كان وديع سعادة يوزّع كتابه الأول باليد عام 1973 عندما تعرفتُ اليه. ليس مهماً جداً أن أسرد تلك الواقعة التي يعرفها الجميع، جميع المهتمين بالوسط الأدبي تقريباً، والتي إنْ دلّت على شيء فعلى أن الشعر يستطيع أن يولد بذاته، وبدون أب، وأن يحيا بذاته، وبدون منّةٍ من أحد.
لقد رأيتُ شاعراً ينزل من الريف الى المدينة ويقف في الشارع العام ليوزّع كتابه على المارّة. تلك المدينة كانت بيروت السبعينات. ذلك الشارع كان شارع الحمراء، تحديداً على مقربة من أحد المقاهي، أو أمامه تقريباً. وكان المارّة فتيان ذلك الجيل الذين أدخلوا رؤوسهم في غيمة الحلم، والى الآن لا تزال تلك الرؤوس في الغيمة، وهيهات أن تخرج، أو أن تريد، وهيهات أن تعثر على من يُخرجها من عنق الزجاجة تلك.
ليس مهمّاً جداً أن أعود الى تلك الواقعة. فالواقعة تروي نفسها بنفسها، وتتحدث عن شاعر ليس لكتابه، أو لمسائه إخوة، وهذا جيّد جداً، لكني أزعم أني سأظلّ أرغب أن أكون أحد إخوته، لأرى بأمّ الليل، وبأبيه، وبعين الشمس المحروقة، كيف لا يكون للمساء إخوة.
اشتريتُ الكتاب حقاً، ولا أزال أحتفظ بنسخته المخطوطة باليد. اشتريتُه بمالٍ قليلٍ جداً جداً، لكن المشترى كان بقيمة الذهب الخالص. بل أغلى. للعلم والخبر، ومن باب تأكيد المؤكد، لا يقع هذا الرأي في المجاملة، لأنه من واجباتي، ومن حقوق الشعر عليَّ. تحديداً: من حقوق هذا الشعر، ومن حقوق هذا الشاعر بالذات.
المهمّ جداً أني كنتُ قد جئتُ، أنا أيضاً، وللتوّ، للتوّ حقاً، من أرياف المدرسة الثانوية في الشمال، منتقلاً الى الجامعة – المدينة، الى حيث كنتُ أعتقد أنه العالم. وأيضاً الى حيث كنتُ أعتقد أنه الوجه الآخر للغيمة.
اكتشفتُ يومذاك شاعراً أحببتُ شعره. ولا أزال. لا أعرف الى الآن لماذا أحبّ هذا الشعر. بل أعرف. لكني لا أريد أن أعرف. لأن المعرفة ليست مهمةً جداً ها هنا. فأنا أحبّ هذا الشعر لأني أعتقد أنه شعر. بل أعتقد أنه الشعر. وإذا طُلب اليَّ الآن أن أعرّف الشعر، فلا أعرف أن أضع له تحديداً. لكني "أشعر" ببوصلة القياس الشعري، تغلي في دمي، من خلال الأشعار والشعراء المختلفين والمتنوعين، هنا وفي العالم، ومن خلال الارتجاج الذي يلاحق خلايا دماغي وكياني في منطقة النخاع الشوكي. بوصلة، تقول لي إن هذا الشعر هو الشعر. أوضح متداركاً، أن هذا الكلام قد يشكل تحديداً "غير مقنع" للشعر. وهذا، لي، جيّد جداً جداً، لأنه صادق، وملائم للمزاج الشعري، ومثير للاستفزاز، ومحرّض، وقد يكون كافياً للاستعاضة عن التحديد والتعريف.
ثم أنا أحبّ هذا الشعر لأنه "يؤذيني" في الصميم، لا على طريقة الرومنطيقيين البكائية الرثائية، بل على طريقة نوعٍ من الرومنطيقية الفظّة الليّنة، التي تيئّسني، شعرياً وفلسفياً وعقلياً، لا عاطفياً، من الطبيعة البشرية. وهذا شيء مذهل جداً لأن هذا الشاعر يكتب بالموهبة، وبالغريزة، وبالحواس، وباللحم الحيّ، وبالعدمية، وبالفراغ المهول، وبالحكاية، وبالنثر المرّ، الأسوَد، النظيف، الدعوب، الأنيق على غير تصنّع، والمنظِّف هذا الوجود البشري من الأمل الساذج. ولأن شعره بسيط، وبدائي، وجوهري، وكالماء المقبوض عليه بين أصابع، ويلامس فلسفة العيش والخيال بدون تفلسف وادعاء خيال، ولأنه يقول ما أريد أن أقوله ولا أعرف أن أقوله بهذه الطريقة، ولأنه يصيبني برضوض الوجود، وبعبثية هذا الوجود، وببطلانه، وأحياناً لأنه يرجّ العصب، عصبي الشخصي، ويجعلني خارج مناعة هذا الوجود.
قصيدة موهوبةٌ لامعةٌ واحدةٌ من هذا الشعر تكفي لكي تجعلني أقول ما أقول. ولدى وديع سعادة بالتأكيد موهوباتٌ لامعاتٌ عديداتٌ من هذا الطراز. وهذا لممّا يدعو حقاً الى التقريظ.
ملحق النهار
الأربعاء 11 حزيران 2008