السبّاق

اسكندر حبش
(لبنان)

(عصام محفوظ- 1981)قد يكون ذلك ما اصطلح على تسميته بمصادفات القدر. وهي بالتأكيد مصادفات غريبة، لا نعرف كيف تأتي وكيف تتموضع بيننا، حتى لنخالها تُشكل الحيّز الذي نتحرك في إطاره. لا أعرف ما الذي دفعني ليلة أول من أمس إلى الإمساك بكتابيه الأخيرين الصادرين عن (دار البيروني) في بيروت، وهما بعنوان (بعض أساتذتنا في القرن العشرين) و(رحلات ثقافية في سبعينيات القرن الماضي). كانا وصلاني منذ أكثر من أسبوعين، وهما على طاولتي بانتظار أن أقرأهما. كنتُ ممددا على الكنبة، أفكر بكتاب أبدأ به ليلي الطويل. نهضت فجأة متذكرا هذين الكتابين. وبدأت أقرأ، نتفا من كل واحد على أمل أن أحدد سريعا بأي واحد أبدأ. قررت أن أبدأ برحلات ثقافية، معتبرا أن ما جاء في الكتاب الآخر قد أكون قرأته، سابقا، في صفحته التي كان يعدها كل نهار سبت في الزميلة (النهار)، لذلك أستطيع العودة إليه لاحقا. هكذا هي الصدف، أن تسهر مع عصام محفوظ وكلماته قبل ليلة، وأن تسمع صبيحة اليوم التالي خبر رحيله، وهو الذي كان يعاني مؤخرا من سكتة دماغية طرحته فراش المستشفى منذ أشهر عدة.

رحيل يهزنا كثيرا. على الأقل هذا ما أشعر به في هذه اللحظة بالذات. إذ عدا المعرفة والمدينة والمهنة التي جمعتنا، أعترف بأنني واحد من الذين (تربوا) على مقالاته الأدبية الأجنبية، الأسبوعية، وهي التي فتحت أمامي، وأمام غيري بالتأكيد، الكثير من الفضاءات الثقافية في بداية عهدنا بالقراءة والكتابة. إذ كانت أشبه لنا برحلة في فضاءات العالم الروائية والشعرية والفلسفية، باختصار كانت رحلات في الفضاء الثقافي الذي كنا نبدأ بالسفر فيه.

لم أشاهد نصوص عصام المسرحية على الخشبة، إذ إنني من جيل لم يعرف هذه الحركة المسرحية اللبنانية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. كنت أصغر من ان أكتشف هذا الفضاء الذي لا يزال حاضرا في ذاكرة اللبنانيين وفي ذاكرة ثقافتهم. في ما بعد قرأت نصوصه هذه في كتب. ربما أول انطباع خرجت به يومذاك، هذه اللغة المسرحية الحقيقية. عديدة هي الأسماء التي كتبت للمسرح في العالم العربي، لكن (مشكلتي) معها، في قراءتها، أنها كانت نصوصا على الكثير من الأدب، في حين وأعتقد ذلك أن المسرح بحاجة إلى لغة أخرى، تُخرجه من بعض سمات هذه النمطية التي تتحلى بها لغتنا. ربما كان بعض كتّاب المسرح العرب قد وجدوا شهرة أكبر وحضورا أوسع، إلا أن عصام محفوظ، بالتأكيد واحد من أفضل الذين كتبوا لخشبة المسرح. وربما قراره في عدم الكتابة مجددا، أثر على حضوره، إذ اتخذ قراره، بعد اندلاع الحرب في لبنان في منتصف السبعينيات، في أن لا يعود إلى الكتابة للخشبة، مفضلا العمل الصحافي، وهو لم يعد إليه إلا عبر نشره لكتاب صغير، في نهاية الثمانينيات، بعنوان (مسرحيات قصيرة) ، تماما مثلما لم يعد إلى كتابة الشعر الذي بدأ به حياته الأدبية.
نتناسى كلنا أن عصام محفوظ هو شاعر قبل أي شيء آخر، وهو أحد رعيل مجلة (شعر) اللاحقين للمؤسسين الأوائل. وهو أيضا أكثر من بقي مخلصا للتجربة وليوسف الخال شخصيا. هذا ما يورده يوسف الخال بالحرف، ربما في رسالة كتبها لرياض نجيب الريس، وأعاد الريس نشرها في كتابه (ثلاثة شعراء وصحافي) ، أو ربما في كتاب الخال (دفاتر الأيام)، لم أعد أذكر بالضبط، لكنه يقول إنه بعد توقف المجلة للمرة الأولى، وبعد أن توزع الرفاق وانفضوا عنها وعن مؤسسها، لم يبق إلى جانبه، أي إلى جانب الخال، إلا عصام محفوظ. هل مع انتهاء حقبة (شعر) الثانية، وإقفال المجلة والتجربة نهائيا قرر عصام محفوظ أن يتخلى عن الكتابة الشعرية؟ لم أسأله مرة هذا السؤال، لكنها طبيعته في التخلي عن مرحلة إثر أخرى، يتركها وراءه ولا يعود إليها. جدار اللغة هذا الذي تحدثت عنه المجلة، ربما يكون قد وجد حلاً له في لغة عصام المسرحية التي وازنت بين العامية والفصحى، أو بالأحرى التي فصحنت العامية. ألم يعنون أحد كتبه بالتالي: (المسرح مستقبل العربية).

كثيرة هي الكتب التي أصدرها عصام محفوظ. وعديدة هي الترجمات أيضا. من منكم لا يتذكر ترجمته لمقطع من خطاب لتشي غيفارا تحول إلى أغنية رددها اليساريون في الستينيات والسبعينيات وكانت أغنية في مسرحية: (ما هم أن نموت في دوي صرخة الحرب/ ما همّ إذا وجدنا بعدنا، من يحمل السلاح، يواصل الكفاح...). لكني سأذكر ترجمة أخرى، صدرت في الفترات الأخيرة: (رامبو بالأحمر). ربما المرة الوحيدة التي قرأنا فيها بالعربية، أثر الثورة الفرنسية على شعر رامبو، كانت مع عصام محفوظ، إذ إنه يعود إلى قراءة الشاعر الفرنسي، ليس من زاوية حياته البوهيمية وانقطاعه النهائي عن كتابة الشعر وهي الفكرة التي استهوت الكثير من الشعراء العرب فقلدوا بوهيمية رامبو من دون تقليد شعره الكبير بل قرأه من حيث الفضاء الاجتماعي والسياسي، مبينا من خلال ترجمته لبعض قصائده، كم أن ذلك كان حاضرا في فكر (هذا العابر الهائل).

هذا الاختلاف في عملية القراءة، نجده أيضا في كتابه عن ابن عربي، الذي يتخيل معه حوارا (يستل أجوبته من كتاباته) كما في كتابه عن رواد عصر النهضة (حوار مع رواد النهضة العربية)، من دون أن ننسى كتاب (حوار مع متمردي التراث)، (الإرهاب بين السلام والإسلام)، (حوار مع الملحدين في التراث)، وغيرها الكثير. كان عصام محفوظ جواب آفاق وحضارات وثقافات. لم يتوقف عند زاوية محددة، أو عند عصر أو عند ثقافة ما. بل غالبا ما كان سفره يتخطى الحدود المرسومة، الضيقة، ليبحث في كتابات (الآخر) عن نقاط التقاء في سبيل (الفكر الحر)، (العلماني)، (الديمقراطي)، (الرافض لجميع أشكال الإيديولوجيات). هذا ما نقرأه أيضا في كتابيه (أبعد من الحرب) و(أبعد من السلام) وهو مجموعة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة، التي تشير بوضوح إلى التزامه الثقافة الإنسانية بمعناها الأشمل. هذه الثقافة الإنسانية، هي التي تحرك كتبا أصدرها من مثل (شعراء القرن العشرين)، (عشرون روائيا يتحدثون عن تجاربهم الإبداعية) وغيرهما. وإذا كانت هذه الكتب، ترغب أساسا في تعريف القارئ العربي ببعض قمم الأدب في العالم، فإن هدفها لم يكن نقديا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، بل خصص للنقد كتبا صرفة (دفتر الثقافة العربية الحديثة)، (ناقد عربي في باريس)، (الرواية العربية الطليعية)، (مختارات من شعر الرواد في لبنان: 19501900)، (جبران، صورة شخصية)، (جورج شحادة ملاك الشعر والمسرح)...

لكن مع ذلك كله، ثمة سؤال لا بد أن يطرح نفسه: (هل نسي عصام محفوظ المسرح)، شغفه الحقيقي؟ قد نكذب لو قلنا أنه تناساه، صحيح أنه لم يكتب مسرحيات أخرى (بالأحرى لم ينشر إذ ربما تكون هناك مخطوطات ما) إلا أن جميع كتب الحواريات التي أصدرها، ليست في العمق إلا شكلا من أشكال المسرح. ربما وجد ضالته في هذا الحوار الذي يشكل عمود المسرح وعماده. لا يستطيع المرء أن يقرأ هذه الكتب إلا وأن يتخيل خشبة أمامه عليها شخصان يتحدثان في مجمل قضايا العالم الفكرية والسياسية والثقافية والأخلاقية. حتى حواراته مع الكتاب الغربيين، كما في كتاب (لقاءات شخصية مع الثقافة الغربية)، وعلى الرغم من أنها تغوص عميقا في الثقافة الغربية وتحاول أن تشرح بعض مواقفها، إلا أنها تستفيد من موهبته في نسج الحوار، وهي الموهبة التي اكتسبها من الكتابة المسرحية.

وهنا نقطة يجب أن أشير إليها أيضا، لأن عصام محفوظ كان من أوائل الصحافيين اللبنانيين الذين حاوروا كتّاب الغرب، ونحن، الذين جئنا من بعده، والذين كتبنا عن الأدب الأجنبي وتابعنا تشعباته، لا بد من ان نشعر بدَين لهذا الشخص الذي سلك الدرب قبلنا. من هنا أشعر بوجوب الاعتراف بأنني حين بدأت القيام بعملي الصحافي هذا، كنت أشعر بأن عصام محفوظ قد سبقني إليه بمسافات لا تحصى. إذ نحاول أن نتناسى ذلك، فمشكلة هذه البلاد الأزلية أنها دائما بلاد بلا ذاكرة.
نفقد اليوم أكثر من كاتب، ونفقد أكثر من زميل ونفقد أكثر من صديق. نفقد جزءا من هذا اللبنان الذي حلم به.

***

الضحكة المضادة

شوقي أبي شقرا

الذي رحل عنا، وعن بيروت وعن مجالات المقاهي وعن المنبر وعن الصحافة وعن الشعر والنثر، هو عصام محفوظ صديقنا ورفيقنا، وكذلك أقول رحل عن مواقع الفكر والبحث. وهو في نضجه في الأتمّ وفي الأوج في عطائه، وكم تنوع هذا العطاء وكم ازداد لديه الوعي في آخر حقبة من عمره، وفي كل حال أطل المتمرد وأطل الشرس وسوار الوحشة يلف معصمه ويلفه جميعاً، وظلل التمرد والوحشة من ندماه ومن علاماته. وكم كان وجهه مضيئا بل كانت الإضاءة بين يديه وبين عينيه سلاحا وممارسة في الكتابة وفي فن العيش وطريقة في مواجهة الحياة.

ولئن برع في ما قدمه من كتب، ولئن سار على هدي عقله وقلبه فلأنه من فرادى القوم، وهؤلاء الفرادى إنما يمشون ولا يهابون العقبة وأي حاجز من خارج المنطق وخارج قانون الأشياء ومجمل القيم.

إنه ممن تدخلوا في الأدب وفي الفكر خلال سنوات حركته على هذه الأرض الطيبة، في أساسها وفي أعماقها، وهو الذي أضاف إليها والى ذينك الأدب والفكر ما أضاف من الألوان حيث الذهاب وراء الجوهر ووراء الخفي ووراء المخبّأ ووراء السر الذي له ما بعده حينما ينفتح على سر آخر، وتلك هي الكتابة وذلك هو الإبداع. دلّ عليهما دلالة البليغ والأصيل والذي يقترب دائما من القواعد ومن الأصول ليكون حارسا لهما، أو في وظيفة ناطور المنارة يحرك الضوء نحو البحر فيحاول ألا تغرق السفينة ولا يتيه بحارة في الهباء وفي عصف الرياح وصخبها وأنفاسها القاسية.

عصام محفوظ عاش في زمن من الحماسة في مرحلة من الشعر الذي جاءه قيمون عليه آنذاك، عاش قريباً وبعيداً وإن اقترب فإنها خطوات وإن ابتعد فإنها خطوات أيضا. ولم ينزل في المعترك نزول المغمس إلا أنه اختار الفرادة وأن يكون فاعلا على شأنه، على فنون ذوقه وعلى وسع قريحته وعقله المنتفض انتفاضة الحق والصواب إذ لا يطيق الظلم فيدافع عن الضحية وعن أي موهبة إن كانت فعلاً كذلك.

وكانت له التفاتته الناجحة الى المسرح حيث تألق حواريا وذهب في رسم عالمه ذاك مذهب البراعة والنزول إلى القاع في أي حالة وفعل، ذلك حينما كان التأليف في مهب الشح، ثم الى القلم يديره في أي واحة وفي أي موضوع ولا سيما النهضة. وكذلك اتخذ الدور النظري عدا الدراسي، ودائما يحوم عليه القلق والتساؤلات ويحوم عليه ذلك الحزن الدفين الذي يساوره منذ الصغر. وشاء أن يكون الوحيد، ولا ننسى ضحكته المضادة ولا كونه فكاهيا يسخر من الأيام ويرمي عليها رمح اللامبالاة، لأنه ينصرف عنها الى الأهم الى الهموم الذاتية والحياتية بل إليه هو في نبضاته المختلفة، حتى أدركته المحنة، محنة الجسد وسافر بها الى الأمام.

****

الحداثي الجذّاب

محمد دكروب

نظلم عصام محفوظ كثيرا عندما نوجز الحديث عنه ببعض الكلام العام... فهذا المبدع الفنان قدم إسهامه الإبداعي والرؤيوي في مجالات متعددة: في الشعر الحديث، أولا، وفي المسرح حيث إسهامه الأساس والبارز الى الدراسة الأدبية، والنقد، والبحث، الى ابتكارات متعددة في طرائق تقديم المعرفة والتعريف بالأعمال الإبداعية والثقافية للقارئ العربي، في شكل تشويقي يتقصّده ويتقنه ويجوّد فيه... (ومن الصعب جدا أن ننسى تلك الصفحة الغنية والمتميزة التي كان يقدمها، كل يوم سبت، عبر جريدة (النهار)، تحمل للقارئ زادا ثقافيا ومعرفيا بأفق تقدمي حداثي وجذاب... ولأمر ما غير مفهوم! أضاعت الجريدة على نفسها، وعلى القراء، تلك الصفحة القيمة ذات الألق الخاص!..).

الكتب التي أصدرها عصام محفوظ في حياته وصلت الى 45 كتابا، تشكل بذاتها ثروة ثقافية وفنية متنوعة.

أحب ان أشير هنا مجرد إشارة الى خاصية معينة من خصائص الكتابة (العصام محفوظية)، تميز بها هذا المثقف الشمولي، الرائي والرؤيوي، والمعبّر في كتاباته عموما عن موقف فكري حداثي تقدمي، صلب ومرن معا.
فبعد إنجازه المسرحي الريادي والتأسيسي في حركة المسرح اللبناني العربي الحديث (في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) وما حمله هذا الانجاز الذي نقل الكتابة المسرحية في لبنان من الصياغات (الأدبية) للغة الحوارية الى لغة المسرح المسرحية وأسهم في نقل حركة المسرح هذه من أسوار التقليد الى آفاق الحداثة في الفن وفي الرؤى الاجتماعية السياسية على السواء...

... بعد هذا الانجاز (عبر مسرحياته الخمس) دخل عصام محفوظ مجالات الدراسة الأدبية والكتابة النقدية، ولكن في نوع من الصياغات الجديدة والمتجددة، تحمل الى النقد اقتراحا كتابيا مشبعا بذلك التراث الحواري الآتي من التجربة المسرحية والموقف النقدي معا.

