وفق إحدى القراءات أو التفسيرات البطريركية (الأبوية) للتعاليم الهندوسية القديمة، خصوصا تعاليم مانو Manuالموضوعة قبل ألفي سنة تقريبا: عند وفاة الزوج، تجد أرملته نفسها أمام ثلاثة خيارات.. إما أن تتزوج شقيق زوجها الأصغر، أو تحرق نفسها حية على المحرقة نفسها مع جثة زوجها، أو أن تعيش بقية حياتها في عزلة، في انضباط، في حالة من إنكار الذات، منفية عن الحياة، منبوذة من المجتمع، محرومة من أية حياة عائلية، لا تعاشر غير الأرامل، وأن تظل أرملة حتى تموت.
من هذه التعاليم يستمد فيلم "مياه" أو "الماء" Water مادته، التي تدور أحداثها في منطقة أشرام، أو دار الأرامل، بالهند في العام 1938.. في الفترة التي شهدت عودة غاندي من جنوب أفريقيا ونضاله من أجل الاستقلال، تحرير الإنسان الهندي من القوانين والقيم التي تكبل حريته وإنسانيته، محاولة تحسين الشروط والأوضاع التي تعيشها الأرامل.
إلى هذا المكان الآيل للسقوط، الذي يحاذي نهر الجانجا المقدس، والذي تديره أرملة عجوز مستبدة، تأتي سارالا: أرملة عذراء في الثامنة من عمرها، مات زوجها المفترض، المستقبلي، الذي لم تره قط (إذ محرّم على الصغيرات رؤية زوج المستقبل حتى يبلغن سنا معينة) فوجدت نفسها – دون أن تعي الأسباب وتستوعب حقيقة ما يجري لها - منفصلة قسرياً عن عائلتها، مبعدة أو منفية إلى مكان غريب ومعزول، على حافة المجتمع، فيه تتحرك وتعيش الأرامل في خنوع وإذعان، ممتثلات لتعاليم جائرة تسلب منهن لا ذواتهن فحسب بل وجودهن. مقتنعات بأنهن غير جديرات بالعيش في المجتمع في غياب الزوج. مؤمنات بأن ما يحدث لهن هو امتحان من الإله كريشنا.. فوفق ما يمليه الكتاب المقدس، ينبغي على الأرملة أن "تعيش مثل زهرة اللوتس الجميلة التي لا تمسها المياه الملوثة المحيطة بها".
لقد قررت التعاليم الدينية أن الأرملة فأل سيء ينبغي تجنبه ونبذه، وأن موت زوجها (الطبيعي والمقدّر) غلطة أو إثم عليها وحدها أن تتحمله وتدفع ثمنه، بالتالي لابد أن تعيش معزولة، أن تحلق شعر رأسها، وتنأى بنفسها عن الطعام الحار والحلويات.. لذا عليها أن تناضل وحدها من أجل البقاء على قيد الحياة عبر التسول أو ممارسة البغاء بوسائل سرية.
في هذا المكان تعيش سارالا أيامها في فقر وبساطة وزهد، محرومة من أي اتصال عائلي، ومن كل المتع الدنيوية.. معتقدة طوال الوقت بأن إقامتها هنا مؤقتة، وأن عائلتها حتما سوف تأتي يوما لتأخذها.
إنها، بما تتمتع به من روح متمردة، مرحة، طليقة لا تعرف الاستقرار، تستجوب ليس فقط احتجازها غير المفهوم في هذا المكان، بل أيضا منطق الأرامل اللواتي يصادرن حقها في السؤال والارتياب.
الأطفال، كما تقول المخرجة ديبا مهتا، يعلموننا "لأن لديهم فضول الروح الذي لم تفسده ولم تلوثه الأحكام التي نصدرها ضد الآخرين. نحن البالغون نزداد إنهاكا كلما كبرنا، نزداد انحيازا لآرائنا وأحكامنا السبقية. الأطفال، على العكس منا، لا يتعصبون ولا يحكمون مسبقا على الآخرين".
من خلال عينيها البريئتين، الساذجتين، المفعمتين بالدهشة والحزن، نرى هذا العالم الغريب، الوحشي، الذي ينعدم فيه الدفء الإنساني والتواصل الحميم (هذا العالم الذي تصوره كاميرا ديبا مهتا Deepa Mehta بشاعرية وحساسية تخفف من الحس الميلودرامي الطاغي بالضرورة في وضع كهذا).
