(هكذا انتصرت أناييس نين للنساء في لإيروتيكا)

زينب عساف
(لبنان)

ناييس نينأناييس نين. لا يمكن أن تلفظ هذا الاسم من دون أن تقرنه بآخر: هنري ميلر. لم تكن شريكته الرسمية، كما أنها عرفت كتّاباً كثراً من الصف الأول غيره مثل إدموند ويلسون، غور فيدال، جيمس إيفي، لورنس دوريل وغيرهم، لكن التاريخ اختار أن يرتبط هذان الاسمان إلى الأبد. ربما لم تكن أناييس نين النسخة المؤنثة من هنري ميلر، فهي تعترف بأنها صُدمت بقدرته على تجريد الجنس من كل عاطفة وجعله أوتوماتيكياً رابلياً، وربما لم تكن تريد أن يخيّم ظلّه عليها، لكن القدر شاء لها أن تُعرَف كعشيقته الباريسية. هل هي ذكورية التاريخ مرّة أخرى؟ لأنه من الظلم الحديث عن أناييس نين كملهمة فقط أو كحبيبة أحد الكتّاب، ومن الإجحاف تشبيهها بإلسا أراغون أو غالا إيلوار أو سالومي نيتشه، فهي أثبتت أنها كاتبة لا تقلّ موهبة عن عشّاقها الكثر. امرأة عاشت الحياة بالطول والعرض، عملاً بما آمنت به دائماً: "إرمِ أحلامك في الفضاء كما ترمي طائرة ورقية، فأنت لا تعرف ما الذي ستعود به، حياة جديدة، صديق جديد، حب جديد، بلد جديد".

في "دلتا فينوس"، الصادر أخيراً بالعربية لدى "دار المدى" (ترجمة علي عبد الأمير) نكتشف، نحن القرّاء، أننا ندين إلى قارئ مجهول، عجوز مهووس، بأعمال شكّلت منعطفاً في الكتابة الإيروتيكية. وربما ندين بذلك إلى الفقر أيضاً. ففي كانون الأول 1940، اقترح جامع كتب ميلر عليه أن يكتب شيئاً ما لأحد أغنى زبائنه المولعين بالإيروتيكا، بأجر دولار واحد للصفحة. ولما كان الكاتب يمرّ بضائقة مادية وافق على ذلك وبدأ رحلته بمرح، مخترعاً قصصاً جامحة ومضحكة. دخل إلى هذا النوع من الكتابة "تحت الطلب" كتجربة يسيرة في البداية، لكنه أصيب بالملل والكآبة بعد مرور الوقت. وحين سافر ميلر في أحد الأيام طلب من نين أن تأخذ دوره وتكتب شيئاً هي أيضاً للقارئ العجوز المزعوم الذي لم يلتقِيه مرةً واحدة. هكذا، وبعد فترة من الزمن وجدت نين نفسها "مديرة بيت الدعارة الأدبي، مديرة عصبة من الأدباء الجياع الذين كانوا ينتجون إيروتيكا ليبيعوها من جامع كتب". هي ذي حكاية ولادة هذا الكتاب الفانتازي إذاً الذي سمح للكاتبة بأن تخوض غمار تجربة كانت وقفاً على الرجال حتى ذلك الحين، وأن تدرك كيف ساد نموذج واحد فقط لهذا الجنس الأدبي على مدى قرون عديدة: كتابة الرجال، كما تقول في يومياتها، مضيفة أن تلك التجربة برهنت لها على الاختلاف بين المعالجة الأنثوية والأخرى الذكورية للجنس. ففي حين اتسم أسلوب ميلر بالوضوح والهزلية، تميّزت كتابتها بالشاعرية التي أراد القارئ المجهول أن تتخلّص منها دائماً. وهذا ما دفعها في نهاية المطاف إلى توجيه رسالة اليه تبدأ كالآتي: "عزيزي جامع الكتب: نحن نبغضك. الجنس يفقد قوته كلّها وسحره حين يصبح صريحاً، ميكانيكياً، مبالغاً فيه. حين يصبح هاجساً ميكانيكياً يغدو مصدر إزعاج. علّمتنا أكثر من أي شخص آخر عرفناه كم هو شيء خاطئ أن لا نمزجه مع العاطفة، الجوع، الرغبة، الشبق، الأهواء، النزوات، الصلات الشخصية، مع علاقات أعمق تغيّر لونه، نكهته، إيقاعاته". وتنتهي الرسالة بوصف التعب الممضّ الذي عانته شلّة الكتّاب المأجورين الذين أرادوا لقاءه بأي طريقة: "جلسنا متحلّقين على مدى ساعات عديدة، وساءلنا أنفسنا: كيف تبدو أنت. إذا كنت قد أغلقت حواسك على الحرير، الضوء، اللون، الرائحة، الشخصية، المزاج، فلا بدّ أنك الآن ذبلت كلياً. ثمة حواس صغيرة كثيرة جداً، كلها تجري كالوافد لتصب في الجدول الرئيسي للجنس، مغذّية إياه. وحدها النبضة المتحدة للجنس والقلب معاً تستطيع أن تخلق النشوة".

