عشر سنوات من عمره الفني لم تكن منفصلة تماماً عما سبقها وما لحقها من أعمال شكّل امتدادها ذلك المدى الذي اعتبره مسرحه. وقد بات الوجه أو الرأس هو الجغرافيا ومركز العالم ومنبع التعبير، وهو المساحة التي تشكل العصب الأساسي في لوحاته، كأن الفنان يرسم لوحة واحدة تتغير من داخلها، مثلما فعل الإيطالي موراندي في طبيعته الصامتة التي أعاد فيها ترتيب القوارير نفسها، ومثلما فعل الروسي سوتين الذي كرر تصوير الذبائح في صراخ بنائي ولوني.
معرض مروان قصاب باشي المستمر في «مركز بيروت للمعارض» لغاية 27 تشرين الأول المقبل، يضم 44 زيتية وأعمالاً مائية، بالإضافة إلى تخطيطات بأقلام مختلفة. وبيروت المحطة الأولى لهذه الأعمال، تنتقل بعدها إلى دول عدة. وهي مشغولة بين 1962 و1972، أي تلك المرحلة التي تأسس عليها مشواره، ذلك أنها البدايات الألمانية التي كان لها تأثير مهم في سيرته الفنية، بل هي التي جعلته ينفتح على التعبيرية بشكل واسع، إذ إن بداياته في الخمسينيات أظهرت مروان فناناً انطباعياً يصوّر علاقته الحسية بالطبيعة والناس ونفسه. وإذا كانت ميوله نحو التعبيرية بدت تظهر قبل سفره إلى برلين العام 1957، فهي كانت في البداية عبارة عن انفلاتات فنية وتجارب طموحة للتغيير، وربما تماهٍ أكثر في التعبير عن القضايا التي تحيط به، وقد أخذته السياسة بعض مأخذ في ذلك الحين، وجذبته المآسي إلى فضاءاتها، وبدأ الحزن يتسرب إلى نفسه. هذا ما جعله يصور، مثلاً، شخصية منيف الرزاز، القيادي البعثي، بشيء من القلق عليه، في عدد من لوحات المعرض، ثم ما جعله يرثي الشاعر بدر شاكر السياب بلوحات أخرى، هو الذي يرمز بشعره وموته المبكر للمأساة. وقد تكون المآسي، لا سيما مأساة فلسطين، أحاطت بالفنان حتى في مهجره، لكن قلقه تحول شيئاً فشيئاً إلى قلق وجودي، عبّر عنه بذلك الوجه المفتوح على العالم، بل اختار أن يكون وجهه هو بالذات، لتصبح المواجهة مباشرة بينه وبين المشاهد وصريحة بينه وبين العالم، وقد رأينا عدداً كبيراً من اللوحات التي أفردها لرأسه أو وجهه، قبل أن يردفها ببعض اللوحات التي دخلتها المرأة أو عنصر منها، ثم غادرتها في مرحلة لاحقة.
تدرّج مروان في الوصول إلى لوحة الوجه، فالوجه الذي كان طبيعياً في خمسينيات فنه بدأ يكبر شيئاً فشيئاً على حساب الجسد، وقد بات في بعض اللوحات أقرب إلى النكتة التي خلفتها نظرية داروين التي تعتبر أن العضو الذي لا نستخدمه ينقرض، فمروان يمجد الرأس وقد باتت الأعضاء الأخرى هوامش ليس إلا. هذه «الداروينية» التشكيلية أوصلت مروان إلى التعامل مع الجزء الأكثر قدرة على حمل تعبيريته المكثفة، واختصار هموم العالم بوجهه، بل جعل في الوجه نوافذ مفتوحة على العالم.
هذا الوجه الذي بدأت علاقته بالجسد تختل صار يعبر عن خطر الغرق في وحول العالم، فهو ما تبقى من جسد غرق شيئاً فشيئاً بين لوحة وأخرى، ولم يتبقَّ سوى الرأس، ثم بدا الرأس في لوحات لاحقة كأنه يغرق، من خلال تلك الخطوط القوسية الهابطة، التي تبدأ من حركة الشَّعر لتصل إلى حركة الحاجبين فتفاصيل الوجه المهمومة الشاحبة، وخطوطه القلقة المنكسرة المسكونة بالأسئلة.
لا أجوبة في وجوه مروان، فهي مرتحلة دائماً مع القلق، لا القلق الوجودي وحسب، إنما الفني أيضاً. ذلك أنه يعيش قلق المزج بين التعبيرية الغربية في الفن وشرقيته في التفكير أو بعض تطريزاته الخطية واللونية. وإذا كانت التعبيرية الألمانية بعد الحرب الثانية متوافقة والأحزان التي يحملها عربي مهزوم في بلاد مهزومة، فإن استقرار مروان في غربته لم يلغِ ذاكرته وتراثه، لا سيما ارتحاله الجواني الأشبه بارتحال الصوفي الذي لا ينكشف إلا أمام خالقه، ولا يتجلى إلا معه. وذاك هو وجه مروان الذي يخفي أكــــثر مما يكشــــف، أمــــا الواقـــفون أمــــامه فيــدخلون طبــــقاته بـــدرجات.
البسفير- 28-9-2013