أنصت إلى المقام فأتأكد من أن هناك اليوم يهوداً عراقيين مقيمين في إسرائيل هم أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المهجرين يغنّون المقام العراقي أفضل من العراقيين الذين لم يغادروا بلادهم والذين غرقوا منذ أن أغلق كابوس الاحتلال عيونهم على عتمته في القراءات الحسينية وأناشيد المحاربين المغدورين التي هي التجسيد الأمثل لثقافة العويل والنحيب.
هناك اليوم مطربات يهوديات هنّ من أصل عراقي يتمسكن بقوة أصواتهن وبحنوّ عاطفتهن بتراث زهور حسين ومائدة نزهت وعفيفة اسكندر ولميعة توفيق ووحيدة خليل. فجأةً نكتشف من خلالهن أن الورد كان جورياً، وأن الشاي ينبغي انتظار هدأته في الإبريق، وأن هناك مناجم للذهب كانت تقيم في العيون البغدادية. أهذا شعر عراقي حقاً؟ سأعتبرها ضيفةً بساقَين فضيتين، تلك المرأة التي التقيتها بين سهمين في مطار عربي. ملائكتها لا تزال تجوب سماء غرفتي في هذا الليل القطبي. "سيجمعنا العراق يوماً ما"، تهزّ كتفيها بأسى. أنا لا أهزّ كتفيَّ، فلم يعد لديَّ كتفان بعدما تخليتُ عن حقائبي التي أثقلت الجزء الشرقي من روحي. يهزمني شوقي ويخذلني حنيني. لقد هربوا بوطن كان له معنى. هربوا بجماله، بكرامته، برقته، بخفته، بنعومة قدميه وعطر هوائه وأبجدية أوقاته. بغداد التي عرفوها هي ليست بغداد التي عرفتها مذ ولدت. بغداديون وبغداديات يقفن على حافة كون كان قد تداعى منذ زمن طويل. يرين البطيخ الأحمر على أسيجة السطوح الصيفية ويسمحن لي بأن استخرج سوق دانيال من بين حاجبين ناعمين يحيطان بدوائر العسل.
لون العينين: عسلي. هناك طعنة لا تُرى إلاّ بصعوبة على الخد الأيسر. كنت أقرأ بطرب، تلك الجملة في وثائقي الشخصية فيما كانت سوق دانيال تحيط بي من كل الجهات. ألا تزال تلك السوق قائمة؟ العراقيات يعرفن مَن هو دانيال الذي كان خصماً مرحا لرجالهنّ الأشداء. لا علاقة للموضوع بالسياسة التي أحرقت قلوب العراقيين بنار حماقاتها المتكررة. الموضوع جمالي بحت ومحيّر إلى درجة لا تطاق. كان هناك دانتيل للغرام. فساتين لحفل الزفاف وأزرار ملوّنة بكل الأحجام وثياب داخلية. "كم كان رقيقاً ذلك الدانيال"، يقول العراقيون وهم يقصدون النبي الذي قدم إلى بابل أسيراً ومات هناك ولم يبق منه إلا خاتمه وهو أثرٌ من أسطورته. هي حكاية دينية تخترقها لبوة وابنها وهما يحسنان للنبي بعدما أُلقي إليهما من أجل أن يلتهماه جائعين. غير أن أحداً لا يتذكر عزرا بن دانيال الذي مات في غربته عام 1952 وهو صاحب تلك السوق ومالك خان مرجان الذي تحول إلى مطعم سياحي نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي.
في "مقهى التجار" وكان اسمه "مقهى الخفافين" أيضاً، كنت أجلس في ما مضى مثل دمية سومرية وأنا أفكر في تلك المفارقة التي كان العراقيون من خلالها يصرّون على تبنّي فكرة أن يكون دانيال نبياً بدلا من أن يكون أبا رجل منهم، قرر في لحظة إلهام خاطفة أن يحتفي بالأنوثة على طريقته التي تناسب شغفه بالمال. اليهودي الذي استخرج من خياله عدداً من الشوارع المتلاصقة الضيقة لتكتظ بهفهة أقمشة شفافة تلتصق بأجساد النساء، لتكون في ما بعد علامة شكر للخالق الذي لم يلمس المرأة العراقية إلا بأطراف أصابعه. حذرا كان من أن يسمع تأوهاً ينسيه رغبته في المضي في خلق العالم قبل أن يحل يوم عطلته.
