جودت فخر الدين
(لبنان)

(إلى أبي في غيابه)

- 1 -

جودت فخر الدينوحدَكَ الآنَ من دون خوفٍ
دعِ الخوفَ لي.
وحدَكَ الآنَ من دون يأسٍ
دعِ اليأسَ لي.
غيرَ أنك أورثْتَني نُبْلَ خوفكَ،
أورثْتَني طُهْرَ يأسكَ،
آلامُكَ انطفأتْ،
غيرَ أني سأحضنُها أملاً في طريقي إليكَ،
لقد هدَّكَ الداءُ،
لكنّكَ الآنَ أفلَتَّ منهُ،
شُفيتَ، وآلامُكَ انطفأتْ،
وأنا ما شُفيتُ،
ولكنني صرْتُ أقوى.
كأنّا مرضْنا معاً،
هدَّكَ الداءُ، روّضَني،
وغدا الموتُ أقربَ من فكرةٍ راوغتْني.
كأنكَ أورثْتَني كلَّ ما ضاع منكَ،
قواكَ التي هدَّها الداءُ،
خوفَكَ، يأسَكَ،
فارتَحْ لأنيَ أصبحتُ أقوى،
ونَمْ هانئاً،
قبرُكَ الآنَ حصْنُكَ،
نَمْ هانئاً دون خوفٍ ويأسٍ.
دع ِ الخوفَ لي، ودعِ اليأسَ لي.

- 2 -

لم يكنْ من طبيبٍ لدائكَ،
بل كنتَ تحسبُ أني أداويكَ،
تطلبُني كلَّ حينٍ لتسألني: ما يقولُ الأطبّاءُ؟
ثم تصدِّقُني إنْ صَمَتُّ،
وترتاحُ حين أريحُكَ في ما أقولُ،
وفي غرفة الداء ـ آخرَ يومٍ ـ
وكنتَ تبدِّدُ مستسلماً آخرَ النظراتِ،
سمعتُكَ تهمسُ لي: لا تدَعْني.
تُرى هل تركتُكَ تمضي وحيداً؟
أمَ انكَ ـ في موتكَ الآنَ ـ تشعرُ بي،
وتلوذُ بجنْبي.
تُرى هل تداويْتَ بي،
أم أنا قد تداويتُ بِكْ؟
وكنتُ، وإنْ كنتَ أنت المريضَ،
ألوذُ بجنْبِكْ.
أنت عرَّفتَني بي،
وقرَّبْتَ نفسي إليَّ،
وها قد مضيْتَ لتُفصِحَ عنّي.
فكيف إذن قلْتَ لي: لا تدَعْني.

- 3 -

مرّةً، غسلوا دمَكَ المتسمِّمَ،
فانزاحَ ضيقُ التنفُّس ِ عن صدركَ،
انقشعتْ رجفةٌ داهمتْكَ،
فألفيْتَ نفسَكَ منتعشاً.
قلْتَ لي: هل نعودُ إلى البيتِ؟
قلْتُ: نرى ما يقولُ الأطبّاءُ،
صدّقتَني، وغفوْتَ قليلاً،
وحين أفَقْتَ اعتذرْتَ إليَّ،
لأنكَ رحْتَ إلى البيتِ من دون عِلْمي.

- 4 -

معي الآنَ ساعتُكَ،
انقبضتْ،
لم تزلْ تضبطُ الوقتَ،
منقبضاً مثلَها.
كنتَ تسألني، بعدما مرَّ شهرٌ عليكَ،
وأنت تصارعُ داءكَ في غرفةٍ للعنايةِ:
كم أصبح الوقتُ؟
ثم تعودُ وتسألني: كم أصبح الوقتُ؟
أصبحتَ تستعجلُ الوقتَ،
كنتَ تريدُ له أنْ يمرَّ بغير حسابٍ،
فسلَّمتَني ساعتَكْ.
وكأنكَ سلَّمتَني زمناً باقياً لرؤًى خمدتْ.
جسمُكَ انْهدَّ، وارتبكَ النبْضُ فيهِ،
فسلَّمتَني ساعتَكْ.
وكأنكَ كلَّفتَني أنْ أواصلَ نبْضَكَ من بعْدُ...
ها انني أنبضُ الآنَ،
أحتسبُ الوقتَ حيناً فحيناً،
فأبصرُ في كلِّ منقلَبٍ ساعتَكْ.

