1982 - 1992

عائشة أرناؤوط
(سوريا/باريس)

نصّ.. كلمات.. نصوص

عائشة أرناؤوطعندما انطفأتِ النار، تدثرَ برمادي وارْتحلَ في شفافية الرؤيا العمودية. كان الزمنُ قد فقد مادته وتحللَ في توحّدِ الأشياء.

تحولاتُ الكلمة تهاجمُ احتمالاتِ الحواس.. هو ذا الممرُّ ينفرجُ عن أحشاءٍ كوكبية، يلجمُ عبورَكَ الفعليّ، يُفهرسُ غموضَك، يمتدُّ إلى مجراتٍ لم تُسمَّ بعد. وكأنَّ الروحَ معجونةً بالجسد تتسابقُ مع هذه المظاهرِ الكونيّة المتجانسة.

نحو هذا الطقس العلوي ترفعُ النصوصُ جذورَها، تتطاولُ قشورُ الكلمات خارجَ المادة، محمومةً باللاتجانسِ الأخّاذ، ملغومةً بالنور، تتجاوزُ إمكانيةَ الحَدْس.

هكذا يولد... يتكاثرُ كنباتٍ سحريّ منتصبٍ بين حُلمٍ وواقع... هكذا يولد.. ولا يستطيع أن يجمعَ نفسه إلا بتدميرِها.

النصوص التي تراكمت طويلاً في المناطق السِّرية تتوالد ببطء... تتشظّى في عبيرِ النار وتآكُلِ المُروج.

تتوالد ببطء.. لتحريرِ هذا الخليطِ من الذكرياتِ والأوبئةِ والمُسوداتِ الشفويةِ لأحلامٍ مازالتْ تتأنقُ دون جدوى، ولأحلامٍ تلبسُ ثيابَ الحَداد.

تتوالد ببطء.. لرفعِ راحةِ اليدِ عن صَفيحةِ الجَمْر.

وأصبح كما.....

أيتها الأقلامُ الرخيصة
الموجودة بالضَرورةِ تحت أصابعي
وبين ظلال الأحذية التي تجتاز المكاتب
بلا انقطاع.

أيتها الكلمات المعكّرة
في مهاجعِ الصِّيغِ الرّسميةِ والألقاب.
أيها القلمُ الذي غادَرَني
الذي كان مرصوداً للانتفاضِ في سَمْتِ النجوم
الذي كان له أن يتحوّلَ إلى سُنبلةٍ مُكتنزة
هوذا غيابُك يرميني
في جائحةِ الروح.

الظلالُ تقتلع بتلاتِ الكلمة
في معسكراتِ الصباح
أتنازلُ مُجبرةً عن أحلامِ الليل
اللغاتُ باتت لا اتصالاً
وأطرافُ الجناحِ مروحةً للمتحذلقين.

هاأنت ذا
تشهدُ الرّعبَ اليومي دون أن تسألَ عن الأنماط
تنظرُ العبوديةَ التجريبية دون إيجادِ تعريفٍ معاصرٍ لها
تُفرزُ الكلماتِ كيفما اتفق
دون أن يكون لك حقُ بكوريّة الصمت
أو الاختباءُ وراء شقوقِ الروح.

الفضاءُ حرٌّ
لكنه مسكونٌ بالبنادق
هواءُ رئتيكَ يشُعُ بمائِهِ المُزدوج
وحَدَبتكَ تنمو دون شهود.

أختنقْ
أشهُرُ سلاحي
أجاهِرُ به فيبتلعهُ الهواء
وأصبحُ ـ كما يجب أن أكون ـ
حيواناً مُلجماً في ظهيرةِ الصحراء
تتماوتُ الذكرياتُ ويتضوّرُ النبْضُ جوعاً.

الماء ماسٌ
يتشظّى تحت نظرتي الجافة
مسمرة على جنينٍ يرفُض النموّ
مهزومة في خُضابِ أفكارٍ تُملى عليّ.

أيها الحاضر
أيها الفخُّ الرديء
ماذا تفعلُ في الأربعين؟

تتوجُ فمَكَ بكِمامةِ الجَصّ السائل
تضعُ الوِثاقَ على ضِحكتك
تحتشدُ في خليّةٍ منك
كي تهربَ من جسدكِ المفلِس
كي تغادرَ هواءَه الممشط.

كل شيء يبورُ
كطِحالٍ ساخنٍ في الحَمض.

