عقل العويط
(لبنان)

كتاب فني لإيتل عدنان، شعر جمانة حداد

(كتاب فني لإيتل عدنان، شعر جمانة حداد)

هل ثمة من يقرأ الشعر اللبناني والعربي الحديث في كليات الأدب ومعاهده في الجامعات اللبنانية؟ وإذا كان هناك من يقرأه، فهل من علامات تُرشد الى أثر هذه القراءة وتجلياتها في الجامعات، ولدى القرّاء الجامعيين، أساتذةً وطلاباً؟

هذا السؤال المركزي، المتعلق بتصوري الشخصي لدور الجامعة، كمختبر للسؤال والخلق، يستدرج جملة من الأسئلة الإشكالية المتصلة، منها ما يأتي:
الأساتذة الجامعيون، المتخصصون في درس الأدب، وتعليمه، هل يقرأون الشعر اللبناني والعربي، كما هي الحال، الى حدّ ما، بالنسبة الى بعض الرواية؟ السؤال أحصره في قراءة هذا الشعر، منذ سبعين عاماً ونيف الى اليوم، وأريد أن أعرف ما إذا كان ثمة انشغال منهجي، أو شبه منهجي، في الكليات والمعاهد الأدبية ذات الإرث الأكاديمي والنقدي المتراكم، يولي هذا الشأن الاهتمام الموضوعي الذي يستحقه؟
هذا السؤال يستدرج سؤالاً ثانياً: هل يقرأ طلاب الأدب هذا الشعر اللبناني والعربي الحديث، وهل من أثر تتركه هذه القراءة فيهم؟
السؤالان الآنفان، يستدرجان سؤالاً ثالثاً: هل تكرّس الجامعات العريقة في لبنان جزءاً من اهتماماتها الأكاديمية للإحاطة بمسألة البحث الشعري، فتواكب عملية الخلق الأدبي مواكبة نقدية واسعة، أو جزئية، من طريق تكريس أساتذة وتخصيصهم ليصرفوا جهدهم المعرفي والبحثي في إنجاز هذه المهمة؟
هذا السؤال يستدرج سؤالاً رابعاً: كم عدد أساتذة الأدب الجامعيين الذين تخصصوا أو يتخصصون في الأدب اللبناني والعربي الحديث؟ من هؤلاء، كم عدد الذين اطلعوا، قراءةً و... بحثاً، على حركة هذا الشعر؟
هذا السؤال يستدرج سؤالاً خامساً: ما هي الدراسات والأبحاث الأدبية التي أصبحت جزءاً من تراث المكتبة الجامعية اللبنانية، في مجال إلقاء الضوء الاكاديمي على الشعر الحديث؟ وهل تشكل هذه الأبحاث منطلقاً نوعياً، يؤسس لعملية ثقافية، منهجية، جذرية، واسعة النطاق، من شأنها بلورة أفكار واستنتاجات حول هذا الشعر ومكوّناته وعناصره، فضلاً عن أساليبه واتجاهاته وخصائصه ومسار تطوره واحتمالاته المستقبلية؟
هذا السؤال يستدرج سؤالاً سادساً: الى وظيفتها الكلاسيكية في إعداد الأساتذة وحملة الشهادات، هل تضطلع الجامعات بمهمة الاختبار الإبداعي، بحيث تشكل مختبراً للخلق، وحافزاً على الإبداع؟
هذه الأسئلة تستدرج سؤالاً سابعاً: الإرث الأكاديمي الجامعي هل يمكنه أن يهيئ أساتذة لتعليم الأدب في الثانويات الرسمية والخاصة، قادرين على نشر الثقافة الشعرية الحديثة، بحيث تكون هذه الثقافة جزءاً "طبيعياً" وبديهياً من الإعداد التربوي العام، وهي المهمة التي كانت تضطلع بها، في ما مضى، كلية التربية في الجامعة اللبنانية، قبل أن تتم عملية "تحرير" هذه الجامعة من دورها الثقافي الطليعي؟
هكذا استنتاجياً، أصل الى السؤال الآتي: فلنفترض جدلاً أن الأجوبة الموضوعية المتوافرة عن هذه الأسئلة تقدّم صورة قاتمة لواقع الثقافة الشعرية الحديثة في الجامعات، فهل من قارئ جامعي لهذا الشعر إذاً؟ وإذا كان ثمة قارئ محتمل، فهل من سبيل ليصير قارئاً عارفاً ومتمكناً؟ وإذا لم يكن ثمة قارئ لهذا الشعر، فأيّ دور طليعي للجامعة وأساتذتها في هذا المجال؟ وإذا لم يكن ثمة دور في هذا المجال، فهل يمكن القول إن دراسة الشعر الحديث، ومواكبته، هي الى طريق جامعي مسدود؟ وهل تخرّج الجامعة طلاباً لا يعرفون شيئاً عن راهن الحياة الشعرية اللبنانية والعربية؟ وإذا كانت الجامعة تخرّج مشاريع أساتذة "بريئين" و"أميين" في هذا الباب، فأيّ تلامذة ثانويين تخرّج المدارس؟ وإذا كانت هذه هي حال الشعر الحديث مع "المهتمّين" به، فما هي حاله مع القارئ العام؟ وهل في إمكاننا أن نستنتج من هذا الذي تقدّم، أن الشعر الحديث يعيش غربة شبه شاملة عن "مواطنيه" المفترضين، أساتذة الأدب وطلابه ومريديه ورأيه العام؟