لكن من هي أناييس نين؟ من أين أتت وكيف دخلت حياة ميلر وغيره من الكتّاب والفنانين؟ ولدت أناييس في نويي سور سين إحدى ضواحي باريس، في 21 شباط 1903، بعد انفصال والديها، المغنية الدانماركية روزا كولميل وعازف البيانو والموسيقي الإسباني يواكيم نين. انتقلت مبكراً مع والدتها وأخويها إلى الولايات المتحدة حيث أقامت في نيويورك. لكنها تركت المدرسة باكراً في مراهقتها، وبدأت العمل عارضةً ثم راقصة وموديلاً للرسامين والنحاتين، بعدما انتقد أحد المعلمين أسلوب كتابتها واصفاً إياه ب"الطنّان والمتكلّف". عام 1923 تزوّجت هوغ باركر جيلر وعادت معه بعد سنة إلى باريس حيث كان يعمل مصرفياً. كتابها الأول كان نقدياً وتناول تجربة د. ه. لورنس، ثم اتجهت إلى علم النفس مع أتو رانك أحد معتنقي مذهب فرويد، والذي سيصبح عشيقها ورب عملها في ما بعد. عام 1955 تزوّجت مجدداً من روبير بولوني في كاليفورنيا. وخلال سنوات كانت صديقة وعشيقة لمجموعة كبيرة من الكتّاب. إلا أن علاقتها مع ميلر كان لها تأثير كبير عليها وعليه أيضاً. عام 1973 نالت الدكتوراه الفخرية من "مدرسة فيلادلفيا للفن" وانتُخبت عضوة في "المعهد الوطني للفن والأدب" عام 1974. وفي 14 كانون الثاني عام 1977 توفيت بالسرطان في لوس أنجلس، وكانت أوصت بحرق جسدها ونثره في خليج سانتا مونيكا. بعد وفاتها كُرّست نين كإحدى أولى الكاتبات اللواتي أثرن موضوع الجنس، ولا سيما بعد نشر يومياتها غير الخاضعة للرقابة. اتهمها كثر بالثنائية الجنسية، اعتماداً على القصص التي روتها في "دلتا فينوس"، حتى ان المخرج فيليب كوفمان غمز في فيلمه عن حياتها الذي أخرجه عام 1990 من قناة علاقتها الخفية مع جون، زوجة هنري ميلر، غير أن متابعين لسيرتها نفوا وجود علاقة كهذه.