من خلال الصغيرة أيضا نتعرف على الشخصيات الأخرى التي تتفاعل مع ما تشع به الصغيرة في أرجاء المكان، وتتأثر بالطريقة التي بها تنظر إلى المحيط والعالم : شاكونتولا (سيما بيسواس)، ذات الشخصية القوية والمتعاطفة مع الأخريات، تتخلى تدريجيا عن خنوعها وتبدأ في الارتياب بالتعاليم الهندوسية التي تمارس الظلم والاضطهاد بحق الأرامل. إنها تتساءل، مثلما من المفترض أن يتساءل أي امرئ إزاء أية قضية خلافية ذات طابع عقائدي: كيف يمكن لتفسيرات أو تأويلات أو اجتهادات من وضع البشر لقوانين أو تعاليم دينية، سماوية، مقدسة، أن تصبح (هذه التفسيرات) بدورها مقدسة ولا يرقى إليها الشك؟
كالياني (ليزا راي) الجميلة التي تجبرها المشرفة على الدار على ممارسة الدعارة، لحماية الدار من السقوط في فقر مدقع، وهذا وحده سبب احتفاظها بشعرها الطويل: كي تكون مرغوبة. في الأخير تتجاهل المحظورات والمحرمات لتقع في حب شاب وطني، محام مثالي، من أتباع غاندي. كعقاب وقائي تقوم المشرفة مع أخريات باقتحام غرفتها وحلق شعرها كله مدنسين بذلك جمالها وجاذبيتها.
عن هذا الفعل الوحشي تقول المخرجة: "أردت من هذا أن يكون تعبيرا بصريا قويا وفعالا، لأن هذا ما يحدث في الواقع. بنفسي شاهدت نسوة تتعرّض شعورهن للحلق، ثلاث منهن في المدينة المقدسة فاراناسي. كان منظرا فاجعا يسحق القلب. إنه عرض بصري، أسرع طريقة، وأكثرها اقتصادا، لإظهار ما يحدث، سواء أكانت الأرملة طفلة أو امرأة أو عجوزا، عندما تتحول هذه المرأة جسمانيا من كونها جزءا من المجتمع لتصبح دخيلة وغير منتمية".
الشاب الوطني يريد أن يتزوجها رغم معارضة أمه. عندما تكتشف كالياني أنه ابن رجل ثري، سياسي مزدوج المواقف والآراء، كانت تؤخذ إليه كعاهرة، فإنها لا تحتمل العيش مع هذا الأب تحت سقف واحد، لذا تختار أن تنتحر للخلاص من مأساتها.
مثل تلك الدور المخصصة للأرامل لم تعد منتشرة في الهند المعاصرة، لكن وفقا لما تؤكده المخرجة، هي موجودة.. والتعاليم ذاتها لا تزال تعاني منها الأرامل (حسب الإحصاء الرسمي للسكان في العام 2001 توجد في الهند 33 مليون أرملة، الكثير منهن يعشن في مناطق ريفية لا تزال الأرملة فيها منبوذة)
لقد استطاعت المرأة الهندية عبر نضالاتها الطويلة والشجاعة أن تحقق إنجازات هامة، من بينها تحقيق استقلالية الأرملة وحقها في اختيار مصيرها.. تقول ديبا مهتا: " بعض الأرامل أدركن، ببطء، أن هناك عالما مختلفا في الخارج من حقهن أن يعشن فيه، وأنهن سوف لن يخالفن القيم الدينية الحقيقية لو تحركن خارج الدور المفروض عليهن، إذ لا علاقة للدين بما يحدث لهن. إن سوء التفسير للتعاليم الدينية هو الذي أدى بهن للعيش في هذه الأماكن المعزولة، وليس الدين نفسه".
بطبيعة الحال، لم يكن سهلا ويسيرا أن تحقق المخرجة فيلما يتناول مثل هذا الموضوع الحساس في المجتمع الهندي الذي تغلب عليه النزعة المحافظة، فأثناء التصوير التمهيدي للفيلم في فاراناسي سنة 2000، قامت بعض الأحزاب اليمينية، مع عدد من المتشددين الهندوس، بشن هجوم عنيف على المخرجة والفريق الفني، زاعمين أنهم اطلعوا على السيناريو ووجدوه مضادا للتعاليم الهندوسية، وادعوا أن العالم لا يحتاج إلى رؤية مشاكل الأرامل في الهند.
