في رسومه اليوم يحاول الجالوس أن يتحاشى الوقوع في فخ الإتقان، فيلجأ في أحيان كثيرة إلى أن يخلخل ذلك الإتقان بضربة هنا أو هناك.
جرب الرسام الأردني -من أصل فلسطيني- محمد الجالوس ذات مرة أن لا يكون تجريديا كما هو عادة. خرج إلى الطبيعة وصار يرسم البيوت والأشجار والغيوم والوديان والتلال.
يومها أقام معرضا فريدا من نوعه عبر مسيرته الفنية. كان ذلك المعرض بمثابة إجازة.
فلم يترك الانهماك الواقعي من بعده أثرا يذكر به، وبالأخص على مستوى معالجة الجالوس البصرية للأشياء التي تقع في متناول بصره ويحاول أن يعيد تركيبها. وهي معالجة اتسمت دائما بطابع تجريدي، لا تنبعث أنظمته الشكلية من الواقع، بل من الرسم.
هناك حدس بالشكل تدرب عليه الجالوس منذ سنواته الأولى رساما. وهو حدس صار يعين الرسام على أن يضع تكويناته في المكان الصحيح، مستقرة ومطمئنة، كما لو أنها انبعثت من داخل السطح.
وكما لو أن اللوحة صارت ترسم نفسها بنفسها، ولن يكون الرسام سوى وسيط. شيء من هذه التلقائية كان الجالوس قد اختبر حواسه من خلالها يوم التقيته أول مرة عام 1992. كانت علاقته باللون الأبيض قد سحرتني يومها، ولأن الجالوس اختار أصعب الألوان، فقد كان الرسم بالنسبة إليه فعلا أشبه بالكدح اللحظوي.
كانت صناعة اللوحة تتطلب من رسامها يقظة مستمرة ويدا متمكنة من خيالها. هل كان الرسام بشعور هائل من المتعة يحث الخطى يومها في اتجاه الرسم الصعب؟ ما وصل إليه من مهارات تقنية ورؤى جمالية، إنما يؤكد أن النتائج التي تحدث بالصدفة، لم تكن ترضيه ولم يكن يضعها في الحسبان حتى وإن وقعت.
في رسومه اليوم يحاول الجالوس أن يتحاشى الوقوع في فخ الإتقان، فيلجأ في أحيان كثيرة إلى أن يخلخل ذلك الإتقان بضربة هنا أو هناك، ضربة هي أشبه بشهقة يتلقاها المشاهد بسعادة.
اليوم وبعد حوالي ربع قرن من لقائنا الأول، يبدو الجالوس جاهزا للرسم في كل لحظة، فهو يعيش يومه ليرسم، كل لوحة من لوحاته تخرج من رحم لوحة سبقتها، ولا يزال أبيضه ساحرا.
العرب
[نُشر في 03/11/2014، العدد: 9727، ص(16)]