(من أعمال حسين ماضي) |
صدر قبل اقل من شهر واحد من أهم الكتب التي أصدرتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, لأنه يتحدث عن الفن اللبناني ضمن سياقي التجربة والتاريخ. انطلاقا من الجذور التي تعود الى بدايات القرن السابع عشر, وصف الدكتور (المنجي بوسنينه) المدير العام للمنظمة هذا الكتاب بأنه واحد من أعمق البحوث وأغناها بالنسبة الى حركة فنية في وطن متجذر ومتنوع الثقافات: «انه ليس نصا مميزا تاريخيا وعلميا ونقديا فحسب, بل هو أيضا كتاب فني يقدم اللوحة والصورة الفنية بكل جماليتها» وذلك حسب ما ورد في مقدمة المنظمة.
الذين اشتغلوا على تأليف الكتاب بتكليف من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, هم, عمران القيسي وجوزيف أبو رزق وصالح بركات.
يقابل هذا الانجاز الفذ واقع فني بالغ الغرابة, فهو يشكل حالتي انشطار واستقطاب سلبي. الانشطار يتمثل في تحول الاختبارية الذاتية للعديد من الفنانين الى حالة انغلاق نموذجي وتجريبي بالغ السلبية يهدف فقط الى اللحاق بالموجات العالمية الجديدة. أما الاستقطاب السلبي فهو يتمثل حاليا في حالة غياب القناعة بدور الفنون البصرية في المؤثرات الثقافية. انها تكاد تصل الى المستوى الثقافي ذاته حيث السؤال الاول والأخير عن جدوى الغطاء الثقافي إزاء المعضلة الوجودية الأكبر.
ان المعارض الرتيبة والقليلة في بيروت بالأخص لا تكشف عن مفاجآت مدهشة. بل عن نمطية إنتاج متراكم ضمن قناعات يصعب ان تتغير او تخضع لأي تعديل جوهري, والغريب ان الأمر ينسحب حتى على مستوى الأنشطة الجماعية التي باتت موسمية ومملة حيث لا تعزز )السيمبوزيومات( إي جديد إبداعي.
ان خريطة بيانية واضحة للمسطح الفني التشكيلي في لبنان, تكشف لنا عالما مرعبا ينهض على حالة اتساع الهوة بين الأجيال الفنية والشرائح.
فهناك في أقصى المعادلة نجد ذلك الرعيل من الفنانين اللبنانيين الذين استمروا حاضرين منذ الستينيات حتى يومنا هذا... لكنهم وقد صاروا جزءا من الميراث الأكاديمي, باتوا يحصنون بنمطية نتاجهم المدعوم برصين حضورهم الدهري فحسب.
إنهم لا يمثلون اتجاهات فنية, ولم يكرسوا سوى تجارب شخصية بسيطة كانت ذات يوم قابلة للتطوير, لكن حوَّلها التكرار والاستمرار على ما اتفق على تسمية بالخط المميز, الى أعمال سهلة ومكررة. مع ذلك فإننا لو درسنا تجارب هؤلاء بالعمق النقدي المطلوب. فإننا سنجد بأن هذه التجارب ترتكز على تجارب غربية اندثرت الآن ولم يعد لها وجود, ولكن أعيد النظر بكامل تفاصيلها. فإذا كان الاتجاه التجريدي لدى البعض يشكل اجتهادا وتنوعا له قوانينه الذاتية لا الموضوعية. ولهذا تكتسب أعمال «ايفيت اشقر» و«أيلي كنعان» و«شوقي شمعون» القدر الذي كانت تكتسي به لوحة الراحل شفيق عبود لدى اللبنانيين رغم انها كانت لوحة تقترب تلقائيا من ارث الانطباعية واجتهاداتها المعاصرة في الغرب... البعض يبحث عن الذاتي في لوحة المجرد اللبناني. لأنه الفنان الذي يجتهد على مغايرة السائد عالميا.
لكن اللوحة التجريدية اللبنانية ليست سيدة الساحة التشكيلية, بل هناك اللغة التعبيرية التي يمتد خيطها من الرعيل الاكاديمي الستيني حتى الرعيل المعاصر. اي انها تمتد واقعيا من حليم جرداق الى شوقي شمعون مرورا بأسماء لا تحصى.
والغريب ان الإيقاعات التعبيرية بقدر ما حفلت عن المرحوم «ابراهيم مرزوق» الذي قتل العام 1983 بسبب انفجار قنبلة قرب الفرن الذي كان يشتري منه الخبز لعائلته بنوع من الإخصاب البنائي الرمزي والتأليف الاكاديمي المتين, الذي تعامل مع الهندسية التكعيبية بروح بناءة راقية. فإنه عند مجايليه, موسى طيبا, حسين ماضي وغيرهم, اخذ المعنى الاختصاري او الابتساري الذي هدف الى تثبيت المفردة بوصفها (الثيمة) او الهوية الشخصية للفنان, علما ان مثل هذه الثيمة او المفردة سبق وكررت عند العديد من الفنانين الأوروبيين سابقا.
