أمين صالح
(البحرين)

شعرية السينماثيو أنجيلوبولوس، المخرج اليوناني، صوت فريد في عالم السينما، ويعد واحداً من رموز السينما ''الفنية'' الحديثة، ومن أكثر السينمائيين أهمية وتميزاً، وإثارةً للجدل أيضاً، في السينما العالمية المعاصرة. إنه ينتسب إلى نخبة من المخرجين القلائل الذين ينطبق عليهم التعريف الكلاسيكي لـ''مبدع الفيلم'' أو ''المخرج المؤلف''، إذ كل لقطة، من كل مشهد، من أي فيلم حققه، تعبّر عن رؤيته الفنية والفكرية، وتعكس شخصيته الفنية، على نحو يتعذّر محوها أو إزالتها. إن نظرة عجلى إلى أي فيلم له، وفي أي موضع يتم اختياره من مسار الفيلم، ستكون كافية للكشف عن هوية المبدع الذي حقق هذا العمل الفني.

في السبعينيات انبثق هذا المخرج كواحد من أكثر الأصوات أصالة وجدّة في عالم السينما. إنه واحد من المخرجين القلائل في القرن الأول للسينما الذين يجبروننا على إعادة تحديد ماهية السينما وما يمكن أن تكونه. ليس هذا فحسب، فأفلامه تجعلنا ننفتح على سؤال أكبر أعمق، والذي يغدو شخصياً بالنسبة لكل منا: كيف نرى العالم بداخلنا وحولنا؟

بطريقة أو بأخرى، يمكن اعتبار أفلام أنجيلوبولوس ''محاولات'' لخلق أفلام، لصياغة نوع من الاتصال، لإعادة بناء الواقع والمخيلة والتاريخ والأسطورة.
الروائي ميلان كونديرا في كتابه ''فن الرواية'' يشعر أن غاية الرواية هي ''أن تكتشف ما تستطيع الرواية وحدها أن تكتشفه''. أفلام أنجيلوبولوس تعمل بطريقة مماثلة: إنها تكتشف لنا ما تستطيع السينما وحدها أن تكتشفه (مع أنها نادراً ما تفعل ذلك). مثل هذه الاكتشافات غالباً ما تكون مربكة، خصوصاً لجمهور اعتاد الإيقاع السريع والحبكات الهوليوودية الموجهة.

هو من أكثر المخرجين اليونانيين شهرة وتأثيراً. أفلامه حازت عدداً من الجوائز الكبرى في المهرجانات العالمية، وتم الاحتفاء به كواحد من القلة العظام في تاريخ السينما.. لكن خارج تلك الدوائر السينمائية، لا يبدو أنجيلوبولوس معروفاً جيداً لدى الجمهور العريض، وحتى في بعض الأوساط السينمائية، إذ يعتبر من أولئك المخرجين ''الصعبين''، ذوي الرؤى العميقة الخاصة، والأساليب التي لا تتوافق مع الذوق العام السائد بفعل هيمنة الأعمال الاستهلاكية. إنه ينتمي إلى تلك النوعية الجادة من السينمائيين الذين يتعاملون مع الجمهور باحترام، دونما رياء أو تملّق، ناشدين المشاركة الفعالة فكرياً وتخيلياً، وذلك عبر بلاغة بصرية ورؤية واعية وثاقبة للحياة وللعالم.

عدم ''جماهيرية'' أفلامه ناشئة من اهتمامها بموضوعات فكرية وفلسفية عميقة (تتصل بالحياة والموت، الذاكرة والندم، التاريخ والهوية، الفن والغربة) وابتعادها عن الجماليات السائدة في السينما المعاصرة (بالأخص في هوليوود) التي تعتمد على المؤثرات الخاصة والتقنيات الرقمية (ديجيتال) والنجوم.

أفلامه تدعو إلى التأمل لا الإثارة والتشويق. إنها تمزج عناصر من الاتجاهين الكلاسيكي والحداثي، معتمدة على إيقاع مغاير يتسم بالبطء والتريث عبر لقطات مديدة تستغرق دقائق طويلة دون قطع، وعبر معالجة خاصة للزمن والمكان.
أفلامه تمتلك الجرأة على عبور عدد من التخوم: بين الأمم، بين التاريخ والأسطورة، الماضي والحاضر، السفر والبقاء، الانتماء والخيانة، المصادفة والقدر، الواقعية والسوريالية، الصمت والصوت، المرئي واللا مرئي (أو المكبوح)، بين ما هو يوناني وما هو غير يوناني. أفلام أنجيلوبولوس لا تزعم أنها تقول الحقيقة المطلقة، أو توجد حلولاً للقضايا والمشكلات، أو توجّه رسائل مباشرة، لكنها تقترح الرغبة في التجاوز.