وهكذا أعطانا عصام محفوظ سلسلة من (الحوارات) هي، في واقعها، أبحاث ومواقف تتناول جوانب من تاريخنا الثقافي الفكري عبر حوارات، متخيّلة، يجريها الكاتب (عصام محفوظ) مع طلائع المفكرين والفلاسفة ذوي التفكير العقلاني والتوجه التقدمي التغييري، ومقاومة الظلم والقمع وأصناف القامعين.

فقدّم لنا، مثلا: (حوار مع رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر) (حوار مع المتمردين في التراث) (حوار مع الملحدين في التراث) (حوار مع ابن عربي)... ومحاولات حوارية بحثية أقرب الى التكوين الفني للعمل النقدي، من: (جبران، صورة شخصية) (سيناريو المسرح العربي في مئة عام)...

الهم الأساس في هذه الكتابات ذات الأشكال المبتكرة للعمل النقدي، هو: التقدمي التشويقي وغير المعقّد، لأفكار وإنجازات هؤلاء الأعلام، وأيضا موقف الكاتب منها... ولعل أجدى ما في هذا الاقتراح النقدي انه يقدم للقارئ مادة معرفية وثقافية بذل الكاتب جهدا كبيرا في البحث عن عناصرها، وفي تحصيلها و(تبويبها) ونقدها والنظر اليها عبر عين حديثة معاصرة.

وكذلك هو يرى إلى هؤلاء الرواد بعين المحب لهم، المقدّر لانجازاتهم، فهو هنا لا يعمد الى أسطورة (قتل الأب)، بل يرى الى ما قدمه هؤلاء (الآباء) الرواد من إنجاز تقدمي عقلاني فعلا، بما يغني ثقافتنا الحديثة بهذا المخزون المعرفي والتجارب الإبداعية.

يورد عصام محفوظ، عن المفكر فرح أنطون، هذه الكلمات: (بعض الذين يسيرون في طريق مشقوقة معبّدة، ينسون جهد الذين فتحوا الطريق).
والواضح ان عصام محفوظ وهو من أهم الذين شقوا دروبا جديدة للمسرح المعاصر في لبنان لم ينسَ أبدا أولئك الروّاد الذين فتحوا الطريق، فأعطانا عنهم كتبا تتميز بالإقناع الكتابي، والتشويق، والاكتناز المعرفي، معا.

***

المتمرد القلق
نهاد حشيشو

غاب عن قرائه وأحبائه إلى الأبد وجه بارز في عالم الأدب والفن، مسرحا وشعراً، هو الصديق عصام محفوظ. امتهن الصحافة يافعا، كوسيلة للعيش المر، في زمن الغدر والنهوض والأحلام الزاهية. تقلّب في كل الفروع ليتمكن من الأطلال على هموم الناس ومشكلاتهم، كي يرسم في مسرحياته الواعدة، مختلف الشخصيات المتناقضة.

عُرفت عنه مزاجيته الشديدة، لكنه كان في العمق، أليفا الى حد الطفولة والبراءة مع من أحب. الانتماء الانساني أساسي لديه. كانت تتملكه رغبة دائمة في الانعتاق والتفلت من براثن كل ما هو تقليدي وكاذب في الأدب، كما السياسة، مع سعي دؤوب الى إظهار واكتشاف كل ما هو جديد وحقيقي من أجل تعميمه. حفظ التراث واحترمه غير أنه عارض بشدة وقاتل من يقدسه ويقف بوجه تجديد مضمونه. عاش كارهاً للبهرجة الزائفة والادعاءات الكاذبة الهادفة إلى التكسّب والتملّق.

انحاز الى الوضوح، الحقيقة، الحرية والتعبير المباشر للدفاع عن الفقراء والقضايا المحقة بأدوات فنية غير ملتبسة. عادى في مسرحه وشعره وكتاباته الصحافية كل مظاهر التملك القسري للأشياء والأعمال والولاءات الإنسانية. لم يكن جماهيريا لكن لا يمكن وصفه بالنخبوية. احتقر بشدة من يتصنّع المواقف والشخصيات ويلبس في كل زمن لبوسه. عبّر في أدبه ومسرحياته عن أهمية المقاومة وضرورتها بوجه الصهيانة. وعرّف كما نوّه بالكتاب اليهود الذين اعترضوا وعادوا الفكر المتصهين. استحقته الجوائز العربية والعالمية لكنه لم ينلها رغم حاجته الماسة لكل تكريم. وأنا على اعتقاد بأنه في مثواه سيرفض الإشادة المتأخرة إذا جاءت من غير المتذوقين والمبدعين. صديقي عصام... ستنام قرير العين مرتاحا لكنك ستبقى على تمردك وقلقك.

*****

شمسك على جبين البلاد

يمنى العيد

منذ لحظات رنّ الهاتف وجاء الصوت ليؤكد لي خبر الوفاة، وكان الخبر قد تسرّب أمس، ولكن قلب عصام، كما يبدو، بقي ينبض كأنه يعلن، خافتاً، تمسّكه بالحياة.

وبدت الكتابة صعبة.. انها شأن قلبك يا عصام تأبى ان تذعن لخبر ما زال حاداً لم تصل إليه برودة الموت بعد.

***

أمام مكتبي، ومقابل الكنبة الكبيرة التي كنت تجلس عليها كلما زرتنا، وقفت استعرض كتبك التي كنت تحملها تباعاً إلينا، وأنا، وكما قلت لي في احد إهداءاتك: (جارتي في الفكر والنقد والمسكن).

صوتك يصلني وقهقهتك الساخرة بمرارة في أذني وكتابك (الموت الأول)، الذي وقع نظري صدفة عليه، مفتوح بين يدي.

على صفحة من صفحاته الأولى وبين ورقتين من بياض رحت اقرأ ما كتبته بخط يدك:

(أمضي إلى غايتي
وأعيني مغمضه
أحمل في صرّتي
خبزي ومجد أبي
وسيفي الأبيضا
أمضي بلا غاية
متوّجاً بالرمادْ
تضيئني صورتي
وشمسي الغاربة
على جبين البلاد
أرسم في غربتي
مدينتي الغائبه
وزرقة وحداد)

وبدت الكتابة بعدها أصعب. فأعدت قراءة النص أكثر من مرة.. وأغلقت الكتاب على حب عصام لأبيه، ولأصدقائه، ولوطنه، وللقلم..

أغلقته على بياض قلبك يا عصام، على وحدتك على نضالك من أجل مدينتك الغائبة. ومن أجل:

(.. الرجل العجوز يكنس الشارع) كما تقول (ويبحث عن سيكارة).
ومن أجل: (... ماسح الأحذية الصغير يراقب الأقدام في عناية).
من أجل هذه ال(لماذا) التي رسمتها كبيرة على غلاف كتابك وصُغْتَ أجوبتها الجريئة كما لم يصفها أحد.

أغلقت كتابك يا عصام لأفتحه على صورتك المتوجة بعطاءاتك الفائقة الثراء في الشعر والمسرح والنقد والثقافة. أغلقته على غربتك التي هي غربة العظام حين يدركون مآل الزمان. أغلقته على سؤالك وقد قلت لي ذات يوم: (إنها الحياة فعل سوريالي فما العمل..). وكان أن جعلت من حياتك ثمناً لنبلك وكرامتك وعزة نفسك بعد ان جعلت من قلمك وإبداعك عزاء فريداً لوحدتك.
رحل عصام الجار والصديق.
لكن عصام الكاتب المبدع، والمثقف المناضل، سيبقى صوتاً في أكثر من كتاب.

****

فتح مقبرة الصباح ورحل

الياس لحود

وداعاً عصام، صديقي المكافح؟!
سألتقيك دائماً بكل ما تركته من أمكنة وذكريات وقصائد وكتابات ظللت قامتك الأدبية (الكبيرة). منذ الطفولة وأيام الصبى الأولى وحتى آخر لحظات معاناتك. منذ جديدة مرجعيون يا صديقي (الغالية جداً على قلبك) مروراً بجميع أمكنتك التالية، ماذا أقول وكلي يتألم...

أذكر (أشياءك الميتة) وكيف احتفلنا بها باكورة مدهشة (رغم سبقك الزمني لنا) أنا ووسام جرداق في العلية القرمدية وقد سبقنا إليك نزار مروة... أذكر كم بدأت رائعا محبا للحياة (حتى في قصيدتك المفاجئة (الليلة الأخيرة في مصنع التوابيت)... وأذكر (ليلتك الأخيرة) البارحة. كم تأخرت... أكثر من ستين سنة وأنت تراها عظيمة رغم الكارثة من مطلات جبل الشيخ الى أعماقنا المعذبة المنحورة...

تفارقنا بهدوء. أنت أيضا تفارقنا؟ لنشعر بفراغك الممتلئ برهبة المكان والكتابة والحزن والفرح المقطّع بسكين... أعرف كل شيء وحيداً ولدت ووحيدا عشت ورحلت... كما وحيدا تبقى مثارا لرغبات مشدوهة وأمان مصلوبة بأكثر من وجع: كم يكون كبيرا حقا الوحيد في الوجع والمعاناة والوطن، الوحيد في الكثرة...

ماذا أقول عن طفولة سبقتني إليها لتطعنك قبلي كما هي حالنا دائما بالوحدة والرغبات المفجوعة... سبقتني الى بودلير وأراغون وميشو و... إلى معارف كثيرة في ما بعد... كما سبقت الكثيرين الى (الديكتاتور) و(كارت بلانش) و... (الزنزلخت)... ماذا أقول عن طفولة وموت سبقتني إليهما.

كتبت عنك وقصّرت في منحك ما تستحق وسأكتب. هل أقول الوطن لم ينصفك؟ هو لم ينصف أياً من الموهبين لأنهم المتمردون قبلك وأثناءك، ولن ينصف أحدا منهم بعدك. إرحل بمساواة واترك ما كتبته، أغلب ما كتبته، يدمر ويثأر. أترك ما كتبته، كل ما كتبته وفعلته على مدى وحدتك وعذابك الشاسع، يقوّض ويبني، ويقوّض ويبني الى آخر ليلة في مصنع التوابيت وفجرها الماكر.

طريق الجنوب تودعك. الجديدة تودعك، الأصدقاء... الأدباء في بلادك وخارجها الفقر والغنى، الأرض والأهل وأبيات الشعر والمسرحيات. كلها تقول: (نراك بخير البارحة) وقمت لترحل في (خامسة الصباح)، ابتسمت ابتسامتك الطفولية الماكرة وقلت ما أذكاه، لم يسمح للقدر الديكتاتور أن يغلبه حتى بعدما حطم كل ما لديه وأعز ما لديه وأغلى ما لديه: الوحدة... والبقاء.

ودّع ليلته الأخيرة في مصنعنا للتوابيت بعد ما قام وتفقد كل أشيائنا الميتة، وفتح مقبرة الصباح ورحل. مع أولى عصافيرنا المقهقهة رحل. ومشاورينا الخائبة...

******

رفيق كل جديد

عماد العبدالله

ثمة صورة كنت احتفظ بها إلى الأمس القريب. يبدو فيها عصام وهو ينظر تلك النظرة الثاقبة إلى تمارين مسرحية الزنزلخت. وقد كتبت عنها يوماً أنها نظرة ربما اختزنت كل حيوية وتمرد حقبة الستينيات.
عصام محفوظ عصبية أدبية ومسرحية وصحافية بدت على الدوام وكأنها وهي على عنادها الجميل قد قدّت من صخر.
كنت آنس الى ان عصام محفوظ هو ابن القضاء الذي انتمي إليه: مرجعيون/حاصبيا. حيث جديدة مرجعيون (قريته) لا تبعد عن قريتي الخيام سوى رمية حجر.

عصام محفوظ رفيق الصحافة ورفيق المقهى ورفيق كل جديد في الفكر. كنت ألقي النكتة أمامه وحده. وكان يسارع الى التقاطها ضاحكاً تلك الضحكة التي ميّزته عن سائر الناس.

تنويري هو مع تشدد ماركسي لا يخفى على احد. ويلذ له أحيانا كشف أوراقه والمبادرة بقسوة الى موقف طبقي ينحاز فيه للفقراء والمعوزين والعمال والفلاحين.

هو ابن الدكتور عبد المسيح الطبيب الوحيد لفترة طويلة لأسنان أبناء القضاء. مات عن عمر يناهز المئة وكان لا يزال يعمل في عيادته الأثرية.
ربما لم تعرف جريدة (النهار) في عمرها الطويل كاتباً عميقاً متمكناً مثله. كنا نقرأ له الصفحة الأسبوعية ونخرج بصيد ثمين.

كتب في الشعر والنقد والمسرح والسياسة والترجمة مؤلفات تجاوزت الثلاثين.

في الماضي القريب كان يأتي الى شركة (رياض الريّس للكتب والنشر) حاملاً المخطوطة بيده وهي المؤلفة من أوراق مختلفة اللون والشكل، كأنه مؤلف من القرن الرابع الهجري.

عصام محفوظ ليس جليس المقهى فحسب، بل عنوانه ايضا. كان شديد الالتصاق بالمقهى صباحا وظهرا ومساء. هو رئيس الجلسة يبدو ذلك من إشاراته ونظراته وانقضاضه على الحديث في أية جهة اتجه. كان يدخن بشراهة ويتحدث بشراهة ويتأنق بشراهة ايضا.

تسأله فيلف ويدور ويسألك مدعياً انه محامي الشيطان، فتجيبه بكل سذاجة فيرد بسذاجة مبالغ بها كي يستفزك ويستدرجك للحديث.

فاكهة مجلس هو، وجليس أنيس وصاحب نكت ومبالغات ولسانه سليط متى أراد. يسمح للحديث بعثرات ومطبات هوائية لكنه ما يلبث ان يقود النقاش بمهارة قبطان الطائرة.

كنت أرثي بيني وبين نفسي وحدته. بل ويصيبني الرعب منها. ويتقطع قلبي لأنه لم يتزوج. كنت خائفا عليه وكان صلباً لا يخاف على نفسه.

عندما مرض وأدخل المستشفى، ذهبت إليه. وكانت يداه مكبلتين. فعبر عن خوفه بشحطات قلم على الورقة وعرفت انه خائف وساخط لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه. طيبت خاطره وقلت له إنني أحمل مسدساً وسوف امنع أي اعتداء عليه. ضحك قليلاً وشد على يدي محمساً. لكنني عدت وقلت له إنه غاضب ليس من المرض فقط ولا من المستشفى بل لأنه ليس في المقهى. وداعاً عصام محفوظ.

وسلاماً الى المقاهي التي تخلو يوماً فيوماً من سكانها.

*****

سيد العزلة

سعد ك. كيوان

لم يعد بوسعي، والبعض من أمثالي، سلوك نزلة البيكادلي باتجاه مقهى (الويمبي) حيث كان يجلس كعادته منذ سنوات بعد أن أغلقت أبواب ال(مودكا) في الزاوية المقابلة. بياض شعره كان ك(المنارة) التي تشي بحضوره عن بعد وبجلوسه غالبا في نفس المكان، أضيفت اليها في ما بعد علامة فارقة، نظارات سوداء كان يحمي بها و(يخبئ) في الوقت نفسه النزف الذي أصاب، منذ سنوات، شبكة العين اليمنى. علبة السجائر وفنجان القهوة والصحيفة كانت جليسه الدائم.
فور جلوسي يبادرني عصام بالسؤال: (شو آخر الأخبار؟). أحاول الإجابة وقبل ان انتهي يعاجلني: (من أين معلوماتك، وما هي مصادرك؟
وهل انت متأكد؟...). ونبدأ سجالا حاميا يطول وينضم إليه من يصل من الأصدقاء. كان يتابع أدق التفاصيل ولكنه لم (يحترف) السياسة مثلنا نحن الصحافيين. لم يكن سهلا إقناعه. كان يتمسك برأيه، يناقش بطريقة منطقية، شبه (حسابية). واذا قسوت عليه كان يرد بضحكة مجلجلة.
كان ملحاحا لجوجا، وحائرا (ضائعا) في آن. يدقق، يتوقف عند كل فكرة أو (خبرية) أوردها. كان (عنيدا) وطيبا في الوقت نفسه. أحاول إعادته الى (الأرض)، الى (كواليس) و(ملتويات) السياسة اللبنانية. يفكر لحظة ثم يقول: (ربما معك حق). يشعرني أحيانا بمقاربته (الساذجة) و(المبسطة) للأمور. أضحك، لكنه يعود وينقلني بذكاء إلى حيث يريد، واضعا (الحوار) في إطاره التاريخي والثقافي الأرحب.

