احمد بزون

معرض فاطمة الحاجترسم فاطمة الحاج في باريس وتعرض في بيروت، أو على الأقل هي تعرض مشاهداتها في باريس على جمهور لبناني... هكذا يتبادر للذهن منذ الوهلة الأولى لرؤية أعمالها المعروضة في غاليري «ألوان»، وسط بيروت، لغاية 7 تشرين الثاني المقبل. فهي تتنقل في لوحاتها بين عدد من الحدائق الصغيرة والواسعة في باريس، مثل «مونسوري» و«فنسان» و«بلانت» والعديد من المناطق الباريسية التي تزخر بالطبيعة.
مع ذلك فهي لا تصف لنا ما تراه بريشة سياحية، ولا تنقل لنا في تدقيق وتفصيل فوتوغرافي بريشة توثيقية، إنما تصور، بكل بساطة، رؤياها ومزاجها وحوارها مع المشهد الذي تراه، فمعروف أنها وهي تبدي دهشتها بالمشهد الذي تراه تنقلب عليه وتعدل فيه وتضيف إليه منذ اللحظة الأولى التي تمسك فيها الريشة. فهي وإن كانت لا تزال تستخدم أسلوب الانطباعيين، أي الرسم المباشر في الطبيعة، ونقل المشهد بمكانه وضوئه، فهي تتمرد على المشهد منذ التخطيطات الأولى له، تحذف وتدخل ما تراه مناسباً، قبل أن تعيد إنتاج العمل في المحترف بتصرف يحافظ على عنوان العمل وروحه، وتضيف إليه روح الفنانة. ولا بد بالتالي من حوار الروحين كي تخرج اللوحة للملأ.
وما دمنا نتحدث عن جنائن وحدائق، فإن فتنة المشهد، حتى في خريف عري الأشجار، تبقى قائمة، فالفنانة تعرف كيف تدخل أحزانها إلى الطبيعة، أو تضيف فرحها إلى فتنتها، فالعلاقة بينها وبين الطبيعة قنوات مفتوحة، وهي وإن رأيناها توزع شخوصها على مساحة اللوحة، فهي توزع نفسها أيضاً، وربما حياتها اليومية، وعائلتها، وتداخل بين الطبيعة والبيت، فتصبح الطبيعة حميمية إلى هذه الدرجة التي تتحول فيها جلسة عاشقين إلى عزلة، أو تنفتح فيها جلسة بيتية على الطبيعة. بمعنى آخر، لا نرى حياة الفنانة الخاصة وهمومها وشجونها منفصلة عن الطبيعة، مثلما نرى جلسات البيت تفيض بالطبيعة. بل إن حياة الفنانة لا تنفصل عن لوحتها.

لا يكمن هذا التداخل في مواضيع اللوحة فقط، إنما أيضاً في ألوانها، فترسم في الداخل بألوان الخارج أحياناً، والعكس صحيح، وتتعاكس ألوان الناس والشجر، بل هي تُداخِلُ بين الأساليب عندما ترسم تمثال «المفكر» لرودان في قلب الطبيعة كأنما تحفره على حائط، أو تستدرجه إلى أسلوبها في رسم الشخوص بشكل تلميحي أشبه بحفر خطوط من الذاكرة بجس مرهف، وتصوير الإيماء والحركة لا التفاصيل، وهذا ما يؤشر إلى التقاطع بين الواقع والحلم الذي كثيراً ما يتكرر في لوحات الفنانة.
وعدا تقاطع الشخصي والعام، الداخل والخارج، الواقع والحلم، نرى الفنانة تضعنا أمام تقاطعات كثيرة، فهي تلتزم توازنات التأليف وتتحرر منها في سبيل تثوير الحركة ورفع حرارة الحوار، ثم هي تقترب من التشخيص التمثيلي وهي ترتحل إلى تعبيرية تجريدية، تصر على الرسم في وقت يشكل التلوين فتنتها الدائمة، تجعل حوار الألوان متقاطعاً ومتوازياً، تمسح ألواناً صافية وسط مساحات مرقوشة بالألوان. تضرب بريشة شفافة وتسمك عجائنها، مداخلة بين مادتي الزيت والأكريليك في عدد من اللوحات.
42 لوحة بأحجام مختلفة تستخدم في عدد منها أسلوب رش النقاط بألوان مختلفة على مساحة اللوحة بحيث كثيراً ما تشكل خلفية بصرية، خصوصاً في اللوحات الست التي رسمت فيها منحوتة «المفكر» الشهيرة من كل الجهات، لتحقق ما سبق وذكرنا عن إضافاتها الحرة إلى المشهد، مثلما تنقلنا في الوقت نفسه إلى فتح فضاء زخرفة لونية تضيف إلى مشهدياتها غنى بصرياً.

معرض يطغى عليه الحنين إلى باريس، التي بقيت حاضرة في ذهنها طبيعة وفناً، تتردد إليها منذ تخرجت منها عام 1984.
وإذا كنا نعلم أنها كثيراً ما كانت تتردد على شفيق عبود قبل رحيله، فإن تركيزها على الحديقة التي كان يرسم فيها وكان بيته مطلاً عليها، أعني «مونسوري»، نفهم أن في ذلك حنيناً آخر وذكرى لا تنطفئ.

السفير-26-10-2013