قام حوالي 2000 متظاهر من المتشددين باقتحام موقع التصوير، خربوا الموقع ورموا قطع الديكور في النهر، وأضرموا النار في صور المخرجة، كما وجهوا تهديدات بالقتل إلى الفنيين والمخرجة (الذين سممت التأثيرات الغربية عقولهم). كذلك هدد متشددون بالإضراب عن الطعام وبحرق أنفسهم ما لم يتم منع التصوير.. بل أن شخصا حاول الانتحار قرب الموقع احتجاجا على تصوير الفيلم.. اتضح في ما بعد أن هذا الشخص يتخذ من محاولات الانتحار وسيلة لكسب الرزق، حيث تستعين به الأحزاب المتنازعة كوسيلة ضغط لتحقيق مطالبها.. وبالفعل تدخلت الحكومة وأمرت بتوقيف تصوير الفيلم منعا للتداعيات التي قد تنجم عن هذا العمل، وحماية للعاملين في الفيلم.
هكذا توقف المشروع قبل أن يبدأ. وكان على المخرجة أن تهدئ غضبها إزاء ما حدث.. تقول مهتا: "وعدت نفسي بأنني سوف لن أحقق هذا الفيلم مرة ثانية حتى أكف عن الغضب. كلما نظرت إلى النص اعتراني ذلك الشعور الرهيب، المقيت، بأنني تعرضت لهجوم.. مثل شخص يضربك بعنف في بطنك وينتزع منك أنفاسك. قلت لنفسي، عندما أتمكن من التفكير في الفيلم دون أن تتقطع أنفاسي، سوف أعرف أن الإحساس بالغضب قد زال".
عندئذ، في العام 2004 استأنفت إنتاج الفيلم مجددا، لكن هذه المرّة في سريلانكا، عاصمة كولومبو، وبصورة سرية تماما. غير أن المشكلة الرئيسية التي واجهتها هي عدم وجود سلالم حجرية تفضي إلى نهر الجانجا، الموقع المقدس الذي يحتشد فيه الهندوس للصلاة و إحراق جثث الموتى. لذلك اضطرت إلى إعادة خلق الموقع قرب ضفة نهر مهجور جنوب العاصمة.
الفيلم حقق نجاحا، وحاز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان هونج كونج، كما أثنى النقاد على الفيلم ومخرجته ليس فقط لأنها صورت، بجرأة وحساسية فنية عالية، الوجه الآخر من الهند، الخفي والمعزول والمسكوت عنه، الوجه المقلق والمزعج، لكن أيضا لعدم تخليها عن مشروع جوبه بالاستنكار والتهديد من المتشددين، ولعدم رضوخها لمطالب بعض المتزمتين الهنود في مدن الولايات المتحدة وتورنتو بكندا (حيث تقيم) الذين نصحوها "وديا" بصرف النظر عن الموضوع، زاعمين أن ما يريد أن يطرحه الفيلم من نقد لقيم وتقاليد هندية هو أمر بالغ التعقيد بالنسبة لجمهور أجنبي يجهل طبيعة تلك التقاليد وجذورها.
فيلم "مياه" هو جزء آخر من أفلام حققتها ديبا مهتا تتصل بعناصر الطبيعة، العناصر التي شكـّلت العالم، العناصر التي تحمل في داخلها النقائض، فهي تغذّي وتدمر، تحمي وتهلك، يمكن استخدامها في حياتنا على نحو بنـّاء أو على نحو هدّام.. هكذا الحال مع النار، ومع الماء الذي هو مصدر الحياة والموت معا.
تقول مهتا: "السبب الذي جعلني أطلق هذه الأسماء على أفلامي، هو أن هذه العناصر هي التي تغذينا وترعانا، وفي الوقت نفسه، تملك القدرة على تدميرنا. كل أفلام الثلاثية تتعامل مع حالات الانبعاث والموت".