عندها يصبح من الصعب عليّ مجاراته واللحاق به في مقارناته التي أبدع ولمع بها في مؤلفاته المتنقلة بين حقبات وعصور التاريخ البشري. ولكنه لا يشعرني ب(دونية) تجاهه.

تطول الجلسة وتتشعب. يقودني بأسلوبه الشيق والمبسط الى متعة الثقافة. حواراته المتخيلة التي امتازت بها كتبه مع كبار مفكري ومثقفي القرنين التاسع عشر والعشرين، من عصور الحداثة وما بعد الحداثة، تتحول الى أشبه بقصص حقيقية. يروي وقائع وتفاصيل تخاله عايشها، يمسرح أبطالها ويضعهم أمامك. من محمد عبده الى تيار دوشاردان، ومن رئيف خوري الى جان بول سارتر. يقارن موثقا بين الحضارات ويساجل بقوة المنطق المؤمنين والملحدين... فيشعر سامعه ب(تفاهة) أو (صغر) ما يقول ويكتب.

أهم بالرحيل فيصر عليّ بالبقاء. أقف حائرا بين متعة الجلسة وضرورة العودة الى المكتب. وعندما أعود في اليوم التالي أو الذي يليه ولا أجده أشعر بأن شيئا ينقصني، ولا أجد متعة في فنجان القهوة...

كان يشغلني بأموره الشخصية، يدخلني في تفاصيل حياته اليومية. يستشيرني فأتفاجأ. بعد مغادرته العمل الصحفي اليومي (في جريدة (النهار)) كان يمضي وقته في الكتابة والقراءة، ويتنقل في مساحة ضيقة بين شارع الحمراء وشقته في مدام كوري. لم يغادر هذا المربع الضيق لسنوات عديدة. طلب مني قبل سنتين مرافقته الى مبنى جريدة (الحياة)، الموجود في شارع المعرض، قرب ساحة النجمة ومجلس النواب. ولما ترجلنا من السيارة وقف يتطلع من حوله مشدوها، لم يتعرف على المكان، لم يكن قصده من قبل... ولم يزر بلدته مرجعيون الا مرة واحدة.

عصام الصحافي، والكاتب، والمؤلف والشاعر والكاتب المسرحي وناقل روائع الأدب والثقافة الغربية والمثقف بامتياز... عرف العوز والمرض وعاش آخر حقبة من عمره في عزلة خانقة!

****

بطاقة

ولد العام 1939 في جديدة مرجعيون جنوب لبنان.
والده: الدكتور عبد المسيح (طبيب أسنان وشاعر).
تلقى دروسه الابتدائية والثانوية في مدارس مرجعيون. حصل على دبلوم دراسات عليا معمقة من معهد الدراسات العليا في باريس. عمل في الصحافة منذ العام 1959 وفي التدريس في الجامعة اللبنانية منذ العام 1970 وكان أستاذ مادة التأليف المسرحي. أقام في فرنسا (1976 1981). ساهم في حركة مجلة (شعر) من 1958 الى 1968. ساهم في الحركة النقدية عبر جريدة (النهار) التي عمل فيها 27 سنة. ساهم في تحرير مجلة (الحسناء) الأسبوعية. انتسب الى الحزب السوري القومي الاجتماعي ثم تركه. ترك جريدة (النهار) العام 1997. شارك في تأسيس الحركة المسرحية اللبنانية منذ مطلع الستينيات بالمسرحيات التالية:

  • الزنزلخت (1969).
  • القتل (1969).
  • كارت بلانش (1970).
  • لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم فرج الله الحلو في ستيريو 71؟ (1971).
  • الديكتاتور (1971).
  • قضية ضد الحرية (1975).
  • مسرحيات قصيرة (1984).
  • التعري مسرحية في صيغتين (2001).

وله في الشعر:

  • أشياء ميتة (1959).
  • أعشاب الصيف (1961).
  • السيف وبرج العذراء (1963).
  • الموت الأول (1973).

وله أعمال أخرى:

  • دفتر الثقافة العربية الحدثة (1973).
  • أراغون، الشاعر والقضية (1974).
  • مشاهدات ناقد عربي في باريس (1981).
  • سيناريو المسرح العربي في مئة عام (1981).
  • الرواية العربية الطليعية (1982).
  • جبران، صورة شخصية (1982).
  • لقاءات شخصية مع الثقافة الغربية (1983).
  • دفتر الثقافة اللبنانية (1984).
  • السريالية وتفاعلاتها العربية (1987).
  • حوار مع رواد النهضة العربية (1989).
  • جورج شحادة ملاك الشعر والمسرح (1989).
  • المسرح مستقبل العربية: ملف الجدل (1991).
  • أبعد من الحرب (1992).
  • مسرحي والمسرح (1995).
  • أبعد من السلام (1997).
  • مختارات من الشعراء الرواد في لبنان (1900 1950) (1998).
  • عشرون روائيا عالميا يتحدثون عن تجاربهم (1998).
  • لعنة زحل: جوزف بريستلي، ترجمة (1998).
  • الرواية العربية الشاهدة (2000).
  • حوار مع متمردي التراث (2000).
  • ماذا يبقى منهم للتاريخ (2000).
  • امبو بالأحمر (2001).
  • شعراء القرن العشرين (2001).
  • مسرح القرن العشرين (المؤلفون) ج1 (2002).
  • مسرح القرن العشرين ج2 (2002).
  • عاشقات بيروت الستينيات (2002).
  • الإرهاب بين السلام والإسلام (2003).
  • قصائد حب (تليها رسائل غالا) لبول إيلوار، تقديم (2003).
  • مع الشيخ الأكبر ابن عربي (2003).
  • حوار مع الملحدين في التراث (2004).
  • سجالات القرن العشرين الفكرية السياسية (2004).
  • بغض أساتذتنا في القرن العشرين (2006).
  • رحلات ثقافية في سبعينيات القرن الماضي (2006).

أصيب بجلطة دماغية وشلل نصفي أديا الى وفاته بعد شهور.
يقام جناز لراحة نفسه الساعة الثانية عشرة من يوم غد الأحد، في كنيسة الكاثوليك، جديدة مرجعيون. على ان يكون الانطلاق في اليوم نفسه، الساعة التاسعة والنصف صباحا، من أمام محلات بن معتوق في خلدة.
تقبل التعازي يوم الاثنين 6 شباط الجاري بين العاشرة صباحا والسابعة مساء، في كنيسة مار بطرس وبولس، نزلة البيكاديللي، الحمراء، بيروت.

السفير
2006/02/04

*******************

عصام محفوظ
( 1939- 2006)

هذه الصفحة تدين له بالكثير
(النهار)

عصام محفوظعندما يموت أحد كبارنا، نهرع جميعنا، كباراً وجدداً، الى أعماله ومآثره وأفضاله، لنتذكرها ونحيّيها، لأننا لا نملك سوى أن نكون أوفياء للذين صنعوا لنا جزءاً حيوياً وحاراً من ذاكرتنا الأدبية والثقافية. فكيف إذا كان هذا الموت يطاول، اليوم، عصام محفوظ، الشاعر والكاتب والناقد والمسرحي والمترجم، بل والمثقف والمناضل النهضوي، الفكري والسياسي، الذي ترك على أرض هذه الصفحة الثقافية بالذات، نباتاً وأزهاراً وأشجاراً خضراء ووارفة، كثيفة وعالية وبعيدة، الى حدود الأفق والسماء. أمس غاب الجسد العليل، جسد عصام محفوظ، بعد صراع طويل مع المرض، وعزلة مرة. وفي غيابه تحضر مؤلفاته المطبوعة كتباً، وتلك التي أغنت خصوصاً صفحتنا الثقافية في "النهار"، مدى سنوات وعقود، لتشهد لفاعليته النيّرة ومساهمته الأساسية في جعل بيروت مختبراً جوهرياً للخلق الأدبي، وعاصمة للسؤال العربي الجريء والمغاير والمختلف، ومنبراً طليعياً للمناقشة حول معنى الثقافة والحرية والعلمانية في عصر التحولات والهزائم والتطلعات الكبرى. نلتقي حول عصام محفوظ لنكرّم الطريق الذي شقّه، ولنلقي الضوء على مكانته الجمة في استحضار العلاقة الديناميكية بين كنوز التراث وقضايا النهضة واختبارات الحداثة، وبين المحلي والعربي والعالمي، ولنؤكد مرةً أخرى أن ما نفعله اليوم يدين بالكثير لما فعله عصام محفوظ ورفاقه في حركة التغيير الأدبي والثقافي. بل لنؤكد أيضاً أن لا خلاص لهذه البلاد اللبنانية، وللبلدان العربية جمعاء، إلاّ بالثقافة، وخصوصاً إذا كانت ثقافة فردية وجماعية، متنوعة، وأولاً حرة.
(النهار)

****

كان عصبة نفسه

سمير عطا الله

كان شقياً الشقاء المحزن والانفرادي، حائر النفس ومظلوماً بذاته، يحبّها ويكرهها، يعشقها ويلعنها، يقدمها الى الآخرين نفساً مضطهدة خائفة ومرتجفة، ثم ينسحب بها الى زاوية الابتعاد وحكم الحبس الذاتي الأبدي. أراد ان يكون كل شيء في الغابة السحرية، الشاعر والكاتب والمسرحي. وكان يغضب من نفسه فيريد ان لا يكون شيئا او أحدا او كائنا. رأى في نفسه رائداً من رواد المسرح، ومغيّرا بلغة الخشبة، ومخترعاً مبدعاً في اللغة الثالثة، أي تبسيط الفصحى ورفع العامية. وتوقع ان يكرّس بقية الحياة والعمل من اجل المسرح. فإذا بالحرب تطبق على بيروت، والمسرح ينهار ويغلق الأبواب، واذا بالمسألة كلها في أيدي القوالين والجوالين والتروبادور. وأحزنه ذلك، فأقام قطيعة بينه وبين نفسه. وراح يتذكر الخشبة التي كانت، ويحنّ الى الخشبة التي لم تكن. وتاه وحيدا ومنفرداً وشقياً في ضيق نفسه وسعة ثقافته. وأصدر على نفسه باكراً الحكم الأقسى والعقوبة المريحة: ان يكون قارئاً مطلقاً من دون أن يتحمل مسؤولية الكتابة وعطوبها وكونها امتحاناً أزليا على حافة نبع، يوماً يغرق بصاحبه ويوماً يجف به. جرّب عصبة "شعر" وتركها. أبدع في المسرح وتركه. وقرّر يائساً وبغير حق ان يكون عصبة نفسه ومجموعة ذاته. وخشي على نفسه من الاضطهاد فأمعن فيها اضطهاداً وانسحاباً الى داخلها حتى لم يبق منه خارجها شيئاً.

***

الأسرة تحيّيك

حبيب صادق

...أخيرا، وبعد صراع محموم ومرير مع المحنة الصعبة الضارية التي اجتاحته، على حين فجأة، فتساقط جسده، تحت ثقلها، عضواً فعضواً حتى الرمق الأخير. غاب، أخيرا، وجه عصام محفوظ الذي بقي ساطعاً، متألقاً من حبر إبداعه زهاء خمسين من السنين. ولئن كان لكل حياة أجل، فان الصورة التي ارتسمت لنهاية عصام لم تكن تليق بمثله من أفذاذ المبدعين في هذا البلد المزهو بإشعاعه الثقافي ومقامه الحضاري! أمس، ظهراً، كان رفيقي زائغ البصر حابس الأنفاس أمام وجع عصام الذابل وجسده المثقل بالأنابيب الطبية في غرفة العناية الفائقة في مستشفى حكومي. واليوم يجد رفيقي نفسه مهشّم الروح غائر العينين وهو يستعد للسير بجثمان عصام، مع أهله وأصحابه المتبقّين، الى مثواه الأخير. في موكب التشييع الحزين تسير، بخشوع، أسرة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ملوّحة بشارة الوداع الأخير تحية إجلال لأحد أفرادها المقيمين في ضميرها وفي ذاكرة بيتها الثقافي الجنوبي.

******

من كتبه:

****

خلف الستار

شوقي أبي شقرا

عصام محفوظ زميلي وصديقي ورفيقي في كرمة الكلمة. وطالما كنا على الدرب الصاعدة معاً، وتقدمنا في الغبار وفي الأشواك معاً وحذفنا من المساحة، من الفسحة ما نستطيع ان نحذف من العوائق، من الصخور الخشنة، من كومة الحجارة، وكنا الفعل والفاعل وكنا الفرسان ندق جرس الإبداع، وكنا أكثر من ذلك نلبس الرداء الذي يطابق المسرحية، ونلبس المعاني الجديدة التي نحن لأجلها فقط، والسيف اللامع ايضاً، والمهابة نأخذها من عمق الرسالة ومن فضاء النقاء والاندفاع انبطاحاً على الهدف حيث يكتمل قمر الأنس ونربح الضوء والمودة، ونربح المعدن الثمين والرضى الثامن لأننا نستحق ان نكون في عداد الفائزين ولا ما يوقفنا عندئذ، بل نكمل الخطوات ونسير الى القطاف ونملأ السلال بالعناقيد، وصولاً الى النقطة التي تهمنا، نقطة المطلق والانسياب الى ما نحن قادرون عليه، وما كنا تعبنا له ونزلنا في أعماقه، ولرنما نحن جماعة اللؤلؤ، جماعة الصيادين الذين كما يرمون الشبكة والصنارة، كذلك يعزفون لحن النبوءة وعلى مقربة من النحيب ومن شقاء الحالة والطبيعة المتجهمة ومن الشقوق الجارحة والأظافر المتكسرة على قناديل الشاطئ، على حافة الثمار ونبل المحطة والقشعريرة في صنع المجد وربيع الازدهار.
عصام محفوظ الذي يفارقنا بل فارقنا منذ ألمت به وعكة المحنة، قبل أشهر، وهوت عليه بأنيابها حتى عطلته، من الذين يضافون الى الهموم، الى همنا الأكيد، الى انه من الذين ساهموا في لعبة العطاء، خاصة لعبة مجلة "شعر"، وقبلها لعبة الكلمة بكل بساطة، لعبة القصيدة، ولعبة المسرح، ولعبة المقالة والبحث، إذ تقلب هو في فنون الكتابة، من القصيدة الى المسرح وكنت الذي أبصر عنده كونه في القصيدة إنما يصوغ مسرحاً حوارياً بجلال ونفاذ، وإنما يصوغ عالماً من الحقائق، وله الرأي والحجة، وله شأنه في جرّ الموضوع الى وكره، الى وجاره، الى بيت الحق والعقدة الماثلة والمختبئة تحت الستار وبما وراءه. وكان الذي يؤدي ما عليه، ويقول ما به، ويقوم بالإضاءة على مجالات الشرق، على الأشخاص الذين يصلحون لكل زمان، وان فاته انه لم يبق على قطعة وحيدة، على ساحة وحيدة ليعمر عليها ما يشاء من الأهرامات او من العمارات المثلى والتي تكثر فيها الشرفات كما تكثر المخارج والمداخل. وكان حقاً في لبوس الكاتب يختلف بين فينة من هنا وفينة من هناك، بحيث يجوز الوصف انه الكاتب اللبناني والعربي الذي عاش من نصوصه الى درجة واسعة، وانه في مزاجه كان المؤسس لجدلية، لطريقة في الديباجة، قوامها النضج والمنطق والحس بالأمور، بل قل حس بما هو متقدم ويحتاج الى ما يسند الخابية، فكان أقوى من الخمر وله أثره وتأثيره، وكان أقوى من الحياة، ان جاز القول، في ما سبق له من العيش، إذ تشرد فيها، وإذ تسكع ما تسكع، وكان في كل أمر وكل مرة، أشبه بالممثل يبوح بما عنده، ويرسله جهاراً او يصنع منه قضية.
ولعله ذلك المتشرد الذي يضع طقمه وعقدته دائماً على جسده، وما خانه جسده ذات يوم، ولبث كذلك مدة طويلة، وكان الرضي والهانئ والمنساب في أسلوبه الحياتي، سهل الأخذ يأخذ منك ويعطيك أحيانا ما يملك، سريعاً في الاختيار، والشخص الذي يعتمد الوعي والنضج والحركة الأصيلة، وكان بعضهم لا يفهمه، وكلما تقدم إليك يصعب ان تقع منه على الجواب، على ما يجب ان تقع عليه، ذلك ان عصاماً إنما هو ابن ذاته الطريفة والتي منذ الصغر هاجرت من مكان الى مكان، واستمر منواله هذا، إذ كان في بيته مثل الضائع ولكن لا يضيع، ولعله تعوّد من دهره ان يتكل على طريقته في صيد الطرائد، لأنه عانى ما عانى وكابد ما كابد، ولأنه يزدان بطاقة الصمود بين مضائق الوحشة وسراب الاشياء.
وماذا بعد عن صديقنا عصام، غير انه يمر بالمصيبة بالحادثة بالعمل بالصداقة بالمودة يمر مرتاحاً، ويلبط المصاب لبطة الحذر وبقوة في الطبع، ولم أر ما يوازيه في وجه الوقائع، إذ يرتسم أمامها ولها كما هو، بل يخرج منها خروج النجاة، ثم يكمّل مساره، ويرتقي في المعارج ارتقاء المقامر ورجل البساطة، ولا يحنق، ولا يجفل، ولئن جفل مراراً وحنق مراراً فإنما فعل بنوع من الفولكلور الذي يليق به، يليق بهذه النفس المعذبة منذ البدء، والتي خرمشت العقبات وخرمشت ما طرأ ويطرأ عليها وما هو سابق من عنفها وما هو لاحق من هذا العنف المصيري، وكان ان الكدر غلّف عصام محفوظ وغلّف أصدقاءه ومعارفه، ويتركنا في غيابه ونحن ملوثون بعطره وتناقضاته وبذكريات لا تقع في الفراغ.