أيها القلب.. أيتها الجمرة المقشّرة
تعالَي ننسحبُ معاً إلى مقدماتِ الجُرح
وفهارسِ اللجام
كي نعيقَ نموَّ اللحظةِ في الأسيد
كل شيء بائر .. يصدأ كدرعٍ فقدَ فارسَه.
الرّواد على خريطةِ زمنِكِ الحميم
يشرِّعونَ تضليلَ الروح.

أيتها الجمرةُ المقشّرة
تعالَي نستندُ معاً
إلى جدارِ الجنون.

***

*اللا أنا وظلي

تحركْ أيها الجمودُ الذي يُمغنِطُ الهواءَ حولي.. الهواءَ الذي يحملُني ويحيطُ بي كمكعَّبٍ من الإسمنتِ المسلّح. لم أَعُدْ أعرفُ لمسَ هذا الجسد، ولايصلُ من القبلة إلا رنينُها.

معدنيٌُ ومصقولٌ وبارد.. يحيط الهواءُ بي، يمنعُ عينيَّ من تشرُّبِ المعنى في الأشياء.. معدنيٌ ومصقولٌ وبارد.

أعرفُ الآن إلى أيّ حدٍّ كنتُ أبتعد.. وإلى أيِّ مدى استطعتُ تفكيكَ أبجديتي الحميمة لأسطعَ في اللامعنى الخامد. لأنغلقَ في متاهاتِ الحَدَثِ اليوميّ بكليتي. متناسيةً تصديرَ ذاتي للأشياء، أو استيرادَ ما يشعُ حقاً في الانعكاسِ السحريِّ للحقائق على صفحة الماءِ المتهالك.

حبوتُ على الأعشاب ومشيتُ على الماء
كان لقدميَّ رائحةُ النعنع البري ولونُ الفراشات
عندما قررتُ طريقي، وضعتُ خطوتي في حذاء من النحاس...
كان مغلولاً بالأرض فلم أعد أستطيعُ الحركة.

أحلُمُ في تشمّعي أن أحداً ما سيستطيعُ على الأقل أن يترجمَ هذا التوازي لفوران العبير المخنوق ولصياغات الذات.

بحميمية قاسية أهاجمُ ذاتي، وأُمسك بخِناقِ هذا الأنا/الآخر، كان بإمكانه أن يكتبَ النصوصَ التي تأمَّلتُ مشروعَ ولادتِها والتي اهترأتْ قبل أن ترى النور. لكنه هناك/فيّ، مخنوقٌ ويبكي، معجونٌ بالخيبة والعجز، ينتظرُ دون جدوى أن أفكَّ قيوده.

ينتظر أن أفك قيوده في عمقِ اللحظةِ الحاضرةِ العمودية. الزمنُ الكليّ، الزمنُ الفريد. اللحظةُ الحاضرةُ العموديةُ كمارد.. والزائلةُ كحلم، تتمفصلُ فيها الوساوسُ والرغبات.. الخيباتُ والتأملات، لتشُعَّ أخيراً في متاهاتٍ دون خطوط.

دَمارٌ أنيقٌ عليَّ توقُّعُه الآن، عليّ الإفلاتُ من حبائِله، عليّ إمساكُ لبّ تلك اللحظة بشكلٍ عشوائيٍ كامل، لأتحررَ من تقنيةِ الزمن وسُلْطَةِ اليوميّ، لأعرفَ التفريقَ بين المعنى وحاملِه. سيكونُ ذلك هراء... الحواسُ تتجمَّد.

الحواس تتجمَّد عندما تكتشفُ مِنهجَ تحليلها.
وفي هذيانٍ محموم، أجِدُ كلَّ التنويعاتِ معادلةً ذاتَ مجهولين.

ربما كان الحُلْم مفراً، يباعدُ بيني وبين تأصّلي في عبثيةِ اليوميّ. ولكنَّ الجحيمَ الأشقرَ الذي يتضاعفُ فيّ وحولي يمنعُ أجنحتي الشمعيةَ من عبورِ تلك المسافةِ الضوئيةِ بين جلدي وحُلْم يسكُنني.

أغدو ظلاً للاشيء.. أمشي بالقرب من العصافير فلا تفزَع. أتماثلُ مع ذاتي وأتضاعفُ فيها.. ولا يمكنني التحررُ من المُصنَّع.

متشابهةٌ ومتوازية
اللاأنا وظلي
متشابهان
متوازيان
ولكن في تباعُدٍ يتأصَّل.