التاريخ والأسطورة، اللحظات الوثائقية والغنائية، تجاور الحقيقي والوهمي، الواقعي والدرامي.. كل هذا يرغم المتفرج على إعادة صياغة كل ما رآه (أو سمعه) في ضوء جديد.
إن أي فيلم له - شأنه شأن المخرجين الكبار- يعد حدثاً سينمائياً مهماً، ويكون موضع ترقّب ومتابعة وجدل، ليحفظ بعدها في الذاكرة السينمائية كعلامة بارزة في مسيرة فن السينما.
إن مشاهدة أفلامه هي تجربة منعشة، رحلة سينمائية مدهشة نختبر فيها الحياة من زاوية مختلفة وبعين طرية، خلالها نطرح الأسئلة عن وجودنا في هذا الكون.

ذات مرّة تحدث المخرج العظيم أكيرا كوروساوا عن أنجيلوبولوس، فقال: ''أنجيلوبولوس يرصد الأشياء، في هدوء ورصانة، من خلال العدسات. إن ثقل هدوئه وحدّة نظرته الثابتة هي التي تمنح أفلامه قوتها''.
ما مفهوم ثيو أنجيلوبولوس للشخصية الدرامية؟ لماذا تتكرر ثيمات معينة في كل أو أغلب أفلامه؟ هل يميل إلى التنويع في تناول ومعالجة الموضوعات، أم إن هناك موضوعات ثابتة تستحوذ على اهتمامه إلى حد الاستغراق؟

أكثر من أي مخرج معاصر آخر، نجد ذلك التماسك والتواصلية عبر أفلام تشكل عناصر عالم محدد وخاص بأنجيلوبولوس، فيه يعرض رؤاه ويبدع صوره.

ليس ثمة انفصال بين فيلم وآخر، فكل فيلم هو بمثابة ثمرة فيلمه السابق، من جهة، والجذر أو المصدر لفيلمه التالي، من جهة أخرى. في كل أعماله نجد الأصداء ذاتها، نجد ذلك الترابط بين الموضوعات والشخصيات والمواقع والأحداث والثيمات والحالات والحوارات والأسماء:

الممثلون الجوالون الذين شاهدناهم في فيلم ''الممثلون الجوالون'' يظهرون ثانية في ''منظر في السديم'' وهم أكبر سنا لكن دون أن يكفوا عن الترحال/ فيلم ''تحديقة يوليسيس'' يبدأ بلقطات من فيلم ''خطوة اللقلق المعلّقة''. شخصيات عدد من أفلامه تحمل اسم ''ألكسندر'' أو ''سبايروس'' أو ''فاولا''..
مثل هذه الأصداء تعمل على اقتراح علاقات، اتحادات، حالات مستمرة يعاد تدويرها.

في أفلامه نجد ذلك التزامن والتداخل بين الواقعي والتخيلي، بين الواقعي والمسرحي (السينمائي): فيلم ''الممثلون الجوالون'' يبدأ بستارة مسرح مغلقة وعندما تنفتح ندخل في السرد وفي الحياة ''الحقيقية'' للممثلين. فيلمه ''رحلة إلى كيثيرا'' يبدأ فيما يحاول مخرج سينمائي أن ينجز فيلما عن رجل عجوز يشبه والده، وسرعان ما يتداخل الواقع والفيلم على نحو غامض. فيلمه ''تحديقة يوليسيس'' يتعرّض لعدد من الأزمات الراهنة في دول البلقان لكنه يتمحور حول البحث عن فيلم مفقود يقال إنه أول فيلم أنجز في البلقان. حتى في فيلم ''منظر في السديم''، الذي يتسم بالواقعية، ثمة عدد من المشاهد التي تشير الى ''المسرحي'' أو ''اللا واقعي''.

أفلامه تسعى، بجسارة، إلى عبور عدد من الحدود والتخوم: بين الأمم، بين التاريخ والأسطورة، بين الماضي والحاضر، بين السفر والاستقرار، بين الخيانة والانتماء، بين الصدفة ومصير الفرد، بين الصمت والصدى، بين ما هو مرئي وما هو مكبوح أو غير مرئي، بين الواقعية والسوريالية، بين ما هو ''يوناني'' وما هو غير يوناني.
أفلامه تجعل المتفرج ينفتح على سؤال أكبر، والذي يصبح شخصياً بالنسبة لكل فرد: كيف نرى العالم من حولنا وداخل أنفسنا؟

ما الذي يعنيه انبثاق اليد من البحر؟ ما الذي نستنتجه من تصفيق الأهل والأصدقاء، في استحسان، فيما يقفون حول القبر؟ أي ضرب من الزفاف ذلك الذي يتم عبر نهر يمثّل التخم بين بلدين يضمران العداء لبعضهما؟ ما الذي نفهمه من لقطة طويلة ممتدة، لمئات من اللاجئين الصامتين الأشبه بالتماثيل والذين يقفون جامدين في أرض ألبانية فيما هم ينوون دخول اليونان مرة أخرى بصورة غير شرعية؟

الفيلم يمكن أن ينتهي بالتوكيد على عزلة الشخصية، كما في أفلام شارلي شابلن حيث يمضي في اتجاه الطريق العام هائما وحده، أو يمكن للنهاية أن تقترح، بشكل أو بآخر، اعتناقاً، وبالتالي، إحساساً بالتجربة المشتركة، ومحاولة لخلق وحدة جماعية.
نهايات أنجيلوبولوس تنتمي إلى الفئة الثانية. ومن الجلي أن أفلامه تعبر الحدود لتؤسس صلات تحقق قبولا بالشظايا التي تفضي إلى الإحساس بالجماعة.

