لا بد لي أولاً من قول شيء سريع عن علاقة أبي بالموت من أجل التعرض الطفيف إلى جِينيَّة ووراثيَّة علاقتي الشخصية بالموت. أبي في الحقيقة لم يكن اسمه "حبيب" بل "سلمان". كيف، ولماذا؟. كان جدي لأبي يفقد أولاده للموت واحداً تلو الآخر إما غرقاً في البحر أو مرضاً على اليابسة، فخاف من انقراض نسله أمام الموت المتجهم المتكرر (سيتكرر هذا الخوف مع أبي لاحقاً، أما أنا فلا ذرية لي أصلاً). لذلك فإن جدي حين أنجب أبي أسماه اسماً "مبدئياً" هو "سلمان" من باب تمني "السلامة" والنجاة من الموت موصياً – في الوقت نفسه – انه سواء كان في قيد الحياة أم من الراحلين فإنه حين يبلغ "سلمان" سن الرشد عليه ان يبقي على اسمه كما هو إن أراد أو أن يختار اسماً جديداً يحبه أكثر بنفسه وبمطلق حريته واختياره، وأظن ان هذا كان نادراً جداً في مجتمعنا وديموقراطياً بما فيه الكفاية. أبي لم ير والديه فقد ماتا شابين خلال فترة قصيرة وهو طفل، وهو الوحيد الذي بقى من نسل أبويه.
حين بلغ "سلمان" – أبي – سن الرشد اختار لنفسه اسم "حبيب" تيمناً باسم جدِّه لأمه "حبيب بن يوسف" الذي لم يره بدوره لكنه تتلمذ على كتاباته كما على كتابات أبيه – جدي للأب. في ما يخصني، حين تزوج والداي كان بكرهما ذكراً أسماه أبي "عبدالله" تيمناً بأبيه عبدالله بن محمد المعيني، لكن عبدالله مات في صغره. بعد ذلك أنجب والداي أختي "لطيفة" التي هكذا أسماها والدي تيمناً بأمه التي لم يرها بدوره أيضاَ (ستموت لطيفة أيضاً وسأقول المزيد عن ذلك لاحقاً). ثم حدث أن جئتُ فأسماني أبي "عبدالله" لثلاثة أسباب. الأول هو ان "خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد". الثاني هو التيمن بوالده. الثالث هو اني "تعويض" عن عبدالله الذي رحل طفلاً. حين تدرجت قليلاً في الحياة والوعي أدركت مأساة انني خرجت من بطن أمي وأنا أحمل على كتفي اسمين وموتين: اسم جدي وموته، واسم أخي وموته. لذلك أدركت منذ البداية انني موت مضاعَف يمشي على رجلين لسببين في الأقل سأتحدث عن أولهما، فقد كان جدي فقيهاً كبيرا، وقاضياً، وشاعراً، ووجيهاً اجتماعياً، وشيخاً قَبَليَّاً، وكانت الكلمات والنظرات تُعدِّني منذ طفولتي أن "أكون مثله، وخلفاً له". أما أنا فمنذ تشكلاتي المبكرة اخترت الحداثة الفكرية والراديكالية السياسية. وعوضا عن دراسة العلوم الشرعية في الأزهر كما كان مرسوماً لي اخترت دراسة الفلسفة والسينما. قيل لي بطرق تلميحية أو تصريحية انني "خذلت جدي في قبره"، فكان عزائي هو انه مع اختلاف طرقي عن طرق جدي فإن هناك ما يجمعنا على الرغم من كل شيء: الشِّعر الذي هو الحياة في منتهاها، والموت في أقصاه!. لكن بالنسبة لكثيرين فإن "عبدالله [أنا] مات"!. لقد حفروا القبر، فماذا أمامي سوى التمدد فيه؟. هذا شيء عن الموت في اسمي.
أما عن الموت في ذاكرتي فإن أول مشهد أتذكره من حياتي الصغيرة هو اني كنت ألعب ذات ظهيرة صيفية مع أختي الأصغر محفوظة (لاحظي مفارقة الاسم) أمام العريش. في اللحظة التي ابتدأ فيها المشهد اصفرَّ وجه محفوظة فجأة، ثم ابتسمت، وامتدت يدها لتزيح ذيل ثوبها كي لا يصيبه القيء الذي بدأ يتدفق، ثم سقطت على التراب. إلى أن أموت لن أنسى تلك الابتسامة. كل ملائكة السماء لن تمنحني مثل تلك الابتسامة. ما أتذكره بعد ذلك هو نواح أمي وذراع تمنعني من الوصول الى منطقة الغسل والتكفين. بعد أقل من سنة من ذلك هاكِ هذا المشهد الثاني في ذاكرتي والذي أتذكره بوضوح شديد وكأنه حدث البارحة: الوقت ليل وثمة نساء في غرفة في بيت خالي في صحار، ولطيفة – أختي التي تكبرني – تصرخ وهي تحتضر بمعيَّة أصوات أدعية وصلوات، ثم تهمد إلى الأبد أمام عيني تماماً. اللقطة الثانية في هذا المشهد حدثت في صباح اليوم التالي: من خلال غشاوة السنوات لا زلت أرى أمي وهي تقف متهالكة مثل سحابة منخورة بالنواح بين امرأتين من أقاربي يحاولن أن يسنداها وهي تتقدم لتلقي النظرة الأخيرة على لطيفة وهي ملفوفة ببطانية حمراء على "الطارقة" في "حوش" البيت. هكذا تأسست ذاكرتي.
وأخيراً فإن الموت فراق، والفراق موت من نوع ما. لكن الفراق أسوأ من الموت؛ فإذا كان الموت رحيلاً نهائياً فإن الفراق رحيل لا ينتهي (فراق الأشخاص، والأزمنة، والأمكنة).