***

يطبق كتاباً وينام

عيسى مخلوف

مات عصام محفوظ قبل أن يموت. حتى قبل أن يدخل إلى المستشفى.
يضؤل الموت الفردي حين تكون الجماعة في حالة موت معلَن. يضؤل الموت الفردي حين تصبح حياة الأوطان شائكة ومعقدة إلى هذا الحدّ. تلك الأوطان التي يقتلونها يومياً من الخارج فيما هي تقتل نفسها.
في مثل هذه الظروف، صرنا ننظر إلى الموت العادي بشيء من الشفقة. نريد موتاً أعظم، موتاً أفدح. وفي الوقت نفسه، نشعر أنّ شهداءنا دُفعوا دفعاً إلى الشهادة، وهم لا يريدون أن يموتوا. كانوا منهمكين بترتيب أحلامهم وتشغلهم حيويتهم العظيمة عن الموت.
نعم، ما عاد يكفينا الموت العادي. الموت على فراش بسبب طول العمر ومرض الشيخوخة. بعدما ذقنا الموت الأكبر، بات الموت البطيء صنفاً من الموت نجهله وحشرجته لا تصل إلى آذاننا. الموت الخاطف والعنيف هو الذي يعنينا. ذاك الموت الذي هزّنا مراراً خلال الأشهر الماضية. لكن من قال إننا مصابون بنقصان الأمل. على العكس من ذلك، تعوّدنا أن نعلن عكس ما نضمر. أن نقول إن المدن سبق لها أن ماتت، وخرجت كطائر الفينيق من رمادها. نحن أكثر شعب في العالم يحب الفينيق وأكثر من يتحدث عنه ويستشهد به. كأنما لنطمئن إلى موتنا الكثير ولنعانقه بصورة أفضل. نتحدث عنه و"نتلطّى" وراء نقيضه، ومثلنا المدن التي نحبها ولا نقبل الاعتراف بأنها مريضة حتى الاضمحلال.
دائماً أتذكر عصام محفوظ عندما أمرّ بالقرب من مبنى "القصر الصغير" في باريس حيث كانت، في الجهة المقابلة، مكاتب "النهار العربي والدولي" مطلع الثمانينات. في الصباحات الباردة، كنّا نشرب قهوتنا مع جرعة كونياك. وما كان ليدفأ. على توتر كان، وعلى صراع مع نفسه قبل أن يكون على صراع مع الآخرين، هو الذي ينطبق عليه قول المتنبي: "على قلق كأن الريح تحتي".
مات عصام محفوظ مراراً قبل أن يموت. حتى خبر وفاته جاء متقطّعاً.
بنى بيته بين الشعر والمسرح، بين الموقف الملتزم والسياسة، وكان يصغي بإمعان إلى حركة الثقافة المعاصرة وقضاياها، شرقاً وغرباً. وكان، حين يلتفت إلى الماضي، لا يحاور إلا المتنورين في التراث العربي والإسلامي.
عصام محفوظ أحد فرسان تلك المرحلة البيروتية المشعشعة، وهو من أولئك الذين شهدوا على ولادة الحلم، وشاهدوا أيضاً مدينتهم تحت نار الحرب والاحتلال والاغتيالات السياسية حيناً، ووطأة الطائفية والانقسام الطائفي في كل حين. وهذا كثير بالنسبة إلى حياة واحدة، قصيرة وعابرة، يودعها عصام محفوظ ويطويها أمامنا كأنه يطبق كتاباً وينام.

***

موت احتجاجي

كريم مروة

برحيل عصام محفوظ يفقد الأدب العربي ركناً كبيراً من أركانه. كان منذ مطلع السبعينات أديبا متميزاً في الكتابة المسرحية وفي النقد المسرحي، ثم صار في ما بعد مؤرخاً مهماً للمسرح اللبناني. لكنه كان الى جانب ذلك ناقداً أدبيا وناقداً اجتماعياً في آن واحد، وكان فوق ذلك كله مناضلا سياسياً بالفكر والأدب وبالنقد. وقد تميزت الصفحة الأسبوعية التي كان يشرف عليها وكانت تحمل توقيعه في جريدة "النهار" على امتداد عقود منبراً مهماً لإلقاء الضوء على عدد كبير من الرموز الفكرية والأدبية والفنية في العالم العربي وفي العالم، وإلقاء الضوء على عدد من الحركات الإصلاحية في التاريخ.
فوق ذلك ايضاً وأيضا، تميّز في السنوات الأخيرة، في بعض الكتابات الخاصة، بإعادة الاعتبار الى عدد من رموزنا الكبيرة في التراث العربي القديم وفي حركة النهضة في القرن التاسع عشر. وكان من أهم ما في هذه الكتابات، محاولاته الجريئة في كشف ما كان مجهولا وما كان ممنوعاً إعلانه من بعض ما امتاز به هذا التراث. وكثيراً ما كنت أقول له اني من الذين أفادوا كثيراً من هذه الكتابات. أما ترجماته فاني اذكر على وجه التحديد ثلاثاً من أهم ترجماته، ترجمته لرامبو مع مقدمة، وترجمته لبعض أشعار ريتسوس، وترجمته لبعض أشعار جورج شحادة.
لكل ذلك فان عصام محفوظ كان بامتياز، ركناً مهماً من أركان الأدب والفكر العربيين، وفي يقيني انه عندما أصيب بالمرض العصي على الشفاء، في العام الماضي، فان مرضه كان احتجاجاً صارخاً على زمن رديء لا يعرف القيمة الحقيقية للأدباء والمفكرين، بل هو ينساهم ويتجاهلهم ويجعلهم فريسة كل أنواع الأمراض الجسدية والنفسية في آن واحد.
لكن اكبر احتجاج عبّر عنه عصام محفوظ بأفظع الأشكال وافجعها، هو موته في هذا الخراب العميم وفي هذا الظرف الفاجع الذي كان يعيشه.

***

من لغة الكتاب إلى لغة الخشبة
المسرحي الذي نسي مسرحه مضاءً

ماهر شرف الدين

في استطاعة كل حرف يُكتب أن يختار تصيّره ورقة نعي تُعلَّق، أو ورقة تين تسقط، أو مرثاة. لكن المرثاة باتت لا تصح، في أيامنا هذه، إلا مع الذين يجعلون من لحظات رحيلهم "مناسبة" اضطرارية كي نعيد قراءتهم من جديد، والحزن عليهم من الأول: عصام محفوظ يؤلف لنا موته كما لو أنه يؤلف عملاً جديداً وأخيراً. جلطة دماغية كتبت الصحف، وكان الحريّ بنا أن نبحث ونفتش في كتبه ومسرحياته عن جملة أو كلمة أو حرف يُكذّب ما قرأنا. عصام محفوظ، كم من أبناء الجيل الجديد يعرف هذا الاسم الذي وُضعت بعض أعماله بين أفضل إبداعات المسرح العربي، ولِمَ لا العالمي؟ عصام محفوظ في ذمة الحروف أولاً... والباقي من التفاصيل إذاً.
أحد مؤسسي موجة الحداثة، والواضع أولى لبناتها التي طاولت المسرح اللبناني في أكثر من مطرح. بدأ نضاله المسرحي منذ أوائل الستينات مؤسساً مسرحاً لبنانياً حديثاً، مواكباً ومتأثراً بالحركة المسرحية الغربية، وأوجد أفقاً جديداً له، هو أفق الاستفادة القصوى من انتصارات المسرح العالمي، واتجاه نبذ آخر آثار الدراما البورجوازية وصالوناتها التي تُسقط عنها حائطها الرابع، على ما رأى نزار مروة. فمنذ مسرحيته الأولى، "الزنزلخت"، استطاع أن يقوم بتجربة المؤلف الحديث في المسرح اللبناني، الأمر الذي منح الحركة المسرحية الوليدة ثقلها الضروري.
لقد أرّخت "الزنزلخت" لولادة المسرح اللبناني الحديث، حيث استخدم فيها المؤلف حواراً بسيطاً طالعاً من صميم اللغة المحكية اللبنانية في جوها وأمثالها، وهذا منح النص مضموناً محلياً سواء في التعبير أو في المسلك، بحسب شكيب خوري، من دون أن يحرم سعدون، بطل المسرحية، من المشاركة في القلق الكوني.
في كتاب "المسرح السياسي في لبنان" الصادر بالفرنسية العام 1974، اعتبر غسان سلامة أن الانطباع الأول الذي يشرق في بالنا عن هذه المسرحية، المكتوبة في شاعرية آسرة، هو ما له علاقة بالمسرح البسيكولوجي. لأنها تمثل تمسرحاً حديثاً بطريقة وجودية لمأساة أوديب. لكن اعتراف أوديب عصام محفوظ هو اعتراف مجنون، في معنى من المعاني. فهذا المجنون يحدس أن ثمة وجوداً لسعادة ممكنة، ولشعور إنساني ما: الجنون النموذجي الذي ينتقل ببطل المسرحية من مجرد كونه قضية خاصة إلى فضاء القضايا العامة.
لذا، يصح في "الزنزلخت" أكثر من تفسير واحد، ربما لأنها قد كُتبت في العام 1963، ولم تُقدم حتى العام 1968، أي بعد الهزيمة، ما فتح المجال واسعاً للتأويلات التي تتناسب والوضع بعد الهزيمة.
في مسرحيته الثانية التي حملت عنوان "الديكتاتور"، كرّس عصام محفوظ المفهوم التقني الجديد، لغة وحواراً، عبر حوار ثنائي مشحون ومتوتر بين شخصين فقط في استطاعتهما حبسك طوال ساعتين: أبرع حوار ثنائي طويل النفس عرفه المسرح اللبناني شكلاً ومضموناً، على ما كتب كميل سعادة. أما في خصوص اللغة المسرحية الجديدة التي استخدمها محفوظ فإنه بالرغم من لبنانية التعبير ولبنانية الأمثال، وتالياً لبنانية اللغة، فقد قدّم المؤلف تركيباً متميزاً حرّك هذه اللغة، معيداً خلقها من جديد.
أسس عصام محفوظ، والذي هو أحد أركان مجلة "شعر"، لمشروع أسلوب يساعد في تأسيس لغة بديلة، كمشروع مرحلي يحمل اسم: الفصحى الشعبية. فقد كان معارضاً لكل "الثياب القديمة"، الأخلاقية منها واللغوية، التي تفصل المسرح عن صدمته الضرورية. ولذلك كتب ووزع بياناً حمل عنوان "بيان مسرحي رقم واحد"، بعد وقت قصير من تقديم مسرحية "الزنزلخت"، هذه المسرحية التي تم تصنيفها من أفضل إبداعات المسرح العالمي بين عامي 1966 و 1970. ومما جاء في هذا البيان: "لأننا نمر في فترة حرجة من تاريخ أمتنا، ولأننا في حاجة إلى شهداء، فلتكن اللغة الفصحى شهيدة المسرح المقدسة".
وفي ذلك يروي محفوظ أنه، أثناء المؤتمر المنعقد على هامش "مهرجان دمشق الثاني للفنون" في العام 1970، وهو المؤتمر الأول لبحث قضايا المسرح العربي المعاصر، اصطدم بوزير الثقافة السوري فوزي الكيالي، الذي أراد أن يفرض اللغة الفصحى على المسرح المشارك في المهرجان بحجة أن الاعتراف بالعامية وتشجيعها هما "خيانة" على الصعيد القومي تساعد في تعطيل مشروع الوحدة العربية.
لكن عصام محفوظ اعتبر أن طرح مسألة العقبات التي تواجه المشروع الوحدوي العربي هو طرح خاطئ في أساسه، لأن مراجعة صغيرة لتاريخ الأقطار العربية قبل "التجزئة الاستعمارية" - حين كانت هذه الأقطار تحت الحكم العثماني - تؤكد لنا أن تلك الوحدة لم تمنع استفحال العاميات العربية المختلفة على لسان الرعايا العثمانيين من العرب. وفي المقابل، فإن تعدد لغات القوميات في الاتحاد السوفياتي سابقاً، لم يمنع إنشاء دولة اتحادية كبرى مع تعزيز اللغات المحلية رسمياً.
أكثر من ذلك، إن ازدواجية اللغة العربية، في رأي عصام محفوظ، لم تنشأ في عصور الانحطاط، ولا في ظل التجزئة الاستعمارية، إنما في أحضان العصر الذهبي للإمبراطورية العربية، يوم كانت بغداد حاضرة عالمية. لذلك صح القول إن النص المسرحي مع عصام محفوظ حقق نقلته النوعية حين هجر لغة الكتاب إلى لغة الخشبة.
للراحل الكبير أكثر من خمسة وعشرين كتاباً في التأليف والترجمة، نذكر منها في المسرح: "الزنزلخت"، و"الديكتاتور"، و"التعري"، و"ستيريو 70"، و"من قتل فرج الله الحلو"... وله في النقد مؤلفات عدة منها "مسرحي والمسرح"، الذي يتناول فيه التجربة المسرحية العربية الحديثة من خلال تجربته الشخصية في المسرح في الثلاثين سنة الفائتة، عبر مداخلات نظرية ونقدية ومقاطع من أحاديثه عن المسرح. إلى ذلك، للراحل مؤلفات فكرية وقصصية وحوارية: "عاشقات بيروت الستينات"، "حوار مع الملحدين في التراث"، والذي حاور فيه ثلاث شخصيات اشتهرت بتصديها للموضوع الديني، وهم: ابن الرواندي وأبو بكر الرازي وجابر بن حيان.
عصام محفوظ مفتتح الكتابة العربية الحديثة لخشبة المسرح في لبنان، ينسى أضواء مسرحه مضاءة، في هذه العتمة التي تطمس مجتمعاتنا العربية، ويرحل. هذه المجتمعات التي راقها، على ما يبدو، قَدَرُ أن تكون زنزلختاً.

