطوي على وعي بحساسية التوزيع اللوني الفائق، بحيث تندفع التفاعلات الضوئية مع اللون الذي لا يمتلك حدوداً قاسية، لتشكل برمتها شكلاً متكوناً بمكنونات ذاتية تكاد توحي بأنها ألقت ذاتها بذاتها، إي من دون ان يذهب الفنان قاصداً مثل هذه النتائج. هكذا كانت الأشكال عند صديقه "رينوار" الذي اشتهر بهذه الميزة الفريدة، ولدى بيار دو شافان الذي ودع القرن التاسع عشر بكشف لوني يتعلق بلوحة الألوان المكمّلة المستندة إلى خلفية من الضربة الوحشية.
نحن حيال فنان متين يتعامل بثقة مع التأليف الذي يغدو فيه الشكل أسير العلاقات اللونية المتجددة في كل ضربة وزاوية. ولهذا نجد ان لوحة العري - رسم في الغالب زوجته كاري - تقوم أيضا على ذات المعادلة التأليفية حيث التقاء بين قوتين، أحداهما التي تكون مفردة الشكل الطافح بالقوى والعناصر الضوئية، مقابل خلفية ذات امتصاص لوني يخدم حركة وحضور الشكل.
ان لوحة خليل الصليبي هي جزء من صوت صارم ومعاند ينفذ صوب القيم التصويرية مباشرة وبلا توطئة ثانوية. لكنه كمصور واثق لن يكتفي بالصورة التماثلية للشكل، بل يذهب صوب الطاقات الإضافية للون الذي هو القيمة الأكثر أهمية وخطورة.
وهنا لا بد من التذكير بالأمور التالية: أولا: ان خليل الصليبي لم يمارس الفنون الدينية، حيث لم يكن بحاجة لأن يدخل محراب الفن عبر بوابة الفنون التقوية الدينية، ثانياً: بالنسبة للبورتريه نرى أن الصليبي لم يرسم الشخص لذاته أو كبديل للصورة الفوترغرافية، بل باعتباره موضوعا يعبّر فيه من خلال الصورة بما يتجاوز الرسم الذاتي، ثالثاً: الصليبي هو فنان مفصلي في مرحلة التأسيس، فهو كينونة إبداعية قائمة بذاتها تتعامل مع الفن كمعطى إبداعي معزول عن أية جوانب للكسب.

فيليب موراني (1875-1981)