من قبل، قدمت المخرجة: "النار" fire (1996) عن العلاقة الاجتماعية والعاطفية بين امرأتين من الطبقة الوسطى تنجذبان إلى بعض بحثا عن الدفء الذي تفتقدانه في حياة زوجية خالية من الحب. هذه العلاقة "المثلية" أثارت سخط وغضب بعض الجمعيات الدينية والسياسية في الهند، وأدت بالمتشددين والمتزمتين إلى التظاهر وحرق إحدى الصالات، بذريعة أن الفيلم يعرض صورة مشينة عن الهند. لكن ذلك لم يفض إلى منع الفيلم، الذي حاز على عدد من الجوائز العالمية منها جائزة مهرجان شيكاغو كأفضل إخراج وأفضل ممثلة، وجائزة لجنة تحكيم مهرجان فيرونا كأفضل فيلم.
في 1998 قدمت "الأرض" earth عن قصة حب تدور في بيئة من الصراعات الدينية والسياسية بين الهندوس والمسلمين في العام 1947 والتي أدت إلى التناحر وتقسيم البلاد إلى الهند وباكستان. هذا الفيلم رشح للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، كما حاز على عدد من الجوائز.
عن هذه الثلاثية، تقول مهتا: "إذا كان فيلمي (النار) عن السياسة الجنسية، فإن (الأرض) عن السياسة القومية، و(مياه) عن السياسة الدينية وتأثيرها على الفرد العادي".
لقد استطاعت المخرجة ديبا مهتا إحراز سمعة طيبة في الوسط السينمائي العالمي بوصفها مخرجة مبدعة وشجاعة، تطرح عبر أفلامها قضايا إنسانية كونية عن الهوية والتقاليد ووضع المرأة في مجتمع يسعى إلى سلبها ذاتها وهويتها وصوتها..
تقول مهتا: " أغلب أفلامي تنبعث من هذا السؤال: أين يتوقف الصوت الخاص للفرد وتبدأ التعاليم والأعراف البالية. إنه التعارض بين صوت الفرد وصوت التقاليد... أنا لا أتعمّد الشروع في الكتابة حاملة هذه الأفكار في ذهني سلفاً، بقدر ما تتجلى دوما في أفلامي".
ولدت ديبا مهتا في العام 1950، في مدينة أمريتسار الواقعة على الحدود الهندية – الباكستانية. والدها كان موزع أفلام ويمتلك عددا من صالات السينما، هذا أتاح لها مشاهدة المئات من الأفلام.. "أبي كان موزع أفلام، لذا فقد نشأت وترعرعت مع أفلام كانت تخرج من أذنيّ وعينيّ".
في طفولتها كانت مغرمة بالأفلام لكن ليس بممارستها وصنعها.. "الشيء الأساسي في صغري كان فترة ما بعد المدرسة، حيث أهرع إلى صالة السينما لأشاهد نهاية فيلم ما، أو بداية فيلم آخر، أو منتصفه. هكذا كبرت مع الأفلام. لكن بعد ذلك، نسيتها لفترة من الزمن كرّستها لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة".
درست الفلسفة في جامعة نيو دلهي. بعد التخرج.. "التقيت بشخص قال لي نحن نبحث عن من يعمل معنا في الورشة السينمائية بدوام جزئي، فهل يثير هذا اهتمامك فيما تحاولين اكتشاف ما الذي ترغبين في فعله بحياتك؟ قلت: بالطبع موافقة، لم لا؟.. هكذا بدأت العمل في السينما".
عملت مهتا مع شركة إنتاج كانت تنفذ أعمالا تعليمية ووثائقية لصالح الحكومة الهندية. حققت أول أفلامها الوثائقية عن زواج القاصرات. حينذاك التقت بسينمائي كندي كان يعد بحوثا في نيو دلهي. تزوجا وانتقلا إلى تورنتو بكندا في العام 1973، حيث أسسا شركة إنتاج قدمت عددا من الأفلام التسجيلية والتلفزيونية.
في كندا، عملت ديبا مهتا في مجال السيناريو والمونتاج والإنتاج وإخراج أعمال وثائقية تلفزيونية، ثم تحولت إلى الأعمال الدرامية التلفزيونية. ومن التلفزيون إلى السينما بفيلم درامي طويل بعنوان "أنا و سام" (1991).. ثم قدمت Camilla (1994)..