فيما يتعلق بالشخصية، لدى أنجيلوبولوس تصوره ومفهومه الخاص. فهو معنيّ بالأفراد، لكن اهتمامه بكيفية تقاطع سبل التاريخ والأسطورة، أو عدم تقاطعهما، مع المصائر الفردية، قد أفضى به إلى تخطي مفاهيم السيكولوجيا، التي هي أساس الكثير من التجربة الغربية في القرن العشرين، وتجاهل مطالبة هوليوود بـ''شخصية'' قوية انسجاماً مع دعوة أرسطو إلى ضرورة وجود دافع واضح ووصف لسبب ونتيجة الصراع الداخلي المرتكز على تعارضات معينة ينبغي مواجهتها وحلها، إضافة إلى مساهمة فرويد في إضاءة أبعاد الشخصية الواعية واللاواعية. شخصيات أنجيلوبولوس لا تخضع نفسها للتحليل وفق دوافع فرويدية. في الواقع، هي لا تعبّر عما تشعره أو تفكر فيه أو تعتقده. إنه يقدم الشخصية من الخارج، ويرغمنا على أن نبحث وندرس ونرى احتمالات أخرى تشكّل الهوية الشخصية، الفردية، غير تلك التي تم عرضها بجاهزية أكثر في الماضي. الشخصيات هنا، كما يقول الناقد اليوناني نيكوس كولوفوس ''هي علامات إنسانية وليست أشكالاً سيكولوجية''.

في أفلام أنجيلوبولوس يصعب التوصل إلى معرفة أية شخصية على المستوى الشخصي. إننا نشعر بأنها ذوات وعلامات بالدرجة نفسها. ونحن نبقى خارج مشاعرها الدفينة وأفكارها العميقة ودوافعها السيكولوجية.

بإزاحة الدوافع السيكولوجية، لا يتيح لنا أنجيلوبولوس أن نعرف الشخصية بأية وسيلة مألوفة ومعتادة، التي نتوصل بها عادة الى معرفة الشخصيات السينمائية. نحن نراقب الشخصية فحسب، نرى أفعالها، لكننا لا نسمعها تعبّر عن أفكارها ومشاعرها ومبرراتها ودوافعها، إننا لا نعرف كيف تشعر أو فيم تفكر. مع ذلك نبدأ في ''الإحساس''، عبر تراكم التفاصيل واللقطات واللحظات، بمدى الضغوطات والكوابح والأعباء التي تثقل كاهل الشخصية. وأنجيلوبولوس يفعل ذلك ليتحاشى النزوع الميلودرامي أو الوجداني.

في عالم أنجيلوبولوس، ليس واضحاً ما إذا الشخصيات هي في مركز أو محيط ''الفعل'' النامي. كمثال، إليكترا في ''الممثلون الجوالون'' تنبثق كشخصية رئيسية في الفرقة لكنها غالباً ما تقف في الخلفية فيما الأحداث تتجلى في مقدمة الكادر.

إذن، أن تكون الشخصية رئيسية قد يعني، في أحوال كثيرة، أن تكون ببساطة شاهدةً على ما يحدث أكثر مما هي محركّة أصلية أو ناشطة رئيسية.
بطل أفلامه يتنقل عبر الأمكنة والأزمنة، فيما الشخصيات والأحداث المستحضرة من الماضي، أو تلك النابعة من خيال شخصي، تجتاح واقع الحاضر. النتيجة هي صور شبيهة بالحلم.

من الثيمات الرئيسية، المتكرّرة، في أفلامه: غياب الأب والبحث عنه (أيديولوجياً وبيولوجياً)، حفلات الأعراس، دور التخوم والحدود والحواجز السياسية والاجتماعية والذاتية، التعارض بين الماضي والحاضر، صعوبة التعايش بين قيم الأمس وقيم اليوم.
إنه يرفض اتباع طرائق هوليوود التقليدية والسينما الشعبية الأوروبية في سبيل ملاحقة رؤيته الخاصة لسينما التأمل المتقشفة، سينما الاستبطان وإعادة بناء التاريخ والأسطورة والثقافة والهوية، وذلك لمساعدة الفرد على فهم ذاته والعالم من حوله.
من جهة أخرى، نلاحظ اكتناز أفلام أنجيلوبولوس بالعناصر الشعرية. وهو مثل عدد من شعراء السينما الكبار يدع صوره ومشاعره وأفكاره تضيء الشاشة وتغمرها .

الوطن
2 مارس 2008