تنهض،
من جحيم الأرض
من كل بيت أضاء القصف شرفة دمه
من كل جسد داهم القتل بزناد الغدر وردة قلبه
من كل جنين أفاق ليرى العراق يتعمد بالدم.
آه..
عاليا تحرث الهواء
و تسأل حصاد الفضيحة:
كم طفلا سنغمد بين الصخور و فتوى القذائف!
كم جثة ستشتعل في عراء العذاب!
كم حربا ستنفجر كل نهار
ليمرح الطغاة حول نار القبائل
ليعلن هواة الدمار خاتمة الكوارث.
كأن بغداد في احتضار مديد.. مديد..
كوقت الذبيحة،
كل موت،
نراهم حفاة يرجون الحدود بما تبقى من خطى
بحرا من جراح يفاجىء تعب الصحراء
وطنا يتوضأ بالأنقاض
ضحايا يفترشون خرائب تتلو وصايا الفاجعة
كأن بغداد في احتضار مديد، مديد.. كوقت الذبيحة.
من قسوة حصار يقتحم المدن
هل نرى بركانا يكسر مخلب الخلافة
هل نرى مطرا ينقض على رعشة العرش
لتخرج الشعوب من أشلائها
من صدوع شجها العسكر
رمحا.. رمحا
حتى فاضت الأرض بقناديل الدماء
لتنهمر الشعوب من ليال القهر و القمع
نهرا.. نهرا
و ترفع الرغيف عاليا في احتدام الهتاف.
البلاد بكاء
و المدى منفى
نلوح لك أيها الدخان،
كن رئيفا بنا،
لا تقسو كحزن الأرامل
لم يعد الموت كافيا لننسى
و لا الدم الذي يحتضن الضحايا أخرسا لنسأل
و لا اللاجئون في حنان الجبال ساهمون لنسهو
قل لنا:
كم قتيلا لم يمت؟!
كم أسيرا لم يعد؟!
كم صرخة لم تصل من رئة العاصفة؟!
قل لنا
أي أفق لنا
غير خيط من حشرجة الريح
غير همس دخان يحتضن دوار الخليج.
قل لنا
و الثلج طريق
و الجوع خيمة
أي عقل يقبل فصاحة التواطؤآت؟
أي قلب يرى العراق حديقة موت
و يخفق صامتا عما يراه؟!
أي عزاء يقوى نزف النواح؟
و الأهل يغادرون عظام الأسلاف و جنة الذخائر
كأسراب يمام منذور لحصاد الطعنات
لتهيم الجنازة وحدها،
خلف صبية يجرجرون عريهم و صرخة قتلاهم
خلف نسوة يرفعن سهاد المهود
و هياكل الرضع كقرابين لقسوة القمم.
يا لصباح الموت الصعب
لك يا وقت تاريخ مطعون بنسل مغدور
لا يسأل هاوية الحكم:
هل ملهاة تدير الحفل
قيامة تؤجج حكمة الهتك
أم
ظلام شطرنج يلهو ببياض الأرض؟!
أما من مفر؟
كم رمادا تبقى لك يا مقبرة الريح؟
كم جمرة لك أيها البيت البارد
لتمنح الساهرين مساء أخيرا
قبل أن تجن الصاعقة؟
كم ألما تبقى أيها المستقبل؟
بانتظارك نذبح..
كأننا الضحية..
و الوطن سيد العقاب.
يا..
ماء البصرة
يا دم كربلاء
تهيأ للصلاة على جثة هذا الولاء
فلا مفر..
هل حنين يشبه اليأس
تاريخ هو الخجل
كل ما تبقى لنا؟!
كل شيء يحترق الآن..
بطيئا..
بطيئا..
في سهرة هذا الليل الطويل
الطويل..
الطويل..
السماء تغادر
و الأرض لغم في غمد الرماد
و هذا النهار خاتم عرس لكل مليك
يجز رعاياه على صوان البيعة
و البلاد خوذة مرهونة لجند مدججين بالفزع
و لا شيء..
لا شيء سواك..
سوى صرخة..
تنهض من رميم الخنادق و بأس الملاجئ
صرخة تقود الحشد النازف نحو مدار الذبيحة
صرخة تمتحن ذاكرة الناس
صرخة..
لتاريخ الهزائم.
من كتاب (حنجرة الغائب) 1991