يتفق موضوعا الحرب والحب في كثير من الإبداعات، وقد كان وجودهما معاً أمراً مثيراً للروائي والشاعر والقارئ معاً وحتى للمخرجين والممثلين في السينما والتلفزيون، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الفنون التشكيلية. الأمر نفسه أغرى أيضاً المصور الفوتوغرافي الفنان فؤاد خوري، ليجمع أحرج لحظات الحرب مع أحرج لحظات الحب، يحضر الحب بأقصى درجات انفعاله، الحبيبة تقول: انتهت علاقتنا، في وقت تضرب الحرب نيرانها، ويرتفع الخوف مارداً، كذلك هي الحرب المفتوحة على المفاجآت والكوارث.
حالات من التقاطع والتداخل والتوازي، بل الحركة غير المفهومة، التي لا يستطيع التقاط كل إشاراتها فن من الفنون. فؤاد خوري أحب أن يقيم معرضه «عن الحرب والحب»، متضمناً 33 لوحة يرافقها 33 نصاً، يقدم خلالها مقتطفات يومية، أو يوميات لا تتقيد بالخبر أو الأحداث اليومية التي تابعتها وسائل الإعلام إبان حرب تموز 2006، من دون أن يقفز عنها بالطبع، فالأحداث تلك قادت الفنان إلى كتابة تلك اللحظات المقتطفة وتصويرها.
لا يقيم الخوري معرضه هذا ليخطب فينا عن الحرب، أو ليجند عواطفنا لفداء الحب، بل أراد أن يدخلنا إلى عالمه، من دون ثرثرة. نصوص قصيرة وصور صغيرة أيضاً، لكن النصوص والصور تتقيد بضرورة الاختزال الذي يضيء ويشعل، أكثر مما يحذف ويحجب، تذهب إلى شعرية القول وشعرية الصورة.
نشعر ونحن نتابع النصوص والصور أحياناً، بأننا أمام قصة مصورة، لكن الأمر ليس ببساطة التشبيه. نعم التسلسل موجود، وعنصر التشويق الموجود في النصوص له جاذبية المتابعة، لمعرفة ما الذي حصل لحبيب سافر على عجل لاستعادة حبيبة تريد قطع العلاقة. نجد أنفسنا أمام تأزم وعقد، في حالتي الحرب والحب، وفي الطرق المتقاطعة بينهما. ومع ذلك فالفنان لا يلزم نفسه بأن يكون كاتب قصة، وإن كانت نصوصه موفقة ولافتة بواقعيتها المستظرفة، وهي، أيضاً، لا تجعلنا نشعر بأننا نقرأ لمصور، بل نقرأ لكاتب، ترك المبدع الأدبي فيه يتنافس مع عدسته الذكية.
لحظات مقتطفة
كل صورة لها نصها المرافق، لكن الفنان لا يلزم نفسه بأن يكون النص مطابقاً للصورة، ولا الصورة مقيّدة بالنص. إنه تلازم حر، قد ينحرف داخله أحد الطرفين في اتجاه خصوصيته، فلا ضرورة للنص أن يسرد ما تسرد الصورة نفسها، ولا ضرورة للصورة أن تكون ببغاء النص. كأنه تزاوج تكاملي بين الاثنين، مرة يدخل النص في التفاصيل وتتحول الصورة إلى جملة واحدة، كمنظر جسر مدمر، ومرة أخرى يعجز الكلام وتدخل الصورة في تفاصيل مساحة مكتظة بالأشياء. في أي حال، يهتم الخوري بقطف اللحظة، بغض النظر عن ترجمتها نصاً أو صورة بصرية، إلى أن يصبح المعرض عبارة عن سلسلة من اللحظات المعبرة، التي تمتد من اليوم الأول لحرب تموز، في 13 منه، لتصل إلى اليوم الذي توقفت فيه الحرب في 14 آب. على أن المعرض نفسه يستمر طوال الفترة نفسها أي 33 يوماً، وهو موضوع في الأساس ليواكب ذكرى الحرب يوماً بيوم.