كنت أجلس على أريكة عالية محمولاً على أجنحة استعارت ريشها من هواء فردوس مستعاد، وكانت سيقان العراقيات تتبرج بخيلاء اسطوري. هل كنتُ حياً؟ يقلقني ذلك السؤال وأنا أفكر في أنني قد أكون الآن شبح ذلك الشخص الذي كان جسده يمتلئ بالعطور وهو يرى كائنات غبطته وقد تجسدت على هيئة نساء يتلفتن بعيون ضائعة بين دروب متاهة صنعها دانيال لتكون بيت الاله الذي تنتهي إليه الزقورة في أور. هل جلست رومي شنايدر قرب النافورة التي تتوسط فناء المدرسة المستنصرية قبل أن تتسلق سلم الروح الصيفي لتصل إليّ؟ لا تزال موسيقى زخارف باب تلك المدرسة العباسية تقيم بين ثيابي. "يل الماشية بليل لهلك". أنصت إلى صوت مهجور كما لو أنه ينبت تحت الأريكة مثل نبات ظلي: "بعيد الدرب شيوصلك". كانت المرأة النمسوية تضحك وهي ترتقي السلّم. ننزلق معا خفافاً على سلّم الطائرة الذاهبة إلى فيينا. حدائق شترواس هناك. لا يزال الفالس في أوله ولا يزال في القنينة شيء من النبيذ. اختطف النبلاء أميرات من زرقة الامبراطورية.
كان ابن زريق قد حجز ورقة واحدة من دفتري المدرسي ليكتب عليها واحدته: "استودع الله في بغداد لي قمرا/ في الكرخ من فلك الازرار مطلعه". ما بين سوق دانيال والأندلس مسافة شبرين. شبر للطالعة بنعاس النهاوند، وشبر للقسيسين الذين كان الأب انستاس مار الكرملي يدير بهم جلساته السرية من أجل أن لا تنكسر الضاد على لسان العرب. كنت كرخياً في الرصافة من جهة ولهي بوكلاء الامام الحجة، غير أن شبح عزرا وقد رأيته بعيني شبحي لا يزال يتنقل بين غرف خان مرجان محمولا على ابتسامته المغادرة إلى بلاد الغربة.
هل حمل عزرا معه شيئاً من ذلك الدانتيل الذي سيّج به خطواتي إلى غربته؟
شيء من الباروك والروكوكو يحلّ بنعمته ليفنى على البشرة الناعمة. فرسان صغار حيكت قلوبهم من خيوط لا تُرى، يتعانقون متأنقين في حفلة رقص، فيما الكرات النارية تضرب أسوار المدينة المدورة. لقد كنت نائماً ولم تكن الشواكة بعربات بائعات السمك الحي بعيدة. لم يكن هناك سوى دجلة، وهو سجادة مائية سبق لي أن امتزجتُ بزخارفها عشرات المرات، ذهابا وإيابا. لم أكن أفكر يومها في غدي الشخصي. كان الموت عادلاً في توزيع أسرّته المتنقلة. ولم يكن محمد القبناجي من وجهة نظري باعتباري شاعراً حداثوياً متمرداً، حسب اقتناعي المضلل، سوى بائع للملابس المستعملة في السوق التي كانت تجاور سوق الشورجة.
كانت عمارة الدفتردار تلهمني الكثير من أفكار ضياعي المبكر. كنت يومذاك أفكر في ملوية سامراء. المئذنة التي بناها كلداني منسجماً برؤاه مع صوت مؤذن لن يكفره. دليل يعقوب لم يكن قد فكر في القنّاص الأميركي الذي عثر على مكانه المريح في أعلى المئذنة بعد ألف سنة. جلس ذلك القنّاص في المكان الذي تمنيت لو أن ابن زريق قد جلس فيه. يومذاك كان نغم المقام يسيل على الأرض وكانت نوافذ البيوت تتلصص عليه كما لو أنه كان العدو الذي حضر بغتة.