ليس في لبنان من تيار تعبيري يحمل صفة الشخصية اللبنانية في الفن. ولذلك اعتبر الرعيل الانطباعي هو الممثل الشرعي للوحة النور اللبنانية. فلا غرابة ان يتعامل المقتني اللبناني مع لوحة عمر الإنسي ومصطفى فروخ وقيصر الجميل وحتى رشيد وهبي, بنوع من التهذيب الذي يطغى على الإعجاب, ويظلل اي موقف نقدي بحيث يتنحى النقد لمصلحة الإعجاب.
لم تزل لوحة الرعيل الانطباعي ذات مكانة خاصة. لذلك فإن العديد من ورثة هؤلاء الذين أرادوا ان يؤسسوا. او ينسجوا على €نول€ المنظر اللبناني, أمثال جوزيف مطر, محمد القيسي, عماد أبو عجرم, سميرة نعمة وغيرهم, إنما غلبوا جوانب الجذب البصري, والاقتراب من أذواق المتلقين برصد الخارج الذي يأتون اليه. هناك من عمد الى رسم البيوت الأثرية بناء على طلبات الورثة الذين سعوا الى تخليد ارثهم العقاري!
ما بين التعبيرية المتنوعة او لنقل القلقة, والانطباعية الموروثة والنزعات التجريدية, تظل اجتهادات تتمطى بين الاتجاهات, ولهذا يمكننا ان نقرأ لوحة علي شمس ولوحة زوجته فاطمة الحاج, ولوحة جميل ملاعب الأخيرة, كما لوحة غادة صاغية, وآسيا مسابكي وغيرهم, ضمن هذا التيار الذي يمتلك حقا قابلا للتفسير والتأويل بأن يتناول شتى الاجتهادات في لوحته.
بالطبع هناك من يرى بأن التجديد في هذا العصر يكمن في (الماتيريال) اي المادة التي يشتغل بها الفنان ليؤلف عمله, وهنا ننتبه صوب لوحة الكولاج عند العديد من الفنانين اللبنانيين لنكتشف بأن مفاهيم متنوعة لهذه العملية التلصيقية بدأت تصير قيد التداول حاليا. فما بين كولاجات عارف الريس, القطرية البسيطة التي هي حالة إفصاح بياني بالصور المنعزلة والمنفصلة عن بعضها, وبين كولاجات إميل طراد او تلصيقات محمد الرواس, نكتشف بأن المسعى للكشف عن معطيات الخامات المستخدمة يظل الهاجس الأكبر والاهم.
مع ذلك دعونا نبحث عن الأكثر رزانة ورسوخا رغم انه يشكل حالة أكاديمية تشتغل على اللوحة بوصفها رسما. بمعنى أدق, بوصفها البيان التصويري البصري الذي نطالعه بقدر من البساطة والهدوء. ولهذا ننظر الى اي عمل من أعمال البروفسور الدكتور سمير ثابت, لنكتشف بأن قدسية المرسوم تتجلى بالأمانة التصويرية, بحيث نقرأ البراعة أكثر مما نقرأ الصورة.
ثم ان أستاذ الجميع «غوفدير» هو الذي ثبت الحقائق التصويرية عبر المراس او المران الذهني اليدوي, فهو من الفنانين الذين يصنعون الشكل, ولا يستعصي عليهم اي منظور. إذ الفنان هو الذي يلتقط الصورة كإشارة سريعة وغنية بالتفاصيل.
إذا كان الفن اللبناني وفقا لهذه الخريطة المتنوعة لم يستطع حتى الآن التواصل مع الجمهور بالشكل الذي يحول بيروت الى باريس العرب من حيث كونها سوقا للفن, فإن المشكلة تكمن في جوهر العلاقة ما بين الجمهور والثقافة البصرية, او بالأحرى ما بين المقتني واللوحة او المنحوتة. فهي في آخر سلم المقتنيات لأنها لا تدخل ضمن تعداد الضروريات الحياتية بل هي الترف الذي يتنعم به الانسان بعد أن يمتلك كل الضروريات... هكذا يرى البعض, في ما سنرى بباريس مثلا يقبل على شراء اللوحات الانسان الذي يرى في العمل الفني تكملة لحضوره الإنساني والثقافي.
والغريب ان صالات العرض اللبنانية على ندرتها لم تناقش هذا الموضوع بشكل جدي ومعمق, بل تركته للزمن.
ولكن معارض الفن اللبناني ستبقى تشكل ظاهرة ثقافية ان لم تشكل ظاهرة اقتصادية في زمن لا بد للثقافة من ان تصير استثمارا منتجا وفاعلا في بناء الانسان العربي الجديد...
الكفاح العربي- 26 نوفمبر 2004