يشكّ العالم الشرقي بالنسبة للفنان فيليب موراني مصدراً أساسياً من مصادر الوحي والإلهام. لذلك تراه يستغرق في عملية الكشف عن أسراره وجمالياته. فاللوحة عند هذا الفنان هي كشف جمالي للمكان الخالد وهي صياغة غنائية عبر التكوين البارع للعين والذوق. وليس غريبا على فنان من هذا الطراز ان يتصف بصفة الانحياز العام للاماكن الاستثنائية التي تحمل رائحة الماضي، ويشكّل وجودها شهادة انتماء إلى تأصيل ما برح العديد من فنانين العالم يسعون إليه.
الأسطورة الشرقية التي رسمها هي حدث في الذاكرة المسحورة باستثنائية الشرق كله. واللوحة التي تدخل كجزء من عملية تجميل المكان المرفه هي أكثر من وجود ديكوري. لذلك ستبدو عملية الصياغة التأليفية في لوحة هذا الفنان مزيجاً من الشاعرية والأداء الانطباعي المعتمد على الغنائية اللونية الدفينة.
إن قوة الأداء ومتانة الوعي التكويني عند فيليب موراني جعلتاه فنانا متمكّنا من الوصول إلى صلب المعادلة الرومانسية التي تقوم على صعود البراعة التكوينية مترافقة مع قوة القصد التصميمي في الرسم الذي هو القيمة التأليفية الأولى. مع ذلك فإن لوحة هذا الفنان التي امتازت بواقعها المشهدي كانت تمتاز، إلى جانب مساحتها الكبيرة، بقدر من السردية الملطّفة. ولكن هل هذه اللوحة الصالونية الكبيرة هي تدوين لذاكرة مرحلة من مراحل البحث المتقدمة في الفن اللبناني؟ أم هي الإعلان الغنائي عن المحتوى الاستشراقي الجاذب لمشرقنا الجميل؟ الآن وبعد أكثر من ثلاثين عاما على رحيل موراني، فإننا نعود لنجد القيمة التأسيسية للوحة شكّلت في عمر وجودها نمطا آخر من أنماط البحث والتأويل عن البدايات المجدية للفن اللبناني.
كان موراني كثير الترحال، واسع الاطلاع، متشعب العلاقات مع الطبقات الثرية، يشكّل حضوره جزءاً من دائرة العلاقات البرجوازية التي تنطوي على أسرار ومفارقات يبدو ان موراني كان يتقنها بشكل جيد، حتى في نظرته إلى لبنان، فهو بالنسبة له جزء من ماضٍ فانتازي جميل يكاد يكون خالياً من كل ما يشير إلى حاضره الصعب خلال تلك المراحل التأسيسية من تاريخ الوطن.
كان يرسم الآخر وفقاً لرغبته هو بالذات في صياغة العلاقة مع هذا الآخر، ووفقا لمفاهيم برجوازية تجعل من الفنان موقعا اجتماعيا يحمل امتيازاته المعترف بها. لذلك فهو الصورة الارستقراطية للفنان الناظر إلى عالمه من كوة شرقية بالغة النقش والجمال.
درس فيليب موراني في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس (1892-1895)، واستقر فيها ابتداء من ،1901 من دون ان يمنعه ذلك من العيش في حنين دائم إلى شرق متخيّل لم يبارحه قط. تميّز بأعماله البانورامية المشهدية الضخمة، ومن أشهرها لوحة إعلان لبنان الكبير في قصر الصنوبر، ولوحة أرز لبنان (400 *300سم) التي مثلت لبنان في معرض باريس العالمي سنة ،1931 ولوحة محمل الحج (300 *400سم) الموجودة في متحف دمشق.

جيل الريادة في المهجر

جبران خليل جبران (1883-1931)

