عقل العويط
(لبنان)

عقل العويطهل صحيح أن "العالم لم يعد مستحقاً الكتابة، ولا أهلاً لها"؟ أستعير هذه الجملة اليائسة المريرة من كلمة للشاعر المكسيكي خافيير سيسيليا، على هامش إلقائه قصيدة مهداة الى ابنه القتيل خوان فرانسيسكو، الذي كانت اغتالته قبل شهر ونصف الشهر تقريباً يد الجريمة المنظّمة في بلاده.
أخشع لأن شاعراً كهذا الشاعر المكسيكي المعروف، يطأطئ أمام الجريمة، وينغلق على ألمه داعياً الى التخلّي عن الكلمة والشعر، تحت وطأة الأسباب الموضوعية والذاتية التي تلتهم كل شيء، حتى اللغة الشعرية بالذات.
هذا لأقول إني لا أستطيع أن أصدّق، ولا أريد أن أصدّق، أن السبل مغلقة في وجوه الناس العاديين، الغفل، الذين يتطلعون الى الحياة يعيشونها بأمان وحرية وكرامة.

لا أتحدث فحسب عن المكسيكيين الذين تطارد أحلامَهم كوابيسُ مجموعات القتل الإرهابية هناك، بل أتحدث عنا خصوصاً، في لبنان، في عالمنا العربي، في مدننا وقرانا وبيادينا، في يومياتنا ووجداناتنا، حيث، أمام هذه الحياة الموقوفة، من "واجبات" المسحوقين والمظلومين والمقموعين جميعاً، ومن ضمنهم الشعراء والكتّاب والفنانون والمثقفون وقوى المجتمع المدني، أن يشاركوا في اجتراح المعجزات للانتقال الى مكان ما، يُطلع وردةً، أو يفتح ثغرة في جدار الحياة العربية السميك.
لا أتحدث عن الثورات الجارية ووقائعها وتحدياتها ومآلاتها حصراً، إنما أتحدث خصوصاً عن لزوم الخروج على الاستبداد العربي، مجتمعات وسلطات وأبنية سياسية وثقافية، وعن لزوم أن نخلع عنا جسم هذا الموت المتأصل والمتواصل، الذي يجعلنا محض شهود زور أحياء، بل يجعلنا موتى أحياء.

صحيح أن هذا الشاعر المكسيكي الذي اشتهر بكفاياته الفلسفية والأدبية، وتعليقاته ومواقفه السياسية، قال في لحظة يأس إن العالم لم يعد مستحقاً الكتابة ولا أهلاً لها، لكن الصحيح أيضاً أنه عاد منتفضاً على نفسه وعلى الواقع الجائر ليقول إن من غير الجائز الرضوخ للجريمة، جماعيةً أكانت أم فردية، منظّمة أم عشوائية، وإن من الواجب اختيار الكفاح ضد العنف الممارَس ضد الشبّان والشابات في أنحاء البلاد.
فلنقرأ ما كتبه خافيير سيسيليا في جريدة "بروسيسو"، بعد أيام قليلة من دفن ولده خوان فرانشيسكو. قال: "لقد طفح الكيل بنا في هذه البلاد. لم يعد ثمة خيال إلاّ للعنف، للسلاح، للإهانة". وأضاف: "لهذا السبب، يُقتَل شبابنا، وأطفالنا. لم يعد ممكناً القبول بذلك. لقد آن الأوان لنعيد الى هذه البلاد كرامتها".
ولكي لا تبقى الكتابة حبراَ على ورق، فقد دعا الشاعر الى تظاهرات تضامن في جميع أنحاء البلاد المكسيكية، شاركت فيها، خلال نيسان الفائت، الألوف المؤلفة من الناس الذين تجمّعوا في نحو من أربعين مدينة مكسيكية.

لم يتعب الشاعر ولم يكتف. فقد انطلق على قدميه في الخامس من أيار هذا، ومعه مئات من المتظاهرين، من مدينة غينافاكا ليصل بعد ثلاثة أيام الى قلب العاصمة، حيث بلغ عدد المحتشدين أكثر من خمسة وثمانين ألف متظاهر، رافعين شعاراً واحداً: لا قتيل واحداً بعد الآن!
وعلّقت جريدة "لا خورنادا" اليسارية: "الأهمّ في هذا كلّه، أن المجتمع المدني، في هذه المسيرة التي يقودها شاعر، وأمام عدم أهلية السلطات، الأهمّ أن هذا المجتمع المدني هو الذي يتولّى التصدي لمجموعات القتل التي تدمي البلاد".
المسألة بالطبع، مختلفة جداً بيننا وبين المكسيكيين. إلاّ أن ما يجب أن يعنينا خصوصاً في هذا المجال، هو يقظة المجتمع المدني، أكانت هذه اليقظة ضد السلطات الديكتاتورية أم ضد الجماعات الإرهابية وكارتيلات الاتجار بالمخدرات.
ما يجب أن يعنينا من الآن فصاعداً، أن النظام العربي المستتب الذي يؤبّد الرعب والخوف والقمع والصمت لم يعد يستطيع أن يكون مستتباً.

لا شيء بعد الآن يمكنه أن يكون كما كان.
أياً تكن النتائج المترتّبة على الثورات العربية، في المدى المنظور، فإن القوى المدنية الحية في مجتمعاتنا باتت معنية بالبحث العملاني عن السبل والكيفيات التي تجعل عبارة الشاعر المكسيكي خافيير سيسيليا، "آن الأوان لكي نستعيد كراماتنا"، واقعاً عربياً ملموساً.

النهار الثقافي
22 ايار 2011