***

عصام محفوظ في عهدة "الموت الثاني"

جمانة حداد

حسناً فعل عصام محفوظ.
فهو لم يمت لأنه يحب الموت. هو مات رفضاً للمصير الذي آلت إليه هذه الحياة الخائنة. أضرب عصام محفوظ عن الحياة، لأنها نكثت العهود ولم تعد كما شاءها وعاشها، حلماً واختراعاً وثقافة ونهضة وبحثاً عن الحداثة وكفاحاً من أجل الضوء والحرية والعلمانية والديموقراطية.
مات، وحسناً فعل، احتجاجاً وقرفاً ويأساً.
وإذ تركته هذه الجمهورية السعيدة يذوي على قارعة البلاد، فهو كان قد سبقها الى ذلك، متشفياً ومنتقماً، حين اختار طوعاً وعن سابق وعي وإدراك، قرار البحث الضمني عن الموت صوناً للحياة التي لاعبها طويلاً وعميقاً وحتى الرمق الأخير. نحن الذين تربينا على "أسطورة" مجموعة "شعر" وعلى الحقيقة العظيمة التي صنعتها لثقافتنا، كم يؤلمنا ان نودّع اليوم ركناً من أركانها، هذا الوجه النهضوي التنويري الحديث، العلماني الديموقراطي اليساري الذي شارك في صناعة الحداثة، اللبنانية والعربية، أدباً ومسرحاً وترجمة وفكراً ونقداً وسياسة، والذي يغادر اليوم حياتنا الثقافية، بل الحياة مطلقاً، تاركاً لنا التبكيت والسؤال.
أليس عصام محفوظ هو الشاعر الذي كتب عام 1973 ديوان "الموت الأول"، تمهيداً لكتاب "الموت الثاني" الذي جرت وقائعه أمس، بل قبل أمس بسنة، وربما بسنتين، والله أعلم؟!
إنه هو هو بالتأكيد، هذا الذي كتب "أعشاب الصيف" عن "دار مجلة شعر" عام 1961، هاتين الدار والمجلة اللتين ينبغي لنا أن نتذكرهما الآن أكثر من أي وقت مضى. انه عصام محفوظ، هو، هو، الذي كتب "السيف وبرج العذراء" شعراً عن "دار مجلة شعر" نفسها، عام 1963، ف"الموت الأول"، الى ان ذهب الى خشبة المسرح لا ليقف هو فوقها إنما لينتدب الكلمات والحوارات والشخصيات والأزمنة والأمكنة، وليكتب لها النصوص الألمعية التي أدرجته كاتباً طليعياً أول في هذا المجال البكر الذي تُحفظ له فيه ريادته وأسبقيته وفاعليته الدرامية القصوى. عرفنا له بيانه المسرحي الأشبه ما يكون بالمانيفست، والذي وضعه فيه عصارة نظرته الى ما ينبغي ان يكونه المسرح العربي الحديث لكي ينمو ويزدهر ويحيا بذاته ومنفتحاً على الآخر، مثلما عرفنا له نظريته في لغة المسرح وضرورة المواءمة بين الفصحى والعامية، في ما أطلق عليه تسمية "الفصحى الشعبية". وعرفنا له، أيضاً وأيضاً، مسرحية "الزنزلخت" التي كانت صدرت عام 1968 عن "دار النهار للنشر"، لتكرّ بعدها المسرحيات، من "القتل" الى "كارت بلانش" و"الديكاتور" و"لماذا رفض سرحان سرحان"...، فإلى أعماله المسرحية الكاملة التي تنطوي على الأسئلة الوجودية، الحضارية والثقافية، الفردية والجماعية، التي يعتمل بها ضمير الإنسان العربي في خضم التحولات الكبرى. ولا مفر من ان نتذكر هزيمة العرب عام 1976، والأثر الفادح الذي طبعت به مجمل الأفكار والكتابات، ذاك الزمن، ولم يكن عصام محفوظ بعيداً عن ذاك الخضمّ، بل في جحيم خيباته ومراراته.
عصام محفوظ، تعرفه جيداً هذه الصفحة الثقافية في "النهار"، أيام كان أحد أركانها وأعمدتها منذ عام 1966 الى عام 1996، بقصائده ونصوصه ومسرحياته ومقالاته وحواراته وترجماته وآرائه النقدية، وهي كانت في ضمير النهضة اللبنانية والعربية الحديثة.
أحبّ أن أسمّيه "الأستاذ" عصام، لأني انتمي الى جيل هو أحد أساتذته أولاً، ولأنه أرسى كذلك دعائم متينة للثقافة الملتزمة، لكن المتنوعة والخلاّقة، من التراث الى آخر اختبارات الحداثة، والتي لا تقف عند حدود الأدب حصراً، بل تتخطاها الى الفنون المختلفة، فإلى الموقف الشمولي من الحياة، عيشاً وفلسفة وأسئلة وجود. واذا كان من صفة تجدر به فهي صفة المثقف الشمولي الرائي. ولهذا السبب كان ناقدا، إذ كان يرى بحواسه كلها، بحواسه المثقفة والمتفتحة كالبوصلة. وغالباً ما كانت رؤيته النقدية مصيبة، لأنها كانت رؤية عارفة وجوهرية. ولهذا السبب كان مترجماً. ولهذا السبب أيضاً كان محاوراً خلاقاً. وللسبب نفسه كان ملماً بشجون السياسة والفكر والنهضة، وبالرواد والمحدثين، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، حتى ليصحّ القول انه علامة باقية عند المفترقات والتحولات. وهو علامة ذات ضوء محفور في الذاكرة الأدبية الحديثة، وفي الوجدان الثقافي العام. تحت هذه المفاتيح الدلالية، أعيد القول انه أستاذ ورائد. وتفتقده المؤلفات والمسارح والصحافة الثقافية والمقاهي.
عصام محفوظ هو الآن في عهد الموت الثاني. ويستحق ان ننحني له

النهار
السبت 4 شباط 2006

******

رحل عن 67 سنة وحيداً وفقيراً
عصام محفوظ شاعر حوّلته "الهزيمة" مسرحياً والحرب اللبنانية صحافياً

عبده وازن

لم يكمل عصام محفوظ عامه السابع والستين، هو الذي كانت تليق به الحياة، بصخبها، بآمالها وخيباتها. رحل بعد أشهر من ملازمة الفراش، مشلولاً، شبه وحيد، مواجهاً الموت بما تبقى له من أمل ضئيل. هذا الشاعر اللبناني والكاتب المسرحي والصحافي والمثقف الطليعي كان يستحق نهاية اقل وحشة وأقل برداً وفقراً. فهو كان من أبرز الكتّاب التزاماً لقضايا الإنسان المعاصر، نادى بالعدل ودعا الى الحلم وعمل على ترسيخ الثقافة الجديدة، جامعاً بين فكرة "تغيير" العالم و "تبديل" الحياة. كان طبيعياً ان يستهل هذا الشاب القادم الى بيروت من الريف الجنوبي (جديدة مرجعيون) مطلع الستينات من القرن الماضي، مساره الطويل شاعراً، وشاعراً حديثاً، لم يتخل عن الوزن الحر وقصيدة التفعيلة التي كتبها على طريقته. ولم يمض وقت حتى التحق بمجلة "شعر" التي أسسها الشاعر يوسف الخال العام 1957، وأصبح من أعضائها البارزين. وفيها نشر قصائد كثيرة وكتب بعض افتتاحياتها، علاوة على بضعة "بيانات" خصوصاً عندما واجهت المجلة أزمة جوهرية.
خلال سنوات "شعر" أصدر محفوظ أربعة دواوين حملت معالم تجربته ذات الطابع المأسوي الخاص، ولكن المشرع على التراجيديا الإنسانية. وبدا شعره مشوباً بالإحساس العدمي بالحياة على رغم استعادته "البراءة" الأولى موئل خلاص في عالم شديد القسوة والإجحاف. في العام 1973 جمع محفوظ مختارات من شعره في ديوان عنوانه: "الموت الأول" وشاءه مرجعاً أخيرا لتجربته الشعرية بعدما استنكف عن طبع دواوينه طبعات جديدة.
في العام 1967 وبعيد هزيمة حزيران، كتب محفوظ آخر قصائده (وداع الأيام الستة) وبها "ودّع" عالم الشعر منتقلاً الى المسرح وبادئاً مرحلته الثانية. وبدا هذا الانتقال ناجماً عن أزمتين: أزمة شعرية تجلت في صميم التعبير اللغوي وفي استنفاد القصيدة الحرة والنثرية، وأزمة سياسية - وجودية كانت "الهزيمة" سببها الأول، في ما تركت من أثر سلبي في الذات الفردية والذات الجماعية، دافعة اياه، مثله مثل المثقفين العرب، الى إعادة النظر في الواقع المتردي، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وجد محفوظ في المسرح وعياً أعمق بالمأساة الإنسانية وتعدداً للذات عبر الذوات الأخرى، بل هو اختار المسرح وتخلى عن الشعر لأنه وجد ان "الكلام الشعري صار حاجزاً يمنع رؤية الخنجر الموجه الى الصدر" كما يقول. لكن محفوظ ظل شاعراً في مسرحه العبثي والسياسي، وأفاد من شعريته ليطوّر اللغة المسرحية محرراً إياها من الثقل الإنشائي والبلاغة المرهقة. وبدت مسرحيته الأولى "الزنزلخت" التي كتبها العام 1968 بمثابة حجر الزاوية الذي بُني عليه المسرح اللبناني الحديث، ومعها انتقل النص المسرحي من الترجمة والاقتباس الى التأليف. وحمل "سعدون" بطل هذه المسرحية ملامح البطل اللبناني والعربي، السلبي والوجودي، الذي يحاكمه مجانين في مصح على جريمة لم يقترفها. بعد هذه المسرحية توالت أعمال أخرى: القتل (1969)، الديكتاتور (69)، كارت بلانش (70)، لماذا؟ (71). أما آخر مسرحية كتبها قبل الحرب فكانت "حسن والبيك" (74) وكانت عبارة عن مونولوغ او مونودراما، وأداها حينذاك الفنان الشعبي "شوشو" (حسن علاء الدين).
لم يكن مستغرباً ان تكون "حسن والبيك" آخر أعمال محفوظ المسرحية في المعنى التام للمسرح. فمثلما دفعته "الهزيمة" الى هجر الشعر والتحول الى المسرح، دفعته الحرب اللبنانية الى هجر المسرح والانصراف إلى الصحافة. فهو لم يستطع استيعاب هذه الحرب، الأكثر عبثية من المسرح العبثي نفسه، والتي خيبت آماله كمثقف ملتزم و "إنسانوي"، واقعي ومثالي. هكذا انتقل الى الصحافة الثقافية في شكل احترافي وسرعان ما فرض حضوره كاتباً مجلّياً بمقالاته العميقة والشاملة وبحواراته البديعة والقضايا التي طرحها. وعندما ضاقت به بيروت الحرب سافر الى باريس وعمل أولا في مجلة "المستقبل" ثم في "النهار العربي والدولي" ثم عاد الى لبنان وإلى "النهار" الصحيفة التي انطلق منها.
كان عصام محفوظ يعتبر مقالاته وحواراته الطويلة بمثابة "أعمال" نقدية يمكن اعتمادها كمراجع في حقولها، فدأب على جمعها في كتب، بلغت قرابة عشرين كتاباً ومن أبرزها حواراته المتخيلة مع رواد الفكر العربي القدامى، إضافة الى مقالاته وترجماته التي شملت الأدب المسرحي والروائي، عربياً وعالمياً.
"نهايتي باردة / مهجورة/ مثل بقايا مائدة"... هكذا كتب عصام محفوظ حادساً بموته شبه المأسوي الذي وضع حداً لحياة عاصفة بالأفكار والقضايا والهموم، حياة عاشها بتناقضاتها الجميلة ومعاركها وأوهامها.

الحياة
04/02/06

***

المثقفون العرب يشيّعون اليوم صاحب "الزنزلخت" إلى مثواه الأخير
عصام محفوظ ... صرخة "سعدون" الأخيرة في زمن القهر والهزائم