هذا يطرح في الضرورة، سؤالاً استطرادياً: إذا كان ما سبق هو اختصارٌ تعميمي (قد يكون مجحفاً وغير دقيق) لواقع الحال، فهل ثمة ضرورة في الاقتصاد الثقافي الى الشعر الحديث، ودراسته؟ وفي باب أوسع: الى الشعر مطلقاً؟ وتالياً: الى الكليات والمعاهد المكرسة للأدب؟
ليس لي أن أفترض افتراضات متشائمة كهذه، وكم أتمنى أن تلقى هذه الأسئلة وسواها أجوبة إحصائية وتوثيقية مضادة، تظهر التقدم الذي تحرزه قراءة الشعر الحديث ودراسته، في الوسط الجامعي والأكاديمي، عارفاً في الآن نفسه أن قراءة الشعر والاهتمام به والتبحر فيه ليست وقفاً على هذا الوسط، ولم تكن في أيّ يوم سابق تدين لهذا الوسط بأي دين ثقيل، باستثناء بعض التجارب الهامشية والفردية التي تظل طيوراً تغرّد خارج السرب العام.
أقول مجدداً إنه ليس لي أن أفترض افتراضات من هذا النوع، لأنها قد تشكل إسقاطاً تعميمياً من شأنه تشويه صورة الواقع الجامعي والاكاديمي، أياً تكن. لذا من الضروري جداً أن يساهم هذا المقال في استنفار الجهات الجامعية المهتمة، لتقديم أجوبة توثيقية دقيقة تلقي الضوء الكاشف على الاهتمام الفعلي بالشعر (إذا كان قائماً)، وتصوّب هذه الاستنتاجات التي أتمنى أن تكون متسرعة وخاطئة. وإذا كان هذا الاهتمام قائماً، فماذا يتعيّن على هذه المؤسسات أن تفعله لتعزيز هذا الاهتمام وتعميمه وتوطيده ليصبح فاعلاً؟
متداركاً، أسارع الى القول إن الجامعة، ألبنانية أم يسوعية أم أميركية، كانت في ما مضى، يوم لم يكن هناك جامعات سواها تقريباً، مختبراً ليس للنقد الأكاديمي الجامعي، المواكب للعملية الأدبية فحسب، بل مختبراً للخلق الأدبي بالذات. وقد أتجرأ فأقول إن الشعر اللبناني الحديث ما كان ليشكل ظاهرة جذرية في الحياة الأدبية اللبنانية، بعد فورة الستينات، لولا الجامعة اللبنانية بالذات، وخصوصاً كلية التربية منها. هذا لأستخلص أن شيئاً ما، مقلقاً، بل خطيراً، يحيط بعمل الجامعات ككل، ولا سيما على المستوى الأدبي. حتى لأقول إن الجامعات عموماً، تفقد رويداً رويداً دورها الطليعي الخلاّق، كبيئة أكاديمية وثقافية موازية للخلق الشعري، والأدبي عموماً. لتنكفئ الى دور باهت يكتفي بتخريج الطلاب ليس إلاّ.
هذه الأسئلة من الملحّ أن تفتح الباب على ملف النقد الأدبي الحديث عموماً، والشعري تحديداً.
ما يدعو الى شيء عميق من العزاء، أن في الحياة اللبنانية العامة، من ينوب عن الجامعة وأساتذتها وباحثيها وطلابها في التأسيس لنوع من التفاعل العميق بين الشعر والمتلقي. تفاعل أتلمس مفاتيحه الدلالية في قرّاء معلومين ومجهولين، ليسوا قلة على كل حال. هؤلاء يقرأون الشعر، ويتفاعلون معه، ويبدون رأيهم فيه، سلباً أو إيجاباً، ويساهمون في مواكبة التأثير في الشاعر، واستفزازه، وتحريضه، وربما فتح آفاق أمامه، من خلال ما يعثرون عليه في الشعر، مما قد لا يكون في تفكير الشاعر ولا في خلفياته الخلاّقة المضمرة.
هل أقول إن الجامعة، الجامعات، في أزمة؟ طبعاً، هي في أزمة. على أن الأزمة لا تدور في هذه الحلقة فحسب، بل تتعداها لتطرح أسئلة خطيرة حول البرامج، والكفاءات الأكاديمية، والمستوى، والجدوى. بل حول معنى الجامعة، ومستقبلها، في غمرة التحديات التي تواجهها، وليس أقلّها الخطر الذي يهدد وجودها، متمثلاً في الثورة المعرفية الكامنة في عالم الإنترنت وآفاقه التي قد لا تقف عند حد.

ملحق النهار
2012-05-19