"لقد فاجأتني بأنينك"، تقول لي بائعة البطيخ وهي تراني راكعاً أمامها. لقد أنثنيتُ أمامها كما لو أنها كانت واحدة من كاهنات بابل. لم أسألها "هل رأيت دانيال؟"، بل سألتها عن الخضر.
"خضر الياس لكم بشموعه، بأشجاره الصغيرة، بجزيرته التي صارت نوعاً من الذكرى التي هي حصتنا".
كنت أجلس في "مقهى التجار" لأسلّي حواسي. لاختبرها وهي تسعى إلى أن ترمم عزاءها بموت العزيز داود، الذي لن يكون النبي اليهودي نفسه. من وجهة نظر يوسف عمر، ما من بغدادي إلا مشى في لحظة متخيلة من حياته في جنازة ذلك ال(داود) المتخيل. "قلي يا حلو منين الله جابك". كان صوت هاشم الرجب يعلو ممتزجاً بضربات السنطور الناعمة. هل صار عليَّ أن أهمس في اذن عزرا بكلمة واحدة. كلمة سيحملها معه الرجل إلى القبر في الغربة. ليته مات في الأعظمية أو في الفضل أو في البتاوين التي لا تزال واجهات بيوتها تتزيّن بنجمة داود. مثلما أنت، سنموت كلنا غرباء يا عزرا. لا تردد بأسى "خايف عليها"، وأنت تقصد المدينة التي لا تكترث بمصير أبنائها. بغداد أكبر من أن تخاف عليها. بغداد التي عرفتها، هي ليست نفسها بغداد التي عرفناها ولن تكون بغداد التي سيعرفها أبناؤنا. سيكون نهارهم ناقصاً من غير سوق دانيال. أبكي لأن هناك نهاراً ناقصاً. أضحك لأن هناك ليلاً ناقصاً.
لقد تركنا الغزاة في لحظة يتم. سيكون مبهجاً لنا أن نعترف بأنهم أخذوا أجمل ما فينا. أخذوا ثيابنا وتركونا عراة. حتى القشطة التي كانت من صنع المعيديات وهنّ أحلى نساء الأرض اللواتي يذهبن بالجاموس إلى الجنة، صار خبراء الحليب يعجزون عن اختراعها. لقد انتهينا يا دانيال أمةً لا تنتج حليبها، فكيف يمكنها أن تصنع من حليبك المتخيل دانتيلا لأنوثة صرنا ندثّرها بالسواد؟ كان حلمنا أن تنتج شتلاتنا تفاحاً بعدما زرعنا بصلاً. ليتنا هاجرنا بالنغم، بما بقي من هويتنا المغامرة بدلاً من أن نبقى تحت المطرقة التي مزجت أصواتنا بضجيجها. أنصت إلى مطربة يهودية كما لو أني أتنقل بين طبقات روحي. كم صرت غريباً عن الأرض التي أقف عليها. كم صرت غريباً عني. يحيط الخواء بالعراقيين من كل جانب. يجدون في القتل اليومي الذي صار يطاردهم من شارع إلى آخر نوعاً من العزاء لكي لا يواجهوا سؤال الوجود "إلى أين نمضي بمصائرنا؟" صارت البلاد التي هي آخر البلاد، تمشي بهم إلى التهلكة. تمسك مومس السياب العمياء بأيديهم لتلقي بهم في الجبّ العميق. سيضحك شاعرهم في قبره. كان الرجل قد كتب إلى زوجته متوسلا ومعترفا "أحبّيني/ لأن جميع من أحببتُ/ قبلك لم يحبوني".
كل عراقي اليوم هو نوع من ذلك الشاعر الميت.
شيء من ذلك الشاعر، من شبحه، لا يزال يقف مهموماً على ضفة الخليج وهو يصرخ: "أصيح بالخليج يا خليج. يا واهب اللؤلؤ والمحار".
النهار- 81 يناسر 2014