***

قارورة الرماد

أحتمي بامتدادِ اللاوعيِّ المُنَضَّد
حيث يقفُ البريقُ والليل
مفشيةً أسرارَ الانحدارِ في حُلْم الأسيدِ والحِبر
حيث تتسابقُ الروح والموت.

بيني وبين تلك الألعاب النارية
بيني وبين تلك الحمَّى
المفرَّغةِ حتى من الهذيان
تمتدُّ نظرتي المتغضّنة
من قارورةِ الرماد.

وأُحَضِّرُ موتي
خارجةً من مباهجِ الأجنحةِ الهندسية
أدخلُ الخِداعَ والاكتراثَ بالشكِّ اليوميّ
أتغلغلُ في مشروعاتِ سُلْطَةِ الزمن
وصدأِ الدروعِ اللحظيّة.

بعَنادٍ فجّ
أحاولُ التمييزَ بين إشعالِ الروحِ ودفنِ الجسد.

تحت أدمتي يتورَّمُ حيوانٌ رديء
هلاميٌ ولزج... دبقٌ وأرعن

هاهي ذي الكلماتُ المتقاطعة
تنتظرُ حِبر الأصابع
هاهي ذي الكلماتُ المتقاطعة
حيث تتشظّى الروح.

درّعتُ صحرائيَ اللامعة
كي تحتفظَ برمالها الفجّة ونخيلِها اللاذع
كي أجدَ على الأقل حجراً هزيلاً
أحتمي به من الشكِ اليوميّ
والمنحدراتِ الرسمية.

أموّهُ حَواشي القلب
هرباً من سكةِ محراثٍ منحرف.
أنبُضُ ماوراءَ الوريد
كي أحتفظَ بفلولِ اليقين.

أستعيرُ روحي من جسدي قليلاً
أضعُها في فراشٍ دافئٍ على وسادةٍ من الريش
لتغفو بُرهة بعيداً عن مسنناتٍ زجاجية
تمنهجُها كلَّ يوم.

أتعاملُ مع الاسمنتِ والمعادن
مع الورقِ والبَوْل
ألتقي بالنخورِ والنقاهاتِ الأبدية
بمرضى العَظَمَة الذين استيقظوا فجأةً حولي
وكلُّ زادي... جزءٌ من جناحِ طائر.

أنقشُ الوَشمَ على بؤبؤي
للتعامي
عن سلاسلِ الزمنِ المتفجرةِ في اللحم.

حُبلى بالظلام
من أقصى الأفراحِ البضَّة أتيتُ
إلى انحناءةِ الغروب.
أتنقّلُ بين العواصف
أُدينُ هذه الأحلامَ الهُلامية
التي مَوَّهَتْ جُرحيَ اليوميّ.

الكُثبانُ تستريحُ على كتفي.

أهناكَ متسعٌ من الوقتِ للموتِ الأول؟
أهناكَ متسعٌ من الوقت
للانتصابِ رُغم ركبةِ الملح؟

تشيبُ المراعي في باكورةِ القلب.
تتربصُ بكَ العقاربُ الضّارية
في عنابرِ النهار الطويل.

ورمادي العتيق
يتوازى مع أمواجٍ محروقة.

حُبلى بالظلام
ولا أملِكُ
سوى هذه الكلمات
الكلماتِ التي تختنق
كأعشابٍ تريدُ النّموَ تحت الحجارة.

***

منمنمات

منهوبةَ الروح والأفكارِ والخلايا
أستأصِلُ أخاديدَ البَصْمة

أتاجرُ بموتيَ المُقطّر
وأُشعلُ النارَ في الأدَمة

كي أولدَ من نقيضي.

في اليقظةِ البسيطة
رأيتُ انبعاثَ الأنقاضِ والأفلاك.

تستديمُ الزرقةُ في صياغاتٍ جديدة
وإن كان البحرُ في حالةِ احتضار.

أتوّجُكَ أيها الغبارُ الخاسر
أيها النورُ المتّسع
أتوّجكِ أيتها الأرواحُ الشريرةُ والطيبة
أتوّجكمْ جميعاً في جحيمِ قلبي
الذي يتسعُ لبذرةِ زيتون
الذي يتوقّدُ في عصورِ الجليد.

للنزولِ من المفرداتِ إلى الدلالات
الكلمةُ تختارُ الصيرورة

إكراماً لتك التوالدات
لسلالات الأبجدية
لذاكراتِ الكون فيك.

تعتصمُ روحي بتغضّنِ الزهرة.