بيار أبي صعب

حين كتب عصام محفوظ بعد النكسة بيانه - المانيفستو الشهير، "بيان مسرحي رقم واحد"، المنشور لاحقاً في مقدّمة مسرحيّته "الزنزلخت" (1969)، لم يكن يعرف ربّما أنّه يعلن الولادة الرسميّة للمؤلّف المسرحي الحديث في لبنان. وجاء صمت الشاعر، وانقطاعه عن الكتابة للمسرح، إعلانا لاحتضار المسرح اللبناني كما عرفناه في سبعينات القرن الماضي... وها هو صاحب "أعشاب الصيف" (1961) و"الموت الأوّل" (1973)، بعد أن هجر الشعر من أجل المسرح، ثم تخاصم مع المسرح متحوّلاً الى التأريخ للذاكرة العربيّة المعاصرة، ها هو ينسحب بهدوء من المدينة، ويقلع ليس فقط عن الكتابة بل عن الحياة برمّتها... مضى عصام محفوظ نصف مشلول بعد سنوات العوز، وأشهر طويلة من المعاناة الصامتة، كاد يلفّه فيها النسيان لولا تعاطف حفنة أخيرة من الزملاء والأصدقاء. قبيلة في طريقها الى الانقراض المعلن، كما كان موت عصام معلناً، خافت على نفسها وهي تتضامن معه وتعلن غضبها لما آل إليه مصيره.
مضى الشاعر، ومعه "زليخة" و"سعدون" و"فرج الله الحلو" و"سرحان بشارة سرحان"، ليلتحق بالمعلّمين الذين جالسهم في سنواته الأخيرة الغزيرة بالإنتاج من جورج شحادة مواطنه في جمهوريّة الشعر... إلى الشيخ الأكبر ابن عربي وصحبه "الماديين" ابن الرواندي وأبو بكر الرازي وجابر بن حيّان، مروراً بآرتور رامبو وأوجين أونيسكو وألفريد جاري، وطبعاً هارولد بينتر وصموئيل بيكيت اللذين خيما طويلاً على عالمه المسرحي.
مضى بالخفر المعهود نفسه، ممزوجاً بسخريّة عبثيّة درج عليها في المسرح والحياة... كأنّه يخفي خلف نظارتيه السوداوين، مرارة لا تقال، واستقالة من كلّ الأحلام الطليعية والتطلّعات المستقبليّة التي طالما طبعت كتابته ومعاركه، وتجربته ورهانات جيله.
لذلك تراه تشبّث في السنوات الأخيرة بالذاكرة الهاربة يوماً بعد آخر، كمن يستعيدها ويحييها ويجاهر بالانتماء اليها في أزمنة الانحطاط والتشنّج والظلام، برموزها وانجازاتها الفكريّة والأدبيّة. فهو يتيم العصر الذهبي لبيروت، لم يعد يجد في الواقع أو الراهن ما يروي غليله أو يشفي خيباته أو يغري بالانتماء والنزول الى المعترك... مثل أيّام زمان.
كانت ستينات بيروت التي شهدت بروز محفوظ، أرضيّة خصبة بالتجارب الأدبيّة والفنيّة والفكريّة والجماليّة، صاخبة بالتجارب السياسيّة الراديكاليّة الساعية إلى تطوير المجتمع وتغيير العالم. تلك الصحوة التي حوّلت المدينة مختبراً عربياً رائداً، ما لبثت أن تفاقمت بالمشاريع البديلة في الأدب والسياسة، وفارت المواد الأسيديّة في الأنابيب حتّى كان الانفجار الكبير، الذي أدخل لبنان، وبعده المنطقة في جحيم الحروب الأهليّة.
وفي خضمّ تلك الفورة عرفت الحركة المسرحيّة عصرها الذهبي... كان تجربة "شعر" مهّدت لإعادة النظر بالقوالب والأشكال، واختراع لغات جديدة، ولم تلبث العدوى أن انتقلت إلى الخشبة، بعد بروز جيل من المخرجين والممثلين المتأثرين بمختلف التجارب الغربيّة، والباحثين عن هويّة وشرعيّة ومعنى وامتداد وجذور في أرضية ثقافية خصبة، أو تربة بركانية إذا فضّلنا. وكان عصام محفوظ أحد صانعي ذلك العصر الذهبي، خصوصاً في المسرح. خاض تجربة الترجمة من التراث العالمي التي انخرط فيها شعراء بارزون مثل أنسي الحاج، فكانت "غودو" بيكيت، وخاض تجربة العمل الجماعي مع "محترف بيروت للمسرح" (روجيه عسّاف/ نضال الأشقر)، فكانت "كارت بلانش". وبعدها استقلّ بتجربته ليكتب نصوصه على أسس جديدة، تنبذ الخطابة، ترفض الذهنية، تستبعد الأمثولة الايديولوجيّة... وتقطع الطريق على كل ثرثرة خارج الضرورة الدراميّة، والإيقاع الشعوري، والرؤيا الفكريّة المجسّدة جمالياً.... بدءاً من مسرحيّة "الزنزلخت" التي تعتبر مفترق طرق في المسرح اللبناني الحديث. قدمت المسرحية للمرّة الأولى العام 1968، بعد أربع سنوات على كتابتها، (وكان رفضها منير أبو دبس)، وضمّت أبرز ممثلي تلك الحقبة الاستثنائية: ريمون جبارة ومادونا غازي ونبيه أبو الحسن وفيليب عقيقي... وأخرجها بيرج فازيليان... وليس غريباً أن يعود الجيل الجديد الى هذا العمل، إذ أخرجته في التسعينات مسرحيّة شابة هي عبلة خوري التي تنتمي إلى جيل "ما بعد المسرح" يبحث عن نفسه خارج القوالب الضيّقة للعبة المسرحيّة التقليديّة.
ويروي المخرج بيرج فازيليان في سيرته عن تلك التجربة: "جاءني ذات ريمون جبارة ونبيه أبو الحسن وفيليب عقيقي ومادونا غازي. قالوا: نريد أن نقدم "الزنزلخت" لعصام محفوظ. باشرنا التمارين عليها، وهي في مراحل متقدمة على هذا الصعيد. عصام محفوظ أراد إخراجها، لكن التجربة كشفت عدم تمكّنه من فن الإخراج. قرأوا المسرحية على مسمعي، وجدتها مسرحية عبث. أردت عبرها ان نذهب جميعاً الى العبث الأقصى. غيرت قليلاً في شكل الكتابة لهذه الغاية. سعدون (ريمون جبارة) يبدأ من لحظة الولادة وينتهي بها. لا حلول في الحياة، هكذا أردت للمسرحية ان تقول بارتداد البطل الى الرحم. عصام يقول ان لا حرية. كنت أكثر راديكالية في طرحي في المسرحية. لم يكن في حوزتنا مال. استدعيت عارف الريس، قلت يا عارف نحن لا نملك مالاً. ونريد ان تساعدنا في ديكور "الزنزلخت". عندي رؤية: حديد بحديد. جئت بشاحنة حديد ورميناه على الخشبة. ذهب عارف في الرؤية الى حدودها القصوى. زوجتي صممت الملابس من الجنفيص الرخيص. كلفت المسرحية 500 ليرة لبنانية. أما الممثلون فقبضوا من عائدات شباك التذاكر. عند نهاية العروض، خرج كل واحد منهم بمبلغ 35 ليرة. الموسيقى كانت مقطوعات لرافي شنكار".
مع "بيان مسرحي رقم واحد" أراد محفوظ أن يؤرّخ للتجربة، ويعلن ولادة اتجاه جديد... على طريقة توفيق الحكيم في "قالبنا المسرحي"، ويوسف إدريس صاحب "الفرافير" في "نحو مسرح مصري"، وصولاً الى سعد الله ونّوس الذي يعتبر شريكاً في التجربة من موقعه الخاص "في بيانات من أجل مسرح عربي"، وبيان المسرح الاحتفالي في المغرب (الطيب الصديقي - عبد الكريم برشيد)... وصولاً الى روجيه عسّاف، ولعلّ هذا الأخير أعلن في "بيان مسرح الحكواتي" نهاية ذلك العصر الذهبي الذي كان أحد شركائه البارزين.
في بيانه يعلن عصام محفوظ الحرب "ضدّ الاتفاق، ضد التقليدية، ضدّ التفاهة، ضد الكسل، ضد اللامسرح". إنّها حرب تجعل أعماله عند "الحد الفاصل بين النص الأدبي والنص المسرحي (...) إنني ضد الكلمة الشعرية في المسرح، ضدّ الحذلقة الذهنيّة، ضدّ البلاغة، ضد الخطابة، ضد الغنائيّة، ضد الفكر، ضدّ كلّ ما يقتل الحياة في اللغة المسرحيّة".
وعلى رغم مشاغله السياسية التي طبعت بسماتها تلك الحقبة في لبنان والمنطقة، فإنّه رفض الشعار، والثقل الايديولوجي... ناحياً صوب العبث، بصفته ردّ الفعل الوحيد الممكن على الاستلاب الذي يولّده القمع. إنها تلك الانعطافة الحاسمة نحو ما سماه محفوظ "التفتحات الشكلية الجديدة" التي ابتكرت لغة جديدة، قافزة من "لغة الكتاب الى لغة الخشبة". إنّها "اللغة الثالثة" التي بشّر بها عصام محفوظ، وتقع في منطقة وسطى بين الفصاحة الأدبيّة، والمحكية كما تعيش على لسان العامة. عمل محفوظ على فصاحة مبسّطة، أو عامية فصيحة، لغة تمثيلية تتسع لتجسيد حالات شعورية محددة في سياق درامي محدد. إنّها عمليّة تواطؤ بين المكتوب والشفوي لتوليد لغة حيّة ومعاصرة، لغة الحياة، أولاً وأخيراً لا حاجزاً إضافيّاً ينتصب بين الخشبة والجمهور.
وبعد "الزنزلخت" التي جاءت خير تعبير عن نكسة ال 1967، كتب محفوظ مسرحيّة "الديكتاتور" التي تنحو أكثر نحو العبث. شخصيتان معزولتان كما في مسرح بينتر ("الغرفة" مثلاً)، في ملجأ غامض يقودان انقلاباً عكسرياً أو ثورة خرافيّة من عزلتهما الكافكاويّة. الجنرال المصمم على تخليص العالم وتابعه سعدون. السيد والعبد، في لعبة تبادل أدوار مقلقة. أخرجها ميشال نبعة ومثّل فيها إلى جانب أنطوان كرباج، وقدّمت للمرّة الأولى سنة 73. من المفروض أن "الديكتاتور" هي الجزء الثاني من ثلاثيّة حول شخصيّة "سعدون". لكن الجزء الثالث "سعدون ملكاً" لم يعرف أبداً طريقه الى الخشبة أو المطبعة. توصل محفوظ مع سعدون الى بناء شخصية مسرحية متكاملة، ناضجة، (لا رمزاً لحالة أو قضية أو شعار)، شخصية مستقلّة عن الحدث ومشاركة فيه، أي بإمكانها التحكّم فيه. سعدون هو الطفل المشاكس الحالم بتخريب العالم السلطوي، وهو ضحية القمع والإحباط والحرمان والاضطهاد، من شقائه يولّد الفكاهة. في "الزنزلخت" هو الفرد العاجز عن التفاهم مع الجماعة، الداخل في صراع وجودي مع قدره. أما في "الديكتاتور" فيرتقي الى مرتبة أعلى من الوعي الانساني، من دون تعديل في البعد المأسوي لتلك الشخصية الساخطة، كما هو عصام محفوظ نفسه، وكما بقي حتّى أيّامه الأخيرة محافظاً على الراديكاليّة نفسها.
لا بدّ من التوقّف عند تجربته قي التعاطي مع نصّ صموئيل بيكيت الشهير "في انتظار غودو" وقد أعاد كتابته بتلك اللغة الثالثة التي طالما دافع عنها، وأخرجها شكيب خوري متقاسماً بطولتها مع روجيه عسّاف ونبيه أبو الحسن (1969). لا بدّ أيضاً من الإشارة الى مسرحيّة خاصة جداً لمحفوظ، هي "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71" (1971) التي تختصر تأثراته بالمسرح التوثيقي على طريقة بيتر فايس صاحب "مارا - ساد": الشغل على المادة الأرشيفية وتحويلها الى لعبة دراميّة وطقس احتفالي. وهي الطريقة التي واصل اعتمادها في مؤلفات الحقبة الأخيرة نابشاً من التراث النهضوي مادة ل "محاوراته" الممسرحة مع كبار مفكّري النهضة العربية ورموزها، أو مع مفكرين نقديين من التراث العربي - الاسلامي.
قام محفوظ بمجالسة "مع الشيخ الأكبر ابن عربي" (دار الفارابي - 2003)، وجال مع رواد "مسرح القرن العشرين" (دار ألفارابي - 2002) مقدماً بأسلوبه المعهود رموزاً أساسية في ثقافتنا المسرحية المعاصرة: صموئيل بيكيت، برتولد بريخت، يوجين أونسكو، فريدريش دورنمات، ماكس فريش، آرثور أداموف، آرثر ميلر، جان أنوي، جون أوزوبرن، هارولد بنشر، هاينر مولر، وول سوينكا، جورج شحادة، أدمون بوند، عزيز نيسين، ألفرد جاري... وتوقّف عند "رامبو بالأحمر" (دار الفارابي - 2000)، متناولاً للمرّة الأولى شعر رامبو وسيرته من خلال علاقته بعامية باريس (كومونة 1871)، والاشتراكية الطوباويّة... كما كان تقصّى عالم جورج شحادة وشعره في "جورج شحادة - ملاك الشعر والمسرح" (دار ألفارابي - 1989). وكثّف لقرّائه "سجالات القرن العشرين" (دار الفارابي - 2004)... كما سبق أن حاور مفكري النهضة وغيرهم من شعراء وروائيين وروّاد... ولم يتوان عن الكتابة عن "الإرهاب بين السلام والإسلام" (دار الفارابي - 2003)، معالجاً مسيرة الإرهاب "بالتوازي مع مشروع الإمبراطورية الكونية الأميركية، سواء الإرهاب الحقيقي كردّ فعل على الاستفزاز الأميركي المباشر، أو الإرهاب المزيّف الذي للكواليس الأميركية حصة في صنعه بطريقة غير مباشرة، واستغلال الوجهين معاً لتعطيل كل قدرة على مقاومة مخططات الهيمنة الكونية التي للصهيونية الحصة الكبرى فيها".
هكذا هو عصام محفوظ، في كل مؤلّف وضعه بعد انقطاعه عن المسرح، كان يبحث عن جزء أساسي من مكوّنات وعيه ووعي جيله، ويجاهر به لمعاصريه، كمن يخاطبهم عن الراهن وعن أدوات مواجهته. وتلك الكتب يمكن اعتبارها ايضاً فصولاً في سيرة ذاتيّة ناقصة، وضع الموت حداً لها قبل الأوان. إنّ موت عصام محفوظ مثَّل الجزء الثالث من ثلاثيته المسرحيّة الناقصة، هو احتجاج سعدون الأخير على ظلم العالم في زمن القهر والهزيمة والطغيان.

***

حياته ومؤلفاته

  • ولد عصام محفوظ سنة 1939 في جديدة مرجعيون جنوب لبنان.
  • بعد الدراسة الثانوية في مرجعيون، حصل على دبلوم دراسات عليا معمقة من "معهد الدراسات العليا" في باريس.
  • عمل في الصحافة منذ العام 1959.
  • ساهم في حركة مجلة "شعر" (1958 - 1968).
  • رافق الحركة الثقافيّة اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة، من خلال عمله ناقداً في جريدة "النهار" قرابة ثلاثة عقود (تركها سنة 1997).
  • انتسب الى الجامعة اللبنانية سنة 1970، أستاذاً لمادة التأليف المسرحي.
  • هاجر إلى باريس سنة 1976 بعيد اندلاع الحرب الأهليّة، وبقي فيها حتّى سنة 1981.
  • من أبرز مؤسسي الحركة المسرحية الحديثة في لبنان، منذ مطلع الستينات.
  • أعماله المسرحيّة: "الزنزلخت" (1969)، "القتل" (1969)، "كارت بلانش" (مع "محترف بيروت للمسرح" -1970)، "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟" (1971)، "الديكتاتور" (1971)، "قضية ضد الحرية" (1975)، "مسرحيات قصيرة" (1984)، "التعري" (مسرحية في صيغتين - 2001).
  • مجموعاته الشعريّة : "أشياء ميتة" (1959)، أعشاب الصيف" (1961)، "السيف وبرج العذراء" (1963)، "الموت الأول" (1973).
  • مؤلفاته وترجماته الأخرى: "دفتر الثقافة العربية الحديثة" (1973) "أراغون، الشاعر والقضية" (1974)، "مشاهدات ناقد عربي في باريس" (1981)، "سيناريو المسرح العربي في مئة عام" (1981)، "الرواية العربية الطليعية" (1982)، "جبران، صورة شخصية" (1982)، "لقاءات شخصية مع الثقافة الغربية" (1983)، "دفتر الثقافة اللبنانية" (1984)، "السريالية وتفاعلاتها العربية" (1987)، "حوار مع رواد النهضة العربية" (1989)، "جورج شحادة ملاك الشعر والمسرح" (1989)، "المسرح مستقبل العربية: ملف الجدل" (1991)، "أبعد من الحرب" (1992)، "مسرحي والمسرح" (1995)، "أبعد من السلام" (1997)، "مختارات من الشعراء الرواد في لبنان 1900 - 1950" (1998)، "عشرون روائياً عالمياً يتحدثون عن تجاربهم" (1998)، "لعنة زحل: جوزف بريستلي" (ترجمة 1998)، "الرواية العربية الشاهدة" (2000)، "حوار مع متمردي التراث" (2000)، "ماذا يبقى منهم للتاريخ" (2000)، "رامبو بالأحمر" (2001)، "شعراء القرن العشرين" (2001)، "مسرح القرن العشرين" (جزءان - 2002)، "عاشقات بيروت الستينيات" (2002)، "الإرهاب بين السلام والإسلام" (2003)، "قصائد حب، تليها رسائل غالا - لبول إيلوار" (2003)، "مع الشيخ الأكبر ابن عربي" (2003)، "حوار مع الملحدين في التراث" (2004)، "سجالات القرن العشرين الفكرية السياسية" (2004)، "بعض أساتذتنا في القرن العشرين" (2006)، "رحلات ثقافية في سبعينيات القرن الماضي (2006).
  • دفاعاً عن العامية في المسرح العربي (عصام محفوظ)

***

تجديد الكتابة المسرحية

خالدة سعيد

عصام محفوظ رائد المسرح اللبناني الحديث على مستوى التأليف. كان، هو المتحرك بين الشعر والمسرح، أول الداعين الى الابتعاد عن اللغة الشعرية، ومن خطا أول خطوة كبرى في لبنان لفصل النوع المسرحي عن النوع الأدبي. إنه كاتب أول مسرحية قابلة للعرض على الخشبة تتعامل مع القضايا والمواقف الإنسانية والفكرية التي صدرت عنها الحركة الحديثة، من دون ان يجيء ذلك من خلال العبارة الأدبية والتعبير المجرد، بل من خلال المشهد والموقف المسرحي وبناء الشخصية وعلاقات الشخصيات في ما بينها وبناء المشاهد. لذلك من الطبيعي ان يكون صاحب البيان المسرحي الحديث رقم واحد. انه البيان الذي نشره في مقدمة مسرحيته الاولى والرائدة الزنزلخت.