الضلع الأخرى في ثالوث علاقة نين بميلر هي مدينة باريس حيث التقى الحبيبان في منزل نين، "لوفوسيين"، في تشرين الأول 1931. هذا المنزل الواقع في شارع مونبويسون كان محجّة مجموعة كبيرة من المثقفين مثل أنتونان آرتو، لورنس دوريل، براساي، وكتّاب وفنانين آخرين، وتحوّل صالوناً أدبياً خلال "السنوات المجنونة" التي جمعتها بميلر. "مختبر الروح" كانت تسمّيه، وواصلت فيه كتابة "يومياتها" الشهيرة التي بلغ حجمها أكثر من 15 ألف صفحة مصفوفة. وقد سكنت نين أيضاً أثناء وجودها في باريس في فيلا "18 سورا" في حي مونبارناس حيث كان يعيش ميلر بين 1934 و1938. جمعتها بباريس دائماً علاقة تواطؤ غريبة، تقول عنها على لسان إحدى بطلاتها: "في الساعة الخامسة يكون لباريس دوماً تيار كهربائي من الإيروسية في الهواء. ألأن هذه هي الساعة يلتقي فيها العشاق بحسب الروايات الفرنسية؟". بهذا القول لخّصت نين علاقتها بالمكان والزمان، لأن إيروتيكيتها الممزوجة بالشعر أرادت لهذين العاملين أن يكونا دوماً في مصلحتها، إلا أن الوقت لا يمهل كثيراً ويخذل دائماً كعادته. هكذا، لم تستطع الكاتبة أن تمنع الحزن من الاختلاط حتى بالإيروتيكا. لنلاحظ مثلاً ما يقوله مارسيل بطل إحدى قصصها في نهاية كتاب "دلتا فينوس": "يا له من صيف رائع! أعتقد أن الجميع عرفوا أنها ستكون القطرة الأخيرة للمتعة".

في العودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا، استطاعت نين أن تخلق شخصيات كثيرة ومتنوعة وأن تمنح الجنس أبعاداً فكرية تأملية. حتى نكاد نجزم بأنها استخدمت هذا الفعل الغريزي للوصول إلى "نيرفانا" روحية ما، ولا سيما من خلال خلقها رجالاً يعانون الانجذاب المرضي إلى "جرح المرأة الصغير" فيجرّبون بعنف شديد توسيعه، أو نساء يشبهن أنثى المطاط المليئة بالثقوب التي صنعها البحارة لتنفيس رغباتهم، المرأة التي منحتهم جميعاً "المتعة والسفلس". في هذا الكتاب تنجح نين إذاً في ابتداع عالم خاص حسيّ بامتياز، ضاربةً عرض الحائط باعتراضات القارئ المجهول، ومستخدمة التشبيه ببراعة، إذ تقول على لسان امرأة تتعرض للإغواء: "كل مرّة يتحدّث فيها، أشعر أني أهوي في لولب مسبّب لدوار، أهوي في شبكات صوت عذب"، أو تصوّر مخلوقاتها السعيدة كالآتي: "كانت اللذة تجري فوق جلودهم كالماء". هذه اللذة التي تجعل الناس يقعون ضحايا سعادة عظيمة، "سعادة أشبه بموت صغير، موت صغير باهر لا يمكن أن يمنحه أيّ عقار أو أيّ نوع من الكحول، لا شيء يمكن أن يمنحه سوى جسدين يحبّ أحدهما الآخر، حباً عميقاً في داخل كيانيهما، بكل ذرة وخلية وعصب وفكرة".
قالت أناييس نين يوماً: "ثمة طريقتان لسرد اليوميات: أن تعيش يوماً وترويه في خمس دقائق أو أن تعيش خمس دقائق وتمضي يوماً في وصفها". في الواقع، لا أحد يعرف أيهما كان الأكثر طولاً بالنسبة إليها: العيش أو الكتابة؟

 

أعمالها:

  • 1932: "د. ه. لورنس: دراسة غير متخصصة"
  • 1936: "بيت السفاح"
  • 1939: "شتاء الخديعة"
  • 1944: "الجرس الزجاجي"
  • 1959: أنطولوجيا "المدن الداخلية" التي ضمّت: "المرايا في الحديقة"، "أبناء القطرس"، "غرف القلب"، "جاسوسة في بيت الحب" و"إغواء المينوتور".
  • 1964: "كولاج"
  • 1968: "رواية المستقبل"

أعمال عنها:

  • فيلم لفيليب كوفمان أخرجه عام 1990، مستوحى من "يوميات الحب - اليوميات غير المراقبة لأناييس نين 1931 - 1932". لعبت دورها فيه ماريا دوميديروس، ولعب فريد وارد دور هنري ميلر، وأوما ثورمن دور زوجته جون.
  • أغنية عنوانها "أناييس نين" كتبها فرنسوا برنهايم وكريستيان بوكليه عام 2005.