الخشبُ كئيبٌ في الأحشاء
وخزاناتُ البارود
مشيمةُ العالم.

رعدةُ الأفكار في حَوجَلةِ التقطير.

وحيدةً
أقفُ على أنقاضِ الشرانق.

كيف أستطيعُ أن أخاتلَ التأمل؟
أن أَحْرِفَ اتجاهَ البوصلة
ولا شيءََ يشُعُ إلا اللوثة الجمعية؟

الفوضى لثامٌ
يصطفي طُرُزَ التنفس.

يا لَلمبضع!
مشاركةُ العفنِ لونه
أو الانفرادُ في بصيرةٍ سابقة الوجود.

أمام مرآةٍ مقعَّرة
جلستُ أياماً
أنظرُ إلى نفسي
" كنت جدَّ صغيرة"

أمام مرآة مُحدبة
جلستُ أياماً
أنظرُ إلى نفسي
" كنت جدَّ كبيرة "

أبحثُ عن مرآةٍ مستوية.

وضعَ الساعةَ الرملية
في فردةِ حذائه الصغيرة
وقال ما يشبه الـ "لا"
بلغةٍ خاصة جداً.

كانت الدموعُ تتدفق
من كلِّ الجدران.

في حياتي
ثلاثةٌ علي الاعتذارُ منهم:

أمي
وقطةٌ
وكلب.

عندما أحبُك
أمتلئُ بالعصافير
لأنكَ تسكُنني.

وفي أبجديةِ القلب
لا يعودُ للخسوفِ من مكان.

في مفاجآتِ الشِعرِ الطازَج
يستطيعُ الغيمُ أن يتحوّلَ إلى سماء
وبإمكانِ الذاكراتِ أن تنفصلَ عن قوالِبها

لتعيدَ صياغةَ المُحتمل.

الأفكار
كالمجرّاتِ في كونٍ مفتوح
في تباعدٍ لانهائيّ.

الأبجديةُ
نورٌ يتعذرُ التقاطُه.

الكتابةُ
حُلْم.

لم أستطعْ عبورَ الحجر
لكنني أتفجَّرُ بالأجنحة

والسماءُ جانبي
عموديةً تماماً.

ربما علينا القبول أخيراً
بالقمرِ المنعكسِ عن سطحِ المياه
الذي لايحمِلُه مَجراها.

***

مابقي مني

ما بقي مني إلا مَتَاعي.
بيني وبين القطيعة
خطوةٌ من الجَمر.

تتفحَّمُ مشيمتي في أسيدِ الزمن.
وبين أورامِ الذاكرة
يتحللُ حبلي السُّريّ.
آه .. أيها التيهُ الكبير
في زئبقِ الأوطانِ المُحتملة!

خريطةُ جسدي لم تعدْ تحملُ أسماءَ مُدُنِها
ولا مخملَ كُثبانِها الرّملية.
أتسابقُ مع العناصرِ التي كُنْتُها
أحاولُ العبورَ إلى صورتي.
وشمُ الأبجديةِ يتلاشى عن الأدَمة
وثغاءُ حاراتِ الطفولة
يتمعدنُ في أحشائي.

كما لو أنني أتعامدُ مع الفِطام
أدخلُ الكلمةَ وأخرجُ من جهةِ الصمت
أتهجى قافلةَ الخلايا التي تغادرُني.

ما بقي مني إلا مَتاعي.
بيني وبين القطيعة
خطوة من الجمر.

أتيتكُمْ عند خط الزوال
حبوتُ في أحشائي
حيثُ الأبجديةُ لمَّا تلتئم بعد
فقدتُ أسمالَ الحُلْم
ومقاييسَ الخلايا.

تحت جلدي
تتمفصلُ مرايا الزئبق
أقتاتُ صورتي في هزيعِها الأخير.

لا عمرَ للمتاهاتِ
ولا عنكبوتَ في الغار.

أتيتكمْ عند خط الزوال
رهينةً لحواسٍ تتفكك.

تتلعثمُ الروحُ في حِداد المشيمة.
نتوهَّجُ كرمادٍ يختنق
تماماً
عند خط الزوال.

***

النرد

وراء طاولةِ النرد
قدماكَ تلتحمانِ برطوبة العشب.
لم نكن نعرفُ أنك تحثُّ الخُطى
نحو تكوّرِ الجنين.

لم نكن نعرفُ أنكَ
تنجزُ ما تبقَّى من الدائرة
في فراغٍ يشُعُّ برمادِ النجوم.