- 5 -

غداً عندما نلتقي من جديدٍ،
سيدركُ واحدُنا أننا ما افترقْنا.
فكيف إذن نلتقي؟

- 6 -

رفيقيْن كنّا،
وها نحن بتْنا رفيقيْن أكثرَ من قبلُ،
عدْتَ إليَّ قوياً،
كأنكَ فارقْتَ بالموت داءً
( ألَمَّ بنا فترةً )
فانتفضْتَ عليهِ، تحرَّرْتَ منهُ،
وعدْتَ إليَّ قوياً.
تلازمُني الآنَ،
تحزنُ مثلي، وتفرحُ مثلي،
وترْضى وتغضبُ مثلي،
وقد تتردَّدُ مثلي إذا ما سألتُكَ:
هل نتقدَّمُ أم نتراجعُ؟
كيف نسيرُ؟
وهل غدُنا أمسُنا؟

- 7 -

كنتَ تسألني:
هل ترى ظلَّنا واقفاً في حديقة أجدادنا؟
يتجوّلُ عند الصباح قليلاً،
وعند المساء قليلاً،
وقد يختفي في الظهيرة منتحلاً ظلَّ أشجارنا.
كنتَ تسألني فأجيبُكَ:
ظلٌّ لنا أم ظلالٌ؟
أليس لواحدنا سرُّهُ؟
عندها كنتَ تهمسُ لي:
هو سرٌّ لنا واحدٌ ووحيدٌ،
وإنْ كنتَ تحسبُ أنّ الظلالَ الكثيرةَ،
(أنّ الظلالَ الجديدةَ)
ترسمُ في كلِّ يومٍ حديقةَ أجدادنا.

- 8 -

دائماً كنتَ تخشى عليَّ،
فتمشي بقرْبي...
وأوحشَكَ الناسُ،
فاخْتَرْتَ أنْ تتوسَّمَ فيَّ ملاذاً لكَ،
اتّسعتْ بيننا الأرضُ أكثرَ من مرّةٍ،
ومراراً بدا لكَ أني نأيْتُ،
فإذْ بكَ تجزعُ،
تجذبُني باصطفائكَ لي.
كنتَ تخشى عليَّ، وتمشي بقرْبي،
وتيأسُ ممّن عدايَ،
كأنكَ لم تَجِدِ الناسَ إلا حصاراً لنا...
لم تُجِدْ لعبةَ الناسِ،
كنتَ وحيداً،
ترى ملأً مائلاً يتذبذبُ في وحشةٍ واسعهْ.
ومن فرْط ِ ما كنتَ تخشى عليَّ،
توسَّمْتَ فيَّ ملاذاً لآمالكَ الضائعهْ.

- 9 -

كان برْقٌ يجوبُ فضاءَ القُرى،
يستجيرُ بأحلامنا، وهْي تعبثُ بين الكرومِ،
التي احتضنتْ خطْوَنا من قرونٍ.
وكنتُ أراكَ تراقبُهُ آخذاً بيدي.
كنتَ تعلمُ أني سأتبعُ ومْضاً يراوغُنا
في ظلال الكرومِ،
فتُشْفِقُ أنْ أتهالكَ من فتنةٍ أو عناءٍ.
تعهَّدْتَني بيديْكَ،
وبالكلمات التي كنتَ تجعلُها ألَقاً
يتلألأ أنّى اتّجهْنا.
تعهَّدْتَني بيديْكَ،
وبالكلمات التي اختطفتْنا كبرْقٍ يجوبُ فضاءَ القُرى.
كان للشعْر في بيتنا أنجُمٌ،
حين نسهَرُ تسهَرُ،
ثم تظلُّ هنالك ساهرةً، حيث نخْطو بعيداً.
تعهَّدْتَني بيديْكَ،
وبالكلمات التي شابهتْ خطْوَنا.
كنتَ تنظرُ في الكلماتِ، وتحنو عليها،
وتطلقُها في الفضاء الذي كان يخطَفُنا برْقُهُ.
كان للشعْر في بيتنا لهفةُ الطفلِ،
وهْو يحدِّقُ نحو السماءِ،
وكنتُ أراكَ تراقبُني دائماً،
كنتَ تُشْفِقُ أنْ أتهالكَ من فتنةٍ أو عناءٍ.
... وأدركْتَ أني سأتبعُ برْقاً سيخطَفُني،
فتعهَّدْتَني من بعيدٍ،
وأشفقْتَ ألاّ تراني،
فراقبتَني دائماً،
حاضناً عثْرتي،
حارساً جهتي،
آخذاً بيدي.

- 10 -

معاً،
ربّما نتذكّرُ في ذات يومٍ سيأتي
ظلالَ المساء التي احتضنتْ جلَساتٍ لنا،
جمعتْنا، خلال زمانٍ أضعْنا أوائلَهُ،
بقليلٍ من الأصدقاءِ،
على طرَفٍ لحديقة أجدادنا.
ربّما نتذكّرُ في ذات يومٍ سيأتي
ظلالَ المساء التي احتضنتْ للصداقةِ معنىً
تعهَّدَهُ الشعْرُ،
معنىً يضوعُ بلا غايةٍ في الزمان الذي قد أضعْنا أوائلَهُ.
ربّما نتذكّرُ في ذات يومٍ سيأتي
ظلالَ المساء التي احتضنتْ زمناً،
كان يأتي، لكي يتوقّفَ بالقرب منّا،
على طرَفٍ لحديقة أجدادنا.
ربّما نتذكّرُ يوماً...

السفير
1-10-2010