عن فيلمها "النار"، تقول مهتا: "حتى لو كان الفيلم خاصا جدا في زمنه ومكانه وموقعه، إلا أنني أردت من محتواه العاطفي أن يكون كونياً. الصراع بين التقاليد والتعبير الفردي هو ذلك الصراع الذي يحدث في كل ثقافة. فيلمي يعالج هذا الموضوع بوجه خاص في بيئة المجتمع الهندي. ما جذبني هو أن للقصة رنين يتخطى التخوم الجغرافية والثقافية".
عن فيلم "الأرض"، تقول مهتا: " الفيلم السينمائي وسط قوي جدا، ورجائي هو أن ينتج فيلمي هذا حوارا يجبر الناس على التفكير بعمق أكثر بشأن الثمن الذي يدفعه البشر من جراء مثل هذه الانقسامات... لقد أردت أن أروي هذه القصة الضخمة من وجهة نظر مجموعة صغيرة، حميمة، من الأصدقاء الذين ينتمون إلى جماعات عرقية مختلفة، واستقصي عملية التقسيم من خلالهم".
عن فيلمها "بوليوود/هوليوود" (2002)، الذي وظفت فيه عناصر من كلا النوعين كخلفية لفيلم عن حيوات عائلات هندية تعيش في تورنتو، تقول مهتا: "هذا ليس فيلما قائما على المنطق والعقلانية. إنه فيلم عن الشعور بالغبطة والاطمئنان، عن الغناء والرقص. إذا كنت مرنا ومنفتحا، فإنك تقوم بفتح نافذة على ثقافة أخرى، وتنظر كيف يعيش أكثر من مليار فرد في العالم".
بعد هذا الفيلم، حققت "جمهورية الحب" (2003) المأخوذ عن رواية بنفس العنوان للكاتبة كارول شيلدز.
المخرجة ديبا مهتا تتحدث عن فيلم "مياه":
- إذا كانت ثيمة "النار" هي التصادم بين التقاليد ورغبة الفرد في امتلاك صوت خاص ومستقل، ففي "مياه" هو التصادم بين الإيمان الأعمى والضمير الإنساني. كل أفلامي تتعامل مع الرغبة في التفكير المستقل، واستكشاف نتائج هذه الرغبة.
- الماء يستمر في التدفق والجريان، لكن الماء الراكد يسبب مشاكل. العديد من الناس في الفيلم، الذي تدور أحداثه في أواخر الثلاثينيات، يعيشون حياة قاسية وصارمة، حسب ما يفرضه نص ديني عمره أكثر من 2000 سنة. حتى يومنا، الناس يتبعون ويطبقون مثل هذه النصوص، والتي بسببها توجد في الهند ملايين من الأرامل. لا ينبغي للتقاليد أن تكون صارمة، بل ينبغي أن تتدفق وتجري مثل مياه صالحة.
- فيلم "مياه" يعكس، بشكل أو بآخر، ما يحدث في الهند: نهوض الأصولية الهندوسية والتشدد الديني، الحساسية المفرطة تجاه كل ما يثير شكوكهم، عدم التسامح مع أي شخص يفكر بطريقة مغايرة. من هذه الوجهة، صرنا نحن أهدافا سهلة للتعصب.
- يقول نص مانو المقدس: المرأة نصف جسد زوجها عندما يكون حيا، ما إن يموت، حتى تصبح نصفه الميت.
الرجل هو من يكتب مثل هذه النصوص، هو الذي يفسّرها، وهو الذي يسئ تأويلها.
والسبب اقتصادي بحت. من المفيد للرجل والأسرة، اقتصاديا، إرسال الأرملة بعيدا تحت ذريعة الدين. فالأرملة المنفية ليس من حقها أن تطالب بأرض العائلة أو ثروتها، وليس هناك أي ضرورة أو إلزام بإطعامها أو كسوتها.
- أعتقد أننا نعيش في عالم ملئ بالخوف، هذا له علاقة بسوء تأويل الدين لمصالح شخصية.
- في ما يتعلق الأمر بمشاكلنا الخاصة، نكون في حالة جيدة، كشعوب مختلفة وثقافات مختلفة، عندما نفقد الذاكرة جماعيا.
فيلم "مياه" عن ثلاث نساء يحاولن تحطيم تلك الحلقة، والتمتع بالنبل والكرامة، والتخلص من نير الظلم والاضطهاد.
إذا استطاع الفيلم أن يلهم الناس لفعل شيء ما في ثقافتهم الخاصة، فذلك أمر هام.