الماءُ وقشرةُ الليل
يقفان منذ الفجرِ لحراستِك.

أزحتَ نظرتكَ الأرضيةَ جانباً
لترصُدَ رغوةَ كوكبٍ يكتمل
ووردةُ الشوك تتوّجً حجابَك الحاجز.

لم نعرفُ إن تساءلت:
لماذا أبقى؟
لماذا لا أبقى؟

فقط
كنتَ
تنجزُ
ما تبقّى
من الدائرة.

لن تخالجَك بعد الآنِ دهشةُ المروج
التي تقتحمُها الذئاب
ولا رعشةُ الغزلانِ الجريحة.

لن تعتريكَ بعد الآن رعدةُ الأسئلة
ولا غصةُ الإجابات.

هاأنتَ ذا تكتملُ
كجنينٍ في الرّحم
تغادرُ طاولةَ النّرد
تخرجُ منا
لترضعَ لبنَ المجرّات.

يحتاجُكَ الكون
هنالكَ
ستكونُ
أكثرَ
أمناً.

***

ورقة التوت

إلى ليلى حسين صادق

الرّمادُ تحتَ الأسنان
وأنتِ ... عارية
كجمرةٍ في الريح.

كيفَ أعطي هيئةً للمكان
وعلى أنقاضِ الخلايا
تتبوغُ ألعابُ الرّجم؟

كيف أتهجّى الزمانَ
لحظةَ اهترائه؟

كيف أعبُرُ المسافاتِ
وما بيننا لوحٌ من الزجاجِ لحظةَ التّهشم؟

ينفردُ بكِ موشورُ اللوثةِ الجمعية
بحثاً عن طريدةٍ مضادة.
البصماتُ تملأُ خزفَ جسدك
وتسكنُ مُخملَ عريّكِ الجاف
تحتَ شمسٍ بلا وريث.

لم يكن بإمكانك الرحيلَ عن ظلِك
أو عبورَ الهواءِ وهو يتشقق.
أصابعكِ تتعامدُ مع تغضّن الروح
حوافاً لورقةِ توتٍ أخيرة.

ومازلتِ تبحثين عن نسيجِك
وتعادلِك مع الفصول
في طُوْفان المجاعاتِ
ومستحاثاتِ عبوديةٍ تولد.

الرمادُ تحت الأسنان.
لا معنى لرائحةِ الحِبر
أو لتصدّع القلب.
لا معنى لأبجديةِ الشرانق
أو لصيَغِ الاختناق.

مازلتِ
جمرةً
تختلجُ في عموديَ الفقري.
أصابعُك
حوافٌ لورقةِ توتٍ أخيرة
نستنجدُ بها لحظةَ العُريّ.

* المرأة الصومالية الذي تعرى شعبها عندما عراها.

الرمادُ الأوليّ

حملتُ الأنا الصغيرة وصعدتُ مراتبَ الجذور
مهووسةً بارتفاعِ البحر وتمنّعِ السَّديم.
حملتُ الأنا الصغيرة وتسلقتُ عموديَ الفقري
حتى اعتزلَ جسدي منصِبَه في الهواء.
وعندَ ظِفرِ الأفعى
ازدحمتُ مع ذاتي وتكوَّمتُ في رَحمي
انسلختُ عن شوكتي... ودخلتُ فضائي
تاركةً صولجاني متوازياً مع جسدِك ـ الرمادِ الأوليّ.

وعند التقاءِ إبهاميك
تركتُ قفازاتيَ الكَهلة.

أفتقرُ إلى الأفلاكِ وأجدُها في مستحاثاتكَ النبيلة
أفرحُ بضوئكَ الذي يستولي على مطالعِ البروج
أنتظرُ تكهناتِكَ الغضّة
وأرتدُّ إلى جوارِك ـ الرماد... كظهيرةِ الصحراء
أنصتُ إلى الهواءِ الشاغر
إلى توحدِّ "الآن" والـ "هنا" الحميم.

تماثلٌ مع الذات.. تماثلٌ مع الرماد
حيثُ الولوج إلى الثنائية
يحضن دون تبرير الذرّةَ الواحدة.

تحملني أصواتُ رمالِكَ النّهرية
تعيدُ تصديري إلى نفسي
حيث تتلاشى الأوهامُ والحقائقُ القاحلة
والحقائقُ العظيمة
حيث تتلاشى
الحقائقُ الأخّاذةُ والحقائقُ الخديجة.