يقول محفوظ في هذا البيان مشيراً الى الزنزلخت: "ولم تكن فقط تأييلاً وتركيزاً للتفتحات الشكلية الإخراجية في المسرح اللبناني، تأكيداً دعم هذه التفتحات وأعطاها مداها اللبناني، بل كانت معركة ايضاً / ضد الاتفاق / ضد التقليدية / ضد التفاهة / ضد الكسل / ضد اللامسرح / معركة جعلت منها حداً فاصلاً بين النص الأدبي والنص المسرحي (...) دافنة هكذا بحس مستقبلي كل النصوص اللبنانية المقبلة التي ستكون مربوطة بالتقليد السابق (...) أنا ضد الشعر في المسرح. كشاعر أقول هذا، متحسساً الموقف الشعري في اصطدام اليومي بالمطلق / الحياة الصغيرة بالحياة الكبيرة".
لا شك في ان لغة هذا البيان تتميز بالتطرف الذي هو سمة البيانات إجمالا. وسيوضح محفوظ في مناسبات لاحقة ما يقصده بقوله: "ضد الشعر وضد الفكر في المسرح"، لا سيما ان مسرحية الزنزلخت هي المحصلة الأخيرة مسرحية شعرية وفكرية. غير ان شعريتها لا تقوم على العبارة البلاغية الرنانة والحوار المنمق بل تنتمي الى الخشبة. ضد ذلك النوع الأدبي الذي عرف بين العشرينات والخمسينات، وظهرت منه أعمال كبرى في المعيار الشعري. أما في قول محفوظ انه ضد الفكر فكان يشير الى الأعمال التي تتخذ المسرح وسيلة لعرض الأفكار او تكتب بناء على أطروحة فكرية كمسرحيات كامو وسارتر.
كتب محفوظ مسرحياته باللغة المحكية، وباللهجة اللبنانية تحديداً. وكان من أوائل الداعين الى لغة مسرحية تشبه لغة الحياة اليومية بدل ان تشبه لغة الكتب. وقد دافع عن دعوته هذه في كل مناسبة، واعتبر اعتماد اللغة المحكية في المسرح جزءاً من فصل المسرح عن النوع الأدبي، وشرطاً من شروط تكريسه كلغة مشهدية مستقلة مبنية على الموقف والعلاقة والحركة.
من كتاب "الحركة المسرحية في لبنان 1960 - 1975،
تجارب وأبعاد (مهرجانات بعلبك الدولية)

***

"غودو" صموئيل بيكيت كما "عرّبه" محفوظ

أنسي الحاج

"في انتظار غودو" يتكلم صموئيل بيكيت ليقول فشل الكلام. ليس عند الإنسان ما يقوله، وإذا ينتظر، فلن يجيء أحد. وكلما طال الحوار في "انتظار غودو" اتسع الشعور بالفراغ. كل كلمة هاوية. كلمة وراء كلمة انحلال وراء انحلال. وفقدان أمل يبدأ خفيفاً ثم يتضخّم. ويروح فقدان الأمل ويجيء في المسرحية كالمد والجزر. وفي مرحلة الجزر، ولأن الجزر يوقف نزف اليأس موقتاً، يبدو ذلك "كأنه" الأمل. لكنه فقدان الأمل وقد نام قليلاً استعداداً للنهوض من جديد.
عدم اليقين سيد الموقف. أول مخرج أميركي ل "في انتظار غودو"، قال لبيكيت: من هو غودو وماذا يعني؟ فأجابه: "لو عرفت لقلت ذلك في المسرحية".
فلاديمير وأستراغون المتشردان اللذان ينتظران شخصاً يدعى غودو لأنهما يظنان أنهما على موعد معه، هما صموئيل بيكيت. ليس في المسرحية عقدة. انها أبدية من الصمت يملأه المؤلف بكلام أغلب الظن أنه الكلام الذي يقطع به صمت حياته الشخصية في الواقع. لا يعرف لماذا قال هذه العبارة ولم يقل غيرها ولا يعرف أين ستقوده ولا ماذا يقول بعدها. حوار طرشان؟ أو حوار غير طرشان مع محدثين هم الطرشان وأمام عالم هو الأطرش.
(...) الوعد بالخلاص يهدم الطمأنينة. الوعد بالخلاص كالتهديد الدائم بألا يتحقق الوعد. (...) من هو قايين بين فلاديمير وأستراغون ومن هو هابيل؟ اليقين! اليقين! لا وجود له. بوز ولاكي، السيد والعبد، تعرفا إلى فلاديمير وأستراغون في الفصل الأول، ثم في ما بعد لم يتعرفا إليهما. الغلام رسول غودو يتعرف إليهما في البداية، لكنه عندما يعود، ينكرهما. وقد نقول ان فلاديمير واستراغون هما، على الأقل، يتعرفان الى بعضهما بعضاً، لكنهما شخص واحد. إنهما الوجه والقفا، إنهما وجه الانتظار وقفاه، ولو لم يكن هناك غودو المربوطان بانتظاره لانفصلا.
الحياة عادة. يفيق الإنسان من هذه العادة حين يوقظه وجع الشعور بأنه موجود. وعندما يجتاز محنة هذا الشعور يعود فيرتمي في سأم العيش. وحتى لا تدركهما اليقظة، حتى لا يدركهما الوعي، يتسلى فلاديمير وأستراغون بالكلام. الكلام هنا ضد الفكر. ويتكلمان بلا معنى لكي لا يعودا ويتذكرا أنهما فكّرا، أنهما تكلما كلاماً له معنى. الكلام الذي له معنى، عندما نتذكره، ينبهنا إلى أننا موجودون. وعي هذا الوجود لا يسبب غير الألم.
(...) يقال الكثير عن مسرحية بيكيت. انها مملوءة بالأسرار المفتوحة على المطلق، ولكن لا يمكن تفسيرها تفسيراً واحداً محدّداً. الأسئلة التي يطرحها بيكيت هو نفسه لا يملك الجواب عنها. لذلك فنحن لا نملك غير "أجوبتنا" نحن. لبيكيت غودو ولكل من جمهور مسرحيته غودو. مسرحية مذهلة، ومزعجة، وتعسة، ومرعبة. انها أهم ما كتبه ومن دونها لا يكون مسرح القرن العشرين قد كان ما هو.
لم يكن أحد ينتظر أن يصل شكيب خوري إلى إخراج "في انتظار غودو" بهذه البساطة التي بنت لها جسراً أميناً إلى الجمهور. كان إخراجه متواضعاً، عاقلاً، إيجابياً. ربما فاته أن يبلور حركة الانحلال والتلاشي الآخذة في التفاقم فصلاً بعد فصل، وربما لم يركز تركيزاً كافياً على تواتر الشعور بالعبث ثم الشعور بالحاجة إلى الهرب من العبث، وغير ذلك من الأبعاد الميتافيزيقية. غير أنه أتاح لنا، بترجمة عصام محفوظ التي بلغت فهم الجميع، أن ننظر إلى عالم بيكيت من زاوية إخراجية لم تجفّل النظر.
ولم يخنه، في إخراجه، أحد من الممثلين. وكان هو وروجيه عساف في دور فلاديمير وأستراغون كمتبارزين من أساتذة السيف.
مقتطفات من مقالة نشرت في "ملحق النهار" - 19 شباط (فبراير) 1967

الحياة
05/02/06

**************

غياب عصام محفوظ

نقل الكتابة المسرحية من العبثية إلى الأفق السياسي
50 عاماً من عطاء مميز جمع تراثه.. وكأنه أحسّ باقتراب الموعد

إلياس العطروني

الراحل عصام محفوظ

في رسالة إلى صديق له مهاجر سنة 1990 كتب عصام محفوظ:
"كيف يمكن النظر بتفاؤل إلى مستقبل الثقافة العربية التي تكاد تستنفد كل احتياطها من الأمل؟. أو الثقافة اللبنانية التي يعيش أبناؤها في هاجس الاستمرار في البقاء فقط".
لعل في هذا الكلام الذي كتبه سنة 1990 تتحدد معاناة عصام محفوظ، ذلك الكبير الذي رحل بصمت الكبار حاملاً معه مرارة كنا نلمسها في عينيه ونتأكد منها في نطقه.
مرارة تمتزج مع إحباط تشكل بالتمادي عبر سنوات طويلة من عطاء مميز اكتشف أخيرا قبل مرضه أنه كمن يصرخ في وادٍ سحيق حيث لا أحد..
لعله كان محقاً، أو العكس، لكن الواقع انه كان محبطاً، ذلك الإحباط الأسود الذي ينسل كالسم إلى الجسد، ليفتك به بأشكال وألوان تتنوع، لكن الختام محتوم.
رغم كل ذلك بقي عاشقاً للقلم، مولها برصف الكلمات، في أواخر أيامه أي منذ أسبوعين تقريباً، أرسل لي مع صديق مشترك لنا آخر كتبه.. وهو كتاب من سلسلة جرى عليها بعد توقفه عن العمل اليومي، تحتوي على جمع لمقالاته وأبحاثه وحواراته التي جرت سابقاً.
عندما قرأت الإهداء الذي كتبه حيث جرت العادة استغربت، كان الخط مقروءاً بالكاد.. وكأنه كتابة طفل.
لاحظ الصديق استغرابي فأوضح.
لقد كتب الإهداء بيده اليسرى لأن اليمنى لا تعمل بسبب حالته الصحية ومن إصابة الدماغ.
تأملت الخط فقرأت فيه معنى الإصرار وعشق الكتابة ورفقة القلم..
أتذكر الآن جلساتنا، وتلك الأحاديث التي تلّطف من حزنها بعض الفكاهة المفتعلة..
كان الرجل حزيناً حتى الموت.
يعاني أكثر ما يعاني مما حدده بنكران الجميل، وبالثمن الباهظ الذي يدفع ثمناً لمواقف فكرية، أو لمواقف نابعة عن الاعتزاز بالنفس وعدم الخضوع لأية ظروف مهما كانت ضاغطة..
عصام محفوظ خسارة ثقافية لا يمكن تعويضها، لأنه في موسوعيته وشمولية ثقافته وعطائه كان متفرداً...
في كتبه الأخيرة حاول جمع تراثه،
وكأنه كان يشعر باقتراب الموعد.
غياب عصام.. خسارة ثقافية فادحة..
وأكثر فداحة لمن ارتبط معه بصداقة عبر عقود.

***

محمد ماضي: قاوم المحتل بالقلم والصرخة العالية

خطف الموت على عجل الشاعر والمسرحي والكاتب عصام محفوظ فكان الخبر مزلزلاً، وصداه في امتداد بعيد الى البلدان العربية وأميركا ومدن الاغتراب.
كان رحمه الله من أركان مجلة شعر المؤسسين لها والمبشرين بالشعر الحديث تياراً جديداً كسراً لرتابة الموروث، وخروجاً عن المألوف.
مسرحياته العديدة صورت الواقع وروت أزمة المقاومة والاحتلال الذي امتد حتى قلب بيروت وأمسك بتلابيب الوطن.
لقد قاوم المحتل بالريشة والقلم والصرخة العالية، وبقي في بيروت حين هجرها الآخرون.
لا أخاله قد مات الا والقلم في يده يؤكد خلوده، ويحرر عقولنا من موت مقيم.
يبقى شعره ومسرحياته وأبحاثه وكتبه شواهد على خلوده في الفكر والتراث والثقافة.
نفتقد منه الجسد، ونحتفظ بالأثر والجوهر.
أكاد أسمعه يترحم علينا في سماء عليائه ويبتهل.

***

الأديب المسرحي والمفكر عصام محفوظ
وداعاً لك .. وكأنه لقاء دائم..!

زهير غانم

"وتموت وحيداً وتموت ولست وحيداً وتموت غريباً، وتموت ولست غريبا. فقد كنت يوماً مددت حدود العراق الى مراكش . مددت حدود مراكش حتى الخليج وبيروت..! يموت المغني.. وتبقى الأغاني" خليل خوري
سنوات طويلات مرت على معرفتي بالأديب الشاعر المسرحي، المفكر والناقد عصام محفوظ، الذي رحل عن عالمنا الآن، وقد كان حاضراً بطريقة إشكالية، في الصحافة والثقافة والنقد، وكان من أصدقاء مقاهي شارع الحمراء، وكنت مؤخراً قبل وعكته الصحية القاتلة التقيه عند مطعم بربر، نشتري الطعام، لأن عصام كان يعيش وحيداً. وكأنه نذر نفسه للكتابة والفكر والنقد. وحتى المسرح ، هو الذي بدأ بالشعر، وقصيدة النثر، ثم ما لبث أن أحدث انقلاباً في التأليف المسرحي، عبر مسرحياته - الديكتاتور، ومن قتل سرحان بشارة سرحان، وغيرها، من المسرحيات تأليفاً وتناصاً وترجمة، ولم يكن عليه سوى خوض غمار الثقافة والفكر عبر صفحته الأسبوعية الشهيرة في النهار، وكأن عصام كان المفكر الموسوعي. فقد أقام تماساً، مع الفلسفة والفكر والقضايا العالمية، وعاش تحولات القرن العشرين، من حرب فيتنام، الى الثورة الفلسطينية، في فلسطين ولبنان، وكان ناقداً لها انضم الى نقاد للثورة، كصادق جلال العظم، والياس مرقص، لكنه في نقده كان إيجابياً، لأنه كان ينتمي للإنسان، ويبحث عن عدالة وحرية مفقودة في هذا العالم، كما أنه كان ناقداً إشكاليا، حتى على صعيد اللغة، حيث حرث في المسرح على أن تكون العربية المبسطة محكية، وممتزجة بلغة الشعب، واستشهد لذلك بابن خلدون، وتتطارح تزويج العربية بالمحكية، كل ذلك بحسن نية وايجابية معهودة لديه في الثقافة والإبداع، وقد كان يخوض معاركه النقدية والشخصية وحيداً بحيث لا صداقات في العمق. لكنه على صعيد اللقاءات الثقافية. كان حاضراًِ على رأس المشهد الثقافي لأعوام طويلة. وقد كانت له مغامرات كثيرة. في مراجعة التراث العربي والعالمي. كان له جولات مع متمردي التراث. كالجاحظ وابن المقفع، وأبي حيان التوحيدي ومع ملحدي التراث كابن الرواندي وغيره. ثم كان له المغامرة مع مؤسسي الثقافة اللبنانية، من كتاب ومفكرين. وأدباء وفنانين. لقد كان موسوعياً في ثقافته، وخاصة في الشعر العربي والعالمي، وله كتابه عن جورج شحادة، كما له كتابه عن أهم شعراء العالم، كذلك له كتابه عن رامبو. إضافة الى جولاته في عالم الرواية العربية جزئياً والعالمية بشكل شمولي..
وحين ترك عصام محفوظ عمله في جريدة النهار وكان هرماًً شامخاً فيها، وعلماً من أعلامها، كأنما أودى به الدهر، وكأنه تحول الى متسكع في شارع الحمراء. ومقاهيه، من منزله الى المقهى، ومن المقهى الى منزله، ولكثرة قراءاته، وكتاباته، عانى من أزمة في عينيه استمرت أعواماً، وكان يضع النظارات السوداء حتى في الليل، وكان وضعه محزناً بامتياز، حيث عرضت عليه عقود عمل صحافية كثيرة، لم يستجب لها، وكأنه آثر أن يتفرغ لإخراج كتاباته في كتب. وكان يجهد نفسه في التأليف، وكنا نحن الذين نلتقيه أحياناً، نتحدث في شؤون شتى. وحين نسأله لماذا لا يعمل، يتهرب من الجواب. على أنه لا يجد الشروط المناسبة لعمله. وكأنه كان يفكر بحرية، أكثر مما نفكر، وهذا واضح في كتاباته، وآثر أن يخضع نفسه لهذه الحرية. الى درجة الوجودية، حتى ظننا أنه يؤمن بمقولة الوجوديين "أن الجحيم هو الآخرون" لذلك لم يكن يستغرق في علاقاته مع أحد. رغم روحه المسرحية المبدعة، فقد اثر عصام عرض أفكاره في الثقافة، والنقد، والقراءات الإبداعية، عن طريق الحوار والمسرحة، على أنه شخصيا لم يكن ديمقراطياً بالقدر الكافي مع نفسه ولا مع الآخرين.
إن قوة الإبداع والنقد والكتابة ظاهرة في تأليفه، حتى مع المتصوفة العرب الذين كان له معهم جولات في حواراته التي كان يعقدها، وكان يرى أنها تسهل إيصال أفكاره وآرائه التي يريد توصيلها، لقد كان فذاً مبدعاً في ذلك، وما كتابه الحوار مع متمردي التراث سوى نموذج. يصلح أن يكون كتاباً تعليمياً ذا فوائد جمة لسهولة أسلوبه، وترجمته بلغة مائية سيالة وسلسلة، تصل العقل والقلب بسهولة ويسر، ودون تعقيد، وهذا من صفاء فكر عصام، وتجلياته في العربية، حيث كان أديباً عربياً بامتياز، ومنفتحاً على الثقافات جميعها، وكأنه كشاعر انتقل الى المسرح بالإبداعية والحساسية نفسيهما، لأن المسرح اليوناني في كتبه الشعراء كما هو معلوم..!
الجلطة التي ألمت بعصام أقعدته وعطبته منذ أشهر، وهو كأديب ومفكر وناقد، ربما لم يلق العناية الكافية، بما يؤهله للبقاء على قيد الحياة وكان الأصدقاء الذين يزورونه يخبروننا الأخبار التي لم تكن ايجابية تجاه وضعه الصحي خاصة حين ترك العناية الفائقة في المشفى وعاد الى البيت. وقبل يومين مرت أخته الى المقهى. وقالت لقد نقلناه الى مستشفى بيروت لان وضعه ساء وها آنذا أتلقى خبر وفاته من الصديق الياس العطروني وأجدني مرتبكاً ومرتعباً من رحيل صديق عزيز وأديب ومفكر أهداني الكثير من كتبه وقرأتها وتمتعت وأفدت من قراءتها. كما أنه كان على مرمى النظر اليومي لسنوات وسنوات. وعلى مرمى الإفادة الثقافية والفكرية فيه خلال الحديث معه لكن الفقدان سيحل محل ذلك حيث أنني لم أحظ بكتابه الأخير الذي نشره وهو في سرير مرضه وكأنني أعده بقراءته وربما التعليق عليه حين فات الوقت لهذا الوعد لكنه يعرف أنني كنت أقرأه وأتحدث معه عن أفكاره ومواضيعه في كتبه.
هذا المثقف والمؤلف الموسوعي عصام محفوظ لا بد من الاهتمام بكتبه ومؤلفاته، ربما تعويضاً عن عدم الاهتمام به وتقديره وهو حيّ بيننا. وكأن موته وموت الكثير من قبله من المبدعين والأدباء سيوقظنا ويجعلنا نفكر في محنة الثقافة العربية كذلك في محنة المثقفين العرب، وهي بالتالي محنة التنوير والحرية على حد سواء..!
تحية من القلب. ووداعاً بغصة وأمل أيها الصديق الرائع.