يحكي فؤاد الخوري إذا يومياته، التي تبدأ في بيته القريب من ميناء بيروت، حيث انقطعت الكهرباء وغادر السكان المبنى الذي يعيش فيه، بعد قصف الضاحية الجنوبية، تحضر صورة المبنى، وصورته وهو نائم إلى جانب رواية «الإخوة كارامازوف»، بل تحضر صورة الصفحة التي فتح عليها ولم يستطع تخطيها. إجلاء ابنه الأصغر بباخرة من خلال ميناء بيروت، الذي تعرض للقصف أيضاً. في اليوم الخامس اتصلت به حبيبته من الاسكندرية لتعلمه، وسط كل هذا التأزم، أنها سوف تهجره. لكنه أصر على لقائها، وسافر إلى سوريا وسط مخاطر القصف، ثم إلى اسطنبول طالباً منها أن تلاقيه ليكون الهجران وجهاً لوجه، لكن اللقاء كان من شأنه أن يشعل العلاقة من جديد، من دون أن يفتحها على المستقبل الذي بقي غامضاً، تماماً مثل مستقبل البلاد والعباد في لبنان. في مرحلة اسطنبول تدخل الحبيبة إطار الصورة، لا ليبرز مفاتنها التي جعلته يتعلق بها، إلا خفراً، بل لتكون هي الأخرى موضوعاً للصورة والنص، حيث قرأنا النصوص مكتوبة على جسدها، أو على أجزاء مقتطعة من مساحته، قبل أن تكون مطبوعة إلى جانب الصورة. في هذه المرحلة تحتل الحبيبة الكادر، الحبيبة التي لا تهتم بالحرب في لبنان، إذ عندما هاتفته قبل خروجه من بيته، سألته عن مجموعة الاسطوانات وعن اسكربينتها البرتقالية، وبعيداً عن الحرب، يقول، تعود المشاكل الإنسانية لتصبح أولوية، وقد بات همه أن يستعيد حبيبته، ولم يخترق الأيام تلك إلا حدث جلل، في 30 تموز، أي مجزرة قانا التي راح ضحيتها أكثر من خمسين لبنانياً. بعد ذلك تعاود الحرب مرورها في اليوميات، بل أكثر من ذلك تشترك الحبيبة في تتبع أخبار المعارك ودخول الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان، وتصدي حزب الله لهذا الدخول. في النهاية تتوقف الحرب، لكن الحبيبة تؤجل عودتها إلى الاسكندرية!
عين ومخيلة
ينتصر الحب، لكن بغير رومنسية، وتتحول الحرب إلى عمل فني، بعيداً عن الغنائية أو الفجور. على أن انحياز فؤاد الخوري إلى الحب لا يوازيه أي انحياز للحرب، ولا حتى أي خطاب انتصار أو هزيمة. ثم إن صوره لا تذهب إلى تصوير الحرب مباشرة، فتلك التي تصور القصف الإسرائيلي لا تتعدى الثلاث، في حين تتسلل الحرب إلى غرفته، تسافر معه، وتقيم في الفندق، وتحتل النصوص التي تذكّر بها مساحات جسد الحبيبة، والأوراق التي أمامه، وبطاقات البريد، والمنشفة المعلقة على حبل الغسيل. تتسلل الحرب إلى اليوميات تلك، فليست بعيدة، مثلاً، عن علبة التمر الإيراني، ولا عن السجائر الإيرانية التي يستعيض بها عن المارلبورو، ولا عن علب الدواء، ولا عن الراديو، ولا الثياب والطاولات والجدران والكثير من التفاصيل، التي توهم بحضور الحرب وتوحي بهذا الحضور، بل تجعله مقيماً حتى لو سكتت المدافع. إنه الفن الذي يعرف كيف يجعل الحضور أكثر تجلياً، والذي يعرف كيف يذهب إلى الجوهر بعيداً عن الخبر والخطاب والثرثرة.
فؤاد الخوري يستعيد حرب تموز، إذاً، بالصورة الملونة، وبالأبيض والأسود، من دون أن يكون محكوماً بالكادر الحقيقي، وإن حضرت الواقعية بكل عدتها. وهو ليس موهوماً بالأمانة، بل مأخوذ بالفن. لذا نجده مصراً على أن يُدخل إلى الكادر مهارات تقنية، لا سيما المونتاج، الذي يسمح بجمع الصور والنصوص وتركيبها تبعاً للمنطق الذي يريد، فهو لا يضع صورة الجسر المكسور كما هي، بل يقطّعها ويجمعها كما يريد، أو يضعنا أمام الجسد الذي يختصر الجسور كلها. فالمونتاج هنا يبعدنا عن التفكير في الصورة الصحافية، أو في الصورة التوثيقية، ليجعل الصورة خاضعة لمزيد من التعديلات، ومطواعة ليقول الفنان من خلالها ما يريد، فهي صنيعه، ومحكومة بعينه ومخيلته في آن معاً.
*يستمر المعرض لغاية 14 آب.
السفير- 5 اغسطس 2009