وأعرفُ
أعرفُ الآن
أعرفُ هنا
أعرفُ الانتماءَ للحَدْسِ المطلق
واستحالةَ البراهين.

يا لجمالِ اللاشيء!
اللاشيء ... دون إشراقٍ أو تأمّل!

الليلة أتركُ انهيارَ الحواراتِ المقطوعة
أراوغُ وهمَ التّجلياتِ والإشراقات
الأوصافَ والكلمات.

أدخلُ تابوتي
أنحدرُ إلى نقطتي ـ النطفةِ الأصلية.

الليلة أتركُ انهيارَ الحواراتِ المقطوعة
حيث تتوهجُ الكائناتُ وتنطفئ
حيث البراهينُ تستنبطُ نقيضَها.

ليس من أرواحٍ ميتةٍ ولا أرواحٍ حيّة
ها أنتِ ذي هنا
تلمسين جسدَكِ الحُلْم
وتستعرضينَ لحظةً بلا وريث
دون أفكارٍ أو ذكريات
دون طوطم أو طقوس.

هاأنتِ ذي هنا.
الطائراتُ الورقيةُ تحشو رأسي
ثم تجتازُه لتتركَ فراغاً عذباً
ـ أعجزُ أن أحتاجَ لشيء -

دورة الكوكبِ تكتملُ في القلب
لم أَصِلْ بعدُ إلى لمسِ جسدي
أغبطُ الصخورَ على اللحظةِ المشعّة التي تُمضيها
دون أفكار
دون أفكارٍ سعيدةٍ أو حزينة
دون غاياتٍ متعارضةٍ أو مناسبة.

عندما صار للذبابة أمامي حياةٌ مدهشة
وفائضةٌ دون استدلالٍ أو براهين
عرفتُ شبيهيَ المعاكس
ولمستُ الكون.

تبلورتُ كوشيعةٍ تخترقها الأفكارُ والرغبات
دون أن تستهلِكَها... دون أن تتركَ أثراً فيها
وأخذتُ أجتازُ الفصولَ الأخيرةَ بسرعةِ البرق
فصولاً لامسمّاة
أجتازُ المطلق
لأكونَ "هنا" في الـ "الآن"
حيثُ أرفعُ السماءَ برأسي
وأدفعُ الأرضَ بركبتيّ.

***

اللحظة

لاشيءَ هنالك
لاشيءَ هنا
الفراغُ المليءُ باحتمالاتِ الكون
يمُرُّ من موشورِ جسدي.

لاشيءَ هنالك
لاشيءَ هنا
كرملةِ الصحراء
سعيدةٌ في مكانها تحت الشمس.

لاشيءَ هنالك
لاشيءَ هنا
الوردةُ الآنيّة تشرق... تتأمل
ثم تدَعُ بتلاتِها تسقطُ دون عَناء
دونَ حزن
ودونما غاية.

ولادتي وموتي متعادلان مع النظير
معاً كانا دائماً هنالك
أينما وُجِدْت
هنا... أينما أُوجَد.

اللحظةُ الحاضرة
اللحظةُ التي تجمعُ الأبدَ والأزل
التي تُغلقني لأنتش
لأَعْرِفَ نفسي فيها
لأُعَرِّفَ ذاتي بها.

***

الأفق العمودي

أمامكَ
ألوكُ الزئبق
تتجرَّعُ المسامُ الحِبرَ حتى تشظّي الجسد.
أحتشُّ الماءَ وأجزُّ وَبَرَ العناكب
أُعفي الأوراقَ من البياض
والزوايا من الانحناء.

أريدُ أن أموّهَ فيكَ سباقَ الروح
أن أجعلَ أحلامي تندسّ
ككسورٍ عشريةٍ بين نجومِ القلب.
ولا أعرفُ بعدْ
كيف أنقلُ جسدي من ظلِّه
كيف أتناسلُ في الحجارة
كيف أتفجَّرُ بالماءِ المُكتنز
كيف أتجذرُ بذاتي.

أمامكَ
تفيضُ الأجنحة
بنورٍ يُجمِّدُها.

أجدكَ فيّ
حيث تستنبطُ الينابيعُ مائي
أفتقدكَ في أسئلةِ الرُّمح
في موطنِ الافتراضات
وعند مزلاجِ الجُرح ومنصّفِ المحاور.
أًسْرجُك بالمَرجانِ وانصهارِ الكتابة.

أجدكَ فيّ
حيث تفيضُ الأبجدياتُ بالشُبهاتِ ونورِ المخاض.

