ثمة روايات تسيطر على قارئها بأحداثها وأخرى بشخصياتها وثالثة بمناخها ورابعة بحضور المكان فيها وخامسة... إلا أن هناك صنفا من الروايات تستوقف القارئ بطريقة اشتغال كاتبها على بنائها؛ المهنية و"الحرفيّة" في صناعة روايته. كأنما تدخل معه في مختبر الإبداع وتتابع عن قرب أسرار التركيب وتلك الكيمياء الغامضة التي تنشئ عالما يتردّد بين الألفة والقبول.. بين المطابقة والخروج. إنها صناعة تكمن حيويتها في انكشافها وعدم مواربتها في تحديد مكونّاتها ومصادرها. ومع هذا الانكشاف، فإن الدهشة ما تزال في امتلائها تطبع اتّصال القارئ وتفيض عليه بالمتعة؛ فانكشاف المختبر جزءٌ رئيس من لعبة المبدع مع قارئه لكن مدى الإغراء في هذه اللعبة أبعد، والمجال أوسع من الخضوع لذلك العيني المتاح. هناك ما يدفع إلى الاكتناه والقطع والوصل، فالقارئ ـ أيضا ـ له مختبره وأحماضه الكاشفة.
في هذا الرّهان نقرأ رواية "كيف تصنع يدا" لعبد الواحد الأنصاري (دار وجوه للنشر والتوزيع، الرياض ـ 2009) عن بطله الذي أضاعَ يده اليمنى وشرع يبحث عنها في "داخله" واستعادها بطريقة تدميرية؛ للذات وللخارج. غيابُ اليد وحضورها مشروطٌ بالتدمير حيث التفكيك والتشريح لحياة صاحبها من أصول الإنبات والتخلّق والهجرة إلى أرض غريبة ترفض إعادة الإنبات والإدماج، فتظل مسافة حاكمة بين هويّة الخارطة القادم منها [أفريقيا] وبين جرح أوراق دفتر الإقامة [السعودية] أشبه ما تكون بحالة برزخية مفروضة، تنتعش بعوامل القلق وتفرّ منها أسباب الاطمئنان، حين تصبح الوحدة خيارا لا بُدّ منه وفي حوضها المتخم بالصمت والانطواء تنام بذرة العطب حتى تستوي نبتةً تتدلى منها ثمرة المسخ المشوّهة؛ شاهدا على حياةٍ منهوبة، تُركتْ إلى لعنة الهامش وما تفرزه من حرائق تطال الوجود وتذرّرُهُ؛ تجعله رماداً يصفع الوجوه مثل فضيحةٍ تلخّص عذابَ فردٍ وجنايةَ مجتمع.
تنقسم الرواية إلى قسمين رئيسيين، وثالث في تبجيل اليد. القسم الأول إحالاتٌ وهي توطئة شاملة مجزّأة ومعنونة في ثلاثين مقطعاً، تعمل بمثابة بيانات تقع في منطقة التاريخ والجغرافيا، وتلقي الضوء على دروب الهجرة من أفريقيا وما تكنزه من مكابدات وحكايات وأسرار وأساطير تحفل بها تربة الأصول الأمازيغية التي تتحدّر منها عائلة البطل حسين. كما أن هذا الضوء يمتدّ لينير حياة العائلة المهاجرة بعد استقرارها في مكة؛ تتغذّى من فتات الهامش وتحيا بين الخيام والصندقات، يستعصي عليها الاعتراف بالوجود والقبول والظّفر بالجنسية، فمنهم من يقفل راجعاً (الأب بعد طلاقه من الأم) ومنهم من يضربه داء الهجرة سعيا للخلاص والاعتراف (الأخ التوأم يسافر إلى بريطانيا ويحصل على جنسيّتها وإنْ لم يبرأ من حنين الأصول) ومنهم من يصبر متجرّعاً الكأس حتّى الثمالة (حسين وأمه). ومع هذه الإضاءة، ثمة نتفٌ تحضيريّة تشتغل كأرضيّة تهجس بالتحولات التي تصيب البطل نحو الإحالة الأولى "كيف تأكل إلهاً" وفيه إشارة إلى الخبر المنسوب إلى عمر بن الخطاب في عهد الجاهلية. كان يعبد صنماً من التمر فإذا جاع أكله. وفي هذا الإحالة نقرأ تحوّل المقدّس عن قداسته، وكيف يصيّره الظرف الاقتصادي إلى مادة قابلة للاستعمال والإتلاف ( وهو الأمر عينه يحدث فيما بعد مع حسين ولكن بصيغة أشدّ).
كان القسم الأول، عبر إحالاته، يؤسّس للشخصية ومهادها النفسي والاجتماعي. الصورة الناجزة من أرضيْن ومن زمنين تتظهّر ـ في القسم الثاني ـ في كيان مشوّه ناقص يسعى لدفع الخلل واستعادة سويّة الجسد وكمال أعضائه. الشاب حسين يعمل حارس أمن. صلته بالعالم شاحبة ما عدا ما يقيمه من صِلاتٍ وهميّة واستيهاميّة في فضاء النت تزيّن له، ربما، الحصول على الجنسية. في هذا العالم المحدود الرتيب يصحو ذات يوم فلا يجد يده اليمنى التي طالما ارتفقها وهو يطالع عطايا النت يهدهد بها رغبات الجسد الوحيد. الأمر ليس مزحة، ولا كابوسا ينفضه فتعود اليد إلى مكانها. الحقيقة العارية هي أن الجسد ابتلعَ يده وعليه أن يجبره على تقيّئها. في سورة غضب وتحت وطأة الانهيار يحطّم المرآة التي تفضح نقصه ومعها برواز صورة أخيه والمزهرية؛ فتحصل المفاجأة بدايةُ ميلاد اليد ثانيةً بنتوء أظفر الأصبع الوسطى. وعلى هذا الصنيع يحاول أن يمضي موسّعا من دائرة التحطيم والتهشيم والتكسير خارجاً إلى الشارع في ليلة مطيرة، وذاكرة المطر تعني لحسين حسب خبرته الحياتية انحسارَ الشعور بالخشية وبالخسارة.
مع ضرباته يتهاوى زجاجُ ما يمرّ به؛ الملحمة؛ المطعم؛ الصرّاف الآلي. يوجّهُ ضرباته ويستعيد ذكريات انسحاقه؛ أيامَ الجوع والفقر والخصاصة: "من أجل كلّ الأيام، وكلّ الأعوام التي ظللتُ فيها غريباً فيما يُفترَض أن يصبح موطني، وعانيتُ فيها الفقرَ والكبتَ والظلمَ واسترقاقَ الكفيل".
حسين لا يستعيد يده الضائعة؛ هويّته المنقوصة، بقدر ما ينتقم لكيانه المهدور المكفوف عن الفعل والمشاركة برمزيّة اليد المغلولة المُبتلَعة. إن اكتمال نشوء اليد وبزوغها لم يأتِ إلا مع سقوط الجسد مضرّجا بالدم تغادره الحياة.
اكتملتْ الولادة؛ تحرّرتْ الروح؛ انعتقت.
نُشِرت بجريدة الوطن السعودية، الخميس
16/4/2009
إقرأ أيضاً:-