عصام محفوظ..

***

أسس للعبثي.. واندفع في السياسي

شفيق بقاعي

وليس جديداً القول ان عصام محفوظ هو رائد الكتابة المسرحية الحديثة في لبنان، فهذا ما يقوله غالبية نقاد المرحلة، لكن ما يجب توضيحه هنا والتركيز عليه هو ان عصام محفوظ في لبنان ويوسف ادريس في مصر افتتحا مرحلة الحداثة في المسرح العربي في مطلع الستينيات، وذلك انطلاقاً من ثلاثية محفوظ التي كونت المرحلة الاولى من كتابته للمسرح، ومسرحيات ادريس "الفرافير" و"المهزلة الأرضية" و"المخططون". ونتاج هذه المرحلة لدى الكاتبين يصنفه النقد في خانة "مسرح العبث". لذلك سوف تبدأ مقالتنا به، قبل الانتقال الى مرحلة المسرح السياسي في مسرح محفوظ.
مسرح العبث
هذه المرحلة تكاد تقتصر على ثلاثيته "الزنزلخت" و"الديكتاتور" و"سعدون ملكاً" التي شهدت منها الخشبة اللبنانية في الستينيات العملين الأولين ونشر المؤلف ملخص العمل الثالث، الذي لم يقدم على المسرح، في نهاية كتاب "الديكتاتور".
تميزت هذه المرحلة باستخدام لغة مسرحية جديدة حملت مضموناً مسرحياً جديداً، وافتتحت تياراً جديداً في المسرح العربي هو ما نسميه باختصار "تيار الحداثة".
قد يكون تأخر تيار الحداثة المسرحية بضع سنوات عن الشعر والقصة في العالم العربي من طبيعة الاشياء. لأنه هكذا كانت الحال دوماً في التاريخ، فالمسرح يأتي لاحقاً لأنه عمل جماعي حيث ان الفنون الكتابية الأخرى هي نتاج عمل فردي. فإذا كانت الحداثة الشعرية تؤرخ بمطلع الخمسينيات فلا عجب ان الحداثة المسرحية ستؤرخ بمطلع الستينيات.
كان ذلك سنة 1963 حين كتب محفوظ مسرحية "الزنزلخت" وادريس مسرحية "الفرافير".ولقد استقبل النقاد والجمهور في مصر ولبنان هذين العملين بكثير من الترحيب والاستنكار معاً. بعض النفاد المصريين رفضوا "الفرافير" رفضاً عنيفاً واعتبرها محمد مندور لا تنتمي الى المسرح العربي واتهم آخرون مؤلفها بأنه متأثر ببرانديلو وبريشت وبيكيت وغيرهم، في حين اعتبرها البعض الآخر بداية المسرح المصري الحديث المفتوح على العصر والعالم. كذلك كانت ردود الفعل على مسرحية "الزنزلخت"، ففي حين اعتبرها البعض خروجاً على المسرح الأصيل اعتبرها البعض الآخر بداية المسرح اللبناني الأصيل. وقال محمود أمين العالم عن الفرافير "بأنها تجربة جادة لها ما بعدها"، وقال غالي شكري عن "الزنزلخت" "حققت للمسرح اللبناني البداية ومن مستوى العصر".
وهكذا نرى ان محفوظ مثلما شق الطريق لتيار الحداثة في مسرحه العبثي فان مسرحه السياسي شق الطريق لأنواع غير مطروقة في المسرح العربي، فكانت مسرحيته "القتل" ثم مسرحية "لماذا" بداية "المسرح التسجيلي" في العالم العربي، أي المسرح الذي يقوم على استخدام المادة الوثائقية وتوليفها في شكل صادم، مما يجعل السياسة فيها، كما تقول خالدة سعيد، ذات تعبير يشبه التعبير الشعري الحديث الصادم. إنها سيطرة الفنان على مادته، ومحفوظ كما لا يخفى أحد أسياد اللعبة المسرحية العربية، فقد حشد كل تجاربه التعبيرية في الميادين الأخرى لتوظيفها في المسرح وكان أول من استغل الفارق بين الفصحى والمحكية في اللغة المسرحية ليلعب على هذا الفارق، بين الحيلة الكاذبة في الفصحى والحيلة الصادقة في المحكية.وليس ذنب محفوظ وزملائه ان المسرح السياسي قد تدهور في الفترة الأخيرة فصار مسرحاً تجارياً حين أن المسرح السياسي لمحفوظ كان مسرحاً ثورياً أو في الأقل هو المسرح التحريضي كما يؤكد الناقد المصري بكري الشرقاوي. أو هو مسرح الفضيحة، كما لدى أريستوفان، لذا نجد الأمكنة التي يختارها هي الأمكنة الفضائحية: فمسرحية "الكراسي" في الحرب اللبنانية تدور في مصح للأمراض العقلية، ومسرحية "كارت بلانش" تدور أحداثها في "سوق للدعارة" ومسرحية "لماذا رفض سرحان سرحان.. " تدور أحداثها في ستيريو ليلي الخ..
هكذا نرى محفوظ يستخدم المادة الفضائحية، كما استخدم اللغة بطريقة جديدة في مسرحه. وكما كان رائداً في مرحلته العبثية فهو في مرحلته السياسية أيضاً كان رائداً. وأعتقد أن مسرح محفوظ يحتاج الى دراسة أعمق يقوم بها اختصاصي لتبيان تأثير هذا المسرح في تطور مسيرة المسرح اللبناني الحديث، حيث، كما يقول المخرج والمسرحي شكيب خوري: "عصام محفوظ جسد المؤلف المسرحي الحديث".

***

غياب عصام محفوظ

حبيب صادق

... أخيراً، وبعد صراع محموم ومرير مع المحنة الصعبة الضارية التي اجتاحته، على حين فجأة، فتساقط جسده، تحت ثقلها، عضواً فعضواً حتى الرمق الأخير..
غاب، أخيراً، وجه عصام محفوظ الذي بقى ساطعاً، متألقاً من حبر إبداعه زهاء خمسين من السنين..ولئن كان لكل حياة أجل، فإن الصورة التي ارتسمت لنهاية عصام لم تكن تليق بمثله من أفذاذ المبدعين في هذا البلد المزهو بإشعاعه الثقافي ومقامه الحضاري!!..
أمس، ظهراً، كان رفيقي زائغ البصر حابس الأنفاس أمام وجه عصام الذابل وجسده المثقل بالأنابيب الطبية في غرفة العناية الفائقة في مستشفى حكومي واليوم يجد نفسه مهشّم الروح وهو يستعد للسير بجثمانه مع أهله وأصحابه المتبقين، الى مثواه الأخير.
في موكب التشييع الحزين تسير، بخشوع، أسرة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ملوّحة بشارة الوداع الأخير تحية إجلال لأحد أفرادها المقيمين في ضميرها وفي ذاكرة بيتها الثقافي الجنوبي.

***

لامع الحر: هامة ثقافية يفتقدها لبنان

عصام محفوظ هامة ثقافية يفتقدها لبنان في ظل التداعيات الخطيرة التي نعيشها اليوم، والتي كادت تقضي على ما تبقى لنا من قيم وأخلاق.
عصام محفوظ ضحية النظام السياسي الطائفي الفئوي الصارم واللاهي بأمور أبعد ما تكون عن شؤون الثقافة وشؤون الناس وقضايا المجتمع المكبل بألف قيد وقيد.
عصام محفوظ لم يمت، نحن قتلناه بكلتا يدينا عندما أهملناه، عندما لم نلتفت إليه، عندما لم نعطه ما يستحق من الاهتمام، وعندما افتعلنا معه المناوشات والمشاكسات للحد من قدره كمبدع استثنائي في هذا الزمن المقلوب.
عصام محفوظ هو نموذج للمثقف اللبناني المجتهد الذي لا يضيع وقتاً، بلا طائل، والذي يعرف ماذا يريد تماماً وإلى أين هو ذاهب، والذي يحفر في الأرض لكي تصل أغصانه الى السماء.
عصام محفوظ الشاعر الذي برز على منبر مجلة شعر والمسرحي الذي كتب وأخرج أكثر من عمل.والناقد والباحث والمترجم هو نفسه عصام محفوظ الإنسان الذي مات صريع مرض عضال دون أن تلتفت إليه بالمعنى اللازم جهة ثقافية، أو جهة سياسية.
الى جنة الخلد أيها الصديق عصام محفوظ وان لم ينصفك هذا العصر الخبيث. لعل التاريخ يكون الى جانبك لتبقى إحدى الرايات الثقافية اللبنانية والعربية التي نفتخر بها على مر الزمن.

****

سيرة ذاتية

  • من مواليد عام 1939 في جديدة مرجعيون - جنوب لبنان.
  • أستاذ التأليف الدراسي في الجامعة اللبنانية من العام 1969 حتى العام 1975 .
  • عمل في جريدة "النهار" - القسم الثقافي من العام 1969 الى حين تقاعده عام 1996 .
  • صنف النقد اللبناني والعربي أعماله المسرحية في تطور المسرح اللبناني والعربي الحديث ونوهت بها الموسوعات المسرحية العالمية.
  • شاركت غالبية أعماله المسرحية في المهرجانات المسرحية العربية وشارك هو في تنظيراته المسرحية في مختلف الندوات العربية.
  • أبرز أعماله المسرحية: "الزنزلخت"، "الديكتاتور"، "لماذا رفض سرحان سرحان"، وغيرها،.. أما تنظيراته المسرحية ففي كتب أبرزها: "مسرحي والمسرح"، "المسرح مستقبل العربية" و سيناريو المسرح العربي في مئة عام".
  • وظف موهبته المسرحية في حوارات مع الشخصيات التراثية، أشهرها "حوار مع المتمردين في التراث" و "حوار مع رواد النهضة العربية" في القرن التاسع عشر".
  • نشر مقاربات نقدية عديدة أهمها: "دفتر الثقافة العربية الحديثة" و "الرواية العربية الطبيعية" و"السوريالية وتفاعلاتها العربية وأحدثها "رحلة ثقافية شرقاً وغرباً".
  • صدرت أعماله المسرحية الكاملة في خمسة أجزاء العام 1988 عن "دار الفكر الجديد" في بيروت. وصدرت طبعة جديدة منقحة ومزيدة هذا العام عن
  • دار الفارابي" في بيروت في مجلد واحد.

****

مؤلفاته

نصوص مسرحية:

  • "الزنزلخت" - دار النهار للنشر - 1968 .
  • "القتل" - منشورات مجلة الفكر - 1968 .
  • "كارت بلانش" - منشورات مجلة "المصارف" - 1970 .
  • الديكتاتور" - دار الطليعة - 1972 .
  • لماذا رفض سرحان؟" - دار الطليعة - 1972 .
  • رحلة ثقافية في سبعينات القرن العشرين" - شرقاً وغرباً - دار البيروني - 2005 .

نصوص حوارية:

  • " حوار مع رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر" - دار الريس - 1988
  • "حوار مع المتمردين في التراث" - دار الريس - 2000 .
  • "حوار مع ابن عربي" - دار الفارابي - 2003 .
  • "حوار مع الملحدين في التراث" - دار الريس - 2004 .

نصوص سياسية:

  • "أبعد من الحرب" دار الآداب - 1993 .
  • "،أبعد من السلام" - دار الفارابي - 1977 .
  • "الإرهاب بين السلام والإسلام" - دار الفارابي - 2002 .

نصوص شعرية:

  • "أعشاب الصيف" - دار مجلة "شعر" - 1961 .
  • "السيف وبرج العذراء" - دار مجلة "شعر" - 1963 .
  • "الموت الأول" - مؤسسة بدران - 1973 .

نصوص قصصية

  • "عاشقات بيروت الستينات" - دار الريس - 2000 .

نصوص مترجمة:

  • "قصائد ورسائل حب" - بول ايلوار - دار الفارابي - 2003 .
  • "ماركس في أميركا" - هوارد زن - دار الفارابي - 2004 .
  • "مسرحيات إذاعية" - دار القدس - 1075 .
  • "جبران صورة شخصية، مسرحية وثائقية" - المؤسسة العربية - 1983 .
  • "المسرحيات القصيرة" - دار أبعاد - 1984 .
  • "الأعمال المسرحية الكاملة" - دار الفكر الجديد - 1988 .
  • "التعرّي" - دار الفارابي - 2003
  • "الأعمال المسرحية الكاملة" طبعة منقحة ومزيدة - دار الفارابي - 2005 .

نصوص نقدية

  • "دفتر الثقافة العربية الحديثة" - دار الكتاب اللبناني - 1973 .
  • أراغون الشاعر والقضية" - المؤسسة العربية - 1974 .
  • "سيناريو المسرح العربي في مئة عام" - دار الباحث - 1981 .
  • "الرواية العربية الطليعية" - دار ابن خلدون - 1981 .
  • "مشاهدات ناقد عربي في باريس" دار الباحث - 1981 .
  • "لقاءات شخصية مع الثقافة العربية" - الدار العالمية - 1984 .
  • "السوريالية وتفاعلاتها العربيةَ - المؤسسة العربية - 1987 .
  • "جورج شحادة ملاك الشعر والمسرح" - دار النهار - 1989 .
  • "المسرح مستقبل العربية" - دار الفارابي - 1991 .
  • "مسرحي والمسرح" مكتبة بيسان - 1995 .
  • "عشرون روائياً عالمياً وتجاربهم" - شركة المطبوعات - 1998 .
  • "الرواية العربية الشاهدة" - دار المدى - 2000 .
  • "شعراء القرن العشرين" - دار العلم للملايين - 2000 .
  • "الشعراء الرواد في لبنان: 1900 - 1950" - شركة المطبوعات - 2000 .
  • "ماذا يبقى منهم للتاريخ" - دار الريس - 2000 .
  • "مسرح القرن العشرين: المؤلفون" - دار الفارابي - 2002 .
  • "مسرح القرن العشرين: العروض" - دار الفارابي - 2002 .
  • "رامبو بالأحمر" - دار الفارابي - 2002 .
  • "سجالات القرن العشرين الفكرية" - دار الفارابي - 2004 .
  • "روائيو القرن العشرين" - دار البيروني - 2005 .
  • "محاكمات لها تاريخ" - دار البيروني - 2005 .
  • "أساتذتنا في القرن العشرين" - دار البيروني - 2005 .

اللواء
4 شباط 2006


أنظر