معكَ
أتكوَّرُ
بذاتي
أكثر
وأسرارُكَ تلاصِقُ أنسجتي سِرباً من جزيئاتِ الضوء.

ألقاكَ لحظةَ النمو
حيث يألفُني جسدي وينفردُ بي عُريّي
ونمضي معاً... كلفظةٍ مجعدة
في مربعِ الفعلِ ودائرةِ الصمت.
جلدُنا كوكبٌ يجوِّدُ وصاياه في ذاكرةِ الخلية
حيث للجهاتِ مذاقٌ مُزدوج
وللرمادِ حَدْس.

نمضي معاً... بعيونٍ حافية
نتبلوَرُ في حَصانةِ الحُب
أوجِ الموتِ وفي تلعثمِ الولادات.

***

الأشياء

تتنفسني الحجارة
فأجدُ فيها توأمي.

أتحللُ في الماء
لأقابلَ فيه عناصري.

تُدخِلني الشجرةُ إلى نسيجها
فأتكوَّرُ في الرَّحم.

تبتلعني النجوم
فأجدُ فيها ذاكرتي.

زائلةٌ ... وفي الديمومة
أبديةٌ ... وفي اللحظة.

***

من الرماد إلى الرماد

تزرعُني الأمكنةُ في أزمنةٍ لاحَصر لها
منذ بَدءِ الولادات.
تقتاتني العصافيرُ فأعرفُ الطيرانَ
في أبجديةِ الكون.

يالأجنحةِ الزئبق عند سَمْتِ الروح!

مَجّدْني قبلَ انبلاجِ الرّماد
قبلَ أن أدخلَ تابوتي
وأرتقي خطوتي ـ الرُمح
مدرعةً بأسيجةِ النباتِ ولهاثِ الحجر.

تعال نغادرُ زَنك الأشياء... غبارَ الأمكنة...
مقاطعَ الزمن
تعال نغلقُ جَمرة الروح
لنستعيدَ عناصرَنا البضَّة وأشكالَنا
انتكاساتِنا وأمجادَنا
في رُكام حيواتٍ لاحَصر لها
لنرقمَّ عبورَنا من الرماد إلى الرماد.

أواعدُ كلَّ الأزمنة
لحظةَ عُبورِ جسدينا
أَحْضُرُ ولائمَ السِّرِ وطُوفانَ المجرّات
أستكملكَ دون شكلٍ أو خطوطٍ أو زوايا.

يزدوجُ فيكَ انحلالي
يتكسّرُ ماؤنا
تتشابكُ جزيئاتُنا الضوئية
نتداخلُ
خرافتين في الإدغام.

...................
...................
...................

كقفازينِ مقلوبين
ندخلُ محفلَ الرماد
حيث حديقةٌ صغيرةٌ وحشية
تنمو ببطء
في المسافةِ الفاصلةِ بين ما تبقّى من ظلّينا.

نلتقي عند رمادِ الكون
نغادر قوالب الجَصّ
نترك مَتاعنا في سريرِ النهر
نغلقُ رئتنا برتاجٍ من الزئبق.
نعبُرُ ماءَنا
وآثارُ خطواتِنا
على غبارِ المسافاتِ بين ظلّينا.

ننهمرُ في أحشاءِ النجوم
وحيثُ ترفرفُ أذرعُ المجرّات.

لدينا ما يكفي للحلولِ في النور
لدينا صهيلُنا الأشهب
جسدُنا وإشعاعُنا
لدينا رئةُ البحر
وارتعاشةُ حوافِ العُمر.
لدينا موتُنا الجميل
ومواقيتُ التأمّل.

نرصُدُ أبجدياتِ الخلايا
في مستحاثاتِ الضوء
نعبُرُ الجسد
ونلتقي عند رمادِ الكون.

***

مدارات

بلا شكل، تتصاعدُ الأمواجُ نحو عناصرها، حيث رَغوةُ الزمن تتورَّمُ في الخلايا. لن نضطرَ إلى مغادرةِ الجسورِ وهي تتموضعُ في الحُلْم. مياهُنا المتفردة تستكملُ أوجهَ الجداول للانتقالِ إلى الفوضى. شقوقُ الروح تغادرُ ومضةََ الجسد.

اللامنطقُ المحرِّض.... براهينُ اللاحتميّة.... أنماطُ الشكوكِ وانسحابُ البصماتِ عن زوايا الأوفاق.