- أظن من السذاجة الاعتقاد بأن الأفلام قادرة أن تغيّر.. لكن ما يستطيع الفيلم فعله هو أن يؤسس حوارا ويثير نقاشا.
- لقد أردت أن أنفـّذ هذا الفيلم بأية وسيلة لأنه كان ينبغي أن يُنجز كجزء من الثلاثية، الجزء الأخير الذي يتعامل مع السياسة الدينية. وقد رغبت كثيرا في إنجاز هذا الفيلم من أجل تحقيق هدفي كمخرجة سينمائية.
- كل ما أريد أن أفعله هو تحقيق أفلام تحرّض على التفكير، وتساعدنا على فهم مجتمعاتنا على نحو أفضل.
- في ما يتعلق بالتعبير السينمائي، بدأت أدرك أن بإمكاني توظيف الكاميرا والممثلين لتوصيل العواطف والمشاعر، والاعتماد بشكل أقل على الحوار.
- أحب أن أصور في الهند على الرغم من الفوضى والروتين الحكومي والبيروقراطية. لقد نشأت في الهند مستمتعة بأفلام بوليوود، ولا زلت أحب الأفلام الجيدة منها.
أبي كان موزع أفلام هندية في دلهي. كان يقول لي: في الحياة، لا تستطيعين أن تكوني واثقة من شيئين.. متى سوف يحين الموت، وكيفية استقبال الجمهور للفيلم.
- حبي للموسيقى يتصل كثيرا بحقيقة أنني قادمة من تقاليد السينما الهندية حيث الموسيقى تلعب دورا كبيرا.
للسينما الهندية تقاليد عريقة. الفيلم الناطق الأول، الذي أنتج في الهند، بدأ بالموسيقى. لهذا علاقة بملاحمنا العظيمة.. هي كلها تتصل بالموسيقى. الموسيقى تصبح مظهرا، تعبيرا عن حقيقة الموقع الداخلي للشخصية.
بالنسبة لي، الموسيقى دائما تأتي من داخل الشخصيات.
- السينما شغف.. أعني، إلى أي حد يكون الدافع قويا لصنع فيلم ما، إلى أي حد تشعر بشغف لتحقيق الفيلم إلى درجة إدراكك أنك إن لم تحققه فإن جزءا فيك سيشعر بالحرمان حتى بقية حياتك. إذا لم يتوفر لديك الشغف، فمن الأفضل ألا تحقق الفيلم.. فلا فتنة يدّخرها لك الفيلم ولا ثروة أو جاه.
- هناك عدد كبير من المخرجين، لكنني تأثرت بمجموعة من المخرجين العظام. هناك ساتياجيت راي الذي لعبت أعماله دورا كبيرا في تقديري للسينما. إني أعتبره واحدا من أكثر المخرجين شاعرية، واهتماما بالنوازع الإنسانية، في تاريخ السينما. أيضا، من بين المخرجين العظام، أنا معجبة بأعمال ميزوجوشي، أوزو، فيتوريو دي سيكا.
هناك ثلاثة مخرجين معاصرين يخطرون ببالي الآن، والذين استمتع بأعمالهم واستلهم منهم: أعتقد أن إمير كوستوريكا مخرج رائع، وفيلمه "زمن الغجر" هو أحد أفلامي المفضلة في كل الأزمنة. أحب حقيقة أنه لا يتجنب الحالات العاطفية بل يتقبلها ويعانقها بقوة. ولا يبدو أنه يكترث كثيرا بكيفية مشاهدة وفهم أعماله. لا يضيره أن يتسم عمله بعدم التوقير إذا شاء ذلك. أحب طريقة توظيفه للموسيقى في أفلامه، كما أحب ما يوجد في لبّ فيلمه.. ثمة رسالة سياسية قوية تكمن في هذا اللب.
أيضا يعجبني الأسباني بيدرو ألمودوفار كثيرا. أحب دعاباته السوداء. ويعجبني بيتر وير لأنه نجح في المحافظة على استقامته كمخرج فيما هو يحقق أفلاما سهلة الوصول إلى الجمهور. في الواقع هناك أسماء كثيرة يمكن الحديث عنها. إنجمار بيرجمان. نعم. قوي جدا. لديه طريقة بسيطة، على نحو مضلل، لرواية قصة فعالة جدا.