شكّل جبران مداخلة أساسية في ريادة الفن اللبناني، رغم ان غالبية إنتاجه الفني كان في الغربة، وان إطلالته الأساسية الأولى والأهم في لبنان لم تكن عبر حضوره المتحفي القصي في بلدته الجبلية بشري، بل عبر استعادته الشاملة في متحف سرسق في بيروت عام 1999. لذلك أعيد اكتشاف جبران ضمن صيغة السؤال الأساسية حول اتجاهه الرمزي، والمدى الذي يمكن من خلاله التعامل مع اللوحة الجبرانية كجزء من النص الفكري الذي أنتجه. حتى ان العديد من الدارسين تعاملوا مع جبران الكاتب والمفكّر أوسع مما تعاملوا معه كفنان أنتج فنا منعزلاً عن نصه الكتابي. ولهذا السبب فإن البحث عن خصوصية في جبران خليل تتطلب أولا وقبل كل شيء دراسة منابعه الأساسية الأولى، ودراسته الفنية المبكرة.
ففي الغربة الأمريكية نضجت تجربة جبران الفنية، بمعنى ان روح الفن وبداياته، كانت كالبذرة المستكينة، موجودة في داخله. لكنه ومن خلال فلورنس بيرس، المرشدة الاجتماعية لحي الفقراء في بوسطن، المكتشفة الأولى لمقدرته في الرسم، سوف يعايش المحيط الفني المتمثل بالمصور فريد هولند داي الذي اتخذ جبران موديلا للشرقي الروحاني.
في هذه المرحلة التي اقتنع خلالها جبران بخصوصيته الشرقية، برز في وعيه أول التبلورات الرمزية، وذلك من خلال أعمال تخطيطية مبسطة أنتجها بمساعدة الفنانة الانطباعية ليلي كابود باري التي كانت قد درست الفن بدورها على يد الفنان الانطباعي الفرنسي بيسارو.
لكن معرض عام 1904 الذي أقامه جبران في استديو هولند داي، وهو معرض مشترك وليس فرديا، سوف يفتح أمامه فرصة ذهبية تجلّت في التعرّف إلى ماري هاسكل التي تركت أثرها الفكري والإبداعي في حياة وفن جبران.
وفي خلال زيارته إلى لندن وربما قبلها، وبتأثير من ماري هاسكل، يتعرف جبران إلى فن وليم بليك الذي استثار داخل جبران ذلك الجيشان الرمزي الذي تلاءم كلياً مع النص الفكري الذي بدأ يستغرق فيه. فوليم بليك يمتلك في لوحته طاقة إيمائية غير محدودة لها قابلية فذة في خرق الجانب المهم الذي يغلف الذات. انه بحث في الجوانب النفسية بطريقة تصير فيها الصورة هي الفكرة وليس مجرد إيحاء لها.
تبلور الاتجاه الرمزي عند جبران بعد انتقاله إلى باريس وعوالمها الفكرية، ولا سيما ان الحركة الرمزية الفرنسية كانت قد بدأت أوج تجلياتها ما بين 1880 و،1900 حيث قامت كثورة مستحدثة ضد الحركة البر ناسية التي أخضعت الأدب للحقائق العلمية.
لم يرسم جبران اللوحة المعزولة عن خلفيتها الفكرية، ولم ينتج فناً منتمياً لاختبارية روح المحترف، بل حتى من خلال البورتريه الذي أنتجه، نرى في لوحة جبران ذلك الجنوح صوب المحاكاة الغنائية للرمز بحس مرهف، فهو الرسام الذي نفذ العديد من أعماله بالفحم وبأقلام الرصاص مترجما أفكاره وأحاسيسه.
تعرّفنا كلبنانيين إلى جبران بشكل أساسي عبر نصه الفكري. أما كفنان، فإن نتاجه خارج الوطن وعزلة متحفه، بالإضافة إلى الاهتمام الأدبي بالنص الجبراني، كانت عوامل أدت إلى طرحه كاتبا يرسم أكثر مما هو رسام يكتب.

جورج القرم (1896 - 1981)

من مواليد بيروت وهو الابن الثاني لداود القرم الرسام الكبير وأحد الأقطاب المؤسسين، درس الرسم في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس بين 1919 و1921. دعا عام 1928 إلى إنشاء متحف الأثريات والفنون الجميلة لمدينة بيروت وعيّن عضواً في اللجنة التنفيذية المكلفة بالمشروع الذي لم يبصر النور.
أواخر عام 1928 هاجر إلى مصر حيث أسس جماعة المحترف. وفي عام 1936 اقتنى متحف انفرس البلجيكي لوحتين من أعماله، كما نال وسام الاستحقاق اللبناني. وفي عام 1955 انتخب عضواً في الجمعية الملكية للفنون في لندن، وقد عاد ليستقر في لبنان ابتداءً من عام 1956 إلى ان توفي في بيروت يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 1971.
يعتبر جورج القرم من أوائل الفنانين اللبنانيين الذين انفتحوا على المعارض الفردية خارج لبنان وداخله، بين 1935 و،1967 حيث أقام معارض في كل من الإسكندرية، القاهرة، بيروت وبحمدون.
تبدو سيرة جورج القرم مرتبطة كل الارتباط بالإرث الإبداعي والاجتماعي الذي أورثه له والده داود القرم. ويبدو ان خيارات عديدة كانت مفتوحة أمام جورج القرم. فهو بدأ شاعراً أصدر عام 1915 ديوانه الشعري تحت عنوان مع البسطاء وهو عازف على البيانو يكاد يصل إلى مرتبة الاحتراف الموسيقي، وقد أهله ذلك في المسعى الذي بذله لإنشاء المعهد الموسيقي. أما جنوحه نحو الرسم واتخاذه كخيار نهائي له فإن الضرورات المادية هي التي لعبت دورها الأكبر فيه. أسلوبه في الفن غير محدد المعالم، فهو يجنح صوب الترميز في الأعمال التي رسمها ابتداء من عام ،1950 كلوحة خليج جونية أو لوحة الإنسان في الكوكب. لكن مرحلته في الإسكندرية التي سبقت ذلك بربع قرن كانت رصدا للحركة الدائبة في واحدة من المدن المتوسطية الأكثر نشاطاً، ولا سيما ان زوجته ماري بخيت هي ابنة التاجر الاسكندراني المعروف يوسف بخيت.
ترك مصر نهائيا زمن الهجوم الثلاثي عام 1956 وعاد إلى لبنان ليعيش حالة انطوائية في بيروت، حيث اطل كفنان مناهض للتيارات الاختبارية والحداثوية التي بدأت تسود في لبنان مع مطلع الستينات.