أيتها الاحتمالاتُ المتأنّيةُ في جنونِها، كيف أستكملُ معكِ متاهةَ المسارات، حيث يستحيلُ القياس؟

يا نسيجَ اللحظة، كيف أتبلورُ في صمتِ الرعد؟ كيف أستبدل أخاديدي بافتراضاتِ التألّق؟

أرشُفُ ما تبقّى من الفوضى، أُسْدِلُ لمسةَ القلبِ في تشابُهها مع اللامرئي. أستوقفُ انسحاقَ الزمن وخطوةَ المسافات. أُغلقُ ومضَ المرايا وأستكملُ وجهَ بديلي.

ربما سأتخطّى يوماً يقيني
حيث تتسارعُ الفضاءات
حيث يتموضعُ الزمن.

ارتقيتُ هديلَ المجرّات
وغبارَ الأزمنة.
توسَّدتُ ذئبَ المسافاتِ
واختزلتُ جَمرةَ العُمر.

أتيتكَ دون أجنحةٍ أو مروج.

اخترقتُ هجراتِ النجوم
وألقَ المجاعات.
بترتُ وَحْمَةَ الأحلام
وموَّهتُ أشباهَ الأصابع.

جئتكَ دون شُبهاتٍ أو حقائق.

منفيةً
منذ غَيْضِ الرُّشيْم
أخفِقُ طُوْفانَ الليل
ويختلطُ عليَّ النهار.

لاصفةَ لي
أخترقُ نفسي بها
إحداثياتُ الكسوفِ في شِغافِ القلب.
نزيفُ الحِبر عند أفعى الفجر.
لدغةُ الأفكار
وتراصُفُ الأصواتِ الإضافية.

لاصفةَ لي
أخترقُ نفسي بها
تحت أختامِ النورِ والأسيد.

أفيضُ
خارجَ موشوري
أتحللُ
تحت بصمةِ الحِبر.

هنا
يتوقف تصدّعُ المفردات
ينحبسُ الأفق في البؤبؤ
وتتعامدُ المرايا.

خرقتُ الرغبةَ عند ولادتها
تأبّطتُ مفازةَ المفرداتِ والمعاني
اختليتُ بصلصالِ الزمن
وأغويتُهُ بالمرايا.
تداولتُ أسرارَ الشمع
ومعادلاتِ التصدّع.

وعند نقطةِ الارتياب
نفذتُ إلى وجودٍ بديل.

أتجمهرُ في زئبقي
ألوكُ حِكمةَ السلاحف
أُعرّي إحداثياتِ القلب
وجمرةَ الرَّجم.
أمحو مسوداتِ الروح
وسطوحَ الرموز.

فاتني عريُّ الحجارة
وقلقُ النطفة
فانهمرتُ في ظلي.

أرقُ الروح
يتعامدُ مع المتاهاتِ المتاحة.

عبرتُ عُزلتي
ولم أكن وحيدة
ظلالُ أجسادي بقيتْ هناك.

أستندُ إلى جدارِ روحي.
العبورُ إلى الرماد
مملكةٌ كلما انتهتْ ابتدأتْ
لا طيورَ هنالك ترفعُني
ولا منحدراتَ تزِلُّ فيها الحوافر.

على مهل... أتعلّمُ
كيف أهزمُ جيشَ الظلال
كيف أتكوّمُ في صيغتي
كيف أحيلُ اللحظةَ إلى أزل.

عبرتُ عُزلتي
حيث تتجعدُ المسافات
مابين خُضرةِ المعاييرِ وزهرةِ القربان
وعند شفقِ القلب
لمستُ وَحْمَةَ الماءِ والينابيع.

أختصرُ أسئلةَ الأديم
حيث تتحفزُ الذكرياتُ الموؤدة
حيث أشباهُ المعادن
تكللُ فصولَ الجسد.

عبرتُ عُزلتي
ولم أكن وحيدة
ظلالُ أجسادي بقيتْ هناك.

ماذا يحدثْ
عندما يتطابقُ شُعاعُ القلبِ مع صورتِه؟

ماذا يحدثْ
عندما يتمزقُ الزمان
وأتبعثرُ على حوافِ الجسد؟

ماذا يحدثْ
عندما
أرفعُ القمرَ عن سطحِ الماء؟

ماذا يحدثْ
عندما أعودُ إلى إطاري
فأتعثرُ بصورتي؟

ماذا يحدثْ
عندما يلتقي طرفا الزمن؟

ماذا يحدثْ
عندما
يتداخلُ بديلي بموتي؟

* * * * * * *