ماري حداد (1895-1973)

تذهب إلى عالم الرسم حاملة ارثها الاجتماعي (كونها أخت ميشال شيحا، احد مؤسسي التيار الفكري اللبناني) والثقافي (كاتبة وشاعرة لها العديد من المؤلفات الأدبية) لكي تقدم ذلك النمط المثير من الأعمال التي تنطوي على روح شرقية، وعلى انخطاف بالألق الشرقي. لذلك فهي طراز من الانطباعيين الذين ينظرون إلى الموضوع وينطلقون منه للوصول إلى غايات تلوينية تجسده كواقع له مدلولاته الثقافية، ولهذا السبب نالت إعجاب الباريسيين حيث كانت الفنانة اللبنانية الأولى التي يقتني متحف جودوبوم الفرنسي لوحة لها بعد ان عرضت في غاليري برنهايم سنة 1933 وغاليري روتجي سنة 1937. شاركت في المعرض العالمي بنيويورك سنة 1939 والمعرض العالمي في كليفلند/اوهايو سنة 1941 وفي متحف جامعة هارفرد في العام نفسه. انتسبت إلى إتباع داهش ابتداء من الأربعينات من القرن العشرين مما سبب لها الكثير من المشكلات واسهم في تهميشها. أما اغلب أعمالها فهي ضمن مجموعة متحف داهش في نيويورك.

بيبي زغبي (1890-1973)

نمت موهبتها الفنية في المهجر فهي ابنة ساحل علما التي ارتحلت إلى الأرجنتين في السادسة عشرة من عمرها. لكنها في الثلاثينات من عمرها بدأت تطل في المعارض حيث عرضت في بيونس ايرس، والتشيلي، والريو دو جانيرو - البرازيل والاوراغواي وباريس.
في عام 1947 عادت إلى لبنان وشاركت في معرض كبير أقيم في المتحف الوطني، وقد امتازت بتنوع رسومها للأزهار وهو فن ركزت عليه في أمريكا اللاتينية حيث كانوا يلقبونها بالبنتورا دي فلورس، أي رسامة الأزهار، وهذا الأمر جعلها ملونة من طراز نادر. التأليف لديها هو تطريز لوني على مسطح مليء بالأزاهير والأغصان. وهي بذلك تصل إلى درجة من الإيحاء بعالم متكامل يوحي بأنه مسخر لخدمة الأنسنة.
يقول شارل قرم عن بيبي الزغبي: كل أزهار الأرض تبتسم لنا للحظة وتموت كل يوم، أما أزهار زغبي فلا تفنى أبدا لأنها وضعت فيها نسغ دمها وشعلتها الخالدة.

الخليج الثقافي
6-4-2005


إقرأ أيضاً: